السيميوطيقا وحدود "التفضية" في الشعر العربي


بلقاسم الزميت
السيميوطيقا وحدود

 

تقديم:

يعتبر كتاب الشكل والخطاب للمرحوم محمد الماكري من بين أهم الكتب النقدية التي انخرطت في المشهد الثقافي المغربي في بداية التسعينات. وتبرز أهميته بالنسبة للعديد من المتلقين للمنتوج الأدبي والنقدي في كونه كسر الصمت الذي أحاط التجربة الفضائية في الشعر المغربي من قبل الدارسين والمتتبعين لمسار المنتوج الشعري في المغرب. وهو بهذا يعتبر أول كتاب يؤطر هذه التجربة ويحدد نوعية العلاقة التي تعقدها مع التجربة الفضائية في الشعر العربي القديم، والتجربة الفضائية في الشعر الغربي الحديث ومحاولة الوقوف على خصوصية كل تجربة عبر بعض الدراسات النقدية التي واكبت التجربتين وعبر مقاربات نصية ارتكزت على أطر نظرية متمايزة ولها قوة إجرائية في التوصيف. من جهة ثانية يعتبر أهم كتاب مغربي يقدم النظرية السيميوطيقية "لبورس" إلى درجة أن باقي النظريات المعتمدة جعلها تخدم وتغني "سيميوطيقا بورس في مستوى المؤول الدينامي". وهو بهذا التقديم يكون قد قدم خدمة جليلة للطلبة والباحثين الشباب، خصوصا والتوظيفات المخلة بالنظرية، والتي تحصرها في حدود "الإيقون-المؤشر-الرمز" مع أن هذه المفاهيم تحدد فقط علاقة العلامة بموضوعها. وفي هذا السياق يجد هذا العرض حول الكتاب سنده وخلفيته.

وقد تأسس الكتاب على سؤال مركزي يتعلق بطبيعة العلاقة التي تنبني بين التمثيل اللغوي والتمثيل التشكيلي داخل بنية واحدة لها القابلية للمعاينة البصرية. وهذا ما جعل (محمد الماكري) يحاول تقديم جميع الإطارات النظرية التي يمكنها أن تقدم إضاءة عن كيف ينهض النص الواحد عبر نسقين تعبيريين متمايزين في الشعر الفضائي؟ والكتاب في كليته يتشكل من ثلاثة أبواب: الباب الأول يتضمن ثلاثة فصول هي: النظرية الجشطلتية، البلاغة البصرية، سيميوطيقا بورس. الباب الثاني يتشكل من أربعة فصول هي: الكتابة واللسانيات، الكتابة كموضوع سيميوطيقي، موضوع الكتابة في التراث، الفضاء النصي والفضاء التصويري. أما الباب الثالث فيتكون من أربعة فصول هي: تاريخية الاشتغال الفضائي في النص الشعري العربي، الاشتغال الفضائي للنص الشعري الحديث، التجربة الفضائية في الشعر المغربي، دراسة نصية: هكذا كلمني الشرق موسم الحضرة.

I - الباب الأول:

1 - نظرية الأشكال: (الجشطلت)

لقد عمل الباحث في هذا المجال على رصد الأساس الفلسفي الذي حكم نظرية الأشكال. وعمل على تقديم عرض دقيق ومبسط لجميع المفاهيم المرتبطة بإدراك المعطى البصري. وهكذا قام بتفصيل المفاهيم التالية: العلاقة الجدلية بين الكل والأجزاء، العمق والشكل، حيث عرض القوانين التي بموجبها تدرك مجموعة من العناصر كشكل وهي: قانون الاختلاف، قانون البساطة، قانون الانتظام والتقابل، وعن القوانين التي تتميز وفقها العناصر البانية لشكل معين في معيار القرب، معيار المشابهة، معيار التسلسل، رسوخ الشكل. وإدراك الفضاء وهو مشكل من مجموعة من المفاهيم المرتبطة بالمظاهر الهندسية للأشياء: الموضعة، الاتجاه، الكبر، المسافة، ثم ينهي هذا العرض بتحديد مفهوم إدراك الأشياء لدى (سورل J.Searl).

2 - البلاغة البصرية:

هذا الفصل ارتكز أساسا على توضيح كون البلاغة الجديدة عرفت توسيعا لمجال استغلالها لتشمل المعطيات البصرية، (الفنون التشكيلية، السينما، التلفزيون، الإعلان التجاري)، وهكذا ميز بين الإنزياحات الاستبدالية وحددها عبر المفاهيم التالية: المجاز المرسل، الكناية، الاستعارة، التشخيص. والإنزياحات التركيبية عبر الإضمار أو الحذف، الإحالة، المراكمة، الفصل أو القطع، القلب، المقارنة أو التشبيه.

3 - سيميوطيقا بورس:

لقد عمل في هذا الفصل على رصد الملمح التطوري لفكر بورس. حيث ستمكنه هذه العملية من تأطير المستوى السيميوطيقي كمرحلة ثالثة في المسار الفكري لدى بورس، ثم تحديد المرتكزات الفلسفية التي أسندتها. والتي اتخذت ثلاث ملامح أساسية: باعتبارها تطورية، باعتبارها واقعية، باعتبارها براغماتية. هذان الملمحان الأخيران سيمكنانه من تأسيس ظاهراتياته التي سيسميها بالفانيروسكوبيا phaneroscopie حيث يقول بورس: "ما أسميه ظاهراتية هو الدراسة التي تميز طبقات عديدة من الظواهر، وتصف خصائص كل طبقة منها.." (الشكل والخطاب ص.42). وبالتالي فظاهراتيات (بورس) لا تبحث في العلاقة بين الظواهر والواقع، ولا في البعد السيكولوجي لها، وإنما تستهدف أساسا التدقيق فيما يشكل الجزئيات. وعبر هذا الإطار سيحدد المقولات الثلاث المرتبطة بصيغ الوجود "Les modes d'êtres" حيث يقول بورس: "رأيي أن هناك ثلاث صيغ للوجود، وأجزم أنه بإمكاننا رؤيتها مباشرة في عناصر كل ما هو حاضر في الذهن في اي وقت بطريقة أو بأخرى، هذه الصيغ هي: وجود الإمكان الكيفي الموضوعي (l’être de la possibilité qualitative positive) ووجود الواقع الفعلي المتجسد (l’être du fait actuel) ووجود القانون الذي سيحكم الواقع في المستقبل" (الشكل والخطاب ص.43). وقد عمل (الماكري) على تبسيط هذه الصيغ لتصير مفهومة. وبالتالي فالوجود الأول يناسب مرتبة الأولانية، وهو وجود الشيء في ذاته، الوجود الثاني يناسب مرتبة التانيانية وهو الوجود المتجسد في الزمان والمكان المرتبط بعالم الموجودات، وهو وجود متعلق بالوجود الأول، والوجود الثالث يناسب مرتبة الثالتانية، وهو الوجود المتوقع والمحكوم بقانون (الشكل والخطاب بتصرف). ويرى (محمد الماكري) أنه "انطلاقا من مقولات الوجود الظاهراتية، يبني بورس نظريته السيميوطيقية في سمتها المنطقية، البرغماتية، محددا العلامة لا كشيء أو كوحدة تستهدف في ذاتها ولكن كعلاقة ثلاثية (Relation triadique)" (الشكل والخطاب ص.44) وعلى هذا الأساس فالعلامة تتشكل من ثلاث مراتب أساسية تناسب كل واحدة منها مرتبة من مراتب الوجود.

   الممثل(1)                              الموضوع(2)                           المؤول(3)

 

حيث يعرف بورس (C.S.Peirce) هذه الأطراف البانية للعلامة على الشكل التالي: "العلامة أو الممثل هي شيء ينوب بالنسبة لشخص ما عن شيء معين، بموجب علاقة ما أو بوجه من الوجوه، إنه يتوجه إلى شخص ما، أي يخلق في ذهن هذا الشخص علامة معادلة (Signe équivalent) أو ربما علامة أكثر تطورا. وهذه العلامة التي يخلقها أسميها مؤولا (interpretant) للعلامة الأولى، هذه العلامة تنوب عن شيء ما (tient lieu de quelque chose) عن موضوعها (objet). إنها لا تنوب عن هذا الموضوع تحت أية علاقة كانت، ولكن بالرجوع إلى فكرة سميتها مرتكز الممثل" (الشكل والخطاب ص.45) وكل مستوى يتشكل من ثلاث علامات.

                                                               

         علاقة العلامة بالموضوع

                                                                          ـ علامة ايقونية

                                   موضوع                                    ـ علامة مؤشرية

                                                                          ـ علامة رمز

                                                                           

العلامة في ذاتها       ممثل                      مؤول                 علاقة العلامة بالمؤول

    ـ علامة نوعية

    ـ علامة مفردة                                                      ـ علامة حملية/خبرية

    ـ علامة قانون                                المرتكز                ـ علامة تفصيلية/قضوية

                                                                       ـ علامة برهان/حجة

وعن المزاوجة بين هذه الثلاثيات يمكن الحصول على 27 طبقة، في حين اقتصر بورس على عشر طبقات لها القابلية لأن تقدم توصيفا دقيقا لمختلف الأنظمة العلامية الممكنة. وقد قام محمد الماكري بتفصيل وتبسيط كل علامة على حدى، قبل أن يمر إلى تحديد مجالي الموضوع والحقول الثلاثة للمؤول. حيث ميز بورس داخل الموضوع بين الموضوع المباشر، وهو ما تقدمه العلامة في ذاتها، والموضوع الدينامي وهو مجموع السياقات الخارجية التي تنبرز بشكل مباشر في الممثل. غير أن بورس يشترط أن توحي العلامة بموضوعها الدينامي. وميز داخل المؤول بين ثلاث مؤولات: مؤول مباشر وهو المدلول المباشر في العلامة. وهو لا يقدم معرفة حول العلامة وإنما يشكل منطلقا لعملية التأويل. والمؤول الدينامي ويحدد كمؤول يقدم جميع المعارف التي يمكن أن تسعف في التأويل والتي لها علاقة مباشرة بالعلامة، واشتغال المؤول الدينامي متوقف على طبيعة الموضوع ما إذا كان مباشرا أو ديناميا. والمؤول النهائي وهو الذي يمنح أنظمة تأويلية. ويتخذ ثلاثة أشكال: إما شكل افتراض (Abduction)، وكل افتراض مؤسس على تجربة. أو يتخذ شكل استقراء (induction)، وهو مرتبط ومتوقف على التخصص، أو يتخذ شكل استنتاج (déduction)، وهو مؤول استنباطي نسقي. أما فيما يتعلق بالذات التي تقوم بعملية التأويل فإن بورس يميز بين المؤول الشعوري والمؤول الطاقوي والمؤول المنطقي.

