ص1      الفهرس    المحور 

هيدجر والشعر

 

محمد طواع

"فبدلا من أن يسخر الشاعر الكلمة، من أجل تفسير الكون وإعادة خلقه خلقا جديدا اكتفى بأن استولدها مولودا بشعا، أي جعل مهمة الكلمة هي مسخ العالم بدلا من تسويته خلقا آخر" المجاطي، ص 163.

 

الدعوة إلى المشاركة من أجل التفكير في العلاقة التي ينبغي أن تكون ممكنة بين الفلسفة والشعر، لهي بمثابة استجابة لنداء العصر باعتباره عصر نهاية الفلسفة أو عصر التقنية، هذا من جهة، ولهي حدث أساسي بالنظر إلى ما أدركه "عقل الكرة الأرضية" من خطر آخذ في اكتساح مختلف الاصقاع وآخذ في تهديد إقامة الإنسان وسكنه على أقدم كوكب للحضارات الإنسانية الكبرى. وهو الخطر الذي تحددت معالمه مع التقنية والذي أخذت معه مجموعة من القيم تنسحب وتتوارى، من بينها قيمة التفلسف والإبداع الشعري نفسها.

من بين المؤثرات على هذا الشعور بالخطر هو المؤتمرات التي أخذت تقام بصدد مستقبل الأرض، وكذلك المؤتمر الذي أقيم هذه السنة (16 يونيو 97) بصدد الفنان، وضعه وقيمته. هذا فضلا عن الحديث اليوم عن الحق في الرؤية الجيدة والحق في التربية الفنية وضرورة الدفاع عن الفلسفة.

سؤال الفلسفة والشعر سؤال يتجاوز كونه يشير إلى قضية نمط الكتابة الشعرية ومسائلها المتعلقة بالتفعلة والوزن أو كونه سيعرض لمسائل الكتابة الفلسفية الأكاديمية. سؤال الفلسفة والشعر مرهون بحالة التيه والظلمة التي ما فتئ العصر يشهد تعاظمها، حالة فقدت معها مجموعة من القيم دلالتها وركائزها. حالة من هذه تدعو إلى الاستجابة لنداء العصر من خلال طرح أسئلة أساسية، أسئلة ذات أفق أنطلوجي لا تعنى بهذا الموجود الجزئي أو ذاك، وإنما تهتم بالموجود في كليته وبمسألة الإقامة على الأرض وعمارتها في عصر تقوم ماهيته على العقل الحسابي (الراسيو) الذي يجسده الفكر والتقنو-علمي بامتياز. بهذا فالسؤال الأساسي سؤال ميتافيزيقي بالمعنى القوي للكلمة، سؤال غير راهني-آني. بالضرورة، إنه سؤال يربط الحاضر بالماضي والمنحدر، ليلقي بواضعه في أفق خارج حاضره بعيدا إلى الأمام. السؤال الأساسي بهذا المعنى هو ما لا يفكر فيه العلم ولا التقنية عامة.

وبالجملة، السؤال الأساسي يقيم نفسه على محاورة العصر من أجل تأمل منحدر القدر الميتافيزيقي الذي تحدد معه قدر تاريخ كوكب الأرض بوصفه أرض الحضارات الإنسانية الكبرى وتحدد معه الوضع الحالي للعصر بوصفه عصر التقنية.

I -

من خلال هذا الهامش يتبين أن التأمل الذي سأقوم به بصدد ما يطلبه عنوان هذه الدراسة، يستلهم أساسه من الحوار الذي عقده هيدجر مع الشعر. وبهذا ستكون علاقتي بهيدجر منذ البداية كتلك التي كانت "لهرمس مع كل تائه".

