حديث الشهر ص1      الفهرس         31-40  

 

الشبيبة المغربية وأسئلة المغرب المعاصر

 

محمد عابد الجابري

متى بدأ الجفاف في المغرب؟

دعوني أجيب: إن هؤلاء الذين رأيناهم في مسيرة الدار البيضاء يوم 12 مارس الماضي، ونراهم في التلفزة هذه الأيام في ريبورتاجات الجفاف، هم رجال ونساء وأطفال يعيشون جفاف اللحم والدم وبالتالي جفاف الفكر منذ أن كانوا. ولا يمكن أن يكون غياب المطر، في هذا الموسم، هو السبب!

اسمحوا لي() أن استهل هذا الحديث بإفشاء سر يتعلق بجانب من سلوكي الذي تحكمه العادة، والذي يرجع في الحقيقة إلى توجيهات المعلمين الذي علموني في الابتدائي والثانوي، خاصة منهم الذين كانوا يتولون تدريس مادة "الإنشاء"، المادة التي كان الهدف منها تعليم التلميذ كيف يكتب، لا الكتابة بمعنى رسم الحروف وتجمعيها، بل الكتابة بمعنى التعبير عن أحاسيس وأفكار وقبل ذلك، الإصغاء إلى الأحاسيس واستدعاء الأفكار. ومعلوم أن تدريس هذه المادة لا يقتضي من المدرس أن يمد التلاميذ بما يجب أن يكتبوا بل تكاد تقتصر مهمته في تعليمهم كيف يصغون إلى إحساساتهم وخواطرهم وكيف ينقلونها إلى رموز الكتابة مراعين ضوابط معينة.

والسر الذي أريد أن أكشف عنه أمامكم، بخصوص هذا الموضوع، يتعلق بأهم ضابط استقر في نفسي منذ المرحلة الابتدائية، وهو ما كان المعلم يعبر عنه بـ "التقيد بالموضوع وعدم الخروج عنه"، وهذا يتطلب عدم الشروع في الكتابة، بل عدم التفكير في عناصر الموضوع إلا بعد تركيز الانتباه، كل الانتباه، في عنوانه، وذلك بمحاولة فهم كل كلمة فيه وتقليب النظر في معناها الذي يعطيه لها العنوان ككل. ومن يومها صرت سجين هذا الضابط. وقد انتبهت منذ مدة إلى أنني أبالغ أحيانا كثيرة، بل ربما دائما، في التقيد بالعنوان المقترح لدى كل محاضرة أو ندوة، حتى ولو كان العنوان من نوع اللافتات التي تكتب على واجهات المتاجر التي تبيع كل شيء.

أقول هذا لأنني وقعت في شباك هذه العادة، مرة أخرى، عندما اقترح الإخوان عليّ القيام بعرض يكون بمثابة مدخل لموضوع ندوتكم الذي يحمل عنوان : "الشبيبة المغربية وأسئلة المغرب المعاصر". وهكذا وبدون أن أقصد وجدت نفسي أضع كل كلمة من هذا العنوان موضع السؤال، فأصبح العنوان الذي أريد منه أن يكون إطار لطرح أسئلة حول المغرب المعاصر، أصبح هو نفسه موضوعا لعدة أسئلة.

1- …

كان السؤال الأول محرجا لي لأني تخيلت فيه نوعا من الخروج عن الموضوع. لقد قلت في نفسي: لماذا يكثر الناس في هذه البلاد من استعمال كلمة "شبيبة" بدل كلمة "شباب"؟ ولا أكتمكم أن كلمة "شبيبة" تبعث في نفسي نوعا من عدم الارتياح، ربما لأنها تشترك في الصيغة مع كلمات أخرى لا أرتاح لها، وهي صيغة توحي بالسلبية والانقباض. مثل : قليلة، كليلة،نميمة، ذميمة، مريرة، دسيسة الخ، بينما كلمة "شباب" توحي بالانفتاح، مثل انفتاح كلمة "باب".

