ص1      الفهرس    المحور 

 

الولايات المتحدة والعولمة

معالم الهيمنة في مطلع القرن الحادي والعشرين

 

بول سالم

مقدمة:

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أضحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في عالم يزداد تقلصا. مع تنامي التداخل ووسائل الاتصال والعولمة في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد وتبادل المعلومات والثقافة، ونظرا إلى دور الولايات المتحدة المركزي في معظم هذه المجالات بات من الصعوبة بمكان التمييز بين الحد الذي ينتهي عنده النفوذ الأمريكي والحد الذي تبدأ معه العولمة-سواء أكانت العولمة مجرد شكل من أشكال الأمركة العالمية، أم كانت فعلا ظاهرة مستقلة في ذاتها ستنحسر السيطرة الأمريكية عنها شيئا فشيئا في المستقبل المنظور.

في الواقع، قبل انهيار الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينات، ومع تزايد ديون وعجز ميزانية الولايات المتحدة في السبعينات، وبتزايد التحديات الاقتصادية من قبل دول شرق آسيا وأوروبا ودول أمريكا الجنوبية والوسطى ساد رأي مشترك خلال الثمانينات بين كبار الباحثين الغربيين أمثال بول كنيدي في كتابه صعود وهبوط القوى العظمى ودايفد كاليو في كتابه أبعد من السيطرة الأمريكية ووالتر روسل ميد في كتابه الأبهة الفانية، ساد بينهم رأي شبهوا الولايات المتحدة فيه بإمبراطورية هابسبورغ في إسبانيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، أو بالإمبراطورية الرومانية في سنواتها الأخيرة حيث استنزفت التزاماتها العسكرية الواسعة اقتصادها وحيويتها وأدخلتها على طريق التقهقر المؤكد والسريع. ولكن بانهيار الاتحاد السوفياتي وتراجع الاقتصاد الياباني ونجاح تحول الاقتصاد الأمريكي إلى اقتصاد خدماتي ومعلوماتي مرن على نحو عجزت أوروبا عن اقتفاء خطاه، أخذ الاختصاصيون يعيدون النظر في فرضياتهم ويعتبرون أن الولايات المتحدة ربما قد خرجت من أزمتها وأعادت تأمين موقع عالمي مسيطر لنفسها في القرن الحادي والعشرين.

ما هي عناصر هذه الهيمنة العالمية، وما هو حظها في الاستمرار، وما هي التحديات التي تواجهها، وكيف ينبغي على الدول والأمم والأقاليم الأخرى أن تتعاطى معها وأن تواجهها.

في هذه الدراسة سأقسم موضوع الولايات المتحدة والعولمة إلى ثلاث نواح، (أ) السياسة والأمن، (ب) الاقتصاد، (ج) الثقافة، آملا أن أقدم في كل قسم منها نظرة سريعة ولكن معبرة عن موقع الولايات المتحدة في كل منها. والمقصود من هذه الورقة هو أن تكون إطارا لفهم موقع الولايات المتحدة في عالم اليوم، وأساسا للتفكير بما يجب على الأمم والدول الأخرى فعله أمام موقع السيطرة الأمريكية.

أولا- السياسة والأمن: تحالفات عالمية عسكرية متعددة الوظائف.

الملفت حيال نظام التحالفات الأمريكية هو أن معظم هذه التحالفات عقدت مع أعداء سابقين (مثلا، ألمانيا واليابان) أو من أجل مواجهة أعداء ما عادوا أعداء (مثال، حلف شمال الأطلسي لمواجهة الاتحاد السوفياتي السابق؛ وتحالفات آسيوية لمواجهة الصين التي صارت دولة صديقة الآن)؛ ومع ذلك ما زال نظام التحالفات الأمريكية هذا قائما لا تبدو فيه أي دلائل تشير إلى تفككه. ففي تاريخ العالم كاد يصبح قانونا من قوانين العلاقات الدولية أنه كلما قامت دولة عظمى وحاولت فرض سلطتها وحرية تحركها في وجه تلك الدولة العظمى الصاعدة، ومن الأمثال على ذلك تحالف المدن الإغريقية للوقوف في وجه بروز أثينا كقوة إغريقية عظمى عقب هزيمة جيوش الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد؛ ومثلها التحالف الأوروبي ضد نابليون في القرن التاسع عشر، والتحالف في وجه ألمانيا الهتلرية في هذا القرن…الخ. فحسب هذا القانون التاريخي، كان من المتوقع قيام نظام من التحالفات في العالم، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، لتحدي قوة الولايات المتحدة والتوازن معها. التشبيه هنا بالإمبراطورية الرومانية والقول إنه لم يتكون ضد الرومان تحالف مضاد ليس تشبيها دقيقا نظرا إلى أنه في أيام الرومان وبعد سحق قرطاجة ومقدونيا لم يكن هناك أي مراكز قوى خليقة بأن تتألب لتحدي قوة روما.

أما في عالم اليوم فلدى أوروبا الغربية مجتمعة اقتصاد أضخم من الاقتصاد الأمريكي، ولدى روسيا ترسانة من الأسلحة النووية توازي الترسانة الأمريكية، ولدى اليابان أحد أكثر اقتصادات العالم تقدما، كما أن الصين والهند عملاقان يفيقان من سباتهما. من هنا كان بالإمكان أن يتألب بعض من هذه القوى على الأقل لإعادة التوازن إلى موازين القوى العالمية؛ ولكن ذلك لم يحصل. حقا، أعلنت روسيا والصين من بضعة أشهر نيتهما إقامة تحالف استراتيجي ولكن فضح بوريس يلتسين وجيانغ زيمنغ أمرهما بالحماسة الزائدة التي أظهرها لإقامة علاقات قوية بالولايات المتحدة خلال زيارة كل منهما لها فتبين أن علاقة كل من الصين وروسيا بالولايات المتحدة يفوق أهمية علاقة كل منهما بالآخر. كما تحاول فرنسا بانتظام تأليب حلفائها الأوروبيين ليؤدوا معا دور التوازن مع الولايات المتحدة، ولكن حلفاء فرنسا، أي الألمان والبريطانيين والإيطاليين وغيرهم من أصدقائها الأوروبيين، يمتنعون في أغلب الأحيان عن مجاراتها. في الواقع أن مجموعة صغيرة من البلدان العربية والإسلامية (إيران، العراق، ليبيا، وإلى حد أقل سوريا) وكذلك دول قليلة أخرى مثل كوبا وكوريا الشمالية، هي الدول الوحيدة اليوم التي تقاوم فعلا السيطرة الأمريكية.

فكيف استطاعت الولايات المتحدة تبوؤ مركز الهيمنة في أوروبا وآسيا وأفريقيا والأمريكيتين وما هو إطار سياستها الخارجية ونظامها التحالفي؟ يقول المحلل الألماني جوزف جوفي في دراسة حديثة إن الولايات المتحدة اتبعت سياسة خارجية مقتبسة عن الطرازين الأوروبيين هما طراز بريطانيا الاستعماري وطراز ألمانيا البسماركية. فالسياسة البريطانية الخاصة بأوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر قامت على منع قيام أي قوة تتحدى قوة بريطانيا، وذلك بتأليف وتأييد تحالفات إقليمية ضد أي متحد طالع. فقد رأى الاستراتيجيون البريطانيون في ذلك دور "الموازن" (Balancer Role) وأملى عليهم التدخل ضد بروز أي قوة عظمى أخرى من خلال تقديم دعم مالي وعسكري لخصوم تلك الدولة الصاعدة الأخرى. الاستراتيجية هذه ناسبت بريطانيا لأنها جزيرة ذات قوات برية محدودة ولكنها كانت تملك أسطولا بحريا ضخما أمن لها السيطرة على البحار وسمح لها إدارة توازنات إقليمية بمرونة حول العالم. اتبعت الولايات المتحدة استراتيجية مشابهة بتأييدها التحالفات المعادية لألمانيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبدعمها منظمة حلف شمال الأطلسي ضد الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة، وكذلك بتأييدها اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية ضد القوتين السوفياتية والصينية في أثناء الحرب الباردة أيضا، وبفرضها إسرائيل ضد العرب طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية…الخ. والولايات المتحدة، مثل بريطانيا الاستعمارية، تحميها المحيطات من جميع الجهات وليست بحاجة إلى استعمال جيوشها البرية استعمالا مباشرا إلا من وقت إلى آخر. لذلك ركزت على السيطرة على البحار وعلى الجو، وأخيرا على الفضاء أيضا. فعوضا من الدخول المباشر في الصراعات العسكرية فضلت الولايات المتحدة، على غرار بريطانيا، خيار السيطرة على البحار والجو والفضاء واستعمال سيطرتها هذه لخلق توازنات إقليمية في جميع أنحاء العالم ولمنع أي قوة إقليمية من النمو لتصبح خطرا عالميا على السيطرة الأمريكية.