ما يمكن ملاحظته في هذا المجال هو كون سيميوطيقا (بورس) هي أكثر انفتاحا وأكثر دينامية باعتبار انفتاحها على السياقات الخارجية المرتبطة بشكل مباشر بالنظام العلاماتي المراد توصيفه، باعتبار انفتاحها على الأطراف الثلاث المشكلة لأي منتوج أدبي أو نصي كيفما كان جنسه وهي: المنتج -المنتوج في ذاته- المتلقي، والسياق العام الذي ينظم العلاقة بين الأطراف، على عكس ما نجده لدى السيميوطيقا الدلالية عند كريماص (A.J.Greimas)، والتي تتشكل من جهاز مفاهيمي ضخم يصعب استثماره في كليته أثناء مقاربة إنتاج أدبي أو فني خصوصا على مستوى المكون السردي، بالإضافة إلى كون السؤال المركزي لدى هذه السيميوطيقا، هو كيف يقول النص قوله؟

ووعيا من قبل محمد الماكري بالقدرة التوصيفية لسيميوطيقا بورس، وبالإفادة التي يمكن أن تقدمها في تفكيك خطابات لها ملمح بصري، جعله يقدم ثلاثة نماذج غريبة في توظيف النظرية. بالإضافة إلى كونها شكلت مرتكزا أساسيا في المقاربة النصية التي قام بها "للخاثم" كنموذج قديم في الشعر الفضائي، و"موسم الحضرة" كنموذج حديث في التجربة الفضائية في الشعر المغربي. وإذا قمنا بمبارحة بين المستوى النظري والمستوى التطبيقي في الكتاب، نجد أن باقي النظريات والتوجهات النقدية شكلت هامشا يخدم النظرية في مستوى الإضاءات التي تقدمها للمؤول الدينامي والمؤول النهائي خصوصا في صيغته الإستقرائية والاستنتاجية، أو ما تقدمه من سند للمؤول الذات بأشكاله الثلاثة. وفي هذا السياق يندرج الباب الثاني.

II - الباب الثاني:

1 - الكتابة واللسانيات:

يؤكد محمد الماكري على كون الكتابة أبعدت من مجال اهتمام اللسانيات البنيوية حيث قلصت هذه الأخيرة وظيفة الكتابة في حدود كونها وثيقة أو شهادة. فقد اعتبر سوسور (De Saussure) الكتابة كوجود ثاني متوقف على وجود اللسان، وهذه الثانوية منسجمة مع تصوره العام واستراتيجيته المرتكزة حول الدليل الصوتي. وسيحاول الماكري رصد التوجهات اللسانية بعد سوسور والتي أبدت تصورا حول الموضوع، وهو تصور لا يخرج عن تصور سوسور عبر ثلاثة توجهات: الاتجاه الفنولوجي (مدرسة براغ) الاتجاه الشكلاني (كوبنهاغن)، الاتجاه السلوكي (البنيوية الأمريكية)، وهي توجهات تجمع حول إعطاء أهمية للدليل المنطوق وإبعاد الدليل الخطي باعتبار ثانويته.

إلا أن التوجه الذي سيقدم انتقادات واضحة للسانيات المتمركزة حول الصوت هو اتجاه "علم الكتابة" أو "الغراما طولوجيا" مع "ج.جلب J.J.Gelb وجاك ديريدا J.Derrida" بحيث أن "العلم الجديد المقترح تحت اسم الغراماطولوجيا أو علم الكتابة، يعول معه على تجاوز المرحلة التاريخية في تأمل الموضوع، وذلك باضطلاعه باكتشاف القوانين التطورية إضافة إلى تقديم تعريف واف لواقعية الكتابة نفسها بين باقي الفعاليات السيميوطيقية الأخرى" (الشكل والخطاب ص.80) ويعتبر (ج.جلب) في هذا المجال نقطة انطلاق هذا العلم، الذي سيعرف دفعة قوية مع (جاك ديريدا) حيث سيقدم عبر كتابه "عن الغراماطولوجيا" انتقادا للتصور السوسوري المتمركز حول الصوت، بحيث أن الدليل لا يمكن أن ينوجد ويحفظ إلا باعتباره أثرا تحينه الكتابة وتجعله مرتبطا بالزمان والمكان، وتبعا لذلك فإن أطروحته في هذا المجال تطمح إلى إعادة الاعتبار للدليل الخطي.

وإذا كانت "الغراماطولوجيا" علما جديدا فإن "الغرافولوجيا Graphologie" أو "علم الخط" يعتبر مبحثا قديما، بدأت ملامحه الأولى مع بداية القرن 19 مع "لافاطير Lavater"، وهو مبحث يهدف أساسا إلى تقديم تأويل ممكن للكتابة، حيث يعود أول عمل جاد في الموضوع إلى سنة 1875 مع "القس ميشون" في كتابه نظام الغرافولوجيا. ويرى (محمد الماكري) إنه "رغم المنطلق الذي يحكم قناعته، منطلق ميتافيزيقي، وسيكولوجي ساذج، فإن أهم ما يشد الانتباه في طرحه هو الجانب المتعلق بإمكانية تأويل الكتابة" (الشكل والخطاب ص.84). وستقدم "الغرافولوجيا الجديدة" سواء بالنسبة للفرنسيين الذين سيوظفون مفاهيم من مثل: السرعة، الضغط، البعد، أو بالنسبة للألمانيين الذين انتقدوا تباتية التصور الفرنسي حيث سيقترحون مفهوم الحركة، وهو تصور دينامي يركز على السطر.

2 - الكتابة كموضوع سيميوطيقي.

"إذا كان السيميوطيقي يهتم بالدلالة، وطريقة التدليل في اللغة وسائر الأنساق التعبيرية الأخرى، فإن "الغرافستيك Graphistique" تهتم بطرق التدليل في البنيات الخطية" (الشكل والخطاب ص.87). من هذا المنطلق ينظر إلى الكتابة كنسق مشكل من مجموعة من العناصر التي لها القابلية للمقاربة. وانسجاما مع هذا الطرح فإن الاختلاف في اللغة بين المستوى الخطي والمستوى الصوتي يتجاوز حدود الاختلاف المادي، حيث يرى "طاجان ودولاج" أن عادة الحديث باللغة تقوم على نسق من العناصر اللسانية القابلة للتمظهر صوتيا، وظيفتها الاستجابة لمنبه معين (يتطلب عموما استجابة عاجلة) بكيفية دينامية، مباشرة ومناسبة، معبرة كما يجب، لا على المظهر التواصلي الخالص فقط، ولكن أيضا على البعد الانفصالي المتضمن في الاستجابة اللسانية للذات المتحدثة، في حين أن العادة الكتابية للغة تقوم على نسق من العناصر اللسانية القابلة للتمظهر خطيا، ووظيفتها الاستجابة لمنبه معطى (لا يمتلك صفة الاستعجال) في صورة تمظهر ثابت يمكن من تصحيح الجواب بيسر، وكذا من حفظه، معبرا على الخصوص عن التمظهر التواصلي المتضمن في هذا الجواب اللساني للذات التي تكتب" (الشكل والخطاب، ص.90)، وسيتبع محمد الماكري هذه التحديدات النظرية بمقاربة للبنية الخطية عبر نماذج تمثيلية من الشعر الفضائي المغربي، عبر تحديد طبيعة الوحدات الخطية (graphime) وعبر تحديد التعالق القائم بين الزمان والفضاء بالبنية الخطية، عبر الاستناد على التحديدات النظرية المقدمة من قبل "طاجان" و"دولاج" في كتابهما "الكتابة والبنية"ـ للزمن الخطي، البياض والسواد، الفضاء النصي والفضاء الخطي.

3 - الفضاء النصي والفضاء التصويري:

إن الدور الذي تقدمه هذه التحديدات في إنارة العلاقة بين الفضاء النصي والفضاء التصويري كثنائية تشكل محورا موجها للبحث، قد تكون هي الدافع إلى تعميق هذه الثنائية عبر عرض وجهة نظر "ليوطار J.F.Loyotard" حول الثنائية. بحيث يرى أنه على الرغم من كونهما يلتقيان في عملية التوصيل إلا أنهما يشكلان مرتبتين متميزتين. فداخل السطر (الكتابة) يميز بين التشكيلية والمقروئية، يقول ليوطار "يكون مقروءا ما لا يوقف حركة العين، أي الذي يمنح مباشرة للتعرف… وعلى العكس من ذلك، حتى نتواصل مع طاقوية السطر التشكيلية، يجب أن نتوقف عند الشكل، إذ بقدر ما يبرز الرسم هذه الطاقة الخاصة بقدر ما يسترعي الانتباه والانتظار والتوقف "(الشكل والخطاب، ص.110)، وعن هذا التمييز يتولد تمييز بين السطر باعتبار قابليته للقراءة والسطر باعتبار قابليته للرؤية، يرى (ليوطار) كون "القراءة هي السماع لا الرؤية، فالعين لا تقوم إلا بعملية كنس للعلامات المكتوبة، بحيث لا يسجل القارئ حتى الوحدات الخطية المميزة (إنه لا يرى القشور) بل يمتلك الوحدات الدالة، ويبدأ عمله خارج الكتابة في الوقت الذي يؤلف فيه هذه الوحدات من أجل بناء معنى الخطاب - إنه لا يرى ما يقرأ، بل يسعى إلى سماع معنى ما يريد قوله هذا المتكلم الغائب الذي هو صاحب المكتوب" (الشكل والخطاب، ص.111).

