إسرائيل والعولمة
بعض جوانب العولمة إسرائيليا
عزمي بشارة
عند
تناول موضوع العولمة فكريا في الوطن العربي تلفت النظر تلك الازدواجية التي يتم من
خلالها تناول الموضوع، مرة كقضية مواجهة مع "العولمة" كأيديولوجية، ومرة
بالتعامل مع واقع العولمة كعملية جارية فعلا وتبدو كأنها تجسد للايديولوجية، ولذلك
فهي لا تستحق التحليل بل التقييم ولا الدراسة بل الإدانة أو الترحيب حسب الموقف.
ومنعا للالتباس يجب التمييز مفهوميا على الأقل بين ايديولوجية العولمة التي تقوم
بطرح نفسها كأنها بديلة (أو ما بعد اليمين) واليسار، وهنا تجوز مقارنتها بتقليعات
عابرة مثل "صراع الثقافات" و"نهاية التاريخ"، وبين العولمة
كمجموعة من العمليات الاقتصادية -الاجتماعية - الثقافية الجارية فعلا ويعيش العرب
على تخومها، إن لم يكن على هوامشها.
ليست
العولمة طارئا تاريخيا ما يلبث أن يزول، ومن الخطأ التعامل معها كقفزة ثورية في
التطور التاريخي، بل هي عملية تدريجية جارية منذ بدء الاستعمار الحديث، وقد تسارعت
هذه العملية واتخذت أشكالا جديدة مع كل ثورة في التقنية وقوى الإنتاج.
الطفرة
الحالية في العولمة ناتجة برأيي عن كونها جارية بعد أن اكتمل بناء السوق الرأسمالي
العالمي، أي بعد أن انتصر رأس المال في توحيد السوق العالمي بمركز صناعي متطور
وهوامش مرتبطة به، وأخرى تم إقصاؤها تماما لأنها لم تعد قادرة على أي نوع من
التبادل السلعي لتتحول إلى عالة عليه، كما يبدو الأمر في المركز الصناعي المتطور،
أو إلى نوع من التسكع الاقتصادي الذي كان يحظر قانونيا على الأفراد في أوروبا
التراكم الرأسمالي الأولي، ثم سمحت به دولة الرفاه الاجتماعية المتأخرة. ويجري،
الآن نقاش ضمن النظام الرأسمالي العالمي القائم: هل يسمح به ليتحول هذا النظام إلى
ما يشبه نظام الرفاه الاجتماعية المعولم، أم تطحن الرأسمالية المعولمة الضعفاء بين
دواليبها؟
وربما
كان الجديد في عملية العولمة المعاصرة هو طغيان قوانين التبادل العالمي المفروضة
من قبل المراكز الصناعية الكبرى على قوانين وحاجات الاقتصاد المحلي وإخضاعها لها
بالكامل. ولن نجدد إذا تحدثنا عن تغير نوع الصناعة القائمة حاليا في المراكز
الصناعية المتطورة، وعن تصدير التلوث البيئي، وعن توسع الطبقة الوسطى وتقلص الطبقة
العاملة في الغرب، وتحول دول الهوامش عمليا إلى طبقة عاملة تطالب بحقوق نقابية،
وتحول رأسماليتها إلى رأسمالية خدمات وسيطة غير منتجة.. وربما ليس هذا كله هو
المقصود عند الحديث عن العولمة كثورة تميز الأزمنة المعاصرة عن مجمل الحداثة.
إن
انتقال المهمة التاريخية لرأس المال من توحيد السوق العالمي وإخضاعه لقوانينه، إلى
مرحلة جديدة ناجمة عن ثورة مميزة في قوى الإنتاج هو الجديد، والمقصود هو الثورة
الحاسوبية والثورة في وسائل الاتصال التي يصعب اختزالها إلى مبنى تحتي (قاعدة
اقتصادية إنتاجية)، والتي تطمس الحدود الفاصلة بينه وبين المبنى الفوقي للمجتمع
(أنماط الوعي والعلاقات السياسية والحقوقية).