إضافة إلى أسلوب "الموازن" البريطاني، اعتمدت الولايات المتحدة عنصرا من الاستراتيجية التي اعتمد عليها بسمارك بعد العام 1871 للحفاظ على قوة ألمانيا وتوسيعها في أوروبا ما بعد توحيد ألمانيا. كانت استراتيجية بسمارك إقامة علاقات تعاون قوي بجميع القوى الكبرى في أوروبا (باستثناء فرنسا) بحيث يكون للقوى الأخرى نفع من استمرار صداقتها مع ألمانيا يفوق ما يمكنها الحصول عليه من قطع تلك الصداقة والانضمام إلى تحالف معاد لها. وسعى بسمارك في خلال استراتيجيته هذه نسج شبكة من المصالح العسكرية والسياسية والاقتصادية يكون مركزها برلين بحيث تكون مصالح البلدان الأخرى مرتبطة مركزيا بحسن علاقاتها ببرلين، وبالتالي فأي تفكير في الابتعاد من برلين أو الخلاف معها سيكون باهظ الثمن. يمكن وصف هذه السياسة على أنها سياسة وقائية بمعنى أنها تسعى لاستمرارية النفوذ عن طريق إزالة الحوافز للانقلاب ضد القوة المركزية وبالتالي توفر على القوة المركزية المسيطرة ضرورة الدخول بحروب مباشرة لفرض نفوذها.

بعد الحرب العالمية الثانية سارت الولايات المتحدة (كما سار الاتحاد السوفياتي قبل انهياره) على خطى بسمارك محاولة جعل نفسها مركز علاقات العالم السياسية والدبلوماسية والأمنية والاقتصادية والثقافية بإقامة علاقات قوية بعدد كبير من البلدان في العالم، بحيث صار لمعظم تلك البلدان فائدة من حسن علاقاتها بالولايات المتحدة (أو الاتحاد السوفياتي) تفوق ما يمكن أن تحصله من الصراع ضدها. وبهذه الطريقة بات من الصعب جدا الانضمام إلى أي منظومة عالمية من العلاقات السياسية والاقتصادية دون المرور بواشنطن أو موسكو والحصول على الموافقة الأمريكية أو السوفياتية. فبالنسبة إلى الولايات المتحدة ليس من باب المصادفة أن تكون الأمم المتحدة في نيويورك ولا أن تكون واشنطن مقر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. كما لا يجوز التقليل من أهمية الزج المتواصل للبيت الأبيض ووزارة الدفاع ووزارة الخارجية الأمريكية في السياسة العالمية.

قبل انهيار الاتحاد السوفياتي كان في العالم مركزان للقوة العالمية أحدهما في واشنطن والآخر في موسكو. أما الآن فليس هناك سوى مركز واحد. ومنذ أن طبقت الولايات المتحدة مخطط مارشال في أوروبا وثمرت أموالا ضخمة في شرق آسيا، اتبعت واشنطن سياسة استعمال مواردها المالية والعسكرية لخلق حلفاء لها أقوياء ويمكن الاعتماد عليهم يفيدون من علاقاتهم بها ويتعرضون لخسائر كبيرة إن هم نقضوا الحلف. أسلوب الجزرة هذا فضل على غيره في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية لأنه يحول دون اللجوء إلى الحرب وما يترتب عليها من تضحيات مادية وبشرية.

على الرغم من ذلك كله أنشأت الولايات المتحدة قوة عسكرية ضخمة لردع دول أخرى ولاستعمالها في الحرب عند الضرورة. وكانت الولايات المتحدة في بدايتها ذات نزعة انعزالية مطبوعة على عدم الدخول في حروب عالمية، وعلى الأخص الأوروبية منها، إلا أنها اضطرت إلى الذهاب إلى أبعد من دور "الموازن" والانخراط في تدخل عسكري ضخم في أوروبا في الحرب العالمية الأولى، ثم في أوروبا وفي شرق آسيا في الحرب العالمية الثانية. ومع تنامي مصالحها الاقتصادية في أنحاء العالم، ومع وجود تهديدات قوية من قبل أوروبا بقيادة ألمانيا الموحدة ومن قبل آسيا بقيادة اليابان، أو من قبل أوروبا التي كان يمكن أن تقع تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي قررتالولايات المتحدة إقامة قوة عسكرية على أساس حرب عالمية محتملة. خلال الحرب الباردة ركزت الولايات المتحدة على إمكان مواجهة قوة المعسكر السوفياتي فقط، ولكنها تحولت لاحقا إلى إنشاء قوة عسكرية قادرة على أن تضمن لها السيطرة العسكرية حول العالم. كان العمود الفقري لهذه القوة ترسانة نووية ضخمة قادرة على ردع الاتحاد السوفياتي أو أي متحد آخر. أما في ما يتعلق بالقوة غير النووية، ركزت الولايات المتحدة على تنمية سيطرتها على البحار بتقوية سلاحها البحري على نطاق واسع، وتوسيع سيطرتها على الجو ثم على الفضاء عن طريق إنفاق مذهل على سلاح الجو وعلى برامج الفضاء العسكرية. هذه الفروع من القوى العسكرية يدعمها جيش بري صغير نسبيا منتشر في أوروبا وكوريا الجنوبية واليابان، وفي ما خلا ذلك متمركز ضمن حدود الولايات المتحدة مكتفيا بأن تفرض أنواع القوة العسكرية والسياسية الأخرى إرادة الولايات المتحدة في أنحاء العالم. وفي الواقع وفي المرات الثلاث التي دعت الحاجة إلى اشتراك قوات برية أمريكية في حروب مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية (الحرب الكورية والحرب الفيتنامية وحرب الخليج الثانية) لم ينجح سوى اثنين من العمليات الثلاث.

تتألف القوة العسكرية الأمريكية حاليا من ثلاث فروع متساوية هي الجيش والبحرية والطيران وفي كل منها قرابة الـ500 ألف جندي. الإنفاق العسكري الحالي يقارب 270 مليار دولار في السنة بانخفاض قرابة الثلث عما كان عليه إبان الحرب الباردة. واستراتيجية العسكريين العامة هي استراتيجية "التورط العالمي" ((Global Engagement أو الهيمنة العالمية وغايتها أن تؤمن قدرة أمريكا على السيطرة على جميع المسارب البحرية والجوية والفضائية عند الحاجة، ولتمكنها عقب انهيار الاتحاد السوفياتي من الفوز في حربين إقليميتين في آن معا (في العراق وفي كوريا الشمالية على سبيل المثال). لدى الولايات المتحدة حاليا قوات منتشرة في أوروبا الغربية وكوريا الجنوبية واليابان، وقوات أقل شأنا في باناما وهندوراس وكوبا وبرمودا وإيسلندا والسعودية والكويت وقطر وسنغافورة واستراليا. أما في القارة الأمريكية وسطا وجنوبا فقد سيطرت على المنطقة منذ القرن التاسع عشر عبر مزيج من التدخلات العسكرية والسياسية والاقتصادية. وبعد إطاحة أنظمة الحكم المعادية لها في تشيلي وهندوراس ونيكاراغوا، لم يبق سوى كوبا تتحدى القوة الأمريكية مكافحة من أجل إلقاء في وجه الحصار الاقتصادي الأمريكي الذي أدى بالشعب الكوبي إلى حافة المجاعة.