4 - موضوع الكتابة في التراث:

أما فيما يخص موضوع الكتابة في التراث فقد عرض له محمد الماكري باقتضاب شديد. ويسجل منذ البدء كون المؤلفات في هذا المجال لم تراوح حدود قواعد تحسين الخط والإملاء، فعرض لمنظور المتصوفة حول الموضوع "كإخوان الصفا" و"محي الدين بن عربي" ووجهة نظر كل من "الجاحظ وابن خلدون" حول الموضوع. واعتبر أن هذه التوجهات بقيت محكومة بمنطق عقائدي وتقعيدي، حيث يقول: "إن مجموع الكتابات التي اهتمت بالموضوع في التراث، لم تتجاوز في أغلبها جانب التقعيد للإملاء والكتابة أو الحديث عن الصناعة. وحتى في الحالات التي تتجاوز هذا المستوى، تقف على تأويلات وشروح محكومة بخلفيات ثقافية ومعتقدية" (الشكل والخطاب، ص.119). إلا أن ما يثير انتباه المتلقي في هذا الفصل هو حدود الخدمة التي يقدمها لإضاءة السؤال المركزي المتعلق بالشكل الذي يتم وفقه التجاور بين بنيتين من نسقين تعبيريين متمايزين (الشكل والخطاب، ص.5)، باعتبار هذه المؤلفات التي عرضها لا تقدم أدوات إجرائية للتحليل،  مما يجعل هذا الفصل لا ينسجم مع الفصول السابقة التي تعبر في إطارها النظريات عن قوة إجرائية وتوصيفية عالية.

يتضح عبر هذا العرض في مجمله هو كون سيميوطيقا بورس هي النظرية الوحيدة في إطار النظريات المعروضة، والتي تغطي المجالين معا اللغوي والتصويري، مما يجعلنا نضعها على رأس هذه الخطاطة التي نقترحها، بالاستناد على المستوى النظري والمستوى التوظيفي عوضا على الموقع الذي منحه إياها في ترتيب الفصول:

 

   

                                                 سيميوطيقا بورس

                  الفضاء النصــي                                            الفضاء التصويري

                                                                             

          الكتابة          الكتابة         الكتابة                   البلاغة البصرية        النظرية الجشطلتية

                                 

                                واللسانيات        كموضوع       في التراث

                                         سيميوطيقي

                                الشعر، من العرض الشفوي إلى العرض البصري

 

III - الباب الثالث: الشعر، من العرض الشفوي إلى العرض البصري.

1 - الاشتغال الفضائي في الشعر الحديث:

لقد ميز محمد الماكري في إطار أنواع الاشتغال الفضائي في الشعر الفضائي الغربي بين النص الشعري البصري، النص الشعري المشهدي، النص الشعري المجسم، النص الشعري الميكانيكي، النص الشعري المتعدد الأبعاد، النص الشعري الدلالي. وقام بإبراز خصوصية كل نوع عبر تقديم أمثلة. وأكد على كون العبور من لغة وضعية إلى لغة مجسمة، تبقى مشروطة بإلزامات تواصلية وبالسياق العام المندرجة فيه. يقول، "لقد تبين لنا من خلال المنطلق العام الذي يحكم هذه الاتجاهات، أنها وليدة وعي جديد، قد يبدو متطرفا ولكنه مشروط بمحددات ثقافية وحضارية حملت العديد من المتغيرات في مجالات الحياة المختلفة، فكان أمام الشعر أن يلحق بدوره بموجة التغيير هاته "(الشكل والخطاب، ص.199). ويرى أيضا أن "العنصر الجامع بين مختلف التوجهات الفضائية في الكتابة الشعرية، هو كونها تسعى إلى جعل الشعر شيئا موضوعيا بتشييئه فلا يبقى مجرد وعاء لمحتويات أخلاقية أو فلسفية، ولا مجرد تعبير عن أنا فردي أو جماعي. من هنا كانت النظرة الجديدة للغة، ومحاولة تحريرها من طرق التعقيد والوظائف التقليدية…" (نفسه، ص.199).

وقد واكبت التجربة الفضائية في الشعر الغربي طروحات نقدية متوزعة بين الشعرية والسيميوطيقا، وهكذا عرض في الشعرية لوجهة نظر كل من "رومان ياكبسون"، "تزفتان تدوروف"، "دانييل دولاس وجاك فيليولي"، "بيير بالب"، "دانييل بريولي"، "هنري ميشونيك"، "جاك جيرار لاباشري" أما في السيميوطيقا فقد عرض للمواكبة النقدية لكل من "أ.ج.كريماص"، "جوليا كريستفا"، كاترين كيربرات"، "جماعة مو"، "جاك أنيس". ويرى أنه "من خلال وجهات النظر المواكبة التي تم استعراضها يتبين الموقع المتميز للقراءة والتلقي، لأن الحركة التطورية التي أصابت الصيغ الشعرية، لم تكن تتم في معزل عن القراءة" (نفسه، ص.214).

في حين أن التجربة الفضائية في الشعر المغربي لم تعرف هذا النوع من المواكبة. وحتى المقالات التي صاحبت التجربة لا تعدو أو تكون انطباعات شخصية. وفي هذا السياق جاء هذا التناول من قبل المرحوم محمد الماكري كدعوة صريحة إلى تكسير الصمت الذي لف هذه التجربة التي تعتبر متميزة في المشهد الشعري المغربي.

وإذا كانت التفضية (Spatialisation) في الشعر الغربي مرتبطة أساسا برغبة ملحة في الإنخراط في المشهد العام، وهو انخراط سيجد أساسه النظري في الإنجازات المقدمة من قبل علوم الدلالة، السيميولوجيا، الإستيتيقا، البلاغة الجديدة، والتي استهدفت تدمير السنن الثابتة وإظهار سنن (codes) جديدة، فإن التجربة الفضائية في الشعر المغربي لم تكن محكومة بأي سياق من هذا النوع، مما جعلها تنكفئ على ذاتها ولا تسجل أية استمرارية في التاريخ، مما جعل محمد الماكري يرى "أن مسألة تدمير السنن لا يمكن أن تحسم فيها نزوة أو قناعة فردية أو حتى جماعية محدودة، بل الحسم يعاد به دائما إلى المجال الواسع للمتلقي". (نفسه، ص.176).

وباعتبار السياق العام المؤطر للشعر الفضائي الغربي، هل يمكن القول إن التجربة الفضائية في الشعر المغربي كانت سابقة لأوانها؟ بحكم السياق الثقافي الذي اندمجت فيه، وبحكم طبيعة المتلقي الذي ألف السنن القديمة، بالإضافة إلى الإلزامات السياسية التي يشترطها في النص الشعري آنذاك.

2 - تاريخية الاشتغال الفضائي في النص الشعري العربي.

*الشكل النموذجي:

إن انتقال الشعر من مستوى الإنشاد إلى مستوى العرض البصري يرتبط أساسا بانتشار التقليد الكتابي "وهكذا يصبح الاشتغال الفضائي المذكور من اجتهاد الناسخين والكتبة، وتبعا لذلك فهو خلو من أي قصدية أو أي بعد دلالي خاص". (محمد الماكري، نفسه، ص.136).

ويبدو أنه يطرح هذا الافتراض منذ البدء. إلا أن هذا الانتقال يحقق على مستوى التلقي متعة مضاعفة، متعة الأذن ومتعة العين. وقد حاول مقاربة التنظيم الفضائي للقصيدة العربية بالاعتماد على الآليات المفاهيمية لسيميوطيقا بورس. حيث اعتبر هذا الشكل الفضائي كعلامة ممثل ليصير بذلك علامة مفردة باعتبارها تشكل كلا. هذه العلامة المفردة تتشكل من علامات نوعية، وهي العناصر البانية للتنظيم الفضائي (تقابل الأشطر - البياض - الاتجاه)، وهو أيضا علامة قانون باعتبار التعاقد الحاصل في هذا المجال. أما باعتبار علاقة الممثل بالموضوع، فلم يتجاوز حدود اعتبار علامة إيقونية، دون أن يعين موضوعها التي تعقد معه علاقة مماثلة ومشابهة. وباعتبار المؤولات، فإن المؤول المباشر لا يمكنه أن يقدم سوى المعطيات التي تعلن عنها العلامة. وبالتالي يبقى المؤول الدينامي هو الذي بمكنته تمكين الباحث من توسيع المعرفة بهذا النموذج الفضائي. إلا أنه تجب الإشارة إلى أن المؤول الدينامي بالنسبة لبورس متوقف حول ما إذا كان الموضوع مباشرا أو ديناميا. فإذا كان مباشرا فهو لا يمنح سوى ما تحمله العلامة نفسها، أما إذا كان الموضوع ديناميا فإن المؤول الدينامي يمنح إمكانية الانفتاح على كل ما يرتبط بسياق العلامة، بمعنى الاعتماد على السياقات الخارجية، وهي مجموع المعارف التي قدمها النقد العربي القديم حول الموضوع. حيث سيمكنه هذا الانفتاح من توضيح الموضوع الذي يمظهره الممثل، بحيث يرى أنه "إذا اعتبرنا العلامة أيقونا، نجد أن القصيدة في اشتغالها الفضائي أشبه ما تكون بالباب أو البيت أو الخباء أو وردة الشمس النهارية" (نفسه، ص.139). وهكذا سيفصل هذه العناصر البانية للموضوع باعتباره علامة أيقونية كالتالي: الباب كموضوع، النهار كموضوع، الخباء كموضوع، وبالتالي فإن المؤول الدينامي كلغة نقدية واصفة تحيل على الموضوع، وتحدده في كونه: باب، بيت، خباب -<(المكان)  وكدورة الشمس الفلكية-< (الزمان)، ليعرض بعد ذلك إلى مجموعة من التنويعات التي خضع لها الشكل النموذجي.

*القوادسي (أيقونية الحركة):

يقول ابن رشيق: "ومن الشعر نوع غريب يسمونه القوادسي، تشبيها بقواديس الساقية لارتفاع بعض قوافيه من جهة وانخفاضها من جهة أخرى" (الشكل والخطاب، ص.146). وبالتالي فإن هذا الشكل الفضائي هو علامة مفردة باعتبار وجودها كواقع، وعلامة أيقونية تحيل على موضوع بالاستناد على ما يمنحه المؤول الدينامي (حركة قواديس الساقية).

وما يمكن ملاحظته هو كون هذا الشكل له القابلية للتفصيل باعتماد سيميوطيقا بورس حيث سيمكن التناول من الوقوف على العلاقة التي تربط المعطى النصي كمعطى لغوي، والمعطى الصوري كمعطى بصري. وسيمكن المؤول الدينامي من تحديد استعارية التسمية المرتبطة بالمجال الفلاحي.