أما الأسئلة التي ستكون مدار هذا التأمل هي الآتية:

لماذا يتعين الآن على الفلسفة أن تقون بحوارات مع الشعر؟

وماذا عسى الكلمة الشعرية أن تقدمه للفلسفة؟ وما معنى أن تكون شاعرا في هذا العصر بوصفه عصر التقنية؟

غير أنه إذا ما استحضرنا الوضع الاعتباري الذي حددته الفلسفة للشعر، فكيف سيكون هذا الحوار ممكنا؟ هل يتعين أن يكون الحوار متخارجا مثل الحوار الذي أرادته الأفلاطونية حوارا بين الفيلسوف والشاعر؟ نتساءل بهذه الكيفية، لأننا نعرف أن الأفلاطونية قد صنفت الشعر ضمن الأقاويل المخيلة، ومن ثم تصورت الإقامة في المدينة ممكنة بدون شعر. وعلى هذا المنوال تحدد قدر الشعر طيلة تاريخ الميتافيزيقا إلى حد أنه قيل " خير الشعر أكذبه"، "والشعراء يتبعهم الغاوون، ألا ترى أنهم في كل واد يهيمون".

II -

استجابة للأسئلة التي طرحناها يمكن أن نحدث تعديلا على عنوان هذه الورقة ليصبح على الشكل الآتي: "الميتافيزيقا والشعر"، كيف يكون الحوار بينهما ممكنا؟ ويمكن أن نلامس الدلالة والبعد اللذين نريدهما لهذا العنوان المعدل إذا ما نحن أخذنا اسم الميتافيزيقا كمرادف لاسم الفلسفة أو للأفلاطونية في معناها القوي طبقا لمذهب هيدجر الذي يرى أنه سواء قلنا فلسفة أو ميتافيزيقا أو أفلاطونية، فإننا نتحدث عما يشكل "بينة الوجود" وعما حدد قدر تاريخ الفكر والإقامة على الأرض.

غير أن هذه الصيغة التي اتخذها العنوان تجعل الفلسفة تحس بنوع من الإحراج، ذلك لأن عليها أن تكون ضد نفسها باعتبار أن الفلسفة أقامت نفسها منذ نشأتها ضد ما كان أساس قول الشاعر المفكر أي ضد المقدس.

لنتذكر أن القول الشعري، وهو الصورة الأولى للفكر، مع بارميند مثلا كان متجاورا مع المقدس، متعالقا معه، في حين أن الفلسفة أقامت نفسها منذ البداية على نبذ المقدس ومعه مجمل علوم الصورة القائمة على الفانطاسيا. ولقد كان ذلك من أجل التأسيس للقول في شكله الحجاجي القائم على المفهوم، وهي التي اعتبرت المخيل كلاما توهميا تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار. هذا مع الإشارة إلى أن المقدس هنا ليس كما يفهمه الفقيه في التيولوجيا أو كما يتحدث عنه الصوفي، وإنما يتعين أن نأخذه كما تحدث عنه الشعراء / شعراء فكر الوجود.

III -

هذا، ويمكن، إذا ما تأملنا الأسئلة التي طرحناها في البداية، أن نكثف مطالب تلك الأسئلة في مطلب السؤال الأول منها:

لماذا يتعين الآن على الفلسفة أن تعقد حوارات مع الشعر؟ وهو السؤال الذي يطلب منا أولا أن نقول إن كلمة "الشعر" هنا لا ينبغي أن نأخذها كما يفهمها الشعراء اسما لكلامهم بوصفه قريضا، وذلك لأن قصدية الحوارات مع الشعر سوف لا تكون من أجل تقديم خدمة للشعر في معناه الضيق ككلام موزون، وإنما المقصود هو "ماهية الشعر".

غير أنه يتعين أن نحترس من كلمة "الماهية" هنا لكي لا نأخذها في معناها الميتافيزيقي أي باختزالها إلى مجموع الخصائص الجوهرية الثابتة الفاصلة. إن ماهية الشعر المقصودة في السؤال هي تلك التربة أو الأرض التي يتعين على الفلسفة أن ترد الفكر إليها، كما يتعين على الشعر في معناه الضيق هو نفسه أن يوجه التفكير صوبها.

المسألة هنا هي مسألة ماهية الشعر التي لا تنفك عن مسألة الإقامة والسكن الممكنين.