وفي أوروبا يبدو أن السباق على القوة قد انتهى عقب انهيار الاتحاد السوفياتي. فحلف وارسو لفظ آخر أنفاسه وأخذ حلف شمال الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة يتوسع شرقا؛ ففي مؤتمر مدريد في شهر تموز/يوليو 1997 قبلت المنظمة مبدئيا عضوية بولندا وجمهورية تشيكيا والمجر، علما أن عددا من البلدان الأخرى في أوروبا الوسطى تتلهف للانضمام إليه. وعن روسيا صدرت بعض التحفظات في شأن توسع الحلف، ولكن روسيا نفسها طلبت أن يكون لها دور في الحلف العسكري الغربي. وفي شرق آسيا للولايات المتحدة تحالفات قوية مع اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، كما تسعى للتفاهم مع القوة الصينية دون استعداد حلفائها الآخرين. وقياسا على الزيارة المليئة بالحيوية التي قام بها جيانغ زيمن أخيرا للولايات المتحدة يبدو أن العلاقات الصينية-الأمريكية سائرة نحو تحسن ملحوظ. تبقى كوريا الشمالية الدولة الوحيدة في شرق آسيا المناهضة بثبات للنفوذ الأمريكية، أما في جنوب شرقي آسيا فقد تحولت الخلافات المريرة السابقة مع فييتنام ولاووس وكبوديا إلى تعاون واضح، أما في جنوب آسيا فإن غزل الهند مع الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة وفي ضوء الخلاف الهندي الباكستاني، قد أصبح في ذمة التاريخ وبات فريقا الخلاف الهندي والباكستاني قريبين من الولايات المتحدة.

وفي جنوب الصحراء الأفريقية صارت الخلافات التي قسمت القارة الأفريقية -أي الحرب الأهلية والثورات على سيطرة البيض في روديسيا وفي جنوب أفريقيا ما قبل نلسون منديلا- جزءا من الماضي. وبانتهاء الحرب الباردة لم يعد للولايات المتحدة رهان عسكري في أفريقيا. وبنجاح الثورات ضد سيطرة البيض، لم تعد الولايات المتحدة مجبرة على الانحياز إلى فريق من الأفرقاء وأخذت تعمل على إقامة علاقات قوية بمعظم الدول الرئيسية في أفريقيا واستعمال شتى أساليب لإبعاد مبعدة بذلك نفوذ فرنسا وغيرها من القارة. ولا تواجه الولايات المتحدة أي تحد جدي لسيادتها إلا في العالم العربي الإسلامي. وعلى الرغم من علاقاتها الوطيدة بالمغرب وتونس ومصر والسعودية والدول الصغيرة الخليجية، فلا يزال العراق وإيران وليبيا، وإلى حد ما السودان وسوريا، تتحدى القوة الأمريكية. هذا التحدي العربي الإسلامي له خطره الخاص على الولايات المتحدة لسببين: أولا إنه قائم في منطقة حيث توجد أضخم الاحتياطات النفطية اللازمة للقرن الحادي والعشرين وبالتالي فإن الذي يسيطر على ذلك النفط يكون له سلطة كبيرة على الاقتصاد والقوة في العالم طوال القرن المقبل؛ ثانيا إن هذا التحدي قائم من ضمن سياق تحد أيديولوجي ديني متماسك وله أصداؤه في أرجاء العالم الإسلامي في أفريقيا وآسيا وكذلك في المجتمعات الإسلامية المهاجرة في أوروبا وأمريكا الشمالية. فإن التحدي الإسلامي هذا مثل أكثر التحديات جدية للسيطرة الغربية الثقافية وغيرها السائدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتراجع الفكر الاشتراكي والشيوعي. فقد شدد الباحث الأمريكي صاموئيل هنتنغتون في كتاباته الأخيرة على أن هذا الخطر الديني هو الأشد الذي يواجه الولايات المتحدة والغرب في السنوات المقبلة.

وعلى الرغم من ذلك يبقى الوضع العسكري الأمريكي في نهاية القرن العشرين على مستوى لم يسبق له مثيل من حيث التفوق. فأول مرة بعد الحربين العالميتين والحرب الباردة تكون الولايات المتحدة مرتاحة لعدم وجود خطر رئيسي منظور يهدد أمنها أو سيطرتها على العالم. والتهديد العراقي يبقى ذا طبيعة إقليمية، في حين لا توجد أي مواجهات ناشطة في المناطق الأخرى. وفي الواقع ظهر التفوق الأمريكي على نحو واضح من خلال حرب الخليج ضد العراق حيث أجرت الولايات المتحدة أولى تجاربها وعرضت الأساليب القتالية بالتقنية الرفيعة وبالفيديو. إننا نشاهد اليوم تغيرا في التقنية العسكرية له من العمق ما كان للتحول عن الجيوش الراجلة إلى استعمال الخيالة أو إلى استعمال البارود أول إلى مكننة المدفعية الثقيلة أو إلى دخول الطيران ساحات القتال. فالحاسوب والفيديو، والمكننة، والقنابل الذكية وأشعة لايزر وتقنية الانسلال (Stealth) والاتصالات العالمية جعلت الأكثرية الكبرى من جيوش العالم -جيوش الحرب العالمية الثانية بعد تحديثها- جيوشا عتيقة الطراز. وقد اتضح ذلك جيدا خلال حرب الخليج، الأمر الذي عزز اقتناع الولايات المتحدة بزيادة اتفاقها على تقننة قواتها العسكرية. ونظرا إلى كون الولايات المتحدة على رأس الدول في هذه الأبحاث التقنية العسكرية ونظرا إلى إنفاق المبالغ الطائلة عليها وعدم إشراك أي من حلفائها فيها فضلا عن منع دول أخرى من تطوير أسلحة مماثلة، فلا عجب من أن يزداد تفوق الولايات المتحدة العسكرية على القوى العسكرية في الدول الأخرى ويتوسع الفرق بين هذه وتلك عوضا من أن يتقلص. لم نشاهد حتى الآن النتائج الكاملة لهذا الفرق العسكري المتنامي؛ ولكن، النتائج ستتضح في أول عقدين من القرن المقبل. فهل ستتبدد هذه التقنية والقوة العسكرية أم أن البنتغون سيبرز على أنه الميليشيا العالمية دون منازع؟

مقابل هذا التفوق العسكري الشامل يبقى الخطر، وفق مزاعم الاختصاصيين الأمنيين الأمريكيين وبعض الكتاب في الأمور الاستراتيجية، الذي يهدد الأمن هو خطر عمل منعزل تخريبي نووي أو بيولوجي أو كيميائي تقوم به دولة عدوة أو منظمة عالمية سرية بواسطة تهريب وسيلة كهذه إلى داخل الولايات المتحدة أو رشقها بها بواسطة قذيفة باليستية. وهذا بات من أهم المخاوف بعد تفكك ترسانة الأسلحة السوفياتية النووية، وفي ضوء محاولة دول خارج السيطرة الأمريكية (مثل العراق وغيران وكوريا الشمالية) تطوير قدرات نووية وبيولوجية وباليستية، وفي ضوء تقصير المعاهدات الدولية في منع انتشار، ولو جزئي، لأسلحة الدمار الشامل. في وجه هذا الخطر تسير الولايات المتحدة قدما في تطوير جهاز دفاعي مضاد للقذائف الباليستية وتعمل على تقوية منظومات أقمارها الصناعية الخاصة بالمراقبة والتجسس، وتحاول دحر هذه الحفنة من البلدان التي لا تزال خارج نطاق نفوذها عبر استعمال وسائل الضغط الاقتصادي والسياسي ومن حين إلى آخر العسكري.

مع ذلك فإن الولايات المتحدة تدخل القرن الحادي والعشرين وهي في موقع سياسي وعسكري مركزي في العالم على الرغم من وجود تهديدات بسيطة لأمنها وتحديا هامشية على صعيد السياسة الدولية.

ثانيا - العناصر الاقتصادية: الرأسمالية العالمية.

في العام 1941 بدت الولايات المتحدة وكندا وكأنهما آخر دولتين رأسماليتين في العالم قادرتين على الاستمرار. فقد استولت تجارب متنوعة من الأحكام الشيوعية والاشتراكية والاشتراكية الديموقراطية والفاشية على السلطة في أماكن أخرى من العالم وبدا أن الرأسمالية المتبقية من القرن التاسع عشر سائرة نحو الاحتضار السريع. وعلى الرغم من عودتها إلى الساحة بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة هزيمة ألمانيا النازية وبسبب تحول أوروبا الغربية واليابان بفعل النفوذ الأمريكي، كانت الاشتراكية والشيوعية في أوائل الستينات تسيطران على معظم أوروبا الوسطى والشرقية وآسيا والشرق الأوسط وأفريقيا، كما بدا النمو الاقتصادي السوفياتي أسرع من النمو الأمريكي. ولكن خلال السبعينات والثمانينات تقهقرت الاشتراكية والشيوعية، وبحلول التسعينات بدت الرأسمالية وكأنها نظام التعامل الاقتصادي دون منازع. كان من شأن هذا الفوز الأخير أن أعلن بعض المراقبين الأمريكيين مثل فرانسيس فوكوياما نهاية التاريخ، بمعنى أنه بعد قرنين من التناقض والخلاف بين الرأسمالية والاشتراكية بدت الرأسمالية فائزة بالصراعحاسمة بذلك، حسب زعمه، الجدل التاريخي حول النظام الاقتصادي الأنسب للبشرية.

