ص1      الفهرس    المحور 

عن جدلية الفكرة والصورة في شعر كافافي

 

بنسالم حميش

كيف نتحدث عن الشاعر اليوناني قسطنطين بتروس كافافي (1863-1933) من دون أن نحاول نسيان وصيته التي ينهانا فيها عن معرفة حياته من خلال أفعاله وأقواله؟

قد نغض الطرف عن أفعاله، غير أن أشعاره في ديوانه المفرد I piimata، تبقى أمامنا تركة لا بد من محاولة مقاربتها بالاستيعاب والفهم، لكن من دون أن ننهك قوامها بالتفكيكات النفسانية أو السوسيولوجية التي من شأنها إطفاء جذوتها وتبديد أصالتها وقياساتها اللغوية الفائقة. وذلك لأن الشعر، كما تحدث عنه سان دون بيرس، هو بدءا نمط حياة كلية أكثر من كونه نمطا معرفيا".

كيف كان نمط حياة كافافي إجمالا؟

إن ا.م. فورستر الذي عرف بشاعرنا في أنجلترا من خلال كتابه Pharos and Pharillon قد وصف وقفته بالمائلة المنحرفة underhand standing إزاء نظام الكون. ولعل كافافي بهذه الوقفة قد حقق بالسبق ما تمناه بيرس بقوله: "الشاعر من يكسر لحسابنا سنة التعود"، وقد نضيف: حتى لو كان هذا التعود هو الاستقامة.

من هذا المنطلق وحده، نريد أن نسائل أشعار كافافي، متوخين لأسئلتنا شرعية من باب الوقوف على النص الأصلي من جهة، وإبراز القضايا المشكلة أو الباعثة على الاستغراب فيه، من جهة أخرى.

*

عند شاعر الشموع والدعوة إلى القران السعيد بين الحي والجميل، كيف نفهم الغياب شبه التام ليس لاسم أثينا وأسماء جزر اليونان فحسب، وإنما أيضا للطبيعة الحية كما للمرأة الزوجة أو الحبيبة، التي تحل محلها صورة الأم والعذراء أو صورة الخنثى androgynus أو الغلا الجميل ephêbos "الناشر ظل قوامه اللاماد على الربوة (كما في إحدى قصائده)؟ ألا تعرض مثل هذه التغييبات الشعر، كل شعر، لحظر الانتقاء الاختزالي وحتى الجدب؟

هذا السؤال الافتتاحي قد يصلح لنا لولوج عالم كافافي الشعري وفهم بعض شروط القول والإبداع فيه بدءا من نص القصائد نفسها وانتهاء إلى نواظمها المشتركة الميمنة. ويحق الشاعر يورجوس سيفيرس حين يسجل: "انطلاقا من فترة أحددها في 1912، يلزم قراءة وتقييم أثر كافافي لا كسلسلة من الأشعار، بل كقصيدة واحدة في طور البناء أوقفها الموت".

فعلا، قبل ذلك التاريخ لم يكتب كافافي سوى اثنتين وعشرين قصيدة، ثم أتت باقي الأشعار بدءا من "المدينة (i ipolis) في 1912 على نحو نص واحد ذي ناظم بارز وإن تعددت تنويعاته وأشكاله؛ وهذا الناظم في تقديرنا هو المتمظهر في ثيمة أشبه ما تكون بعملة ذات وجهين، إنها: المالنخولويا (وهي كلمة يونانية) وذكرى المتعة (anamnesis tis idoni).

المالنخوليا (مرض الامبراطور الروماني نيرون والحاكم بأمر الله الفاطمي على وجه التمثيل) هي هذه الحالة النفسية المتسمة بالحزن الشديد وفقدان طعم الحياة، مع تلقي الزمن كعبء ثقيل، بطيء الوتيرة، رتيب المظاهر. ولعل الشاعر العربي الذي عبر عن هذه الحالة أبلغ تعبير هو أبو الطيب المتنبي إذ يقول:

لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي شيئا تتيمه عين ولا جيــــــد

يا ساقيي أخمر في كؤوسكمـــــــا أم في كؤوسكما هم وتسهيــــد

أصخرة أنا؟ ما لي لا تحركنــــــي هذي المدام ولا هذي الأغاريــد؟

الملنخوليا في شعر كافافي تكاد تدرك بكل الحواس من فرط حضورها واعتمالها في كل ثيمات ديوانه تقريبا: رؤية الشموع المتناوبة على التآكل فالإنطفاء/الأسى والأسف/الهرم/الحياة الخاسئة/غدر الناس والآلهة/التعلق اليائس بقضية خاسرة/الموت في عز الشباب/الاستذكار والتأبين أمام المقابر والأضرحة، الخ. ولا غرو أن يلتقي كافافي في هذه الثيمات وغيرها مع من أحبهم وتأثر بهم من الشعراء المحدثين، كبودلير وفرلين وثمسون وهاردي.