كما أن السؤال نفسه يطلب منا ثانيا أن نوضح كلمة "الآن" الواردة فيه. فنقول: المقصود بـ"الآن" هو العصر بوصفه وضعا تاريخيا يحكمنا ميتافيزيقيا باعتباره عصر التقنية وقد أخذ يعلن عن تمام برنامجه ونهايته - بتحوله إلى فكر كوني- يعد أن استنفدت الميتافيزيقا إمكاناتها بعد أن كانت مجرد مبادئ مع نظرية المنطق التقليدية لتتحقق الآن في صورة وضع انطلوجي أو واقع فعلي تجاوزت مظاهره، في مجالات كثيرة، حدود المعقول.

تأسيسا على ذلك، نقول مع هيدجر، إن فتح الحوار بين الفلسفة والشعر الآن سيكون حوارا للعصر من جهة، وحوارا من أجل رد الفكر الفلسفي إلى تربته الشعرية الأصيلة من جهة ثانية. ويكون ذلك جملة، من أجل أن يتجاوز الفكر مفهومه كما وضعت الميتافيزيقا شروط إمكانه كتقنية:

لنتذكر مرة أخرى أن الهاجس الذي كان للميتافيزيقا طيلة تاريخها هو إضفاء مبادئ العقل بوصفه راسيو، على الموجود. ولنلاحظ الآن أن العصر الذي هيأت له هذه الميتافيزيقا شروط إمكانه متجسدا في التقنية، قد أصبح ينتج من أجل الإنتاج ويحول الأرض وموادها من أجل التحويل من دون ما استجابة لحاجات "واقعية"، وإلا ما حاجة الإنسان والأرض إلى ترسانة الأسلحة النووية اليوم؟

لهذا نقول، التقنية وقد أصبحت فكرا كونيا ووضعا انطلوجيا، لم تعد تستجيب سوى لمنطقها الخاص متجاوزة بذلك إرادة الإنسان. على هذا الأساس لم يعد الهاجس هو إضفاء العقلنة على الواقع وحسب، وإنما تجاوز الأمر ذلك إلى حد تحريض الإنسان ضد الطبيعة من أجل تفتيشها واستنزاف كل طاقاتها. والإنسان أمام هذا الوضع لم يعد ذاتا تتميز بالتفلسف بل أضحى محرضا من أجل التحريض ومعه تحولت العقلنة إلى مجرد عمليات إجرائية وظيفية يغيب معها السؤال.

بعد هذه الإشارة بصدد كلمتي "الشعر" و"الآن" كما وردتا في سؤالنا، نعاود طرح أسئلتنا بكيفية أخرى من أجل الإنصات إليها ثانية:

العصر الذي يحكمنا ميتافيزيقيا هو عصر التقنية، فماذا عسى الكلمة الشعرية أن تقدمه للفلسفة؟ وبأي معنى يتعين على أهل الفلسفة أن يعقدوا حوارات مع الشعر؟ ثم ما الحاجة إلى الشعر في زمن طغى فيه موظفو التقنية؟

إن الأطروحة التي نبني عليها ضرورة عقد حوارات مع الشعر من طرف الفلسفة هي التالية: ضرورة حوار الفلسفة للشعر الآن هي من أجل مجاوزة التأويل التقني للفكر الذي تعود أصوله إلى اللحظة الأفلاطونية -الأرسطية، ومن أجل رده إلى تربته الشعرية الأصيلة، التربة الشعرية الأولى التي معها تم نحت الصورة الأولى للفكر باعتباره فكر الوجود.

استنادا إلى ذلك سيكون التفكير قائما على نوع من الاستذكار. أما مجال اشتغاله فهو اللغة من حيث هي مقطن حقيقة الوجود، وباعتبارها تربة تمتد جذورها إلى ما سماه من اهتموا بالمعجمية باسم "المدونة" كطريقة لوضع "اللسان". هذه التربة الأم هي التي يمكن تلمسها إذا ما نقبنا بكيفية نشوئية في المادة التي منها وضعت المداخل المعجمية وأقيم عليها الاشتقاق وعلى أساسها توالدت ظلال الكلمات بشكل بلوري لتتفرع مع ذلك الحقول الدلالية.