لقد أدت الولايات المتحدة دورا رئيسا في دعمها للرأسمالية وفي ظفر هذه الأخيرة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ففضلا عن كونها طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أكبر سوق وأكبر دولة مصدرة في العالم جعلت الولايات المتحدة من بناء اقتصاد عالمية رأسمالي حجر أساس في توجهها على الصعيدين السياسي والاقتصادي الدولي. ولما كانت أكبر دولة مصدرة، لها مصلحة إذا في الإنماء الاقتصادي على الصعيد العالمي لكونه يغذي نموها الاقتصادي. وكي تحافظ على أنظمتها ومؤسساتها الرأسمالية في وجه التهديدات التي تكونها أنظمة اجتماعية اقتصادية أخرى، وأهمها الشيوعية السوفياتية، أنفقت الكثير على انتشار اقتصادات رأسمالية في بلدان أخرى، وعلى الأخص في عدويها السابقين ألمانيا واليابان، وفي بلدان أخرى في أوروبا الغربية وفي شرق وجنوب شرقي آسيا. فإضافة إلى مشروع مارشال في أوروبا الغربية وإلى المساعدات الضخمة التي قدمتها إلى شرق آسيا، استعملت الولايات المتحدة مساعداتها الخارجية لمناطق أخرى في العالم النامي تعزيزا للمؤسسات والاقتصادات الرأسمالية حيثما أمكن ذلك.

رافق هذه الجهود إقامة مؤسسات اقتصادية رأسمالية على نطاق عالمي نتيجة اجتماعات بريتون وودز (Bretton Woods) عام 1947 مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي واتفاقية الغات (GATT) وغيرها من المؤسسات الاقتصادية العالمية التي تسيطر عليها أمريكا، هذا فضلا عن عشرات الاتفاقات التجارية الثنائية أو متعددة الأطراف مع مختلف دول العالم. ولا ريب في أن الاستراتيجية الاقتصادية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية استراتيجية ذات طابع عالمي علما بأنها لم تشمل جزءا من العالم ما دامت هناك أنظمة اشتراكية وشيوعية كانت لا تزال في قيد الحياة؛ وبزوال معظمها في السنوات الماضية استطاع النظام الرأسمالي أن يتحول إلى نظام عالمي حقا.

واستعملت الولايات المتحدة سوقها الداخلية الواسعة في خدمة استراتيجيتها الدولية، بحيث بكرت في فتحها أمام حلفائها الجدد مثل ألمانيا واليابان وتايوان وكوريا الجنوبية لمساعدتها على النهوض باقتصاداتها، وذلك من أجل بعث استراتيجية إنمائية قوية يكون التصدير قوتها الدافعة. ولئن خلق ذلك عجزا تجاريا جديا للولايات المتحدة فقد خدم أيضا مصالحها الدولية الرامية إلى خلق دول رأسمالية حليفة وقوية في أنحاء عدة من العالم وجعل اقتصادات تلك البلدان مرتبطة بالاقتصاد الأمريكي وتابعة له.

عقب ما سببته الحرب العالمية الثانية من دمار برز الاقتصاد الأمريكي كقوة مهيمنة في الاقتصاد العالمي. وقد استعملت الولايات المتحدة موقعها القوي هذا بعد الحرب لخلق حلف دولي سياسي واقتصادي على أساس مساعدة ألمانيا واليابان وفي محاولة لأحداث نمو سريع في أوروبا الغربية وفي شرق وجنوب شرق آسيا لمواجهة التهديدات السوفياتية والصينية. تحققت منذ الخمسينات مستويات عالية من النمو في تلك المناطق وقابلها ورافقها مستويات عالية أيضا من النمو في الاتحاد السوفياتي. ومع بداية تراجع الأداء الاقتصادي السوفياتي في أواخر الستينات، أخذ تحد اقتصادي جديد يذر بقرنيه في شرق وجنوب شرق آسيا على شكل سلع تصديرية رخيصة الثمن ورفيعة الجودة أخذت تغرق السوق الأمريكية وتهدد بخلق عجز جدي في الميزان التجاري. وازدادت مشكلة الولايات المتحدة هذه بسبب ارتفاع أسعار النفط عام 1973 و 1974 وبالصعوبات التي رافقت التحول من اقتصاد صناعي إلى آخر قائم على الخدمات والتقنية في حقل الإعلام والمعلومات. وقد استطاعت الولايات المتحدة، على الرغم من المشاكل الجدية التي واجهت اقتصادها في السبعينات والثمانينات أن تتحمل عجزا ضخما في ميزانها التجاري وأجرت إعادة بنيان لاقتصادها، واستعادت في أوائل التسعينات المبادرة في القوة الاقتصادية. وفيما لا تزال أوروبا الغربية تقاوم ارتفاع كلفة الإنتاج فيها وارتفاع البطالة وعوائق أخرى، وفيما اليابان تفوق حصتها في الأسواق في صناعتي السيارات والكومبيوتر الهامتين وأعادت تأكيد موقعها على أنها أكبر سوق وأكبر دولة مصدرة في العالم. ولعل الأهم أنها بإنفاقاتها وبتفوقها في الأبحاث في حقل التقنية الرفيعة والتطوير وضعت نفسها في موقع جيد يخولها الاستمرار في السيطرة على الأسواق العالمية لبرامج الحاسوب وشبكة الاتصالات العالمية (انترنت) في مطلع القرن الحادي والعشرين.

مع ذلك فإن موقع الولايات المتحدة القوي في الاقتصاد العالمي ليس مطلقا على مستوى مناعة موقعها العسكري، بكلام آخر، ولئن كان من الصحيح إن إطار الأمن السياسي الدولي ذو قطب واحد فإن الاقتصاد العالمي متعدد الأقطاب. فمجمل اقتصاد أوروبا الغربية أضخم من الاقتصاد الأمريكي وكذلك هو اقتصاد منطقة شرق وجنوب شرق آسيا بوجه عام. كما أن الاقتصاد الأمريكي لايزال يواجه مشاكل جدية قد تهدد نموه في المستقبل. ومن هذه المشاكل العجز في الميزان التجاري، وعلى الأخص مع شرق آسيا، البالغ قرابة 160 مليار دولار في السنة، وديون دولية متراكمة تربو على الألف مليار دولار. وكانت الولايات المتحدة قد اعتمدت التسامح تجاه العجز التجاري على أنه جزء من استراتيجياتها الرامية إلى تقوية حلفائها الرأسماليين عقب الحرب العالمية الثانية. ولكن حجم وثبات العجز أبقى الضغط على الدولار الأمريكي وبقي ينطوي على خطر التسبب في انخفاض مفرط في قيمة الدولار. لقد استطاع الدولار الحفاظ على مركز قوي نظرا إلى ثقة المستثمرين بالاقتصاد الأمريكي وإلى غياب عملة بديلة قادرة على الاستمرار، ولأن اقتصادات شرق آسيا يهمها بقاء الدولار قويا لتنشيط صادراتها. إلا أن استمرار العجز مشفوعا بنمو الاقتصاد الصيني نموا سريعا، علما أن الصين تصدر سلعا كثيرة إلى الولايات المتحدة، قد يكون له تأثيرات مدبرة في الدولار وكذلك في اقتصادات شرق آسيا نفسها التي تعتمد على التصدير إلى الولايات المتحدة وعلى أسواق المال العالمية. لقد أدى العجز في الميزان التجاري إلى توسع الاستثمارات الأجنبية، وخصوصا اليابانية منها، في الولايات المتحدة، وكذلك إلى شراء شطور كبيرة من الاقتصاد الأمريكي ومنها العقارات والمؤسسات الصناعية والخدماتية. كما أن الدين الخارجي البالغ ألف مليار دولار والمتوجب في أكثره لليابان، يفرض نزفا مستمرا على الميزانية العامة ويحول دون توظيف موارد مهمة في الاقتصاد وفي الأنشطة الإنتاجية. ولئن كان بالإمكان تحمل هذا الدين نظرا إلى الناتج القومي الأمريكي الذي يربو على السبعة آلاف مليون دولار، يبقى هذا الدين معيقا للنمو السريع.