فالطبيعة
الجديدة لقوى الإنتاج تربط بطبيعة الحال بين ما كان يسمى بالبنى التحتية والبنى
الفوقية مباشرة ودون وساطة الوعي الطبقي وبشكل يجعل النماذج النظرية التي وضعت
خصيصا لتفسير العلاقة بينهما تبدو فائضة وفاقدة لدورها. والعولمة الجارية في ظل
هذه الثورة الحاسوبية والثورة في وسائل الاتصال تقتحم مجالات الوعي والثقافة
وتقميم أوقات الفراغ وأنماط الاستهلاك مباشرة في الخارج قبل أن تمر المجتمعات
بعملية تطور اجتماعي اقتصادي وسياسي متدرج يتلاءم معها بشكل عضوي. كما يبرز إلى
العيان تقارب في الثقافات في أوساط المتعلمين ورجال الأعمال، وربما كان اقتحام
مجالات الثقافة هو السبب وراء تصوير عملية العولمة كأنها عملية ايديولوجية جارية
على الأرض وتؤسس نوعا من الإمبريالية الثقافية تفرضها حاجات المراكز الصناعية
المتطورة، فتبدو عملية العولمة كأنها عملية أمركة. والحقيقة أنه يجب التمييز بين عملية
تنميط وتوحيد الاستهلاك المادي والثقافي كإحدى ظواهر فعل الشكل الجديد للعولمة من
ناحية وبين "العولمة" كايديولوجية تحاول إظهار كل ذلك كأنه المنقذ
الحديث من الضلال، فالواقع ذاته في منظورها هو البديل لليمين ولليسار، وهو الكفيل
بتذويب الثقافات المحلية وهو الذي في منظور هذه لايديولوجية سيعولم الحاجة إلى
الديموقراطية أي وعي الحاجة إليها في أذهان البشر.
لم
تنته بالطبع الصراعات الايديولوجية في عالمنا. وايديولوجية "العولمة"
كإحدى مظاهر تجلي اليمين الجديد بما في ذلك الأفراد اليساريون المنضمون إليه، في
عالمنا وردة الفعل الايديولوجية المحتقنة عليها كدليل على أزمة الفكر اليساري
التقليدي بما في ذلك ما تأثر به من قوى قومية محلية في مرحلة عالم القطبين، كلها
دليل على أن الصراع الايديولوجي لم ينته، وأن هناك قوى ترفع حرية قوى السوق المحلي
والعالمي فوق كل الاعتبارات وترضن التقدم والتطور بهذه الحرية المقدسة. وهنالك قوى
أخرى ترى ضرورة تقييد هذه الحرية بقيم واعتبارات أخرى محلية وعالمية. هذا بالطبع
يتجاوز الانقسام إلى عولمة وردة فعل أصولية على العولمة، لأن رد الفعل ليس إلا صدى
للفعل ولا بد أن يكون مظهرا مرافقا له، ولكن رد الفعل ليس بديلا سياسيا أو
أيديولوجيا للفعل، وليس كل معارضة لأيديولوجية "العولمة" ردة فعل على
العولمة ذاتها.
تجلت
عملية العولمة الثقافية بوسائل الاتصال الحديثة في اختراق للحدود القومية بما هي
حدود ثقافية -وذلك باتجاهين: تأثير بمراكز صناعة الثقافة في أجندة العلوم الاجتماعية
وحتى أنماط الترفيه والاستهلاك وتعددية ثقافية، واكتشاف الهويات الثقافية الجزئية
ضمن الدولة القومية: أقاليم، طوائف، مجموعات إثنية.
وقد
تتحول هذه الهويات الجزئية ضمن الدولة القومية إلى محاولة إثبات ذاتها كقوميات
منفصلة ذات مطالب سياسية الأمر الذي يؤكد أن العولمة لا تعني بالضرورة زوال
القومية أو تقادمها بل تفتيتها إلى قوميات عدة تطالب بدورها بدول قومية تقوم على
أساس إثني أو على أساس عضوي هو وحدة أصل مزعومة. وقد يتم تأطير التعددية الثقافية
الناتجة عن طمس حدود الدولة القومية كحدود ثقافية ضمن المواطنة الديموقراطية، بحيث
تتحول المواطنة الديموقراطية هي الرابط المدني بين أفراد ينتمون إلى ثقافات
متعددة، هذه الحاجة النظرية هي السر وراء تزامن وتلازم انتشار الأدبيات حول الهوية
والقومية مع طوفان في الأدبيات والمؤتمرات حول المواطنة والمجتمع المدني.