*المسمط:

يرى محمد الماكري أنه "إذا كان الكثير من الشعراء العالميين المحدثين يوظفون العناصر الخطية والطباعية بشكل منظم، كالأقواس وعلامات التنقيط والوقفات والأحرف الكبيرة الابتدائية (Majuscules) على دلالة أيقونية بصرية، فإن العناصر الصوتية تؤدي هذه الوظيفة" (الشكل والخطاب، ص.151). وبناء على ما يمنحه المؤول الدينامي من معلومات يصل إلى كون المسمط يبرز خصائص مميزة هي على الشكل التالي:

"خصائص سماعية >-------< خصائص بصرية

اعتدال Vs قوة                     حجم: صغر Vs كبر

استواء Vs انكسار                لون: خفوت Vs لمعان" (نفسه، ص.150)

*الموشح:

يرى محمد الماكري كون "الموشح يعتبر نقلة بصرية بالقياس إلى التنويعات الأخرى التي لم تفعل بشكل مؤثر على هذا المستوى" (نفسه، ص.152).

وبالعودة إلى التحديدات التي يقدمها ابن منضور حول الموضوع، فإن الموشح لا يبني أية مباعدة كبيرة عن المسمط.

وعبر مجموع التفصيلات التي قدمها يصل الماكري إلى استنتاج وهو كون هذه الأشكال ارتبطت بالمسار التطوري، حيث ارتبط كل شكل بمرحلة معينة: البداوة (الشكل النموذجي)، الاستقرار والارتباط بالزراعة (القوادسي)، البيئة المدنية (الموشح والمسمط). إلا أن السؤال الإشكالي في التناول يبقى هو مدى الوعي لدى الشاعر بهذا الاشتغال الفضائي وبأبعاده الدلالية التي يراكمها؟

وإلى جانب النماذج يدرج نماذج أخرى يعتبرها أكثر تطورا وأكثر دلالة وهي:

*القلب:

"يقوم نوع منه على تقديم الأبيات في صورة مربع، بحيث تتوزع الوحدات المكونة لكل بيت عموديا وأفقيا في تماثل عددي وترتيبي، الأمر الذي يمكن من قراءة البيت مرتين حسب الاتجاه الذي تسير وفقه عين المتلقي من الأعلى إلى الأسفل أو من اليمين إلى اليسار…" (نفسه، ص.157). وتبعا لذلك، يؤكد النموذج على القراءة المتعددة، يكسر المعتاد في تلقي وقراءة النص الشعري العادي، كما هو الشأن بالنسبة للشكل النموذجي المعروض سلفا، يؤكد على البعد الواحد في التلقي وهو البعد البصري "إذ أن المعطيات الهندسية الفضائية التي تأسست عليها بنية الشكل لا يمكن أن تدرك إلا بصريا، وفي حالة انتفاء إمكانية التلقي البصري، لا يمكن للأذن أن تدرك الشكل في أبعاده المميزة تلك" (نفسه، ص.457).

ويعتبر هذا النموذج أكثر النماذج تمثيلية للشعر الفضائي العربي باعتبار إلزامية الاستبصار كشرط أساسي للتلقي.

*التفصيل:

يرى الرندي بصدد التفصيل "والتفصيل أن يقسم الشعر بقسمين أو أكثر في مواضع متوازية من أبياته، فإذا فصل منه قسم من كل بيت عما قبله كان الباقي تام الوزن والمعنى" (الشكل والخطاب، ص.158).

وعبر هذه النماذج التي عرضها، يؤكد على كون اشتغالها يمكن من قراءات متعددة.

*التختيم:

يقول: "سنحاول الوقوف بعض الشيء عند نموذج الخاتم من خلال الشكل المنسوب لابن قلاقس، وستكون وقفتنا تحليلية تستهدف تعرف الشكل الذي يعرضه" (نفسه، ص.160). ويعتبر هذا النموذج الوحيد الذي سيتم فيه المجز بين أساسين نظريين: النظرية الجشطلتية والنظرية السيميوطيقية.

1- الخاتم كجشطلت:

ـ الكل والأجراء: الخاتم هنا يدرك في كليته، أما العناصر البانية لهذا الكل فهي تحتاج إلى تأمل دقيق لإدراكها.

ـ العمق والشكل: يقدم الشكل عبر عمق هو مجموع وضعيات الخطوط، المثلثات، الدوائر… "أما الشكل الذي يبرز في موقع المركز من العمق فقوامه مربع أسود تتقاطع داخله خطوط أخرى أصغر حجما، مكونة بتقاطعاتها في مواقع متعددة، مربعات أصغر، ومثلثات وزوايا متنوعة. وفي مركز الشكل المربع أيقون لزهرة، كما في زواياه رسومات نباتية متقابلة" (نفسه، ص.162)، ويعتبر المربع جشطلة باعتبار قانون الصغر، قانون الاختلاف، قانون البساطة.

 

ـ الفضاء: "ندركه هنا في مظهره العلائقي لا النوعي، وهكذا فبياض الصفحة هي المساحة التي اشتغل عليها العمق كتشكيل بالكتابة (علاقة احتواء) وهذا العمق يتضمن شكل المربع (علاقة احتواء وتضمن)" (نفسه، ص. 163).

2- الخاتم كعلامة:

يعتبر "الخاتم" كعلامة مفردة تتشكل من علامات نوعية هي: علامات خطية، علامات هندسية، رسوم وأشياء، وهذا باعتبار الممثل في العلامة. أما باعتبار الموضوع، فالعلامات الخطية إلى جانب كونها علامات نوعية هي رموز مرتبطة بالاتفاق والتواضع باعتبار أنها لا تحيل على موضوعها بموجب المماثلة ليكون بالإمكان اعتبارها علامات مؤشرية. أما بالنسبة للأشكال الهندسية فهي علامات أيقونية تحيل على موضوعها بموجب المماثلة. وبالنسبة للرسوم فهي كذلك باعتبار علاقة المماثلة التي تعقدها مع نباتات وأزهار في الواقع. وبعد أن حدد محمد الماكري طبيعة العلامات التي ينبني الخاتم عبرها، أكد على ضرورة تجاوز هذا المستوى إلى مستوى أعمق وفق المقترحات المنهجية لبورس، حيث يقول: "والتحليل يجب أن ينطلق كما هو الحال هنا من مجموعة علامات مركبة أو ممثلات تحيل على مجالي الموضوع (المباشر أو غير المباشر) بواسطة الحقول الثلاثة للمؤول" (الشكل والخطاب، ص.164).

ـ الموضوع المباشر:

وهو الموضوع الذي تعرضه العلامة بشكل مباشر، حيث يحيل الخط على اللغة والكتابة، والأشكال الهندسية على النجمة، والرسوم على الزهرة والنباتات. لكن "الخاتم" هنا يبقى في حدود كونه علامة خبرية، في حين أن محمد الماكري يريد من التحليل أن يتجاوز هذا المستوى ليصير (الخاتم) علامة تفصيلية، وهذا يشترط حضور الموضوع الدينامي" أي الموضوع خارج العلامة في سياق خارجي. وهو لا يظهر على العكس من سابقه مباشرة في الممثل، ويؤكد بورس على أن على العلامة الممثل أن توحي بموضوعها الدينامي، وهذا الإيحاء أو مظهره هو الموضوع المباشر" (نفسه، ص.54).

ـ المؤول الدينامي:

وهذا يشترط مؤولا ديناميا يستقي معلوماته من مجموع السياقات الخارجية المرتبطة بالموضوع. حيث سيمكن هذا المستوى من العودة إلى التحديدات النقدية المرتبطة بهذا النوع من الشعر الفضائي، والتي ستقدم معلومات تفيد بكون "الخاتم" قصيدة شعرية. وسيمنح إمكانية التمييز في "الخاتم" بين المستوى التصويري والمستوى النصي، حيث ستعمل العلامات كعنصر رابط بين المستويين.

والاختلاف الذي يمكن رصده على مستوى التناول بين "الدراسة النصية لموسم الحضرة" وبين "الخاتم" هو الانفتاح في هذا المستوى الأخير على المؤول النهائي، الذي يأخذ -كما حدد في الإطار النظري- ثلاثة أشكال: شكل افتراض (Abduction)، شكل استقراء (Induction) شكل استنتاج (Déduction)، (نفسه، ص.55).

وبحسب ما يقدمه المؤول الدينامي فيما يتعلق بالعلاقة بين المعطى النصي والمعطىالتصويري، فإن المؤول النهائي يتأسس هنا على افتراض مفاده أن ما يقوله المعطى البصري هو ما يراكمه النص الشعري. وهذا الافتراض كما يحدده بورس ينبغي أن يتأسس على تجارب تؤدي إلى عادة مكتسبة أو خبرة بالشيء، إلا أن كل افتراض يبقى مشروطا ببرهنة علمية، وهي برهنة ستأسس على منطوق المعطى اللغوي، حيث سيفيد المؤول الدينامي والنهائي على كون القصيدة مدحية تعين اسم ممدوحها، الذي هو "أبو القاسم بن أحمد"، وسيفيد المحلل بأنه زعيم أهل الجزيرة (صقيلية) من المسلمين في عصر النرمان، وسيفيد الباحث في الوقوف على مجموع التحديدات المقدمة في الكتب النقدية القديمة فيما يتعلق بالخاتم. وسيمكن من الوقوف على مجموع السياقات والتنويعات التي يشتغل بمقتضاها الخاتم كمعطى رمزي (الخاتم كارتباط -الخاتم كتعبير عن رغبة- الخاتم كرمز للإخلاص، الخاتم كرمز للسلطة والقوة…) وبالتالي فإن المقام التداولي "للخاتم"، الذي يعين المرسل (ابن قلاقس) والرسالة (الخاتم) والمتلقي (أبو القاسم)، لا يبني مباعدة عن هذه التوظيفات الرمزية "للخاتم". "فالشاعر يقصد بالخاتم مجموع المعاني الواردة أعلاه، فهو برهان رابطة بين المادح والممدوح، كما أنه عنوان رغبة في التواصل معه، وهذه الرغبة تتضمن معنى التعلق والإخلاص الاختياري أيضا" (الشكل والخطاب، ص.173).

وما يمكن ملاحظته على مستوى الجهاز المقترح في الإطار النظري، هو كون تناول الخاتم كان أكثر تدقيقا وأكثر انفتاحا وأكثر غنى من ناحية استثمار المستويات التحليلية المقترحة من قبل بورس بالمقارنة مع الدراسة النصية (موسم الحضرة) والتي استند فيها على نفس المقترح النظري. وهذا ما سنلاحظه عبر نقده للتجربة الفضائية في الشعر المغربي.