ثمة عامل آخر يهدد قدرة أمريكا على تمويل النمو، هو المستوى المتدني للادخار فيها مقابلة ببلدان أخرى متطورة. ونظرا إلى التشديد على الاستهلاك والاقتراض وإرضاء رغبات المستهلك بسرعة نرى أن نسبة الادخار الأمريكي تعادل نصف نسبته في اليابان ولا تتجاوز ثلثيها في ألمانيا. إن مستويات الادخار المتدنية تهدد القدرة على التثمير اللازم في البنية التحتية وفي التنمية، كما تهدد القدرة على اتخاذ الإجراءات المناسبة للمستقبل.

المجالات الأخرى حيث ستواجه الولايات المتحدة فيها مصاعب اقتصادية تتضمن انخفاض نوعية ومستوى التثمير في التعليم والتدريب، ذلك أن الاقتصاد في المستقبل سيزداد اتكالا على قوة عاملة رفيعة الثقافة والتدريب، إلا أن نظام التدريس والتدريب الأمريكي، دون مستوى الجامعة، هو من الأضعف في العالم المتقدم. وعلى الرغم من تشديد إدارة كلينتون على التربية لكونها الطريق المؤدي إلى النمو في المستقبل فإن لا مركزية التعليم في الولايات المتحدة قد حالت دون حصول تقدم سريع ودرامي. ويزيد من تعقيد هذه المشكلة توزيع الثروة الذي يشكو عدم المساواة، وهذا التوزيع هو أيضا من الأسوأ في العالم المتقدم. وعلى الرغم من المكاسب التي تحققت في هذا المضمار في سنوات الستينات والسبعينات كان النمو في الثمانينات قليل التساوي وأفاد فيها فقط العشرون في المائة الأغنى من الشعب الأمريكي، فيما ازداد الفقراء ورأت الطبقات الوسطى قدرتها الشرائية تتضاءل. واستمرار وجود الفقر في الولايات المتحدة مقرون بنظام تربوي ضعيف يهدد بتوسيع الطبقات المحرومة التي لا يستهان بإعدادها في الولايات المتحدة، وهي أيضا بعيدة من الاقتصاد المنتج وتهدد أيضا بتفاقم العنف والانحلال الاجتماعي والسياسي، وخصوصا في كبريات المدن الأمريكية مثل نيويورك وواشنطن وشيكاغو ولوس أنجلس.

وفي مطلق الأحوال ستبقى الولايات المتحدة قادرة على الاستمرار في تأدية دور مركزي في الاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين. فالاقتصاد الرأسمالي العالمي الذي صممته وروجت له بعد الحرب العالمية الثانية يبدو على أنه مسيطر، والولايات المتحدة، على الرغم مما لها من منافسين أقوياء في أنحاء العالم، لا تزال الأقوى بينها، ولا تزال تتحكم بالكثير من المؤسسات الاقتصادية ومؤسسات التجارة العالمية وتسيطر عبر الخليج العربي على المصادر الرئيسية للطاقة اللازمة للاقتصاد العالمي والأهم من ذلك لزومها (الطاقة) لاقتصادات كبار منافسي الولايات المتحدة مثل اليابان وألمانيا، ولما كان الاقتصاد الأمريكي قد تحول عن الصناعة إلى الصيرورة اقتصادا خدماتيا فقد بات على كبار منافسيها في أوروبا وفي شرق آسيا مواجهة هذا التحدي. ومع ذلك، ونظرا إلى كون الولايات المتحدة أكبر دولة مصدرة في العالم فذلك يعني أن لها المصلحة الكبرى في إنماء الاقتصاد العالمي وإرساء الاستقرار العالمي. لذلك فإن سياستها العامة المنبثقة من مصالحها الاقتصادية الذاتية قد تستمر في العمل على تقوية الرأسمالية العالمية كي تكون أساسا للصادرات الأمريكية، وقد تستمر أيضا سياستها الرامية إلى إحلال السلم الأمريكي توفيرا لسوق عالمية ضرورية لعافية الاقتصاد الأمريكي.

 

ثالثا - العنصر الثقافي: هوليوود ومايكل جاكسون.

من أكثر ما يلفت الانتباه من ظواهر العولمة المدى الذي بلغته الثقافة الشعبية الأمريكية (Popular Culture) من الانتشار والسيطرة على أذواق الناسفيالعالم. فالموسيقى الأمريكية والتلفزيون والسينما، من مايكل جاكسون إلى رامبو إلى دلاس، أصبحت منتشرة في مختلف أنحاء العالم، كما أن النمط الأمريكي في اللباس والأطعمة السريعة وغيرها من السلع الاستهلاكية انتشرت على نطاق عالمي واسع، وبالأخص بين الشباب. إضافة إلى ذلك تسير اللغة الإنكليزية، وخصوصا اللهجة الأمريكية، نحو الصيرورة لغة عالمية. ما هي بعض أسباب هذا النفوذ الثقافي الواسع؟

أولا، إن سيطرة الاقتصاد الأمريكي بوصفه سوقا مستوردة ومصدرة واعتماد اقتصادات أخرى على الاستهلاك في الولايات المتحدة إضافة إلى هيمنة شركات الإعلان الأمريكية على التسويق العالمي، كل ذلك أدى إلى صيرورة أساليب الدعاية والتسويق الأمريكية عالمية الاتساع. ولما كان للإعلان والتسويق دور أساسي في قولبة الأذواق والأزياء في العالم الرأسمالي الحالي، فإن الاتجاهات والميول والأزياء التي تأتي بها كبرى بيوتات الإعلان والتسويق، والسلع التي تدفع بها الشركات العالمية الكبرى ينتهي بها الأمر لأن يكون لها تأثير كبير في توجيه الأذواق عالميا وفي قولبة الرموز الثقافية الناشئة.

ثانيا، للولايات المتحدة تفوق واضح على منافسيها الاقتصاديين في المجالات الثقافية الشعبية وعلى الأخص في صناعتي الأفلام والموسيقى. فقد سبق لهما أن نمتا تلبية لحاجة سوق داخلية ضخمة ولكنه تبين لمسوقي الأفلام والموسيقى أن لهذين المنتوجين سوقا خارجية لا تقل أهمية عن السوق الداخلية، فراحوا يسوقونها عالميا. تزامن ذلك مع انتشار التلفزيون في مختلف أنحاء العالم هذا فضلا عن البث التلفزيوني بالأقمار الصناعية. وقد تمكنت الولايات المتحدة من استغلال قوتها في الإنتاج الفني التلفزيوني وفي الصناعة الترفيهية وشركات الأقمار الصناعية فدخلت كل بيت على وجه الأرض وأثرت في كل فرد.

ولكن ينبغي أن نسأل أيضا ما هو سبب الإقبال على هذه الصادرات الثقافية؛ فمن الصعب أن نتصور إقبالا مماثلا على صادرات ثقافية يابانية حتى ولو كان اليابانيون يسيطرون على صناعة السينما والتلفزيون والموسيقى. فهل في الصادرات الثقافية الأمريكية بعض العناصر التي تجعلها ذات جاذبية خاصة لدى جمهور المستمعين والمشاهدين العالمي؟

عن هذا التساؤل تأتي عدة أجوبة: أولا أن الصادرات الثقافية الأمريكية لا تعكس إلا المستوى المتدني من الأنشطة الثقافية الأمريكية. فخلافا لأوروبا الغربية أدركت الولايات المتحدة باكرا أن الحضارة الرفيعة سوقها محدودة. ففيما تنفق وزارات الثقافة العليا في أوروبا الأموال الباهظة لدعم أفضل الفنانين والموسيقيين والشعراء والروائيين والمخرجين السينمائيين، تركت الولايات المتحدة الأمر إلى هوليوود وإلى وكالات الإعلان في نيويورك لتقرر ما هي المنتوجات الثقافية الأكثر قابلية للتسويق في العالم. ومع العلم أن في الولايات المتحدة شعراء وروائيين وفلاسفة ومخرجين سينمائيين من أعلى المستويات، فقد تبين لها أن رامبو وسوارزينغر ومادونا ومايكل جاكسون لهم أفضلية اقتصادية. إن النخبة الثقافية موجودة وجيدة في الولايات المتحدة وتلاقي دعما مقبولا من الدولة ومن مؤسسات المجتمع، ولكنها نخبة محدودة ومحصورة في الدوائر الفكرية وهي تدرك أن للثقافة المتدنية المستوى سوقا أوسع كثيرا من سوق الثقافة الراقية.