II
-
لا
تشكل إسرائيل مركزا عالميا في مراكز إنتاج الطفرات التكنولوجية، كما أنها لا تشكل
أحد مراكز ضبط هذه العملية، ولكنها منذ عقد الثمانينات ليست معرضة لها فحسب بل
تحاول اقتحام المركز واحتلال مكان لها فيه. لقد كانت حرب 1967 الحجة الأساسية في
إقناع رأس المال العالمي بخصوص دور إسرائيل والمراهنة عليها اقتصاديا - وقد انهالت
المساعدات المالية على إسرائيل بشكل أساسي بعد هذه الحرب بحيث تجاوزت المعونات
الأمريكية في سنة 1967 مجمل المساعدات المالية التي قدمتها الولايات المتحدة إلى
إسرائيل بين الأعوام 1948 و 1967- كما تدفقت الاستثمارات المالية إلى إسرائيل.
وبعد أن كانت جزءا في الاعتبارات السياسية الغربية في منطقة الشرق الأوسط وفي
استراتيجيات المواجهة مع الحركة القومية العربية الصاعدة انضمت إسرائيل بعد حرب
1967 بالتدريج إلى السوق الرأسمالي العالمي ذاته وأخذت تصارع لاحتلال موقع لها في التقسيم
الدولي للعمل بحيث تتجاوز دور "رأس الحربة الإمبريالية" في المنطقة.
وبالإمكان
في هذه الزاوية اعتبار حرب 1967 المناسبة التي قامت فيها دولة إسرائيل فعلا. فقط
بعد هذه الحرب بدأت عملية الفرز داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته وبدأ تحرر السوق
الرأسمالي من أسر دولة القطاع العام العسكرية بنظام التقشف والحماية الجمركية الذي
فرضته على المجتمع وعلى عملية الإنتاج والتبادل السلعي -لقد قامت هذه الدولة
بعسكرة الاقتصاد والمجتمع إضافة إلى إقامة البنية التحتية الاقتصادية والعلمية
اللازمة للتراكم الرأسمالي وقد أنتجت هذه الدولة ثقافة المواجهة التي توحد عناصر
المجتمع: (فرد، حزب، نقابة، مجتمع، جيش، حكومة، دولة) في وحدة ايديولوجية/ أصلية
واحدة توحد المجتمع الزراعي - العسكري الاستيطاني في المواجهة. ورغم أن قواعد عمل
هذا المجتمع الداخلية كانت قواعد عمل ديموقراطية إلا أن عملية الفرز والتمفصل
اللازمة بين عناصر النظام الديموقراطي لم تكن قد تمت بعد، ولذلك كانت الديموقراطية
الإسرائيلية ديموقراطية الأغلبية البرلمانية دون وجود آليات الضبط والرقابة التي
تميز حالة الفصل بين السلطات، والرقابة الاجتماعية كانت رقابة ذاتية أكثر منها
موازنة لعمل الدولة وتعسفها، وكانت نخب الدولة الاستيطانية وهي نخب الاستيطان
الزراعي العسكري أي ذاتها النخب العسكرية الاقتصادية والحزبية والنقابية، وإلى حد
بعيد الثقافية أيضا.
وقد
رافق الانتصار بعد عام 1967 وتأسيس العلاقة مع السوق الرأسمالية العالمية وتدفق الاستثمارات
الثقة اللازمة بالنفس لبدء عملية الفرز داخل هذه الوحدة، ورافق عملية الخصخصة
وارتفاع مستوى المعيشة وتوسع الطبقة الوسطى في المدن بدء تميز الحزب عن الدولة
-وكانت نتيجته هزيمة الحزب في انتخابات عام 1977- ودخول إسرائيل بشكل جدي مرحلة
التعددية الحزبية كعملية تداول سلطة وليس فقط كواقع وجود أحزاب متعددة.