رجعت إلى قواميس اللغة –وهذه عادة ترسخت فيّ أيضا- فوجدت ما يؤيد هذا الشعور الذي أشعره منذ مدة إزاء كلمة "شبيبة". فـ "لسان العرب" يفتتح الكلام في مادة (ش.بـ.بـ) بما يلي: قال: "الشباب :الفَتاء والحداثة. ثم أضاف والاسم من شب يشب: الشبيبة، وهو خلاف الشيب. والشباب جمع شاب، وكذلك الشبان… رجل شاب، والجمع شبان. وامرأة شابة من نسوة شواب". وهكذا انتهيت إلى هذه الخلاصة وهي أن الفرق في اللغة بين "شباب" و"شبيبة" هو أن الشباب معناه : الفتاء والحداثة، أما الشبيبة فهي : خلاف الشيب. ولاشك أنكم تتفقون معي على أن الأنسب لكم هو الارتباط بالفَتاء والحداثة لا بـ"خلاف الشيب"!

في معظم البلاد العربية لا يستعملون "الشبيبة" وإنما يستعملون "الشباب" أو الفتوة. وهذه الكلمة الأخيرة هي التي كانت مستعملة قديما: و"الفتوة معناها الشباب والحداثة"، وأيضا "السخاء والبذل والتضحية وإيثار الغير على النفس". وفي هذا المعنى قال بعض القدماء: "الفتوة كف الأذى وبذل الندى وترك الشكوى"، أما أهل التفسير، تفسير القرآن الكريم، فيقولون : "الفتوة كسر الأصنام"، وذاك عند تفسير الآية الكريمة التي ورد فيها : "قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم"، ومعلوم أن شيخ الأنبياء الفتى إبراهيم كسر أصنام قومه : "إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، قال لقد كنتم وآباؤكم في ضلال مبين" (الأنبياء 52)، ثم كسر هذا الفتى أصنامهم.

والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو : إذا كنا نقصد بكلمة "شبيبة" هيأة تتألف من الشباب بغرض البذل والتضحية وإيثار الغير –وهو هنا المستقبل- على المصلحة الشخصية، الشيء الذي قد يقتضي تكسير الأصنام، أصنام الذات كالانتهازية والجري وراء المصالح الشخصية، وأصنام المجتمع وهي كثيرة ومتنوعة، وإذا كان كثير من الأقطار العربية يستعمل كلمة "شباب" وبعضها يستعمل المصطلح العربي القديم "الفتوة"، فمن أين جاءنا نحن المغاربة هذا الاختيار لكلمة "شبيبة" ؟

لم أجد جوابا عن هذا السؤال. غير أن "النفس الأمارة بالسوء" همست في خاطري قائلة: أنتم لم تختاروا كلمة "شبيبة" وإنما فرضتها عليكم الترجمة من الفرنسية. فهي ترجمة لكلمة la jeunesse وبما أن هذه الكلمة مؤنثة فقد انساق "المترجم" مع التأنيث ففضل كلمة "شبيبة" على شباب، كما يحدث لبعض الناس عندنا، الذين تغلب عليهم بنية اللغة الفرنسية، فيتكلمون عن القمر والمسبح مثلا بصيغة المؤنث فيقولون ما يفيد : "طلعت القمر وامتلأت المسبح". بينما يفعل آخرون، ممن لا يتقنون الفرنسية، عكس ذلك إذا نطقوا بلغة فولتير فيؤنثون "الشمس" و"السماء" أو ما أشبه، إذا تكلموا بالفرنسية. وإذن ، فالسؤال الأول الذي يقودنا إليه هذا النوع من الدردشة، هو:

هل أنتم شباب أم شبيبة أم فتوة؟

لا مشاحة في الأسماء، المهم هو المضمون، ولكن هل لدينا جواب عن سؤال المضمون، مضمون الشبيبة أو الشباب في المغرب المعاصر؟ إن من يعتقد ذلك سيكون عليه أن يجيب على السؤال التالي: ما هي الأصنام التي كسرها؟!

2-…

مثل هذه الأسئلة التي تخص الشباب لا تطرح اليوم هنا في المغرب المعاصر. ومع ذلك فالأجوبة حول موضوع الشباب على كل لسان، خاصة هذه الأيام!