ثانيا، يبدو أن الثقافة الأمريكية قابلة للتسويق العالمي أكثر من بعض الثقافات الأخرى لأسباب محددة، منها:

(1) إن الولايات المتحدة بلد المهاجرين وهي بالتالي مكونة من مزيج عالمي من المجموعات العرقية والإثنية والدينية والثقافية؛ كما ليس لها هوية إثنية أو عرقية معينة وليس لها هوية تاريخية أو حضارية عميقة الجذور. لهذه الأسباب من الاسهل على أمريكا أن تسوق عالميا عما هو على ألمانيا مثلا أو اليابان أو بريطانيا أو فرنسا أو الصين أو إيطاليا أو إيران. بمعنى آخر، إنه من حيث العرق أو الإثنية أو الدين أو غيره، باستطاعة أي شخص في العالم أن يخال نفسه أمريكا؛ فهذا يعني، من ناحية التسويق، أنه يمكن استعمال الثقافة الأمريكية مطية للمنتجين والمسوقين العالميين للتعريف بمنتوجاتهم في العالم.

(2) لما كانت الولايات المتحدة بلد مهاجرين فمجتمعها منفتح نسبيا وكذلك ثقافتها وأنظمتها إذا ما قوبلت بكبار منافسيها في العالم. لقد استطاعت الولايات المتحدة الاستمرار باجتذابها وامتصاصها أناسا من مختلف أنحاء العالم، وباستثناء تجارة الرقيق الكثيفة من أفريقيا، قدم أكثر الوافدين إلى الولايات المتحدة بملء إرادتهم فامتصهم المجتمع والاقتصاد والنظام السياسي دون إبطاء وارتقى بعضهم إلى مراكز سياسية واقتصادية وحضارية رفيعة. هذا لم يحدث في شرق آسيا أو في أوروبا الغربية حيث لم يسبق أن شاهدت أي منها تجربة مشابهة من حيث حجم الوفادة أو الامتصاص، ذلك أنها مجتمعات وحضارات قديمة أقل تعددا وانفتاحا.

(3) ثمة صلة مهمة بين العصرنة والأمركة إذا صح التعبير. فالعصرنة التي نعيشها اليوم، أي في التسعينات في عالم الرأسمالية والثقافة الاستهلاكية وعالم الإعلان ودنيا المادة وتغيير الأزياء والعولمة والأسواق الواسعة، هي، متى ما فكر فيها المرء، شبيهة بأمريكا مأخوذة على مقياس واسع. وبغض النظر عن الأسباب التي جعلت عصرنة اليوم تتخذ هذا المنهج (أي، هل أنها نتيجة قوة أمريكا وانتصارها على الاتحاد السوفياتي وغيره من منافسيها، أم أنها النتيجة الطبيعية للتطور الاقتصادي والاجتماعي ولنمو طبقة وسطى ذات عقلية استهلاكية) في العالم هذه العصرنة انتهت بأن تكون شديدة الشبه بأمريكا. بكلام آخر فلئن كان من الممكن القول إن أمريكا لم تقولب العالم على صورتها، فقد يكون العالم متجها الآن في الاتجاه الذي سبق للولايات المتحدة أن توجهت إليه، وهي بالتالي ربما تمثل النمط الذي تسير نحوه شرائح كبيرة من أهل الأرض الذين يلجون عالم الطبقة الوسطى الاستهلاكية التطلع.

(4) استطاعت الولايات المتحدة، نظرا إلى مستوى المعيشة المرتفع فيها وإلى سعة أسواقها أن تطور في الخمسينات والستينات صناعة ثقافية واسعة موجهة إلى الشبان والأحداث الأمريكيين. ذلك أن لدى الشبان والأحداث في الولايات المتحدة مدخولا مهما ونظرا إلى غياب حاجات اقتصادية ملحة عندهم (لا إعالة أسر ولا منازل)، فهم بالتالي مستهلكون مثاليون لتسويق المنتوجات الثقافية. من هنا قامت في أمريكا صناعة ثقافية خاصة بالشبان (أهمها السينما والتلفزيون والموسيقى) لتغطية هذه السوق الواسعة والمربحة. ومع تحسن الأحوال الصحية في العالم ومع النمو الاقتصادي العالمي صار الشبان يؤلفون شطرا متزايد الحجم من سوق الاستهلاك العالمية؛ في هذا الوضع وجدت الولايات المتحدة نفسها على أنها القوة الاقتصادية الرئيسية الوحيدة التي تتوافر لديها صناعة ثقافية للشبان قادرة على التصدير الفوري، فسارعت إلى العمل في هذا المضمار وصارت اليوم تسيطر دون منازع على أسواق الاستهلاك الثقافي للشبان في العالم. وتأثيرها في ثقافة الشبان سيكون له أثر مستقبلي قوي، إذ أن شبان اليوم هو نخب وراشدو المستقبل، ووصول أمريكا إليهم في عمر الشبان سيعطيها أفضلية في التأثير فيهم عندما يصبحون راشدين ونافذين في مجتمعاتهم واقتصاداتهم.

(5) لئن كان الحجم الأكبر من الصادرات الثقافية الأمريكية من نوعية متدنية، فللثقافة الراقية الأمريكية مكانة مهمة ومهيمنة أيضا في مجال التعليم العالي والأبحاث في الجامعات الأمريكية وعلى نطاق عالمي أيضا. فمنذ قرابة المائة عام لم يكن هناك أي ريب في أن أعظم الجامعات كانت في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وأن الكليات الأمريكية كانت تعتبر تشبها متواضعا جدا بسابقاتها الأوروبيات. ولكن الصورة انقلبت في النصف الثاني من القرن العشرين. ففيما بقيت التربية في المدارس الثانوية ضعيفة، فالتعليم العالي، من خلال أكثر من 20 ألف جامعة ومعهد في الولايات المتحدة، بات في وضع قيادي دون منازع. فهيمنة الجامعات الأمريكية وانفتاحها أمام الطلاب الأجانب يعني أن أعدادا متزايدة من النخب في العالم تتخرج من الجامعات الأمريكية، حاملة معها ثقافة وطرائق التفكير والتصرف التي اقتبستها خلال سنوات الدراسة الجامعية. وبما أن هؤلاء الطلاب الأجانب يعودون إلى بلدانهم، وأكثرهم سيصبحون قادة كل في اختصاصه، فإن قدرتهم واسعة في التأثير في مجتمعاتهم حسب ما اكتسبوه من السنوات التي قضوها في الولايات المتحدة.

أخيرا، إن النواحي السياسية المتصلة بتصدير الثقافة الأمريكية لا يمكن تجاهلها. فبعد هزيمة الفاشية وانحسار الاشتراكية والشيوعية عادت الديموقراطية التمثيلية الليبرالية إلى الساحة على أنها الصيغة المثلى للتنظيم السياسي. ولئن كان الحزب الشيوعي الصيني لا يزال متمسكا بالسلطة وبمركزيته رغم تخليه عن الشيوعية الاقتصادية فإن معظم الدول الكبرى في العالم قد قبلت بالديمقراطية الليبرالية على أنها وحدها صيغة النظام السياسي القابل للاستمرار. وبعد الهجوم العنيف الذي سنه الاشتراكيون والماركسيون في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا الوسطى والجنوبية ودام عدة عقود، عاد زعماء وقادة ومفكرون، ولو على مضض إلى الرأي بأن الديموقراطية التمثيلية واقتصاد السوق تحت رعاية الدولة ربما كانا الشكل الأفضل لنظام اجتماعي ثابت ومزدهر. وقد استطاعت الولايات المتحدة وهي من رواد الديموقراطية التمثيلية في العالم استعادة بعض مما قد فقدته من رونق سياسي خلال الحرب الباردة، وأن تصبح مجددا نموذجا سياسيا قد يتمثل به بعض الدول الأخرى في العالم.

في الختام:

يبدو من خلال ما سبق أن الولايات المتحدة تشغل حاليا، وستبقى في العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، مركزا مهيمنا في النظام العالمي. ومع أن هذا الموضوع بالغ التعقيد ومتعدد الأوجه ولا يمكن إنجازه تفصيلا في دراسة مقتضبة كهذه، يبدو واضحا أن النفوذ الأمريكي في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد والثقافة الشعبية واسع ومتين، علما أن الولايات المتحدة معرضة للأخطار الداخلية وبوجه خاص في المجالين الاجتماعي والاقتصادي.

وعلينا نحن في أرجاء أخرى من العالم تحديد موقفنا من هذه الهيمنةالأمريكية ومواجهتها. وعلينا نحن في العالم العربي أن نقرر كيف سنواجه هذا التحدي على أبواب القرن الحادي والعشرين بأساليب يؤمل أن تكون أكثر نجاحا من تلك التي واجهنا بها حملة نابليون على مصر في العام 1798، أو تلك التي قابلنا بها انهيار الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى.