كما
رافق عملية نشوء الطبقة الوسطى وطبقة رجال الأعمال والارتباط الإسرائيلي المتعدد
الجوانب بعمليات الإنتاج التقني والعلمي والثقافي في الغرب عملية لبرلة الثقافة
الإسرائيلية المحلية ضمن حدودها اليهودية، كما رافق نشوء الطبقة الوسطى في المدن
تفرد الفرد الإسرائيلي ضمن عملية التبادل السلعي الرأسمالية التي باتت تسيطر على
الاقتصاد وتحاول أن تدفع الايديولوجية الجمعية التي تمقت المبادرة الفردية وحافز
الربح والإثراء.
وتم
تدريجيا توسيع حرية الصحافة، ضمن الثوابت القومية الإسرائيلية التي تفرضها الرقابة
الذاتية إلى درجة الثورة في تعددية محطات البث الإذاعي والتلفزيوني وإخضاعها إلى
قوانين السوق المحلية والسوق الإعلامي الدولي. وتطورت وسائل الإعلام الإسرائيلية
كمرفق إنتاجي يسيطر على صناعة أوقات الفراغ والترفيه وكقوة مجتمعية توازن وتراقب
عمل السلطة في نفس الوقت الذي بدأ يتطور فيه بسرعة كبيرة الفصل بين السلطة
القضائية والسلطتين التشريعية والتنفيذية بشكل يمتين استقلالية السلطة القضائية من
ناحية تبلور السلطة التنفيذية من نظام شبه رئاسي إفلاتا في قبضة عشرات المصالح
الجزئية التي يمثلها البرلمان والتي بدأت تظهر في داخله بعد انهيار إيديولوجية
بوتقة الصور من ناحية أخرى.
لقد
اكتشفت إسرائيل تعدديتها الثقافية والطائفية بعد أن انهارت بوتقة الصهر كثقافة
مهيمنة للنخب الأوروبية الاستيطانية العسكرية، ومع ضعف هذه النخب بفقدانها لاحتكار
السلطة والهيمنة في كافة مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية تضعضعت
أيضا عملية فرض الثقافة القومية كثقافتها هي -ولكن هذه العملية قد تمت بعد زوال
الحاجة إلى فرض هذه الثقافة وذلك بعد أن أصبح المجتمع يعيد إنتاجها بآلياته
الداخلية.
لقد
زادت الحاجة إلى بوتقة الصهر الأوروبية بعد أن نشأت ثقافة يهودية - إسرائيلية، ولم
يعد اكتشاف التعددية الطائفية يهدد وحدة الأمة بل أصبح يتم في إطارها. لقد ضعفت
النخب القديمة بعد أن انتصرت، وانتقلت عملية إنتاج النخب السياسية والثقافية من
الاستيطان الزراعي إلى المدينة الإسرائيلية الكبيرة وذلك بعد أن تضاعف نصيب
الإنتاج الزراعي من مجمل الدخل القومي، وأصبحت الحاجة إلى الاحتفاظ بالاستيطان
الزراعي حاجة ايديولوجية أكثر مما هي اقتصادية، وأصبحت النخب الأوروبية التي تكمل
طريق النخب الصهيونية الطلائعية الاستيطانية القديمة هي النخب العلمانية الليبرالية
المرتبطة بالصناعة المتطورة وبعملية العولمة الصناعية والثقافية، والتي ما لبثت أن
وجدت نفسها منخرطة في صراع حول طبيعة دولة إسرائيل العلمانية أمام ثقافة يمينية
ودينية تلتقي في التطرف القومي وفي رفع قيمة الأمة العضوية فوق قيمة الدولة
وايديولوجيتها: (الدولتية الرسمية، الجيش، سيادة القانون).