3 - نقد التجربة الفضائية في الشعر المغربي:

1 - التنظير:

أ ـ محمد بنيس: يرى محمد بنيس أنه لا ينبغي إغفال أهمية المكان في النصوص التي تعتمد البعد البصري، باعتبار أن المكان لا يمكن أن ينظر إليه كمستوى للترفيه والتزيين وبالتالي اعتباره عنصرا هامشيا في المقاربة والتلقي. وهو قول محكوم بمنطق سجالي، وبإلزامية الدراسة التي أنجزها تحت عنوان الشعر المعاصر في المغرب، مقاربة بنيوية تكوينية. وعلى الرغم من كون المفهوم يعتبر مركزيا في التجربة الفضائية فهو لم يلق توسيعا وتدقيقا، خصوصا وأن محمد بنيس شكل بالنسبة للتجربة طرفا مركزيا، إن لم نقل متزعما للتجربة (بالنظر إلى الإنجازات النظرية والإنجازات الشعرية) التي عرفت هي بدورها تواريا واختفاء في المكتبات الخاصة كما هو شأن النصوص التراثية في هذا المجال.

ويرى محمد الماكري أن الحيز الضيق الذي خصصه محمد بنيس لبنية المكان سيقابله توسيع وتركيز "للعبة الأبيض والأسود ومستويات اللون داخل النص ليختزل الاشتغال الفضائي للنصوص في هاتين النقطتين اللتين لم يقم تناولهما على سند نظري ومناهجي واضح ومضبوط بل جاء فقط في شكل معاينة انطباعية خالصة، تلغي إمكانية الإعتقاد بحصول الوعي بالأبعاد المختلفة للاشتغال الفضائي للنص لدى الشاعر/الباجث.." (الشكل والخطاب، ص.217) ويعتبر هذا القول اتهاما مباشرا من قبل محمد الماكري للشاعر والناقد محمد بنيس بالتقصير في هذا المجال، ويعتبر هذا الانتقاد الصريح إلى جانب انتقادات أخرى، سواء في إطار التحققات النصية لبيانات الكتابة أو في إطار المقاربة التي أنجزها في آخر الكتاب لنص "موسم الحضرة" وراء السجال الذي واكب صدور الكتاب عبر الملحق الثقافي لجريدة العلم. وهو سجال لم يكن محكوما بخلفية نظرية وفلسفية تجاه تجربة اعتبرت ملكية لكل الذين يحبون ويتذوقون ويتماهون مع الشعر، بمجرد خروجها وتسجيل حضورها في المشهد الشعري والثقافي بالمغرب.

ويرى محمد الماركي كون الاشتغال الفضائي في بيان الكتابة لم يخرج عن التحديد الذي أورده في دراسته حول موضوع بنية المكان. ويرى أن "البيان ينتظم في ثلاث حدود، كل حد منها يبرز مشروعا في الكتابة الشعرية كما يتصورها الشاعر، في لغة يسكنها قاموسان: قاموس ثوري رافض ومطالب بالتغيير، وقاموس صوفي انطوائي يحوم بموجبه البيان حول الذات والجسد. وهكذا يمكن القول إن البيان كنص نظري، يقدم بين قطبي انجذاب متعارضين اصلا، مولدا حالة لا هوية لها ولا سبيل إلى فهمها" (نفسه، ص.218). وهذا القول هو انتقاد صريح لصيغة البيان، الذي ينبني حسب رأي الماكري حول النفي والتأسيس، فهو نفي لوجود ممارسة شعرية متجذرة في الكتابة الشعرية بالمغرب وهو تأسيس لطرائق مغايرة في الكتابة، حيث يرى الماركي أن "فعل التأسيس هو الفعل الذي ينتدب البيان ضمنيا للقيام به، فهو "مانيفست" نظري يلغي الجاهز والقائم، ويسطر الضوابط والقوانين الجديدة للكتابة، يضع الحدود لخدمة مبدأ التأسيس ونشدان التميز" (نفسه، ص.218). والتأسيس هنا ينهض على مواجهة الشعر المعاصر حيث يرى محمد بنيس أن "مفهوم الكتابة معارض أساسا للشعر المعاصر كرؤية للعالم لها بنية السقوط والانتظار، هذا الشعر هو الذي يواجه هنا، كرؤية برهن التاريخ على تخاذلها وتجاوزها" (الشكل والخطاب، ص.220). والسؤال الذي يطرحه الماكري في هذا المجال يتعلق بالكيفية التي عبرها يمكن أن تكون الكتابة بديلا للشعر المعاصر؟ بحيث يضع الكتابة في موقع تؤطر التأسيس والمواجهة، فهي مشروع للتغيير، والتغيير حسب بيان الكتابة لمحمد بنيس هو "أن نبنين النص وفق قوانين تخرج على ما نسج النص المعاصر من سقوط وانتظار، أن تؤالف بين التأسيس والمواجهة" (الشكل والخطاب، ص.221). ويسجل الماكري مجموعة من المفارقات في هذا المجال، تتعلق بعلاقة السياسي بالثقافي، تتعلق بالموروث الشعري، تتعلق بالانغلاق في مقابل الانفتاح… "حيث الحكم على الشعر المغربي طوال تاريخه بانعدام الفعالية الإبداعية وانتفاء القدرة على تركيب نص مغاير. في الوقت الذي يدعو فيه البيان إلى اعتبار تجربة المغاربة والأندلسيين من قدماء الشعراء نموذجا يمكن أن تحقق الكتابة باحتدائه تميزها، وتجدرها كفعل متأصل" (نفسه، ص.221).

ب ـ عبد الله راجع (الجنون المعقلن): يرى محمد الماكري كون هذا البيان لا يبني أية مباعدة عن بيان الكتابة لمحمد بنيس، باعتبار الاقتناع بالخطوط العريضة. إلا أن ما يميزه هو طابعه اللاسجالي، وطابعه المتماسك. وهكذا فهويؤكد على أن التجربة هي تجربة ضد المألوف، يؤكد على الخط كبعد تشكيلي، يؤكد على المكان كبعد دلالي في النص. وتبعا لذلك فهو لا يخرج عن السياق العام للبيان الأول. ويرى الماكري أن التغيير يجب أن يتولد عن حاجة ملحة، ولا يمكنه أن يرتبط بنزوات ورغبات أفراد وجماعات. ويبدو هنا النقد الصريح للبيانين حيث يعتبرهما غير متماسكين في تركيبتهما، وفي مواقفهما تجاه قضايا أساسية حيث سجل مجموعة من التعارضات تجاه معطى واحد.

ج ـ محمد بلبداوي (حاشية على بيان الكتابة لمحمد بنيس): يؤكد بلبداوي على الخط باعتباره يلغي الطباعة كوسيط بين الكاتب ونصه. ويرى أن الخط لا يبني دلالته إلا عبر المكتوب، يقول: "من هنا لا يكون الخط مجرد زخرف وديكور خارجي بقدر ما هو منغرس في بنية اللغة" (الشكل والخطاب، ص.226). ويرى الماكري كون الجديد في الحاشية هو إمكانية وحدود التلقي. يرى بلبداوي أنه "قد يقال إن القارئ الذي نتوجه إليه هو قارئ المستقبل الذي نهيئه، لكن لا ينبغي أن ننسى أنه منغرس في اللحظة، وعلينا أن نهيئه انطلاقا من هذه اللحظة لا أن نهرب به بعيدا إلى الأمام" (نفسه، ص.226)، ويرى الماكري كون الحاشية تحمل وعيا متقدما بالنظر للنصين السالفين، حيث تؤكد على السياق الداخلي للنص، يقول بلبداوي: "ماذا سيحدث مثلا لو أنني زوجت الخط بشكل، وليكن علامة من علامات المرور، حينما يكون سياق النص يقتضي ذلك (ألح هنا وأؤكد على سياق النص)… إن حرية القارئ مشروطة بالمناخ السائد في النص، وهذا المناخ أنا الذي أغزل خيوطه الرفيعة بأكبر قدر من العناية والمسؤولية" (نفسه، ص.227).

ما يلاحظ هو كون الحاشية تعمق وعيا نظريا تجاه الشعر الفضائي، بخصوص العلاقات بين الخط-اللغة-الأشكال، والسياق النصي الذي ينظم العلاقة بين الأطراف، ويجعلها أكثر دينامية واتساقا. إلا أن المغيب هنا هو حدود التأثير الذي يمارسه السياق الخارجي في انبناء النص وتلقيه.

فيما يتعلق بالشعر كبعد إنشادي فإن بلبداوي يتخذ موقفا معتدلا، بين الشعر كإنشاد والشعر كمعطى بصري له القابلية للرؤية والقراءة، يقول: "إن الاستغناء عن الإنشاد في تصوري يغتال مرة أخرى التواصل الإنساني المباشر بين الشاعر والمتلقي، ويضيف الشعر إلى قائمة المعلبات والمصبرات، فإذا كنا نسعى لخلق قارئ جديد، هل نخلقه قارئا أصم يسعى إلى النص بعضو واحد؟" (نفسه، ص.227).

2 - التحققات النصية:

إن رصد مجموع المرتكزات النظرية المؤسسة والموضحة للتجربة الفضائية في الشعر تبقى رهينة بمدى تحققها على مستوى النصوص، وهكذا سيعمل على مباشرة النصوص عبر مجموع الخلفيات النظرية التي قام بتفصيلها، وهكذا سيميز بين مستويين معتمدا في ذلك على "ليوطار J.F.Loyotard" هما الفضاء النصي والفضاء التصويري.