لا ريب في أننا ندخل عصرا جديدا وطورا جديدا وأننا ندخله وعندنا في العالم العربي عوائق قوية على الصعد السياسية والاقتصادية والحضارية. كيف سنتمكن من التغلب على مشاكلنا الداخلية في جميع هذه المجالات، ثم كيف سنواجه تحدي العالم الجديد الذي تهيمن الولايات المتحدة عليه والذي قد يتأثر بقوى عالمية أخرى سياسية واقتصادية وحضارية.

ليس في مقدورنا اختيار العالم الذي نولد فيه، وبما أن العالم يزداد تقلصا، علينا أن نجد مكاننا ودورنا فيه. دعونا في النهاية نأمل بأن يكون هذا التكامل العالمي الذي جاءت به العولمة سليما وذا طبيعة مغنية، وإلا يأخذ منحة صراع الحضارات كما تنبأ صاموئيل هنتنغتون. ودعونا نأمل أن تكون التحديات التي خلقتها العولمة حافزا لنا في العالم العربي ليستفيق من غفوته ولخلع أصفاد تجارب العقود الماضية.

ودعونا نعمل لكي لا تثنينا خلافاتنا وصراعاتنا مع الولايات المتحدة حول إسرائيل والسيطرة الأمريكية على النفط العربي وعلى غيرها من الأمور عن مواجهة تحديات العولمة ولكي نأخذ منها ما هو إيجابي ومفيد لنا من حيث الإصلاح الداخلي والتواصل العالمي.

الولايات المتحدة والعولمة

معالم الهيمنة في مطلع القرن الحادي والعشرين

بول سالم

مقدمة:

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أضحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في عالم يزداد تقلصا. مع تنامي التداخل ووسائل الاتصال والعولمة في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد وتبادل المعلومات والثقافة، ونظرا إلى دور الولايات المتحدة المركزي في معظم هذه المجالات بات من الصعوبة بمكان التمييز بين الحد الذي ينتهي عنده النفوذ الأمريكي والحد الذي تبدأ معه العولمة-سواء أكانت العولمة مجرد شكل من أشكال الأمركة العالمية، أم كانت فعلا ظاهرة مستقلة في ذاتها ستنحسر السيطرة الأمريكية عنها شيئا فشيئا في المستقبل المنظور.

في الواقع، قبل انهيار الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينات، ومع تزايد ديون وعجز ميزانية الولايات المتحدة في السبعينات، وبتزايد التحديات الاقتصادية من قبل دول شرق آسيا وأوروبا ودول أمريكا الجنوبية والوسطى ساد رأي مشترك خلال الثمانينات بين كبار الباحثين الغربيين أمثال بول كنيدي في كتابه صعود وهبوط القوى العظمى ودايفد كاليو في كتابه أبعد من السيطرة الأمريكية ووالتر روسل ميد في كتابه الأبهة الفانية، ساد بينهم رأي شبهوا الولايات المتحدة فيه بإمبراطورية هابسبورغ في إسبانيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، أو بالإمبراطورية الرومانية في سنواتها الأخيرة حيث استنزفت التزاماتها العسكرية الواسعة اقتصادها وحيويتها وأدخلتها على طريق التقهقر المؤكد والسريع. ولكن بانهيار الاتحاد السوفياتي وتراجع الاقتصاد الياباني ونجاح تحول الاقتصاد الأمريكي إلى اقتصاد خدماتي ومعلوماتي مرن على نحو عجزت أوروبا عن اقتفاء خطاه، أخذ الاختصاصيون يعيدون النظر في فرضياتهم ويعتبرون أن الولايات المتحدة ربما قد خرجت من أزمتها وأعادت تأمين موقع عالمي مسيطر لنفسها في القرن الحادي والعشرين.

ما هي عناصر هذه الهيمنة العالمية، وما هو حظها في الاستمرار، وما هي التحديات التي تواجهها، وكيف ينبغي على الدول والأمم والأقاليم الأخرى أن تتعاطى معها وأن تواجهها.

في هذه الدراسة سأقسم موضوع الولايات المتحدة والعولمة إلى ثلاث نواح، (أ) السياسة والأمن، (ب) الاقتصاد، (ج) الثقافة، آملا أن أقدم في كل قسم منها نظرة سريعة ولكن معبرة عن موقع الولايات المتحدة في كل منها. والمقصود من هذه الورقة هو أن تكون إطارا لفهم موقع الولايات المتحدة في عالم اليوم، وأساسا للتفكير بما يجب على الأمم والدول الأخرى فعله أمام موقع السيطرة الأمريكية.

أولا- السياسة والأمن: تحالفات عالمية عسكرية متعددة الوظائف.

الملفت حيال نظام التحالفات الأمريكية هو أن معظم هذه التحالفات عقدت مع أعداء سابقين (مثلا، ألمانيا واليابان) أو من أجل مواجهة أعداء ما عادوا أعداء (مثال، حلف شمال الأطلسي لمواجهة الاتحاد السوفياتي السابق؛ وتحالفات آسيوية لمواجهة الصين التي صارت دولة صديقة الآن)؛ ومع ذلك ما زال نظام التحالفات الأمريكية هذا قائما لا تبدو فيه أي دلائل تشير إلى تفككه. ففي تاريخ العالم كاد يصبح قانونا من قوانين العلاقات الدولية أنه كلما قامت دولة عظمى وحاولت فرض سلطتها وحرية تحركها في وجه تلك الدولة العظمى الصاعدة، ومن الأمثال على ذلك تحالف المدن الإغريقية للوقوف في وجه بروز أثينا كقوة إغريقية عظمى عقب هزيمة جيوش الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد؛ ومثلها التحالف الأوروبي ضد نابليون في القرن التاسع عشر، والتحالف في وجه ألمانيا الهتلرية في هذا القرن…الخ. فحسب هذا القانون التاريخي، كان من المتوقع قيام نظام من التحالفات في العالم، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، لتحدي قوة الولايات المتحدة والتوازن معها. التشبيه هنا بالإمبراطورية الرومانية والقول إنه لم يتكون ضد الرومان تحالف مضاد ليس تشبيها دقيقا نظرا إلى أنه في أيام الرومان وبعد سحق قرطاجة ومقدونيا لم يكن هناك أي مراكز قوى خليقة بأن تتألب لتحدي قوة روما.

أما في عالم اليوم فلدى أوروبا الغربية مجتمعة اقتصاد أضخم من الاقتصاد الأمريكي، ولدى روسيا ترسانة من الأسلحة النووية توازي الترسانة الأمريكية، ولدى اليابان أحد أكثر اقتصادات العالم تقدما، كما أن الصين والهند عملاقان يفيقان من سباتهما. من هنا كان بالإمكان أن يتألب بعض من هذه القوى على الأقل لإعادة التوازن إلى موازين القوى العالمية؛ ولكن ذلك لم يحصل. حقا، أعلنت روسيا والصين من بضعة أشهر نيتهما إقامة تحالف استراتيجي ولكن فضح بوريس يلتسين وجيانغ زيمنغ أمرهما بالحماسة الزائدة التي أظهرها لإقامة علاقات قوية بالولايات المتحدة خلال زيارة كل منهما لها فتبين أن علاقة كل من الصين وروسيا بالولايات المتحدة يفوق أهمية علاقة كل منهما بالآخر. كما تحاول فرنسا بانتظام تأليب حلفائها الأوروبيين ليؤدوا معا دور التوازن مع الولايات المتحدة، ولكن حلفاء فرنسا، أي الألمان والبريطانيين والإيطاليين وغيرهم من أصدقائها الأوروبيين، يمتنعون في أغلب الأحيان عن مجاراتها. في الواقع أن مجموعة صغيرة من البلدان العربية والإسلامية (إيران، العراق، ليبيا، وإلى حد أقل سوريا) وكذلك دول قليلة أخرى مثل كوبا وكوريا الشمالية، هي الدول الوحيدة اليوم التي تقاوم فعلا السيطرة الأمريكية.