لقد
اكتشفت ثقافة النخبة العقلانية العلمانية الجديدة أن نفس الحرب التي خاضتها هي
والتي افتتحت مرحلة تطور إسرائيل الحديثة والموصوفة أعلاه هي الحرب التي خلقت
القاعدة المادية والثقافية لتعرف الصهيونية على ذاتها كأيديولوجية غيبية ولا
عقلانية تهدد ايديولوجية الدولة وتستبدلها بأيديولوجية الأمة/الدين واضعة قيمة
"أرض إسرائيل" فوق قيمة "دولة إسرائيل".
لم
تكن الثقافة السياسية السائدة في إسرائيل في يوم في الأيام معادية لعملية العولمة
الجارية في عالمنا أو مستنكرة لها، كما هو الحال في الوطن العربي. بل ويثير اتخاذ
المواقف من العولمة سلبا أو إيجابيا، شجبا أو تأييدا، الابتسام في إسرائيل
المنشغلة بتأسيس موقعها الاقتصادي ضمن هذه العملية الجارية، ولكن الثقافة السياسية
السائدة في هذه الدولة لا تلبث أن تكتشف قصورها عن الاندماج في عولمة الثقافة
السياسية السائدة في المراكز الصناعية المتطورة كثقافة ليبرالية-ديموقراطية.
III
-
تقدم
إسرائيل المثال الأكثر تطرفا على أن عملية العولمة لا تؤدي بالضرورة إلى زوال
الحدود القومية بل قد تؤدي إلى ردة فعل للحفاظ عليها وإلى محاولة تثبيت الحدود
القومية كحدود ثقافية وذلك عن طريق تعميق البعد الإثني الباحث عن الأصل المشترك
للجماعة القومية كجماعة عضوية متخيلة -وذلك كبديل لبعد السيادة والدولة كعامل
أساسي في تشكل وتشكيل الهوية القومية الحديثة.
حاولت
القيادة الصهيونية التاريخية العلمانية استخدام مفهومي الدولة والسيادة في عملية
إعادة خلق الهوية اليهودية كهوية قومية تنضم إلى الأمم الأوروبية الحديثة -بهذا
المعنى فهمت الصهيونية التاريخية ذاتها كعملية نفي يهودية الشتات كجماعة دينية
مقدسة تعيش على هامش القوميات الناشئة في أوروبا. ولكن الصهيونية العلمانية التي
انطلقت من الحاجة إلى تأسيس قومية يهودية حديثة، (وليست من وجود مثل هذه القومية
كما يعتقد البعض خطأ)، لم تستطع في ذروة علمانيتها التخلص من التطابق التام بين
الانتماء الديني والانتماء القومي للأمة التي يراد تأسيسها بإقامة الدولة- وقد
تجلى ذلك منذ البداية بأن كان "نفي الشتات" صهيونيا عوده إلى رموز ما
قبل الشتات في "مملكة يهودا" و "أرض إسرائيل" التوراتية
وعلمنة لأساطيرها ورموزها.
تستحيل
بالطبع عملية خلق الأمة دون علمنة أساطير ورموز وحكايات أصولها المفترضة والمسقطة
على التاريخ - ولكن في حالة الصهيونية هنالك تطابق تام بين الأمة والدين.
هذا
التطابق منع أي إمكانية لفصل الدين عن الدولة، هذا لا يعني أن الدولة ليست
علمانية، فكل دولة حديثة هي دولة علمانية بحكم التعريف، وإسرائيل دولة حديثة دون
شك، ولكن الدين غير منفصل مؤسسيا عن الدولة، كما تم تحزيب الدين وذلك بتبني قوى
اجتماعية مختلفة الإيديولوجية الدينية كمصدر لشرعيتها وكرأس مال رمزي في عملية
احتلال مناطق النفوذ ضمن الجماعة القومية. ولكن الأمر الأدهى هو أنه في دولة تقوم
على الانتماء الإثني لأمة/دين يحدد الانتماء لهذا الدين مفهوم المواطنة، وما يترتب
عليه من حقوق وواجبات.