من الأجوبة الرائجة اليوم، رواج الموضة، العبارات التالية : "يجب تشبيب الحياة السياسية"! "يجب فتح باب القيادة للشباب"! "التناوب يجب أن يكون تناوب الأجيال لا تناوب الأحزاب"! والأغرب في الأمر أني سمعت هذه العبارة الأخيرة من الناطق بها، وهو على شاشة التلفزة، بوصفه زعيم حزب سياسي. وأكاد أجزم أن عمره لا يقل عن الستين. وعندما يقول رئيس حزب سياسي في الستين من عمره: "التناوب يجب أن يكون تناوب الأجيال لا تناوب الأحزاب"، وهو يقصد بالأجيال "الشباب"، فهو إما يلغي نفسه، وإما يلغي الزمان، أو هما معا : بمعنى أنه يضع نفسه ويضع السياسة معه خارج الزمان!

وأخشى أن تكون هذه حال كثير من "المتكلمين" اليوم؛ وأقصد المعنى الذي يعطى لهذا المصطلح في التراث العربي الإسلامي، أعني الذين يتكلمون في الكلام، أي ينتجون خطابا لاهوتيا، يتكلم السياسة خارج الزمان والمكان. ومن خصائص الكلام في "علم الكلام" أن المتكلم ينتج خطابه من خلال عبارة تتكرر باستمرار، عبارة : "فإن قالوا… قلنا"؟ وواضح أن الأمر يتعلق هنا بأجوبة جاهزة، على أسئلة يفترض في من يسأل أن يطرحها على قدِّ الجواب!

ماذا يعني هذا؟ يعني أن "علم الكلام"، أي الكلام في السياسة خارج الزمان والمكان، هو جملة أجوبة تشتمل هي نفسها على الأسئلة وأجوبتها، بعبارة أخرى: وجود أجوبة متزاحمة، وغياب الأسئلة!

هذه هي النتيجة التي خرجت بها أخيرا من الإصغاء إلى ما يقال من "كلام" في السياسة في المدة الأخيرة بالمغرب: لم أسمع سؤالا وإنما سمعت أجوبة!

وحتى لا انخرط في المؤامرة "الصامتة" القائمة على السؤال، سأسبح هنا ضد التيار وأواصل طرح السؤال، تاركا لكم ولغيركم تقديم الجواب!

وحتى لا أتهم بـ "الهروب من الموضوع" سأقدم بعض الأسئلة الفرعية التي تساعد في نظري على البحث عن الجواب. من ذلك مثلا : تريدون مني أن أفتتح لكم القول في موضوع "الشبيبة وأسئلة المغرب المعاصر" ؟! إذن اسمحوا لي أن أقول لكم : إن "الشبيبة" في المغرب في حاجة، لا أقول إلى تغيير اسمها، فلتختر من الأسماء ما تشاء، ولكن أقول هي في حاجة إلى تحديد مضمون الاسم الذي تحمله، أعني تحديد هويتها!

3-…

قلت: لقد توصلت بعد تأمل إلى أن "المغرب المعاصر"، مغرب هذه الأيام والشهور، يعج بالأجوبة، ولكن مع غياب الأسئلة؛ بمعنى أن ما يطبع الحياة السياسية والوطنية على العموم في هذه الأيام والشهور، هو غياب السؤال وحضور الجواب!

سأضرب لكم بعض الأمثلة من تجربتي الشخصية.

قبل وفاة المرحوم الحسن الثاني، وخاصة في السنين الأخيرة من حياته، كنت أواجَه من الأجانب خاصة، هنا في المغرب وخارج المغرب، عربا وأوربيين وأمريكان، بالسؤال التالي: "يقال إن الملك مريض، فكيف سيتم الانتقال بعد وفاته"؟ كنت أجيب دائما، وبصدق: إن الانتقال سيكون –إذا قدر الله- على غاية ما يكون من السلاسة… وعندما يعترض عليّ السائل بالتشكيك في ذلك ويقول عني إني متفائل، كنت أقول له: إن حجتي هي أن الدولة حقيقة راسخة في ضمير المغاربة، ويكفي أن يلاحظ المرء أنه عندما يظلم رجل في المغرب فإن رد فعله يكون:"أنا بالله وبالشرع"؟ بمعنى أنه يدعو إلى الاحتكام إلى القانون. أو هو يصرخ قائلا: " ما هذا؟ هل خلت البلاد من المخزن؟" أي من الدولة. هذا إضافة إلى وجود أحزاب وطنية ما زالت تقوم بدور "صمام الأمان". وإذا استمر السائل في شكه كنت أقاطعه قائلا: لقد مات رؤساء دول كثيرون في إفريقية وآسيا، ومع ذلك فدولها ما زالت قائمة. فهل المغرب الذي يحمل وراءه اثني عشر قرنا من استمرارية الدولة أقل استحقاقا لاستمرار الدولة فيه من الكونغو أو بوركينافاسو أو بانغلاديش أو مصر أو السودان أو تونس أو الجزائر؟