هذه المادة-التربة هي الينبوع الأصيل الذي ينبغي للفكر أن يستذكره باستمرار لينهل من معينه. وبهذا المعنى نعتبر مع هيدجر أن هذه التربة هي أساس إقامة الإنسان. ومن ثم فهذه التربة حقيقة موجودة قبل الكلام وقبل صوت النفس، وكلمات هذه التربة هي التي تلعب بنا عند الكلام فيضحى "اللسان لسانين"، لسان صوت الذات ولسان التربة الأم. وتجدر الإشارة إلى تجربة هيدجر مع الكلمات الأساسية في معجم الفلسفة من أجل الاستئناس بها.

نصرح بهذه الأطروحة لأننا نعتقد مع هيدجر بأن العصر الراهن قد وضعت مبادؤه الأولى مع الفرضيات التي تأسس عليها مفهوم "الغرب" منذ لحظة ميلاد الفلسفة. كما نعتقد أن مجاوزة التأويل التقني للفكر من أجل جعل هذا الأخير يستذكر ماهيته الشعرية، تتطلب تأويلا متميزا لماهية التقنية. وهو تأويل ينهض على بيان المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الميتافيزيقا طيلة تاريخها.

نقول ذلك لأننا نرى أن التقنية كوضع يحكم التاريخ والمجتمعات الآن هي امتداد لما "فكرت فيه الميتافيزيقا بشكل ملتبس" وإنجاز له، وأنه مشروع "موضعة" الطبيعة اليوم يفسر ليس بالراهن فقط وإنما أيضا بالرجوع إلى جذوره القديمة التاريخية حيث وضعت البذور المهيئة لهذا المشروع طيلة تاريخ الميتافيزيقا.

من هنا يتبين لنا أن التقنية لا تعني المحركات والآلات الصناعية، كما لا تعني ميدان الصناعة والتطبيقات العلمية، ذلك لأن هذه الأشياء لا تمثل سوى الوجه المادي للتقنية. التقنية في الفهم الهيدجري هي أكثر من كونها كذلك، التقنية هي "وضع انطولوجي" يحكم مختلف ميادين الواقع، هذا الوضع يحكم الموجود في كليته بوصفه عقلا كليانيا أو فكرا كونيا. هذا الوضع له علاماته ومظاهره هي مظاهر العصر نفسها، نذكر منها العلم الحديث والدولة الكليانية وسيادة علم السبرنتيك.

العلم بموجب هذا التحليل هو في خدمة المشروع العام الذي تمليه التقنية وسيجيب بضرورة ماهيتها. وبذلك، فالتقنية ليست هي التطبيق الفعلي للعلم، وإنما هي "التنفيذ" الواقعي لأساس الميتافيزيقا ولمبادئها:

لنلاحظ مثلا أن مبادئ التحليل والتدليل والاحتراس من الوقوع في التناقض ومسألة المنهاج والعقلنة أصبحت فاعلة في جميع ميادين الواقع في شكل التخطيط والتوجيه والضبط والتحكم. ويكتشف مبدأ العقلنة اليوم بشكل صارخ مع مطالب السبرنتيك. إذ أننا نلاحظ أن لكل ميدان الآن -بما في ذلك الفن والشعر والثقافة عموما والسياسة الخ…- المدير ومصمم المشروع والموظف المنفذ.

التقنية الآن تنفذ وترهن ما دعت إليه تجاوزا ميتافيزيقا الأزمنة الحديثة منذ اللحظة الديكارتية التي معها تحول الكائن إلى موضوع متعارض مع الذات، وكل موضوع معقلن قابل لأن يختزل إلى تصاميم تقدمها لنا لغة الحساب الرياضي.

نلاحظ مع هيدجر أن التقنية بهذا المعنى تلقي بسلطانها على الموجود ككل. إنها توحد الموجود بقوتها التحكمية، توحد المفكر فيه كما توحد الممكن. بهذا فهي تشكل الخطر الذي يهدد علاقة الإنسان بالموجود، وتهدد إنسانية الإنسان في بعدها الشعري، كما تهدد في نفس الوقت شيئية الأشياء.