*الفضاء النصي:

يرى محمد الماكري أن الخط "يعتبر معطى جشطالتيا، وتبدو طبيعته الجشطالتية في كونه مجموعة من الأدلة الخطية" (الشكل والخطاب، ص.283). وهذا القول يولد لدى القارئ استغرابا، بحيث أن الخط في ذاته لا يشكل معطى جشطالتيا في هذا المجال. باعتبار هذا الأخير هو نتيجة مجموع التعالقات البانية للكل. وفي هذه الحالة يفقد هويته ليندرج في إطار شكل بصري له القابلية للرؤية والاستبصار. فالخط هنا يصير مادة للقول وطريقة للتشكيل. فالخط ليست له ذاكرة وانوجاده محكوم بالسياق الذي يندرج فيه، السرد-الشعر-التشكيل، والذي يمنحه هويته وتميزه، وبالتالي لا يمكن بأي حال القول بأن تلقي الخط المغربي في سياق الشعر قد يتأثر بإلفة المتلقي لهذا الخط في سياق آخر. بحيث إذا أخذنا مفهوم المقروئية والاستبصار كما حددهما ليوطار، نجد أنه في المقروئية يغيب الخط-الشكل، وفي الاستبصار يحضر الجشطلت في كليته وتغيب المقروئية، فحين ننظر إلى  المعطى التالي، نجده يمنح إمكانيتين للتلقي: كبعد استبصاري وكنص له القابلية لأن يكون مقروءا. لذلك فإن الاستنتاج الذي قدمه محمد الماكري في مقاربة الخط لا ينسجم مع كثير من المرتكزات النظرية التي عرضها. يقول إن "دلالة الخط كمكون للفضاء النصي، لا ترتبط ضرورة بدلالة النص. لأن هذا الارتباط يسقطه ويلغيه، وورود الشكل الخطي بشكل نمطي ومكرور في كل نصوص هذا التوجه. والمسـلم بـه أن هذه النصوص لا تعيد نفس الكلام. فدلالة الخط لهذا الاعتبار لا تخرج عن المستويين السالفي الذكر أي باعتبار الخط اختيارا جماليا صرفا، باعتباره إحالة على معرفة خلفية بنموذج شبيه" (نفسه، ص.234). إلا أن اعتماد التحديد الذي وضعه "يامسليف L.HJELMSLEV" فيما يتعلق بالتعبير والمحتوى حيث يميز داخل التعبير بين الشكل والمادة، وداخل المحتوى بين الشكل والمادة، فإن الخط مادة مندرجة في سياق خاص يمنحه دلالة ممكنة. وليصير بذلك عنصرا من العناصر البانية للنص الشعري الفضائي، والتي يتعالق ويتفاعل معها. وتبعا لذلك فإن القول بأن دلالة الخط لا ترتبط بدلالة النص في كليته هو قول يحتاج إلى تدقيق، بالإضافة إلى كونه لا يحترم المرتكزات النظرية التي بسطها في البابين خصوصا مفهوم النسق ومفهوم البنية اللذان يجعلان من النص الفضائي نصا متماسكا.

وفيما يتعلق بالسطر المكتوب ميز بين أربعة صيغ هي: الاتجاه العمودي من الأعلى إلى الأسفل. الاتجاه العمودي من الأسفل إلى الأعلى. اتجاه المنحنى من الأعلى إلى الأسفل، اتجاه المنحنى من الأسفل إلى الأعلى" (نفسه، ص.234).

وفي هذا الإطار يبني مقابلة بين الخط والسطر، ويرى أنه "إذا كان توظيف الشكل الخطي غير فاعل على مستوى دلالة النص بشكل قطعي، فإن تكسير مسار السطر الشعري على العكس من ذلك مرتبط بالسياق النصي، ولا يمكن أن يفهم إلا من هذا المنظور" (نفسه، ص.234). وبالتالي فإن القول بكون الشكل الخطي غير فاعل على مستوى دلالة النص هو قول بعيد أن يكون وفيا للتحديد الذي اعتمده في التمييز بين الفضاء النصي والفضاء التصويري، حيث يقول "يوضح (ليوطار) أن علاقة القارئ بالمكتوب لا تعني في شيء جسده ولا موقعه لأن الجسد يوجد ملغى في هذه العلاقة، بحيث لا يستشعر جسد القارئ شكل ولا طاقة أو سمك أو طول أو وزن الحرف، فالقارئ في العمل التواصلي يسمع فقط ما يقوله المتكلم" (نفسه، ص.109). "إن اختصار الزمن في القراءة الجارية يقابله العكس في التأمل البصري التشكيلي الذي يستدعي وقوفا أمام المعطى لمدة أطول" (نفسه، ص.111). هذه النصوص وغيرها تؤكد على التميز الحاصل بين البنية والشكل في عملية الإدراك والتلقي. وسنرى في الدراسة التي أنجزها لنص "موسم الحضرة" كيف سيرصد العلاقة الدلالية بين الطرفين.

 

 

 

 


 

ويبدو أن الاستنتاج المتعلق بالشكل الخطي يعود أساسا إلى كون المعطى الجشطلتي في التجربة الفضائية، وعبر النماذج المقدمة في الكتابة، لم يتجاوز أثناء مقاربتها حدود اعتبارها علامات أيقونية. والإيقون هو كل علامة تحيل أو تعين موضوعها بموجب علاقة المماثلة والمشابهة

 (الصورة الشخصية علامة ايقونية تعين صاحبها. خريطة المغرب هي علامة ايقونية على المغرب). وتبعا لذلك فهذه الجشطلتات تشتغل كعلامات أيقونية تحيل على موضوعها بمقتضى المشابهة والمماثلة وهذا على مستوى التلقي العادي، أما على مستوى المقاربة والتحليل فهذه النماذج

 

 

 


 

 (النموذجان كمثال) لا تقف عند حدود كونها علامات ايقونية وإنما يمكن أن تشكل علامات مؤشرية، وأكثر من هذا علامات رمزية بموجب العلاقة التي تعقدها مع السياق النصي. والسياق الخارج عن العلامة والمرتبط بالمواضعات المحكومة بمنطق ثقافي اجتماعي سياسي. بحيث أنه من المستعصي جدا أن نفهم لماذا أوقف هذه الأشكال عند حدود كونها علامات أيقونية. وحتى في الدراسة النصية سنجده يخندق الأشكال المعروضة للتحليل في مستواها الإيقوني ولم يجعلها تتجاوز حدود ذلك.

فيما يتعلق بحجم وسمك الحروف ينظر إلى هذا النموذج باعتباره منبها أسلوبيا. ويدرجه في إطار المعطى النصي مع أن المتأمل لهذا النموذج لا يمكنه إلا أن يضعه كنموذج وسيط بين الفضاء النصي والفضاء التصويري. فهو نموذج يمنح نفسه للرؤية باعتبار توفره على مرتكزات مفاهيمية للنظرية الجشطلتية والتي بموجبها يعتبر معطى ما معطى جشطلتيا، باعتبار الشكل والعمق، باعتبار معيار القرب، ومعيار المشابهة، معيار التسلسل، قانون الصغر، قانون الكبر.. وهذا باعتبار الجملة المنبورة في علاقتها بالنص العمق، وهو نموذج أيضا يمنح نفسه للقراءة باعتبار القابلية للاسترسال في القراءة.

أما بالنسبة للبياض والسواد، فهو أن السواد يرتبط بالفعل والبياض بالسكون، الكلام في مقابل الصمت، فحين ينتهي الكلام يبدأ البياض "وهو في الواقع ليس ضرورة مادية مفروضة على القصيدة من الخارج، بل هو شرط وجود القصيدة، شرط حياتها.." (نفسه، ص.239).

*الفضاء الصوري

إلى جانب التحديد النظري يميز بين التشكيل الخطي ويتكون من أشكال بصرية مجردة منها: الأشكال المثلثة، الأشكال المربعة، الأشكال الدائرية، الأشكال الحلقية، الأشكال الحلزونية، ويعتبر هذه الأشكال من مثل هذا النموذج لعبد الله راجع علامات أيقونية. ولكن ما الذي يمنع من اشتغالها كعلامالت مؤشرية أو علامات رمزية، خصوصا إذا تم ربطها بسياقاتها الداخلية والخارجية؟

والتشكيل الخطي الإيقوني، هو "كسابقه يعتمد اللغة في بعدها البصري مادة للبناء" (نفسه، ص.244) وما يلاحظ هو أن المادة المعتمدة في هذا المجال هو الخط وليست اللغة، وأنه يختلف عن التشكيل السابق باعتبار الطبيعة الإيقونية، من مثـل هذا النمـوذج لمحمد بلبداوي، والشكـل الإيقوني والذي يختلف عنه باعتبار أنواع الأدلة التي يقدمها إذ هي أدلة ايقونية تتماثل مع موضوع يعتبر مرجعا" (نفسه، ص.245). كما هو الشأن بالنسبة للقدم وعلامة التحذير. التي قلنا عنهما أنهما يتجاوزان حدود كونهما علامات ايقونية إلى كونهما علامات مؤشرية وعلامات رمزية بالاستناد علىالسياق الثقافي والسياسي الذي يحكم انوجادهما.

 

وضمن هذه التشكيلات التي يعتبرها متمايزة يعين التشكيل المجـرد: وهـو بالنسبـة لـه مجمـوع الأشكـال

البصرية التي ليس لها طابع أيقوني، كمجموع، جوائر، مثلثات، مربعات. إلا أن هذا التصنيف يبدو غير مبني على تعليلات نظرية واستنتاجات تحليلية، لأن القول بكون هذه الأشكال علامات ايقونية هو قول بأنها لا تبني أية مباعدة بينها وبين مرجعيتها. وتبعا لذلك لا يمكن أن نعتبر القدم كنص هو قدم الإنسان وأي إنسان، ولا يمكن أن نعتبر علامة المرور كما هي في الواقع. خصوصا ونحن نعلم أن الشيء حين يقتطع من سياقه ويدرج في سياق مغاير، فإنه يصير مدمجا في هذا الأخير ويفقد هويته الدلالية والتعبيرية السابقة، ويخضع للإلزامات الدلالية والنسقية وإشراطات التلقي الجديدة. وسنرى ما إذا كانت المقاربة النصية تتجاوز هذا الحد.

3 - دراسة نصية: هكذا كلمني الشرق موسم الحضرة.

يشير منذ البدء على كون المقاربة النصية سترتكز على ثلاث مستويات وهي: التركيب، الدلالة، التداول، وهي مستويات معادلة للعناصر المركزية المشكلة للمثلث السيميوطيقي لدى بورس: الممثل-الموضوع-المؤول.

أ ـ مستوى التركيب:

اعتبر النص علامة مفردة مركبة من علامات نوعية لخصها في ثلاثة مستويات: الخط (الفضاء النصي)، الأشكال البصرية (الفضاء الصوري)، البياضات باعتبارها عمقا.