ولا شك أن كثيرين منكم قد تابعوا مقالاتي أثناء رمضان قبل الماضي، المقالات التي أدرجت فيها نص محاضرة كنت ألقيتها في بيروت، هي وما تلاها من مناقشة، وكان فيها سؤال من هذا النوع من فتاة، حول ولي العهد وقضية الانتقال، فأجبت بما لا شك أنكم تذكرون، وملخصه أن الانتقال سيمر بسلاسة وبصورة طبيعية. تماما كما حدث()!

والحق أن سؤال "الانتقال" لم يكن غائبا في المغرب، ولكنه لم يكن سوى واحد من أسئلة كثيرة كان تعج بها بلادنا قبل سنة. وبكيفية عامة يمكن القول إن المغرب كان على عهد الحسن الثاني مغرب الأسئلة. كانت الأسئلة كثيرة وأحيانا مبالغا فيها. أما الأزْمة فكانت أزمة الأجوبة. أما الآن فالأزمة القائمة في المغرب هي في نظري: أزمة الأسئلة. أي نعم: في المغرب اليوم أزمة السؤال. وأترك لكم أن تقدروا أية وضعية أخطر من الأخرى: هل التي تعاني من أزمة السؤال أم التي تعاني من أزمة الجواب!

4-…

انتقل إلى مثال أخر يوضح لكم ملامح هذه الأزمة، وسأبقى في نفس السياق. عندما انتقل ولي العهد بالأمس إلى وضعية ملك اليوم، بتلك الكيفية البسيطة والطبيعية السلسة، اندهش العالم كله لذلك، ما عدا المغاربة فلم يندهشوا لأنهم لم يكونوا يتوقعون شيئا آخر غير ما حدث! وهكذا استقبلوا ملكهم الجديد بالفرحة والأمل في المستقبل. وفي الحين رصد بعض الصحفيين الأجانب هذا التحول فكتب يقول: "كان المغاربة من قبل يخافون من الملك أما اليوم فهم يخافون عليه". وقد وجدتْ هذه العبارة صدى في صحفنا فكررتها وكأنها "حكمة بالغة". أما في نظري فهي مجرد ملاحظة سطحية من صحفي أجنبي لا يعرف المغاربة. فالأمر لا يتعلق بالانتقال من "الخوف من" إلى الخوف على"، وكأن زمن المغرب لا يعرف إلا الخوف، وإنما الأمر في وجدان المغاربة أن المسألة طبيعية تماما، فالموت والحياة أكثر الأشياء بداهة في ضميرنا نحن المغاربة.

المهم أن ما لفت نظري هو أن الذين رددوا تلك العبارة عندنا هنا، في الصحافة والمجالس والمقاهي وفي كل مكان، عبارة "المغاربة كانوا بالأمس يخافون من الملك الحسن الثاني واليوم يخافون على الملك محمد السادس"، أقول إن الذين رددوا هذه العبارة لم يسألوا أنفسهم : ولماذا نخاف على محمد السادس؟ وممن نخاف عليه؟ ومما نخاف عليه؟ والأهم من هذا كله: هل المفترضُ فيهم أنهم "خائفون عليه"، هم عليه خائفون حقا وصدقا، أم أنهم في الحقيقة خائفون على أنفسهم : وفيهم من نفسه الوطن ومن نفسه المصالح ؟

وسؤال آخر : ومن كان يخاف من الملك المرحوم؟ هل الذين اختطفتهم أجهزة البوليس، يوم كانت في أيدي من تعرفون، فكان منهم مغيبون ومعتقلون ومعذبون ومحاكمون، فقط لكونهم نادوا بالديمقراطية وعارضوا الحكم الفردي في صحفهم وتصريحاتهم وبيانات أحزابهم، هؤلاء الذي انتهى بهم الأمر إلى العمل جنبا إلى جنب مع الحسن الثاني في إطار التناوب التوافقي من أجل التناوب الديموقراطي، هل هؤلاء هم الذين كانوا يخافون الحسن الثاني، أم أن الخائفين حقا كانوا في الطرف المقابل، الذي تصرفوا بغير قانون واغتنوا خارج القانون؟

5-…

مثال آخر.