بناء على ذلك نقول مرة أخرى، إن التقنية تفرض نفسها كشكل وحيد للتكشف. وهي بهذا تكون مخلعة لماهيتها الميتافيزيقية التي حولت ماهية الإنسان والفكر واللغة:

اختزلت ماهية الإنسان إلى الحيوانية والنطقية. وتحول الفكر إلى مجرد راسيو أي فكر يعمل على عد عناصر الموجود وحسابها من أجل حصرها وتحديدها والتحكم فيها. ومع هذا النمط من التفكير سيغيب السؤال ليسيطر هاجس الحساب كنمط أساس لتكشف الحقيقة، سيغيب القلق والعناية بسؤال الوجود. أما ماهية اللغة فلقد اختزلت إلى مجرد أداة للنقل، نقل الفكرة ووصفها أو نقل المعلومة والتحكم فيها وفي متلقيها.

هذا التحول الذي لحق ماهية الإنسان والفكر واللغة مع الميتافيزيقا هو ما كان وراء التخطيط بشكل ملتبس للوضع الأنطولوجي الحالي، الوضع الذي نشعر معه بحالة الضيق والضجر، أو بحالة من الظلمة والتيه. وهو ما يجعل إنسانية الإنسان وشيئية الأشياء وإقامة الإنسان على الأرض تشكل اليوم إشكالية تدعونا إلى التفكير في الحاضر من أجل الخلاص من قبضة التقنية.

هذا الوضع الأنطولوجي العام الذي وضعت بذوره الأولى منذ اللحظة الأفلاطونية -الأرسطية يعلن عن نفسه كفكر كوني، هو ما ليس في مقدور جميع الناس إدراك سره: ليس في مقدور العالم نفسه. ذلك لأن العلم لا يفكر. وهو كذلك لأنه منشغل بمسائله الموغلة في الصورية. كما أن إدراك ما أصاب العصر ليس في متناول الحيوان والنبات إدراكه أيضا. وعليه، تبقى المهمة، إذن، للمفكر والشاعر. الرسالة رسالتهما. ذلك لأن لهما حساسية متميزة تجاه العصر وما أصابه من خطر مع حاله غياب السؤال/سؤال الملاذ أو الخلاص من قبضة التقنية.

يرى هيدجر أن سؤال الخلاص من قبضة التقنية كوضع أنطلوجي عام هو ما يفرض على الفلسفة أن تعقد حوارات مع الكلمة الشعرية من أجل جعل الفكر يستذكر منحدره الشعري. ولأجل ذلك نقول معه أن الطريق إلى ذلك تكون من خلال افتراضين:

الافتراض الأول: إن نفكر في ماهية الشعر في ارتباط بمحاورة العصر الذي يحكمنا ميتافيزيقيا من أجل أن نتمكن من مجاوزة الميتافيزيقا بوصفها بنية الوجود التي تحدد معها قدر التاريخ الذي انتهى بالإنسان إلى عصر التقنية الذي اختزل فيه مفهوم الفكر إلى مجرد راسيو واللغة إلى مجرد أداة للتحكم والضبط حتى مع أدنى أشكال التواصل الملاحظ في المجتمع.

وقد ندرك مدى خطورة وضع اللغة ومسألة الفكر إذا ما استحضرنا ماهيتهما كما يفهمها علم السبرنتيك الذي أضحى اليوم أساس باقي العلوم. وهو الشيء الذي جعل الفلسفة تشعر بنوع من الانسداد لكل الآفاق التي تمكن من التفكير من "خارج" فضاء النزعة العلمية-التقنية. وهذا الخطر الذي تكشف صداه مع هيجل الذي ذهب إلى أن على الفلسفة أن تصبح علما/علم ظهور العقل أي منطقا، كما ظهر مع هوسرل حينما دعا الفلسفة لأن تصبح علما صارما أو مع الوضعية المنطقية لما دعا أحد أقطابها إلى حذف الميتافيزيقا. هذا من دون أن نشير إلى الوضع الاعتباري الذي أصبح للتكوين التقني إذا ما قورن بما تشعر به كليات الآداب والعلوم الإنسانية عندنا من خوف من المستقبل.