ولم
تؤثر العولمة التي ارتبط بها المجتمع الإسرائيلي في عملية إعادة إنتاجه لذاته خاصة
بعد العام 67 على هذه البنية الأساسية للعلاقة دولة-أمة، بل وطدتها. ورغم أن
إسرائيل تعتبر محطة الأنترنت الثانية حجما بعد الولايات المتحدة في العالم، فإن
هذه الحقيقة لم تغير في طبيعة يهودية الدولة والمجتمع.
وقد
لا ينتبه مثقفونا في الوطن العربي إلى التغيرات الحاصلة في العلاقة بين اليهودية
والصهيونية والدولة وذلك لأن هذه الأبعاد اختلطت في وعيهم وشكلت وحدة واحدة لا فرز
فيها، وأي فصل أو تمييز لعناصرها ما هو إلا تقليل وتخفيف من شرها المستطير، ولكن
الواقع أن الصهيونية في الماضي كانت حركة أقلية بين اليهود، وأن اليهودية
الكلاسيكية رفضتها لكونها تحول اليهودية في دين متميز إلى "أمة كباقي
الأمم"، ولأن إقامة الدولة اليهودية هو عمل الله خارج التاريخ وبعد نهايته
وليس وظيفة اليهود في هذه الدنيا، فواقعهم واقع شتات إلى حين عودة المسيح المخلص.
أما اليهود الذين اندمجوا علمانيا في الشعوب التي عاشوا في وسطها فقد رفضوا
الصهيونية أيضا لأسباب معاكسة. ولأن مثقفينا لا يعيرون هذه الحقيقة اهتماما فإنهم
لا يدركون أهمية صهينة الجماعات اليهودية المنظمة في العالم كتطور جديد طرأ بعد
العام 67 إذ أن هذه الحرب ونجاحات المشروع الصهيوني الثقافية لعبت دورا مقنعا
بالنسبة لهم وليس فقط بالنسبة لرأس المال العالمي، إذ لم تعد الصهيونية في نظرهم
مجرد مغامرة قد لا يكتب لها النجاح في المحيط العربي المناوئ والمعادي لها، هذا من
ناحية، ولكن للعولمة جوانب لا يتم التعامل معها نتيجة للاعتقاد أن "اليهودية
العالمية" وقفت دائما وراء إسرائيل وأنها تطابقت دائما مع الصهيونية.
فكما
اجتازت العولمة الحدود القديمة وبرزت موضوعة الهويات المحلية والثقافية في دول
أوروبا والولايات المتحدة، كذلك اكتشفت اليهودية ذاتها في هذه البلدان وبدأت تبحث
عن تحديد لهوية يهودية تتجاوز الالتزام بطقوس الديانة اليهودية في الأحوال
الشخصية، خاصة وأن اليهود في هذه البلدان العلمانية غير ملزمين بهذه الطقوس، هنا
يعاد اكتشاف إسرائيل عالميا كمحور لهذه الهوية اليهودية المعولة، وتتم صهينة
الهوية اليهودية في الغرب وفي الولايات المتحدة بشكل خاص بمعنى التضامن والتماثل
مع إسرائيل كحاجة تحتمها الهوية الثقافية في دولة ديموقراطية ليبرالية تحتمل
التعددية الثقافية إلى جانب المواطنة المشتركة، لقد عولمت العولمة فيما عولمت
الهوية اليهودية كهوية تقع إسرائيل في مركزها.,
من
ناحية أخرى فإن نفس الحدث الذي افتتح تطور الاقتصاد والمجتمع والدولة في إسرائيل،
أدى إلى تطابق بين "أرض إسرائيل" التوراتية ودولة إسرائيل الدنيوية
والمحتلة.
وبعد
أن كانت عملية علمنة اليهودية تميز المرحلة السابقة من تاريخ الصهيونية أصبحت المرحلة
الحالية تتميز بتديين الصهيونية. ويتم ذلك بتحويل النشاط الاستيطاني مثلا إلى
فريضة دينية بدلا من قومية وتحويل الصهيونية والدولة بمجملها إلى عملية خلاص
سياقية تتم في التاريخ. وقد نشأت النخب السياسية والثقافية الجديدة التي تحمل هذه
الثقافة السياسية الغيبية.