في يوم 11 نوفمبر من سنة 1988 عقد اتحاد كتاب المغرب بالرباط ندوة في موضوع "كتابة تاريخ الحركة الوطنية"، وقد طُلب مني أن افتتحها بمداخلة كما هو الحال اليوم. فقدمت كلمة حول الحركة الوطنية بدأتها بطرح هذا السؤال: "لماذا التفكير الآن في كتابة تاريخ الحركة الوطنية؟". وكان السياق الذي غلب على هذه المداخلة هو أن التفكير في كتابة تاريخ شيء، لا يصبح مطروحا إلا تحت ضغط الشعور بأن ذلك الشيء قد انتهى أو قارب نهايته. ولكي أبقى في انسجام مع هذا النوع من الطرح ركزت على الوظيفة التاريخية للحركة الوطنية؛ لأنه إذا كان هناك شيء فيها قد انتهى أو بصدد بلوغ نهايته فهو الوظيفة التي قامت بها في الحياة الوطنية. طبعا هناك الكفاح من أجل الاستقلال، ولكن تحقيق الاستقلال لم يولد فينا مثل الشعور بضرورة كتابة تاريخ الحركة الوطنية. إذن هناك شيء آخر غير الكفاح من أجل الاستقلال. إنه في نظري الوظيفة الدستورية التي قامت بها الحركة الوطنية في الحماية وفي الاستقلال، وهو أنها كانت الطرف الذي يتشاور معه الملك قبل اتخاذ أي قرار يهم الوطن مما أحيا ذلك "المجال السياسي التقليدي" الذي كان يصنع فيه القرار بالمغرب منذ أقدم العصور، وقوامه الاتصال والتشاور. كنت أتكلم في عام 1988، وقلت: إذا نظرنا إلى الفاعلين السياسيين الذين كان الملك يتشاور معهم في عملية صنع القرار السياسي والوطني فإننا سنجد كثيرا منهم قد رحل ولبى داعي ربه، أما الباقون فهم ينتظرون بحكم السن، وهذا شيء طبيعي. ومن هنا طرحت هذا السؤال: غدا، عندما يقضي الله أمرا كان مفعولا وينتقل أصحاب هذا المجال السياسي التقليدي إلى دار البقاء، فمن سيتشاور مع من؟

من هنا ألححت على ضرورة الانتقال بذلك المجال السياسي التقليدي إلى المجال السياسي العصري الحديث، وذلك بجعل البرلمان ذا صلاحيات دستورية كافية لتمكين المغرب من مجال سياسي مؤسساتي مستقل عن الأشخاص وكبر سنهم وتقاعدهم أو غيابهم الذي لا مناص منه().

ما ذا كانت نتيجة طرح هذا السؤال؟

لم أتلق أي رد فعل من الأصدقاء والرفاق، ربما لأن الأصدقاء والرفاق ليسو في حاجة إلى أن يسمعوا أو يقرءوا بعضهم بعضا. ولكن بعد بضعة أسابيع التقيت بصديق من مجال آخر كان في ذلك الوقت من أقرب العاملين مع جلالة المرحوم الحسن الثاني، وكان بطبيعة الحال من العارفين بحقائق الأمور، ما ظهر منها وما خفي، فقال لي:"ماذا فعلت يا فلان؟ قلت : وماذا؟ قال: محاضرتك؟ قلت: وما رأيك؟ قال: لقد نكأت الجرح، فأصبت الجميع بهزة " (قالها بالدارجة: "حكت على الدبرة وهزت الدنيا"، وأخذ يردد وهو يهز رأسه يمينا وشمالا : "من سيتشاور مع من؟".

قلت مع نفسي، هذا سؤال كان غائبا. وأنا لا أخاف الآن ولا قبل الآن، لا على المغرب ولا على المغاربة. والدليل على صحة إحساسي أنهم "حاسين بالدبرة".

6-…

لا أطيل عليكم، سأنتقل إلى سؤال أخير.