في وجه هذا العصر نعلن أنه شتان بين الاعتبار الذي تتخذه اللغة مع السبرنتيك واعتبارها بوضعها هي المأوى الذي يمكن حقيقة الوجود من التكشف لكي يتمكن الإنسان من تأسيس التاريخ. ذلك لأن الكلمة وخاصة في شكلها الشعري ليست عبارة عن صوت أو علامة كما تختزل عند اللسانين، وإنما هي البعد الأساسي لإقامة الإنسان على الأرض. بهذا المعنى يعتبر هيدجر اللغة هي "الشعر الأصيل" الذي يمكن من تجميع للاختلاف بين العالم والأشياء، بين الانفتاح والأرض، بين التحجب واللاتحجب. اللغة بهذا المعنى تحمل الانفتاح، وتعلم الإنسان الإنصات إلى النداء كما تعلمه الكيفية التي يتعين عليه أن يكون بها في العالم أي يسكن. وبما أن اللغة بناء "وتأسيس" للوجود وللإنسان وللتاريخ، فهي نفسها "الشعر في معناه الجوهري".

ونحن نتحدث عن اللغة بوصفها كذلك، لنتذكر خطورة "التسمية" باعتبارها تظهر الأشياء، تكشفها، تجعلها تأتي صوبنا ومعها العالم. اللغة بهذا المعنى تقيم عالما وتخلقه خلقا جديدا وتمنح الإنسان إنسانيته. من هنا فرادة الشاعر والمفكر اللذان هما أخطر من تكلم اللغة.

قوة اللغة تكمن في قدرتها على حمل الإنسان على رؤية وضعه في العالم وإدراكه. من هنا يتعين أن نتحدث عن الكلمة ليس بوصفها علامة فقط وإنما بوصفها "عينا" تمكن من الإدراك. خاصة وأننا نعرف أن كل إدراك هو رؤية. هذا ما يسمح لنا بالقول إن الحيوان لا يبصر لأنه لا يتكلم، ومن ثم فليس له عالم.

بهذا المعنى تتجلى قوة اللغة الإظهارية من خلال خطورة التسمية التي تجعل من اللغة لوغوسا، وليست مجرد أداة أو مجرد صوت للنفس. إنها حقيقة تحتاج إلى أن تتكلم، وبالتالي هي في حاجة إلى من ينصت إلى "كلامها الحي-الأصيل" لكي يتكشف من خلال لسانه، ليغدو لسان المتكلم لسانين. وإذا ما افتقدت اللغة قوتها هذه تصبح كالصهيل.

هذا ما يخلص بنا إلى اعتبار كل شعب من حيث هو متكلم هو مجرد حاك، يحكي ويعيد الحكاية، يترك كلام اللغة يقال من دون أن يمسك بالينبوع أو المنحدر. والكلام بهذا المعنى هو مجرد صدى، والفكر إنصات لما تقوله اللغة، هو إظهار لأثر ملتبس حتى للغة نفسها، من هنا عدم شفافيتها.

أما الافتراض الثاني فيكمن في محاورة الشعر والفن من حيث ماهيتهما. لكن ليس بالشكل الذي حصل مع الميتافيزيقا، وإنما سيكون الحوار من أجل أن نستذكر المنحدر الشعري الذي يشكل التربة التي يتعين أن يشيد عليها الإنسان إقامته وسكنه على الأرض بوصفها أقدم كوكب تمت عمارته مع الحضارات الإنسانية الكبرى.

لأجل الاستذكار ينبغي أن نشق طريقنا صوب الشعراء من أجل محاورتهم لأن معهم تم نحت الصورة الأولى للفكر قبل أن يتحول إلى تقنية مع الفلسفة.