 

 

 

 


 

 

 

 


 

 

 

 


 

على مستوى الفضاء النصي لم يتم تجاوز المستوى السطحي باعتبار الارتكاز على تحديد حركات الخط المتوزعة بين يمين sV يسار، أعلى sV أسفل. وما يلاحظ في هذا المجال هو تغييب المرتكزات المفاهيمية المرتبطة بإدراك الفضاء، خصوصا والبحث في كليته ينهض على تركيب لأطر نظرية متمايزة في مفاهيمها وفي خلفيتها الفلسفية. في إطار الإشارة للنبر البصري (مجموع الكلمات التي تبرز سمكا وحجما معينا) يغيب أيضا استثمار المفاهيم الجشطلتية، حتى لا تبقى موقوفة عند حدود العرض النظري. غياب الكراماطولوجيا في هذا المستوى من التحليل باعتبار التفصيل الذي عرفته في العرض النظري وبعض التحققات التطبيقية سواء بالنسبة للغرب أو بالنسبة للثرات العربي. أما على مستوى الفضاء الصوري نجده لم يتجاوز حدود التمييز داخل الأشكال البصرية بين شكل بصري مركب  وشكل بصري غير مركب. وفي هذا المستوى أيضا لم يتجاوز حدود المباشرة السطحية، مع وجود إمكانية إدماج جميع المقولات الجشطلتية واللسانية والبلاغية الممكنة في تقديم توصيف دقيق للمثل كعلامة مفردة مشكلة من علامات نوعية. بحيث إذا كان إدراك الفضاء النصي مشروطا بالمقروئية فإن الفضاء التصويري مشروط بالمرئية، وكل عنصر مرئي هو في عموميته يشكل جشطلة وكل جشطلة تتشكل من عناصر بانية. وبالتالي كيف يمكن أن تدرك هذه العلامات البصرية من قبل المتلقي؟

ب ـ مستوى الدلالة:

على مستوى الفضاء النصي عمل على رصد التعالقات التي يقيمها موضوعه: وهذا يتطلب تفكيك النص الشعري، والذي يعود أساسا إلى طبيعة الكتابة التي تفرض التوقف والاستبصار عوض السماع والاسترسال وخصوصية الإنشاد التي تتميز بمقتضاها الكتابة الشعرية العادية.

ويتم التمييز في هذا المجال داخل القول الشعري بين معطى لغوي يمنح نفسه للقراءة ومعطى لغوي يمنح نفسه للرؤية.

بالنسبة للمعطى الأول يرتبط بقانون تواضعي تتوئحد داخله العشيرة اللغوية، وهذا مرتبط أساسا بالتداول العادي للغة. إلا أن القول الشعري يشكل مستوى أعلى، وهو بذلك يشترط معرفة إضافية حيث يتم الحديث في هذا المجال عن القدرة الأدبية (Compétence littéraire) إلى جانب القدرة اللسانية.

وعلى هذا الأساس يميز داخل الموضوع بين مجموعة من العلامات باعتبار العلاقة التي تعقدها بموضوعها ليصير بذلك الخط، المكتوب، باعتباره علامة رمزية مبنية على التعاقد والاتفاق. ويصير موجها للتلقي باعتباره علامة مؤشرية، وهنا "لا يتعلق الأمر بالمكتوب كموضوع للقراءة، ولكن ببعض مكونات الفضاء النصي التي توجه القراءة، وهي ليست علامات لسانية، ولكنها مع ذلك لا تقوم بتوجيه القراءة بحياد، لأنها تختزن طاقة إيحائية ودلالية مأخوذة كعلامة" (نفسه، ص.266). حركة الأسطر باعتبارها علامات ايقونية، علامات الترقيم "بالإضافة إلى دورها في توجيه التلقي. يمكن أن ينظر إلى حضورها أو غيابها كأيقون على الانفتاح والتحرر أو العكس، أي كأيقون على الانضباط والالتزام بإلزامات المواضعات التخاطبية" (نفسه، ص.267). يتبين إذن كون الفضاء النصي يتشكل من علامات ايقونية، مؤشرية، رمزية، ومن هنا يشترط تدخل المؤول كرابط بين الممثل والموضوع في إطار السيرورة السيميوطيقية.

هذا بالنسبة للفضاء النصي أما بالنسبة للفضاء الصوري فقد ميز بين التمثيل اللغوي الذي يستند على اللغة كمجموعة رموز متفق عليها، وبين التمثيل الصوري أو البصري الذي يستند على الأشكال والرسوم التي تشترط المشاهدة ككل تشكيلي.

على مستوى الموضوع فإن الأشكال المعروضة يعتبرها علامات ايقونية. ولكن دون أن يعين موضوعاتها التي تعقد معها علاقة مشابهة ومماثلة. يقول: "من هذا المنظور يمكن أن يعتبر الشكل بدوره أيقونا على موضوع معين يحيل عليه بموجب مبدأ المشابهة في الحركة والإنعراج والتموج، ويبقى على المتلقي تحديد الموضوع المذكور في سياق العمل التأويلي" (نفسه، ص.269). ويبدو كون الموضوع المباشر الذي يحيل عليه المؤول المباشر، قد بقي جانبا دون أن يتم تعيينه باستثناء الإشارة التالية (سمة التموج والانفتاح) والتي رافقت الحديث عن الشكل المركب الأول.

بالنسبة للشكل المركب الثاني يعتبره أيضا علامة ايقونية، وهو شكل يتكون من هرمين الواحد يتجه إلى الأعلى والثاني إلى الأسفل، وفي كلتا الحالتين يستبعد كون الهرمين يعقدان علاقة مماثلة ومشابهة مع موضوعهما. على الرغم من التأكيد في هذا المجال على "كون الإدراك الأمثل لا يتأسس بالضرورة على قراءة خطية تلتقط العين بموجبها العلامات اللسانية المخطوطة بحسب موقعها من النسق العام للمقطع بل تتأسس على المشاهدة ومعاينة الوحدات في علاقات بصرية أخرى غير علاقات النسق اللساني أي في علاقاتها الفضائية الصرفة" (نفسه، ص.269). ليصل إلى الاستنتاج التالي وهو كون الأشكال المعروضة هي علامات أيقونية.

ج - مستوى التداول:

يعتبر المؤول عنصرا من العناصر البانية للنموذج الثلاثي للعلامة، وعملية التأويل تتحدد عبر العلاقة بين تركيب السنن من قبل الشاعر وتفكيكها من قبل المتلقي حيث يرى "دولودال" (1979) أنه "لا وجود لتركيب سنن، دون أن يكون هناك تفكيك مستهدف، ولا تفكيك سنن دون تركيب ملعوب ذهنيا" (نفسه، ص.270).

*الفضاء النصي:

رأينا سابقا كون الممثل هو علامة مفردة مشكلة من علامات نوعية: فبالنسبة للخط يرى الماكري كون الموضوع الذي يحيل عليه الممثل هو موضوع مباشر وموضوع دينامي ويعبتر أن "التجربة البصرية تتدخل لتتحكم في تلقي المكون الخطي. فهي تشتغل إلى جانب المؤول الشعوري الذي يبرز بمقتضاه الموضوع في صورة انطباع أولي لدى المتلقي حول التركيب العلاماتي المعروض أمامه" (نفسه، ص.273).

يسجل كون الخط المغربي الأندلسي يراكم بعدين: بعد جمالي وبعد إيحالي باعتبار الإلفة التي يعقدها المتلقي المغربي مع هذا الخط، الذي يشكل تجربة مختزنة في الذاكرة، والتي يمكنها أن تتحكم في إدراك وتمثل هذه الأشكال في إطار تجربة الكتابة الشعرية الجديدة في المغرب، وهذه الإلفة مرتبطة أساسا بخط المصحف. والإشكال الذي ينطرح في هذا المجال هو الكيفية التي يمكن بموجبها أن يعقد محمد الماكري مفارقة ومخالفة بين خط واحد منبرز في سياقين متمايزين؟ وإلى أي حد يمكن للمرجعية الدينية أن توجه التلقي في هذا المجال؟ خصوصا وأن التأثير الذي يمارسه الدين هو تأثير مرتبط بالنص في بعده الدلالي والرمزي والقيمي. والخط ليس سوى تحيين لهذه الأبعاد. يقول: "رأيي أن المسألة ليست بالأمر الهين، خصوصا وأن الإلفة السالفة الذكر هي وليدة تراكمات زمنية تمتد تاريخيا، وأصبح معها الحرف مقترنا آليا وبالتداعي بالحمولة الدينية واللاهوتية، خصوصا وأن السابق لم يعدم تأثيرا في اللاحق، خصوصا إذا كان السابق بحجم وقوة النص القرآني في تأثيره الثقافي والاجتماعي والسياسي في مقارنة مع الشعر" (نفسه، ص.274). وعبر هذا التحديد يصل إلى كون التجربة البصرية لدى المتلقي تنبني عبر ثنائيتين: (الدين Vs الشعر، القديم Vs الجديد) وهو استنتاج محكوم بالمؤول الشعوري. وبعد هذه التحديدات سيقوم برصد الموضوع المباشر في النص، وسينطلق من العنوان البارز في النص "هكذا كلمني الشرق" ليصل إلى استنتاج مفاده أن العنوان يراكم نواة دلالية هي (المشرق Vs المغرب) واعتبرها بنية أولية للدلالة. وما يلاحظ في هذا المجال هو الحضور المفاهيمي لسيميوطيقا "كريماص Greimas" على الرغم من كونه لم يشكل محورا مركزيا ضمن العتاد النظري والمفاهيمي. ويعتبر الثنائية منطوقا مباشرا للنص. ولجوؤه إلى المؤول الدينامي في هذا المجال هو فقط للبرهنة. وإلى جانب الخط الذي تم تأطيره وتحديده عبر المفاهيم السيميوطيقية ينبرز القول الشعري كمعطى ثاني في الفضاء النصي، وقد اقترح في هذا المجال مستويين: المستوى الموضوعاتي والمستوى الاستعاري لولوج لغة النص.

بالنسبة للمستوى الأول نجده يعرض الموضوعات عبر تصفيف وتجميع الوحدات المعجمية التي يمكنها أن تراكم نواة دلالية واحدة وهي كالتالي: موضوعة القراءة/الكتابة، موضوعة الماء، موضوعة المكان الجغرافي، موضوعة العدوان، موضوعة المواجهة والصمود. ويخلص إلى أن العلامة المحورية التي تربط هذه الموضوعات هي علامة الماء. ويبرر ذلك عبر مجموعة من المرتكزات المعجمية، وعبر التمطيط (Expansion). والتحويل (transformation)، يقول: "والماء كعلامة في النص يعتبر في تجلياته المختلفة منطلق التمطيط، لتتفرع عنها علامات أخرى" (نفسه، ص.280).

وهذه العلامة المحورية باعتبار التمطيط والتحويل تشتغل في النص اشتغالا استعاريا، حيث رصد توزعها في النص عبر ثلاث مجالات أساسية.