قصيدة واحدة أخاطر بترجمتها على وجه التقريب، بقصد أن نلمس فقط واقع الشعور الاكتئابي في شعر كافافي، واسمها منونوطونيا:

يوم رتيب فيوم رتيب

وبينهما شبه شديد

الأشياء ذاتها ستجري وذاتها ستركب العود والكرور واللحظات، نفس اللحظات تأتينا وتهجرنا.

شهر يمر ويعقبه آخر

الواقعات بيسر نعرفها سلفا

واقعات الأمس المملة

والغد لن يشبه الغد الموعود

أما الوجه الآخر لتلك الثيمة الأم فهو ذكرى المتعة كترياق ضد الاكتئاب وتوق إلى الانعتاق من قبضته ولو على توهم (بتعبير المحاسبي)، أو باختلاف انفراجات مؤقتة وزائلة أو بحيل شعورية تقلب السلبي إلى الإيجابي وتنتهي حتى إلى التلذذ بالسوادية والغم (أي ما يسميه الرومنسيون الفرنسيون la délectation morose). والقصائد الكافافية التي تصب في هذا المنحى كثيرة، لعل أقواها تعبيرا هي "أيها الجسد تذكر" ((Thimissou soma، وفي قصيدته "متعة" (Idoni)، ومن هذه الأخيرة هذا المقطع:

فرحة حياتي وعطرها

ذكرى لحظات اقتنيت فيها المتعة على هواي

فرحة حياتي أنا وعطرها

حياتي التي تصدني عن كل لذة مكرورة

والتقريب علاقة الإكتئاب بذكرى المتعة من باب تاريخ الشعر المقارن، يحضرني هنا أيضا أبو الطيب المتنبي إذ يقول:

وكيف التذاذي بالأصائل والضحى إذا لم يعد ذاك النسيم الذي هبا

ذكرت به وصلا كأن لم أفزبـــــه وعيشا كأني كنت أقطعه وثبــا

إن غلبة ثيمة الرتابة والكآبة في كتابة كافافي الشعرية تفهمنا لماذا صاحبها في إشاراته التاريخية (الخاضعة عنده إلى نوع من التصادم السانكروني بين الشخصيات والأزمنة) كان لا يستعملها في الواقع إلا كإحالات معبرة تفضي في آخر الديكور إلى عالم الشاعر النفسي والرؤيوي، وذلك سواء تعلق الأمر بحرب طراودة والحروب الميدية أو بروما وبيزنطة. إن شاعر الإسكندرية كان إذن لا يغادر نفسه أبدا، وإن فعل فلكي يعاود مقابلتها في ارتماءاته وإسقاطاته على شخصيات تاريخية لا تصلح له إلا كأقنعة وذرائع ليس غير (فيليب الخامس المقدوني/ميثريداد/أنطونيو، الخ). ففي قصيدته "الإله يتخلى عن أنطونيو" (عشيق كليوبترا، المنتحر في 30 ق.م. بعد أن هزمه أوكتافيوس) يدعو كافافي شخصيته إلى الاستخفاف بهزيمته وبفقدان الإسكندرية، بل وإلى التلذذ بتضييع كل شيء، بما في ذلك الآمال والمطامح كلها. وفي هذا النص، كما في غيره، يبلغ التماهي بين الشاعر وموضوعه درجة عالية لا تخفى عن عين القارئ الناقد. ثانيا، عندما نكون بمحضر مجتمع يعيش انهياره (أو انكساره نحو الأسفل breakdown، بتعبير توينبي)، فكأننا أمام كائن محتضر يرفع الحجاب عن سره. إننا -في هذا الوقت- نكون أقرب إلى شكل المجتمع الكلي، المستنزف لكل وجوهه وإمكاناته… وفي سياق تلك العوامل مجتمعة تجد معناها كلمة كافافي المشهورة: "إن شاعر الشيخوخة"، وكذلك قصائده في ثيمة الهرم والتلاشي.

والسؤال الذي يجوز طرحه على هامش اهتمام كافافي بالتاريخ هو: لماذا لا نجد عنده أي إشارة إلى حوادث معاصرة خطيرة الشأن، كالحروب البالكانية لـ 1912، والحرب العالمية الأولى وفقدان اليونان لإزمير وإيونيا في 1923؟ هل هذه الهزات عند شاعرنا ليست سوى تكرار أو استنساخ لهزات قديمة تحدث عنها طي بعض أشعاره في التاريخ الهيليي وبصفة أوفر في التاريخ الهيلينستي والفترة البيزنطية حتى القرن الرابع عشر؟ وهذا الاحتمال قد يكون هو الأقرب إلى الصواب والأنسب لنفسية متعبة لا تدرك تعاقب الأشياء إلا بمبدأ العود الدائم ورتوبية الظواهر والمشاهد.