مع هؤلاء، بارمينيد وهيراقليط مثلا، تكلم الفكر بشكل شعري وقدم نفسه بوصفه إنصاتا لمقال اللغة من حيث هي مقطن نداء الوجود وحقيقته. اللغة والتفكير مع هؤلاء لم يكونا مشروطين بقواعد الكتابة وشرائطها كما تم تقعيدها مع نظريتي النحو والمنطق. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، نتعلم الإنصات إلى الكلمة الشعرية من خلال ما يقوله الشعراء الذين تميزوا بمحاورتهم للعصر بكيفيتهم الخاصة كشعراء يفكرون في علامات اختفاء المقدس وتواريه.

أما المقدس هنا هو منحدر القول فكرا كان أو شعرا، إنه ينبوع كل ما يؤسس للمسرح، إنه الإشراقة المنيرة للطريق وسط الغابة السوداء.

على أساس هذين الافتراضين، يطرح السؤال المغامر: كيف يمكن أن تكون شاعرا في عصر تحول فيه الإنسان إلى موظف للتقنية؟

أن تكون شاعرا في عصر الضجر وتواري المقدس معناه أن تنشد حالة العصر هذه بوصفها سر الألم -السر الذي لا تصونه سوى اللغة التي هي مقطنه. أن تكون شاعرا معناه أن تعمل على أن يأتي صوبنا كل ما يفيد تربة الإقامة من أجل جعلها تتجاوز حالة التيه والارتجاج الذي تجتازه. أن تكون شاعرا والحالة هذه، هو أن تفكر في ماهية الشعر وأنت تحاور العصر وقد بلغت معه مسألة نسيان الوجود تمامها. ولكن ما معنى محاورة العصر هنا؟ أن تكشف عن سر الألم الذي لا يمكن أن يدركه باقي الناس. وهذا ما يجعل من قولك قولا نبوئيا أي شعريا.

هذا مع لإشارة مرة أخرى إلى أن الشعر هنا ليس كما تم تصنيفه مع الأفلاطونية وإحصاؤه ضمن "علوم التوهم"، وليس الشعر هنا كذلك كما يتحدث عنه الشعراء لما يتحدث هؤلاء عن مسائل التفعلة والوزن والصورة…الخ المقصود بالشعر هو المنحدر الأصيل للفكر وللشعر وللفن معا. أما الشاعر المطلوب محاورته فهو ذلك الذي يكون شاهدا على علامات انسحاب المقدس وتواريه ليترك الحقيقة تكشف عن نفسها. فيكون بموجب ذلك وسيطا بين الحاضر والمستقبل يكشف ما خبأه الزمان عن الناس ذلك لأن أية نظرة إنسانية لا تستطيع أن ترى، ولا أي أذن إنسانية أن تسمع بدون الكلمة الشعرية.

رسالة مثل هذه غير ممكنة بدون مجاوزة الميتافيزيقا ونموذجها الأول في التفلسف. وكما هي غير ممكنة لأن الفيلسوف الميتافيزيقي لم يحصل له أن تعلم الإنصات إلى الكلمة الشعرية طيلة تاريخ الميتافيزيقا، فهي غير ممكنة أيضا بالنسبة للعالم، لأن هذا الأخير ليس بمقدوره أن يدرك خطورة ما أحدثه العصر من ارتجاج على مستوى ماهية الإنسان وشيئية الأشياء لأنه لا يفكر بحكم أنه المنفذ الفعلي لمطالب التقنية. هذا فضلا عن كون العالم لا يشتغل سوى باللغة التي تمكنه من تفتيش الموجود القابل للحد والحصر والملاحظة. على هذا الأساس يذهب هيدجر إلى أن العلم لا يفكر أي أنه ليس بمقدوره تعقب هذا الذي ما يفتأ يختفي ويتوارى ليترك العالم ظلمة والأرض كوكبا تائها. من هنا تتميز الكلمة الشعرية عن المفهوم الفلسفي أو اللغة السياسية. الكلام الشعري كلام رمزي يشوبه نوع من الغموض الذي يمنح الكلام قوته الفاتنة التي تدعو إلى التأمل والتساؤل والتأويل، أي إلى فتح الطريق للتفكير. ومن ثمة يتعالق القول الشعري بالفكر من أجل كشف الغموض والسر.