وبعد
أن كانت "دولة اليهود" ذات السيادة هي المكون الأساسي لـ"الأمة
اليهودية" أصبحت الهوية اليهودية هي المكون الأساسي للدولة في الثقافة
الصهيونية الجديدة. هذا على مستوى الثقافة السياسية للنخبة. أما على مستوى الثقافة
الشعبية فقد أدت عملية تعميم الديموقراطية وعملية الخصخصة إلى ازدياد قوة وتأثير
الثقافة الشعبية التي تم الاحتفاظ بها شعبيا عند اليهود الشرقيين وغيرهم في مرحلة
قمع هذه الثقافة رسميا وسيطرة إيديولوجية بوتقة الصهر الأوروبية العلمانية. وقد تم
الاحتفاظ بهذه الثقافات على المستوى الشعبي كثقافات تقليدية حميمية تزيد في
التشديد على البعد الديني في الهوية التقليدية - لقد زاد التنافس بين الأحزاب في
عملية تداول السلطة من قدرة هذه الثقافات شعبية في التعبير عن ذاتها سياسيا، وتم
ذلك ضمن انتشار، وأكاد أقول هيمنة، للثقافة العنصرية على الشارع الإسرائيلي كثقافة
شعب محتل، وضمن اكتشاف القوة الكامنة في الانتماء إلى اليهودية في دولة اليهود.
فمصير الحقوق الفعلي في دولة اليهود هو الانتماء لليهودية وذلك الذي يرى أن حقوقه
مهضومة في هذه الدولة يتبع استراتيجية التشديد على يهوديته من أجل نيل هذه الحقوق.
وبالنسبة للمواطن اليهودي ذي الأصول العربية يكون ذلك بالتأكيد على يهوديته. وذلك
بالمجاهرة بكره العرب أو احتقارهم، لتصبح الثقافة الشرقية التي أصبح بالإمكان
المجاهرة بها ضمن الدولة اليهودية الديموقراطية كثقافة شرقية يهودية إسرائيلية
خالية من العربية.
التعددية
الثقافية التي نشأت في إسرائيل لا تهدد بانهيار الهوية اليهودية -الإسرائيلية
المشتركة بل تتم ضمنها ومن خلال الدولة اليهودية كدولة ديموقراطية- أهليه أو
ديموقراطية إثنية - التعددية في هذه الحالة تشدد على الوحدة القومية المتطابقة مع
الدين والواعية لهذا التطابق، وليس على مفهوم المواطنة الكونية الشاملة لجميع
المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والقومية.
الثقافة
الشعبية في إسرائيل ليست ثقافة ديموقراطية ولكنها نطقت سياسيا بعد أن توطدت أركان
اللعبة السياسية الديموقراطية، وبعد أن تمت وأسست العملية الديموقراطية. ولذلك لا
تجد هذه الثقافة بدا من التحالف مع الأحزاب القائمة والتعبير عن ذاتها من خلالها.
ولكن الأحزاب القائمة تمر بحد ذاتها بعملية تحول تتلخص بتديين الخطاب السياسي
للأحزاب القومية اليمينية من ناحية وصهينة الأحزاب الدينية من الناحية الأخرى-
وإذا وجد هذا المعسكر الديني - القومي طريقه إلى التحالف مع الثقافة الشعبية غير
الديموقراطية السائدة فسوف تنشأ القوة السياسية القادرة على استيعاب دولة
الأبارتهايد التي تقوم حاليا في فلسطين.
من
الطبيعي ضمن هذه الصورة أن يبقى التشديد على المواطنة الكونية مقتصرا على الأقلية
القومية العربية داخل إسرائيل والتي طورت أيضا طبقة وسطى وارتفاعا ملحوظا بمستوى
المعيشة ونسب التعليم ووعيا للإمكانات الكامنة في مفهوم المواطنة المتساوية، ولكن
هذه الأقلية القومية غير قادرة وحدها على فرض مفهوم "الدولة المدنية" أو
"دولة المواطنين" فقط لأنه في مصلحتها-خصوصا وأن إسرائيل لم تشكل
أمة/دولة شبيهة بالنموذج الفرنسي أو الأمريكي، وأن مفهوم شعب إسرائيل الذي تعرفه
هو ذاته مفهوم "الأمة اليهودية" الديني.