في يوم 16 يناير من سنة 1993 نظمت الكتابة الإقليمية للاتحاد الاشتراكي بالدار البيضاء ندوة بعنوان "مستقبل اليسار بالمغرب" ، وقد جرت وقائعها في هذا القاعة. وقد ساهمت فيها بمداخلة حللت فيها باختصار مفهوم اليسار كما ظهر وتطور تاريخيا في التجربة الحضارية الأوروبية، وأبرزت كيف أن هذا المفهوم أصبح يتطلب إعادة النظر في مضمونه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانسحاب كثير من مفاهيم الفكر الماركسي ومقولاته من الساحة وخاصة مفهوم الطبقة والإيديولوجيا. ذلك أن مفهم اليسار كان يتحدد بعنصرين اثنين: الوضع الطبقي والإيديولوجيا، فالشخص يكون من اليسار إذا كان ينتمي اجتماعيا إلى الطبقات الفقيرة المحرومة وفي مقدمتها الطبقة العاملة وفي نفس الوقت -أو على الأقل- يتبنى الإيديولوجيا التي تدافع عن مصالح هذه الطبقات. أما مقابله "اليمين" فقد كان يتحدد بالانتماء إلى الطبقات المالكة لوسائل الإنتاج وتستأثر بفائض القيمة وتتبنى إيديولوجيا تدافع بكيفية أخرى عن الوضع القائم أوتبرره على الأقل. وبعد تحليل الوضعية في العالم العربي والإسلامي بعد الثورة الإيرانية، وغياب نموذج يحل محل الاتحاد السوفيتي كمرجعية لمفهوم اليسار، وبروز ما يدعى بـ "الصحوة الإسلامية" واستقطابها لفئات واسعة من الشباب المنتمي إلى الطبقات المحرومة، طرحت السؤال التالي: "أين نضع هذه الجماعات الإسلامية التي تقود جماهير واسعة من الفئات المحرومة؟ هل نضعها في اليمين أم نضعها في اليسار"؟

من هنا خلصت إلى النتيجة التالية وهي أن تحديد مفهوم اليسار أصبح المهمة الأولى المطروحة اليوم على اليسار نفسه: "كيف يحدد اليسار على ضوء هذه المستجدات حدوده ومقابلاته؟ كيف يحدد نقيضه الاجتماعي وبالتالي التاريخي. كيف يحدد يمينه؟ هل يمينه هو نفسه الذي كان من قبل، أم أن الخريطة قد تغيرت بصورة تستوجب إعادة النظر؟ هل نعتمد في التصنيف إلى يمين ويسار البعد الاقتصادي والوضعية الاجتماعية أم نعتمد البعد الإيديولوجي والاختيارات الفكرية، أم سيكون علينا أن نختار مقياسا آخر؟ أم أن الوضعية الجديدة تفرض اليوم تجاوز التصنيف إلى يمين ويسار والبحث عن تصنيف آخر؟".

وبعد التذكير بمعطيات الوضعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية القائمة يومئذ، بالمغرب خاصة، ألححت على المسألة التالية وهي "أن المهام المطروحة علينا اليوم وطنيا هي مهام متعددة وجسيمة، مهام التحرر من التبعية وإقرار الديموقراطية، وتحقيق تنمية مستقلة، مهام لا يمكن في ظل الوضعية الراهنة التي نعرفها جميعا –وهذا الكلام مكتوب في ينار 1993 كما قلنا- لا يمكن لفصيل واحد من فصائل القوى المتواجدة على الساحة القيام بها بمفرده، سواء حمل إيديولوجيا سماها يسارا أو نطق باسم الدين أو بأي شيء آخر". ثم أضفت قائلا: "إذا عرفنا هذا، أدركنا كيف أن الحاجة تدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تحالف وطني جديد على شكل كتلة تاريخية تضم جميع القوى الفاعلة في المجتمع والتي من مصلحتها التغيير في اتجاه تحقيق الأهداف الوطنية التالية: التحرر من التبعية الاقتصادية والثقافية، إقرار ديموقراطية حقيقة سياسية واجتماعية، تحقيق تنمية مستقلة في إطار تكامل إقليمي يجعل تلبية حاجات الجماهير الضرورية أولى الأولويات". وقد حددت القوى التي أرشحها لتكوين هذه الكتلة التاريخية كما يلي: الفصائل المنحدرة من الحركة الوطنية والتنظيمات المرتبطة بها من نقابات وجمعيات الخ، التنظيمات التي تعرف باسم الجماعات الإسلامية، القوى الاقتصادية الوطنية، جميع العناصر الأخرى التي لها فاعلية في المجتمع بما في ذلك التي تعمل داخل الهيئة الحاكمة. ثم أوضحت أن ما يجعل من هذه الهيئات والفئات كتلة "هو انتظام الأطراف المكونة لها انتظاما فكريا حول الأهداف المذكورة والعمل الموحد من أجلها". وقد أنهيت المداخلة بهذه الفقرة: "مستقبل اليسار في المغرب، كما في العالم العربي عموما، يتوقف على مدى قدرته على التعرف على نفسه، أو إعادة التعرف على نفسه، لا كطرف مقابل ليمين ما اقتصادي أو إيديولوجي، بل أولا قبل كل شيء كمبشر بالأهداف التاريخية التي تطرحها المرحلة الراهنة، كمدشن لعملية الانتظام الفكري حولها، وكقوة دفع للعمل على تحقيقها. إن هذا ما يجعل اليسار، أو سيجعله، ذا مستقبل".