IV - خلاصة:

استنادا إلى ما سبق نقول بشكل مركز أن انحصار العصر داخل وضع أنطولوجي تسوده الظلمة والتيه مع نهاية الميتافيزيقا، هو ما يجعل مسألة حوار الفلسفة للشعر ضرورة من أجل استذكار المنحدر الشعري للفكر وللشعر وللفن، المنحدر من حيث هو التربة الأساس التي يتعين أن يشيد عليها الإنسان عمارة الأرض وإقامته. أو نقول إن التقنية بوصفها وضعا أنطلوجيا أخذ في تهديد إنسانية الإنسان وشيئية الأشياء بشكل كوني، هو ما يدعو إلى التفكير في التقنية من حيث ماهيتها الميتافيزيقية، والتفكير في ماهية الشعر من أجل جعل الفيلسوف الميتافيزيقي يستذكر المنحدر الأصيل للفكر أي المنحدر الشعري من حيث هو ينبوع متدفق كمد البحر ما فتئ ينسحب.

هذا الوضع الأنطلوجي، حيث الضيق والضجر والتيه، هو ما يجعل مسألة الشعر مسألة جديرة بالسؤال اليوم، وهو ما سيمكن من وضع لبنات وتهييء التربة لممكن ترتسم معه معالم نمط جديد في الحياة وعلاقة لا ميتافيزيقية بالفكر وباللغة وبالشعر وبالفن بوصفها القوى الأساسية التي منها نمتح إلهامنا الروحي، كل هذا من أجل وضع لبنات جديدة للإبداعية والحرية؛ وبالجملة، من أجل إقامة شعرية بدل الضيق والضجر الذي نحس به مع العالم الذي شيدته التقنية من خلال القرارات التي نفذها موظفو التقنية والتي أصبحت شارطة لشروط إمكان الإقامة والسكن على الأرض وربما هم يفكرون في شروط إمكان الإقامة حتى خارج فضاء الأرض.

حوار الفلسفة للشعر إذن، هو نوع من النداء من أجل دفع الميتافيزيقا إلى أن تفكر في ما تم نسيانه من طرف الميتافيزيقا ذاتها -أي التفكير في الحقيقة ليس بوصفها مسألة منهج وقواعد منطق، وإنما باعتبارها انكشافا كما تحدث عنها المفكرون الشعراء عند انشغالهم بالفيسوس. وشعر بارمنيد من بين الكتابات التي سبق لها قبل ميلاد الفلسفة كتقنية تعلم في الأكاديمية الأفلاطونية، أن تأملت مسألة الوجود وأنصتت إلى نداء حقيقته "بأذن" مختلفة عن تلك التي استمع بها الفكر الغربي منذ نشأته كفلسفة إلى اليوم وقد أصبح فكرا كونيا يريد أن يدمج جميع الهويات تحت معاييره وقيمه·

 

بيبليوغرافيا:

نشير إلى أن جل كتابات هيدجر أساسية بالنسبة لهذا الموضوع وخاصة المحاضرات التالية:

- Heidegger (M), acheminement viens la parole, Tel, gallimard, 1976.

- Heidegger (M), essais et conférences, Tel, gallimard, 1958.

- Heidegger (M), chemins qui ne mènent nulle part, gallimard, 1962.

أما بالنسبة للدراسات فأقتصر على ما يلي:

-KELKEL (Arion L.), la légende de l’Etre, langage et poésies chez Heidegger, J-vrin, Paris, 1980.

-Fromend-Henrice (Max), c’est à dire, poétique de Heidegger, Galilée, 1996.

-Blanchot (M), le livre à venir, Gallimard, col. Folio/essais, 1959.

- دراسة "هيدجر والميتافيزيقا" التي هي رسالة أنجزتها لنيل دبلوم الدراسات العليا 1995. لا زالت لم تطبع بعد.