وفقد
اليسار الصهيوني الذي دخل طور الأزمة منذ أن أنهى مهمته التاريخية بإقامة وتثبيت
وجود دول إسرائيل، وبعد أن بدأ اليمين الصهيوني في تحالف مع قوى الدين السياسي
موقع الهيمنة الثقافية على الشارع الإسرائيلي السياسي، ولا يستطيع تقديم حل لمسألة
علاقة الدين بالدولة ومسألة فصل المواطنة عن الدين. وهو يكتفي عمليا، باحتلال
المكان السياسي الذي تمثله القوى الليبرالية في الدول الغربي، ولكن ضمن الإطار
المعطى ليهودية الدولة. وهو بذلك يترجم بشكل جزئي فقط العمليات العميقة الجارية في
المجتمع الإسرائيلي من حيث تشكل الفرد المتميز عن الجندي والمجتمع المتميز عن
الدولة، وتشكل مجتمع المدينة الكبيرة المتميز عن الجماعة العضوية.
مازالت
القوى اليسارية الصهيونية تقصر معركتها العلمانية على قضايا الأحوال الشخصية وذلك
في معركة مع المؤسسة الدينية ولكنها لا تطال ولا تريد أن تطال موضوع علاقة الأمة
بالدين وموضوع يهودية الدولة، وبذلك تحافظ على الإطار الذي يستمد منه اليمين قوته.
ولكن
العمليات الجارية في الاقتصاد والمجتمع في إسرائيل بدأت تفرز عنها تعبيرات ثقافية
لم تلامس بعد مجال السياسة تحاول الفصل بين "الأمة اليهودية" العالمية
وبين تشكل قومي يهودي في إسرائيل يجمعه مع العرب إطار المواطنة في نفس الدولة التي
لم تعد صهيونية لأنها تثبتت على الأرض وأصبحت "ما بعد - صهيونية". وقد
أصبحت ما بعد صهيونية، لا لأن الايديولوجية المعادية للصهيونية قد انتصرت بل
بالعكس، لأن الصهيونية انتصرت ولم يعد بالتالي هنالك مكان لادلجة الدولة صهيونيا،
كما لم يعد مكان للعداء الصهيونية. ومأساة هذه التعبيرات الثقافية الجديدة إنها لا
تفصل بين الواقع الكائن وبين ما يجب أن يكون، مثلها في ذلك مثل التيارات
"اللائقة سياسيا" Politcally Correct والتي تعتبر التغيير في تمثيلات الواقع في اللغة والخطاب والنص
تغيرا في الواقع ذاته.
لم
تحتل ما بعد-الصهيونية مكان الصهيونية في الواقع الإسرائيلي الحالي بل احتلت
مكانها عمليات تسيس الدين وتديين السياسة، ولم تجد القوى الاجتماعية/الاقتصادية
المناهضة لهذه العمليات تعبيرا سياسيا لها على مستوى حلبة الصراع الداخلي.
وما
زال الصراع الأساسي بين هذه القوى يدور على شكل صراع في السياسة الخارجية: القوى
الرأسمالية الحداثية المعولمة والفئات الاجتماعية المرتبطة بها تبحث عن مجال
استثماري في شرق أوسط جديد يجعلها محطة ترانزيت لعملية العولمة الاقتصادية الجارية
في عالمنا في حين يبحث اليمين القومي/الديني عن علاقة مع الغرب تقصي المحيط العربي
منها لتطور إسرائيل بجوهر يهودي وشكل ديموقراطي خلف جدار حديدي في أبارتهايد الفصل
الديموغرافي مع الفلسطينيين (وقد كان هذا شعار اليسار الصهيوني)، وسلام مع العرب
قائم على الردع وليس على العدل ولا حتى على أوهام الشرق الأوسط الجديد.