الماء باعتبار مراكمته للمقوم الطبيعي. على الرغم من أن "هذه الصيغة لا تعني احتفاظ العلامة المحور بدلالتها التعيينية ضرورة، لأن مبدأ التمطيط يلحق بها دلالات أخرى تبتعد بموجبها عن دلالاتها التعيينية، نعرف أن النهر يمكن أن يكون في الواقع مجال عبور (سباحة، أو بواسطة مركب، أو على جسر) غير أن عبور النهر يقترن بمحددات سياقية مثل (الهدايا للسلطان، الشهادة، الهلاك)" (نفسه، ص.284).

والمكان هنا كمقوم طبيعي يراكم نفس النواة الدلالية التي رصدها أثناء تناول وهي: /المشرق/Vs/المغرب/.

الماء باعتبار مراكمته لمقوم إنساني حيث يصير الماء: معشوقا، معلما، موحدا، مخبرا، ناطقا، مساندا، غادرا، مهاجما. ويرى أن هذه التحولات في العلامة المحورية تفرز مقابلة بين: /العدوانVsالمواجهة/ و/المساندة Vsالغدر/.

الماء باعتبار مراكمته لمقوم الكتاب ويرى أنها تابعة لموضوع المساندة. مع الإشارة إلى كون هذه المستويات من التحليل ترتبط أساسا بالموضوع المباشر. ويجب أن نلاحظ كون التحليل على مستوى الموضوع المباشر لا يبارح المكونات البانية للنص. في حين أن الأستاذ لم يبق وفيا للتحديد النظري للموضوع المباشر، حيث نجد أن المستوى الموضوعاتي كمستوى مفاهيمي إجرائي، يحيل مرة على الآليات التحليلية في مستوى المكون الخطابي لسيميوطيقا "كريماص"، ومرة إلى النقد الموضوعاتي، والمستوى البلاغي يحيل على سيميوطيقا الشعر لدى "ريفارتر".

*الفضاء الصوري:

في هذا الشق يميز داخل الشكل الإيقوني المركب بين علامتين جزئيتين. موضوع العلامة الجزئية الأولى هي حركة الماء المتموجة. وموضوع العلامة الجزئية الثانية هو شكل الكتاب المفتوح. وهاتان العلامتان تؤسسان علاقة بموجب التماثل. بالنسبة للشكل الإيقوني غير المركب، يركز على القرائن اللغوية ليصل إلى نتيجة وهو كون موضوع العلامة هو "النهر". وإذا كانت هذه الأشكال تعين موضوعها بموجب علاقة أيقونية، فإن الشكل المركب الثاني لا يعين موضوعه بنفس الآلية، باعتبار الشكل هو علامة مؤشرية. وما يمكن ملاحظته في هذا المستوى هو كونه يلجأ إلى المعطى اللغوي لمنح تأويل ممكن للمعطى البصري، حيث سيميز داخل المعطى بين مجالين: علوي/سفلي. وسيميز بين الوحدات المعجمية التي تميز الواحد عن الآخر حيث يقترن المجال العلوي باللعب الطفولي البريء، والمجال السفلي بالمراقبة والنسيان، حيث سيربط الأعلى بالإيجاب والأسفل بالسلب، "وهكذا يمكن القول إن الشكل البصري المركب أيقون ممكن البناء، اعتمادا على الإمكانات التأويلية التي تمنحها الوحدات المعجمية باعتبار موقعها من الفضاء الصوري، إنه أيقون على حركتين بين مجالين دلاليين متقابلين" (نفسه، ص.300).

والحال فقد سبق أن أكد في المستوى النظري على كون آليات تلقي وإدراك المعطى البصري تختلف عن آليات إدراك المعطى اللغوي (ليوطار)، وهذا الاعتماد يعود ربما إلى كونه لم يوظف بشكل دقيق العتاد المفاهيمي الذي فصله في الإطار النظري. حيث بقي في هذه المقاربة النصية في حدود الجهاز المفاهيمي المقترح في نظرية بورس. وحتى الانفتاح الذي رصدناه في هذا المجال بخصوص كريماص وريفارتر لم يعرض لهما في الإطار النظري.

د - المستوى البلاغي:

*التبئير:

يصعب عبر النماذج المقدمة تحديد مفهوم التبئير بحيث يصعب التمييز بين المستوى الذي يشكل بؤرة والمستوى الذي يشكل تعليقا باعتبار التجاور القائم بين البنيتين، بحيث أن التحليل أوصل الأستاذ إلى كون البنيتين تراكمان نفس التشاكلات. والملاحظ أنه لم يتم توضيح مستوى التشاكل المقصود في هذا المجال، هل هو التشاكل السيميولوجي أم التشاكل الدلالي؟

*الاستعارات:

يميز في هذا المجال بين الانزياح التركيبي والانزياح الاستبدالي. باعتبار أن العلامة الإيقونية حسب بورس إما أن تكون صورة أو رسما بيانيا أو استعارة، وبذلك سيحاول رصد هذه النماذج المقدمة باعتبارها استعارات بصرية. بحيث لم يقف عند حدود العلامة الأولى التي تم إفراغها واستبدالها بعلامة ثانية هي النماذج البصرية المقترحة للمقاربة. وفي هذا السياق يمكن أن نتساءل عن الأساس الذي بموجبه اعتبر العلامة الأصل في التركيب هي الماء والكتاب. حيث يتم التركيب والمجاورة بين علامتين بصريتين في تركيب واحد. يقول "إننا نسجل هنا حضور العلامتين (ع1) و(ع2) في سياق مقارن لكن تحديد موقع كل منهما من التركيب البلاغي من الصعوبة بمكان" (نفسه، ص.310). هذه الصعوبة الناتجة عن صعوبة النماذج البصرية ذاتها، لم تمنح إمكانية مقاربتها بمعزل عن المحددات النصية، بحيث كيف يمكن اعتبار الشكل الإيقوني غير المركب هو شكل استبدالي، خصوصا وأن المحددات النصية تجعل منه أيقونا على النهر. وما هو المرتكز الذي تنوب وفقه هذه العلامة البصرية عن علامة أخرى.

إن هذه الطريقة في المقاربة النصية أوصلت محمد الماكري إلى اعتبار المعطى البصري ترجمة للمعطى اللغوي، باعتبار أن المستويين لا يبنيان لنفسهما اي مباعدة أو خصوصية مميزة. مما يجعل وظيفتها موقوفة عند التزيين والتجميل حيث يرى أن "هذا المظهر الإنجازي يجعل من البعد البصري للنصوص مجرد حلية مؤقتة، في حين نعلم أن نصوص الشعراء الفضائيين العالميين كانت تحتفظ بصيغتها الفضائية الأولى، وحتى في حالة ترجمتها إلى لغات أخرى، يتم تكييف النسخة المترجمة لتناسب الشكل البصري لتوزيع النص فضائيا في نسخته الأصلية" (نفسه، ص.314).

 *ملاحظات:

عبر هذا العرض العام لتقاسيم الكتاب نسجل الملاحظات التالية:

1 - إن كتاب "الشكل والخطاب" يبني تعالقات مع سياقات نظرية وشعرية متعددة، تتمايز في خلقياتها الفلسفية والإيديولوجية والتوظيفية. على هذا الأساس فهو يشكل أرضية للإنطلاق لمن يرغب البحث في أشكال تعبيرية تتمازج فيها الكتابة بالصورة كالصورة الإشهارية، واللوحة التشكيلية التي فيها المزاوجة بين التشكيل والكاليغراف، والفن المسرحي الذي يتعالق فيه ما هو بصري بما هو لغوي.

2 - على مستوى التوظيف النظري حضيت سيميوطيقا بورس بالموقع المركز في حين بقي الجهاز المفاهيمي لباقي النظريات هامشا يستعان به على الرغم من القوة التوصيفية التي برهن عليها في إضاءة العلاقة بين المعطى البصري والمعطى النصي. وما لم أفهمه كقارئ، هو الحرص الشديد للمرحوم محمد الماكري على إيقاف مجموعة من المعطيات البصرية عند حدود الإيقونية(iconique) مع أن المؤول الدينامي يمنح إمكانية الانفتاح على السياق العام المنظم للشعر الفضائي المغربي الحديث.

3 - الكتاب أيضا هو مقارنة بين التفضية في الشعر الغربي والتفضية في الشعر العربي القديم والتفضية في الشعر المغربي الحديث. بحيث إذا كانت التغييرات التي لحقت الملامح العامة للغرب ألزمت الشعر بمواكبتها بتشييئه وإخراج اللغة من وظيفتها التقليدية، بالإضافة إلى السند النظري الذي منحها قوة الانوجاد، وإذا كانت التفضية في الشعر العربي القديم محكومة بالتحولات التي عرفها المجتمع العربي، فإن التفضية في الشعر المغربي جاءت محكومة برغبة خاصة بمبدعين.

4 - إن المقارنة على مستوى التناول بين الشعر الفضائي العربي القديم والشعر الفضائي المغربي الحديث، نجد النماذج التي اعتمدها تشكل وعيا متقدما بإمكانية المستوى البصري في التبليغ، مما جعل "الخاتم" كقصيدة شعرية يبدو أكثر تميزا وأكثر تقدما من التجارب المعروضة في الشعر المغربي الحديث، وإذا كانت التجارب القديمة قد حضيت بالتبجيل، فإن التجربة المغربية حضيت لديه بانتقاد شديد سواء على مستوى البيانات أو على مستوى التحققات النصية.

5 - على مستوى المواكبة، حضيت التجربة العربية والغربية بمواكبة نقدية أغنت وجودها، في حين أن المواكبة النقدية للتجربة المغربية الحديثة لم تتجاوز حدود انطباعات شخصية تتوزع بين الرفض والإستحسان وربما يعود هذا إلى كون المتلقي الذي عايش التجربة لم يكن مزودا بآليات نظرية تمكنه من مقاربة التجربة مقاربة علمية، عوض تقييمها من منطلق عاطفي وحسابات ذاتية أثرت على عدم استمرار التجربة.

6 - بالنسبة للشكل الذي تم عبره المجاورة بين نسقين تعبيريين في الشعر الفضائي، نجد أن "الخاتم" في بعده البصري يراكم مقومات دلالية يمكن الوقوف عليها دون اللجوء إلى المعطى النصي، وبالتالي فهو يتناسب في مستوى من المستويات وطرح "ليوطار" الذي اعتبر الفضاءين البصري والصوري يشكلان مرتبتين متميزتين في التلقي، في حين أن الأشكال المعروضة في إطار المقاربة النصية بقيت مرهونة في دلالتها بالمعطى النصي. وفي كلا الحالتين فإن المعطى البصري والمعطى النصي لا يبنيان أية مباعدة على المستوى الدلالي.