لقد ذكّرت بمعطيات من هذه المداخلة التي مر عليها الآن أزيد من سبع سنوات، ليس فقط لأن "الكلام" قد كثر هذه الأيام عن "اليسار"، وهو من جنس الكلام الذي أشرت إليه قبل، الكلام الذي يقدم الجواب دون أن يطرح السؤال، بل أيضا لأنني شاهدت قبل بضعة أسابيع ما ذكرني بها، بعد أن كنت نسيتها طيلة هذه السنوات السبع. ففي يوم 12 مارس الماضي شاهدت على شاشة التلفزة مناظر من المسيرتين: مسيرة الرباط ومسيرة الدار البيضاء. لم تشغلني الشعارات التي رفعتها هذه المسيرة أو تلك، وإنما استبد بناظري كون الواحدة منهما تقدم مغربا لا صلة له إطلاقا بالمغرب الذي تقدمه الأخرى. لقد نسيت "قضية" المسيرتين، ونسيت ما كنت أعرفه عن الكيفية غير الديموقراطية التي تصرف بها أحد الطرفين في معالجة هذه القضية والدفاع عنها، وعن ردود الفعل التي صدرت عن محركي الطرف الآخر والتي لم تكن كلها لوجه الله، كنت أعرف هذا بتفصيل وبألم، ولكن نسيت كل ذلك وأنا أشاهد الشاشة لأن المنظر كان مؤلما حقا: منظر وجوه تعكس نوعا من الكفاية على مستوى اللباس والتغذية والأناقة، التي يجب أن يتمتع بها كل مغربي، ومنظر آخر تماما، ليس في المقدمة ولكن وراء المقدمة: وجوه شاحبة تعكس النقص في التغذية، ولباس وهيأة تذكرتهما هذه الأيام بمناسبة ريبورتاجات التلفزة عن الجفاف ومفعوله في البادية المغربية. المسألة واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان. ومع ذلك فأنا لا أريد أن أفارق هذين المشهدين قبل أن أطرح السؤال التالي:

متى بدأ الجفاف في المغرب؟

دعوني أجيب: إن هؤلاء الذين رأيناهم في مسيرة الدار البيضاء يوم 12 مارس الماضي، ونراهم في التلفزة هذه الأيام في ريبورتاجات الجفاف، هم رجال ونساء وأطفال يعيشون جفاف اللحم والدم وبالتالي جفاف الفكر منذ أن كانوا. ولا يمكن أن يكون غياب المطر، في هذا الموسم، هو السبب!

فما هو السبب؟

سؤال أخير، تعرفون جوابه. وإذا لم تكونوا على بينة منه فاسمحوا لي أن أقول لكم : اقرءوا تاريخ المغرب المعاصر، أنتم الذي تبحثون عن "أسئلة المغرب المعاصر".

وأتوجه بهذا الطلب بكل إخلاص إلى أولئك الذي ينادون بصدق رافعين شعار: "يجب تشبيب الحياة السياسية في المغرب". أقول نعم، ولكن لابد من ذاكرة وطنية. فالحياة السياسية بدون ذاكرة وطنية فراغ وضياع، وفي أحسن الأحوال: أجوبة بدون أسئلة.

شكرا على استماعكم.