ص1      الفهرس    المحور 

 

 

ندوة "الفلسفة والشعر"(*)

 

تقديم: محمد سبيلا

تولدت فكرة عقد ندوة حول "الفلسفة والشعر" في السنة الماضية في إطار التفكير في كيفية تكريم أحد شعرائنا الأفذاذ، الذي أخذه الموت في ربيع العمر، وهو المرحوم أحمد المجاطي. فهذه الندوة في الأصل مهداة إليه، وهو الشاعر الذي امتزجت لديه بشكل ملفت للانتباه جمالية الصورة بعمق الفكرة.

لقد عرفت العلاقة بين الشعر والفلسفة لحظات متباينة. فهما تارة صديقان أليفان وتارة خصمان لدودان. ولعل لحظات الخصام والعداء قد طغت على علاقات الألفة واللقاء، وذلك منذ استبعد أفلاطون في "الجمهورية" الشعر من البرامج التربوية للمدينة الفاضلة. يتأسس هذا التعادي على أن الفلسفة تفكير عقلي صارم أداته المفاهيم التي يعتبرها بعض الفلاسفة بمثابة التعريف الأساسي للفلسفة، وعلى أن الشعر إبداع مادته اللغة وأداته الصور الشعرية الجميلة التي تمتح من الخيال أكثر مما تمتح من العقل.

لكن وراء هذا الخصام الظاهري والعداء السافر أحيانا، خيوطا ووشائج غير مرئية، يلقي بها هذا الطرف أو ذاك في اتجاه الآخر، وكأن الأمر يؤول في النهاية إلى ضرب من الاختلاس السري، ومن استراق السمع للآخر خلسة. فكثيرهم الفلاسفة الذين استلهموا الشعر، وامتصوا رحيقه، وتذوقوا نكهته العذبة، وراقتهم معانيه الكثيفة الجميلة، فسرت نكهة الشعر في صروحهم الفلسفية، وتسربت الصور الشعرية الجميلة في أخاديد مفاهيمهم لدرجة يصبح معها من المتعذر فك الاشتباك بين الصورة والمفهوم وإعطاء كل منهما نصيبه وحقه.

وعلى العكس من ذلك فإن هناك شعراء استبد بهم حب "حب الحكمة"، وأدركهم هوى السؤال، وأقضت مضاجعهم حرقة التسآل، فراحوا يتفلسفون بالشعر ويشعرون بالتفلسف، ويزاوجون، في براعة، بين سمو الإنشاد وعمق التأمل، بل بين عمق الإنشاد وسمو التأمل.

ولعل الخصام بين الفلسفة والشعر هو مجرد خدعة يستغفلاننا بها، ليعودا معا إلى الإنصات المتبادل والاقتباس المتعادل. فحذار من أن نذهب ضحية المظاهر الخداعة فخصام الفلسفة والشعر هو خصام عشاق وعتاب شذاذ آفات. فهما معا يتضافران للكشف عن عمق الأشياء، وللنبش عن الممكن في المستحيل، وعن الضروري في العارض، والعارض في الضروري. وكما قال الشاعر المعروف Novalis فإنه بقدر ما يكون هناك شعر أكثر تكون هناك حقيقة أكثر. " Plus il ya de poesie plus il ya de vérité " وهكذا يكملان بعضهما البعض فيتمم الشعر عمل الفلسفة وتواصل الفلسفة عمل الشعر.

وفضلا عن ذلك فإنهما معا يؤثتان فضاءنا الروحي. فعالم بلا فلسفة هو عالم أهوج، تتقاذفه الرياح، وعالم بلا شعر هو عالم قاحل، عالما مسطح، عالم فقد روحه. فكيف يمكن أن نتصور عالما بدون فلسفة وبدون شعر، عالم يفتقد سمو الشعر وعمق الفكر. إنه بالتأكيد عالم فقير مفقر، عالم بئيس مبتئس، عالم تتقاذفه الأمواج العاتية، وتتهدده الأنواء الآتية.

وكلاهما يجد نفسه اليوم مهددا بالفكر التقني، بثقافة الحساب والمصلحة، والعقل الأداتي الصارم، الذي لا يهمه إلا النفعي والعملي من كل الأشياء التي تتهدد العالم.

ولذلك، وتحت طائلة التهديد التقني، يبدو أننا اليوم في إطار بحثنا عن التوازن المفقود، وفي سياق طموحنا إلى التوازن المنشود، في حاجة إلى الفلسفة مثلما نحن في حاجة إلى الشعر. الشعر عودة إلى النبع، إلى الدلالات الأصلية للأشياء والظواهر مثلما أن الفلسفة استشراف للممكن. إن زمننا هذا، وهو الزمن الذي روضته التقنية ونزعت عنه مفاتنه، وأللت مفاصله، ولوثت بالنفع والمصلحة مقاصده في حاجة إلى الشعر مثلما هو في حاجة إلى النثر، النثر الفلسفي الذي يجتهد في تشخيص معنى العالم وفك رموزه المغلقة.

في عصر طغيان التقنية والإعلام والمعلوماتية، أي في هذا العصر المصاب بالقحط الروحي، وبجفاف الدلالة تنذر الفلسفة نفسها مثلما تندر الشعر نفسه لإمدادنا بخزانات من المعاني والدلالات التي تفتقدها حياتنا هنا في ظهر هذا الكوكب المترنح تحت ضربات الإنسان القاضية.

بهدف إنارة الدرب وإيقاد الشموع حول محراب هذه العلاقة المقدسة استنفرنا جملة من المهتمين من الحقلين، مجموعة من اكتووا بالنار المقدسة لهذه العلاقة إما من المشتغلين بالفلسفة والذين أرقهم سؤال الشعر، ودوختهم حورياته، وسلبت عقولهم إلهاماته وإبهاماته، أومن الشعراء الذين ألهبت الفلسفة مشاعرهم، وجيشت متخيلهم، فلم يجدوا من جواها مهربا ومن دائها مرأبا فراحوا ينشدون القصيدة وينشدون الحكمة في انتظار حالة الملاء والاكتمال ونشدان الخلاص بالكلمة، مقيمين في العرس الدائم بين الصورة والمفهوم.

فلننصت جميعا إلى شدو هذه العلاقة الملغزة ولنصخ السمع لحوار قيل عنه يوما بأنه حوار طرشان، ولنتسرب في أوصال هذه العلاقة الحميمية التي يبدو اليوم أنها في حاجة إلى المزيد من الكشف والاستكشاف.

لقد اهتدت الجمعية الفلسفية المغربية أخيرا إلى عقد هذه الندوة بعد طول تعثر وفي فضاء مدينة فاس التي كانت طوال تاريخها مصهرا ومعبرا ذا اتجاهين بين الفلسفة والتصوف.

فهنيئا وشكرا لكل الأطراف ولكل المساهمين.