وأخيرا، وليس آخرا، لا يفوتنا أن نضيف إلى أسئلتنا تلك هذا السؤال: كيف نفهم عند شاعرنا انغلاقيته أمام الأدب العربي المشرقي الذي كان من ممثليه الأقربين إليه أحمد شوقي واللبناني خليل مطران، هذا فضلا عن قلة اطلاعه على الحركات الأدبية في انجلترا وفرنسا وحتى في اليونان. بل أكثر من هذا كيف نفهم انعدام احتفاله بالأدب الشعبي المشرقي وحتى السكندري، مع أنه كان على اتصال بالفلاحين والموظفين المصريين، وغيرهم في إطار وظيفته بوزارة الأشغال العمومية المصرية المراقبة من طرف الإنجليز وفي بورصة القطن بالإسكندرية (كدلال) من 1892 إلى 1922، أي لمدة ثلاثين سنة تقريبا؟

من دون أن نزعم أن كافافي كان محبا لانعزاليته المنغلقة (claustrophilos إن صح التعبير)، فإن أول قصيدة كتبها وترجع إلى 1896 وهي Tikhi (أسوار) توحي بأنه في ذلك الميول إنما كان مسيرا لا مخيرا وأن وضعه الوجودي يصنعه القدر والآخرون. كما يظهر هذان البيتان اللذان نوردهما للضرورة بالحرف اللاتيني حتى نستشف ما تيسر من وقعهما اللغوي الأصلي.

A la den akoussa pote kroton ktiston i ikhon

Anepesthitos m’eklissan apo ton kosmon exo.

لم أسمع البنائين وضوضاءهم

أولئك الذين سجنوني خارج هذا العالم متهكمين.

*

في ختام هذا العرض السريع، نريد أن نشير باختصار إلى نقطة أساسية حول ما يمكن تسميته تجاوزا العبرة أو الدرس الكافافي في قول الشعر وإبداعه. إن الروائية مارجريت بورسنار قد آثرت ترجمة أشعار كافافي إلى الفرنسية في شكل شذرات، وإنها لعمري أصابت في ما فعلت، فقدمت شاعرنا لا كنحلة كادحة abeille ouvrière، بل كنحلة جارسة (أو لاحسة) abeille butineuse، لا سيما وأن كافافي يقول هو نفسه عن شعره "إنه تقطير بطيء لوجوده". وهكذا كان شاعرنا مقلا وأتت قصائده المائة والخمسون أنبيقية(alambicos)، وتدية التركيب (iambicos)، مقتصدة في إبداع القول الشعري صورة ومعنى، ولا يتأبى صاحبها مزاوجة اللغة العامية (dimotiki) واللغة القديمة الفصيحة (katharé-vousa)، وإن أدى به ذلك إلى تكسير بلاغة كوستيس بلاماس، شاعر اليونان القومي، ومناهضة كل غنائية جامحة أو روامانسية باكية.

إن منطق الكتابة الشذرية هو الذي يظهر إذن قابضا بناصية القصائد الكافافية في مجملها. الشذرة (أفوريسموس) هي هذه القولة القائمة على كلمات قليلة ومعنى كثير بهذا التعريف تكون الكتابة الشذرية قديمة قدم عالم التعبير ومرتبطة بأولى تلمسات وملاحظات وأولى اندهاشات وتعجبات الفكر أمام الوجود. وفي هذا السياق تندرج كتابات سلف سقراط خلال القرنين السادس والخامس ق.م.

بذلك المعنى، الشذرة، أو القصيدة عند كافافي، كتابة تنحبس وتنبني خارج كل نسقية أو تمامية مغلقة، إنها عكس هذه الصفات تقدم "قطعا حياتية" (حسب تعبير لزولا)، إذ تستمد قوامها من حساسية في حالة يقظة واستلهام،ومن أفكار تأتي على حين غرة، فتتظاهر من خلال مجيئها حياة الروح وتحفها الصغيرة غير الكاملة.

الشعر عند جمهرة من مبدعيه اليوم مازال يمارس وكأنه بنك لجمع الصور وحدها خالصة من كل مفهوم، ثم تصريفها على نحو متضخم يؤدي حتما إلى تدهور عمليتها وتصدع قيمتها. ولهذا السبب بالذات ينذر اليوم ظهور شعراء مفكرين كأبي تمام والمتنبي والمعري والخيام وابن عربي، أو من صنف محمد إقبال قريبا منا، أو نيتشه وجوته وهولدرلين ونوفاليس في الثقافة الغربية؛ هذا مع أن أكبر متحيز للشعر وقائل بجوهريته، بودلير قدوة كافافي، يكتب معترفا: "الشعر فلسفي بالأساس، لكن بما أنه قدر قبل كل شيء، فإن عليه أن يكون فلسفيا بنحو لا إرادي". هذه الكلمات التي لا يمكن لكافافي إلا أن يتبناها ويصادق عليها تلخص في نظرنا درسه عن وجوب اقتصاد الصورة في الإبداع الشعري ورعايتها بالفكر كممارسة تحصيلية بقدر ما هو طاقة توليدية إبداعيةn