فكيف استطاعت الولايات المتحدة تبوؤ مركز الهيمنة في أوروبا وآسيا وأفريقيا والأمريكيتين وما هو إطار سياستها الخارجية ونظامها التحالفي؟ يقول المحلل الألماني جوزف جوفي في دراسة حديثة إن الولايات المتحدة اتبعت سياسة خارجية مقتبسة عن الطرازين الأوروبيين هما طراز بريطانيا الاستعماري وطراز ألمانيا البسماركية. فالسياسة البريطانية الخاصة بأوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر قامت على منع قيام أي قوة تتحدى قوة بريطانيا، وذلك بتأليف وتأييد تحالفات إقليمية ضد أي متحد طالع. فقد رأى الاستراتيجيون البريطانيون في ذلك دور "الموازن" (Balancer Role) وأملى عليهم التدخل ضد بروز أي قوة عظمى أخرى من خلال تقديم دعم مالي وعسكري لخصوم تلك الدولة الصاعدة الأخرى. الاستراتيجية هذه ناسبت بريطانيا لأنها جزيرة ذات قوات برية محدودة ولكنها كانت تملك أسطولا بحريا ضخما أمن لها السيطرة على البحار وسمح لها إدارة توازنات إقليمية بمرونة حول العالم. اتبعت الولايات المتحدة استراتيجية مشابهة بتأييدها التحالفات المعادية لألمانيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبدعمها منظمة حلف شمال الأطلسي ضد الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة، وكذلك بتأييدها اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية ضد القوتين السوفياتية والصينية في أثناء الحرب الباردة أيضا، وبفرضها إسرائيل ضد العرب طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية…الخ. والولايات المتحدة، مثل بريطانيا الاستعمارية، تحميها المحيطات من جميع الجهات وليست بحاجة إلى استعمال جيوشها البرية استعمالا مباشرا إلا من وقت إلى آخر. لذلك ركزت على السيطرة على البحار وعلى الجو، وأخيرا على الفضاء أيضا. فعوضا من الدخول المباشر في الصراعات العسكرية فضلت الولايات المتحدة، على غرار بريطانيا، خيار السيطرة على البحار والجو والفضاء واستعمال سيطرتها هذه لخلق توازنات إقليمية في جميع أنحاء العالم ولمنع أي قوة إقليمية من النمو لتصبح خطرا عالميا على السيطرة الأمريكية.

إضافة إلى أسلوب "الموازن" البريطاني، اعتمدت الولايات المتحدة عنصرا من الاستراتيجية التي اعتمد عليها بسمارك بعد العام 1871 للحفاظ على قوة ألمانيا وتوسيعها في أوروبا ما بعد توحيد ألمانيا. كانت استراتيجية بسمارك إقامة علاقات تعاون قوي بجميع القوى الكبرى في أوروبا (باستثناء فرنسا) بحيث يكون للقوى الأخرى نفع من استمرار صداقتها مع ألمانيا يفوق ما يمكنها الحصول عليه من قطع تلك الصداقة والانضمام إلى تحالف معاد لها. وسعى بسمارك في خلال استراتيجيته هذه نسج شبكة من المصالح العسكرية والسياسية والاقتصادية يكون مركزها برلين بحيث تكون مصالح البلدان الأخرى مرتبطة مركزيا بحسن علاقاتها ببرلين، وبالتالي فأي تفكير في الابتعاد من برلين أو الخلاف معها سيكون باهظ الثمن. يمكن وصف هذه السياسة على أنها سياسة وقائية بمعنى أنها تسعى لاستمرارية النفوذ عن طريق إزالة الحوافز للانقلاب ضد القوة المركزية وبالتالي توفر على القوة المركزية المسيطرة ضرورة الدخول بحروب مباشرة لفرض نفوذها.

بعد الحرب العالمية الثانية سارت الولايات المتحدة (كما سار الاتحاد السوفياتي قبل انهياره) على خطى بسمارك محاولة جعل نفسها مركز علاقات العالم السياسية والدبلوماسية والأمنية والاقتصادية والثقافية بإقامة علاقات قوية بعدد كبير من البلدان في العالم، بحيث صار لمعظم تلك البلدان فائدة من حسن علاقاتها بالولايات المتحدة (أو الاتحاد السوفياتي) تفوق ما يمكن أن تحصله من الصراع ضدها. وبهذه الطريقة بات من الصعب جدا الانضمام إلى أي منظومة عالمية من العلاقات السياسية والاقتصادية دون المرور بواشنطن أو موسكو والحصول على الموافقة الأمريكية أو السوفياتية. فبالنسبة إلى الولايات المتحدة ليس من باب المصادفة أن تكون الأمم المتحدة في نيويورك ولا أن تكون واشنطن مقر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. كما لا يجوز التقليل من أهمية الزج المتواصل للبيت الأبيض ووزارة الدفاع ووزارة الخارجية الأمريكية في السياسة العالمية.

قبل انهيار الاتحاد السوفياتي كان في العالم مركزان للقوة العالمية أحدهما في واشنطن والآخر في موسكو. أما الآن فليس هناك سوى مركز واحد. ومنذ أن طبقت الولايات المتحدة مخطط مارشال في أوروبا وثمرت أموالا ضخمة في شرق آسيا، اتبعت واشنطن سياسة استعمال مواردها المالية والعسكرية لخلق حلفاء لها أقوياء ويمكن الاعتماد عليهم يفيدون من علاقاتهم بها ويتعرضون لخسائر كبيرة إن هم نقضوا الحلف. أسلوب الجزرة هذا فضل على غيره في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية لأنه يحول دون اللجوء إلى الحرب وما يترتب عليها من تضحيات مادية وبشرية.

على الرغم من ذلك كله أنشأت الولايات المتحدة قوة عسكرية ضخمة لردع دول أخرى ولاستعمالها في الحرب عند الضرورة. وكانت الولايات المتحدة في بدايتها ذات نزعة انعزالية مطبوعة على عدم الدخول في حروب عالمية، وعلى الأخص الأوروبية منها، إلا أنها اضطرت إلى الذهاب إلى أبعد من دور "الموازن" والانخراط في تدخل عسكري ضخم في أوروبا في الحرب العالمية الأولى، ثم في أوروبا وفي شرق آسيا في الحرب العالمية الثانية. ومع تنامي مصالحها الاقتصادية في أنحاء العالم، ومع وجود تهديدات قوية من قبل أوروبا بقيادة ألمانيا الموحدة ومن قبل آسيا بقيادة اليابان، أو من قبل أوروبا التي كان يمكن أن تقع تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي قررتالولايات المتحدة إقامة قوة عسكرية على أساس حرب عالمية محتملة. خلال الحرب الباردة ركزت الولايات المتحدة على إمكان مواجهة قوة المعسكر السوفياتي فقط، ولكنها تحولت لاحقا إلى إنشاء قوة عسكرية قادرة على أن تضمن لها السيطرة العسكرية حول العالم. كان العمود الفقري لهذه القوة ترسانة نووية ضخمة قادرة على ردع الاتحاد السوفياتي أو أي متحد آخر. أما في ما يتعلق بالقوة غير النووية، ركزت الولايات المتحدة على تنمية سيطرتها على البحار بتقوية سلاحها البحري على نطاق واسع، وتوسيع سيطرتها على الجو ثم على الفضاء عن طريق إنفاق مذهل على سلاح الجو وعلى برامج الفضاء العسكرية. هذه الفروع من القوى العسكرية يدعمها جيش بري صغير نسبيا منتشر في أوروبا وكوريا الجنوبية واليابان، وفي ما خلا ذلك متمركز ضمن حدود الولايات المتحدة مكتفيا بأن تفرض أنواع القوة العسكرية والسياسية الأخرى إرادة الولايات المتحدة في أنحاء العالم. وفي الواقع وفي المرات الثلاث التي دعت الحاجة إلى اشتراك قوات برية أمريكية في حروب مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية (الحرب الكورية والحرب الفيتنامية وحرب الخليج الثانية) لم ينجح سوى اثنين من العمليات الثلاث.

تتألف القوة العسكرية الأمريكية حاليا من ثلاث فروع متساوية هي الجيش والبحرية والطيران وفي كل منها قرابة الـ500 ألف جندي. الإنفاق العسكري الحالي يقارب 270 مليار دولار في السنة بانخفاض قرابة الثلث عما كان عليه إبان الحرب الباردة. واستراتيجية العسكريين العامة هي استراتيجية "التورط العالمي" ((Global Engagement أو الهيمنة العالمية وغايتها أن تؤمن قدرة أمريكا على السيطرة على جميع المسارب البحرية والجوية والفضائية عند الحاجة، ولتمكنها عقب انهيار الاتحاد السوفياتي من الفوز في حربين إقليميتين في آن معا (في العراق وفي كوريا الشمالية على سبيل المثال). لدى الولايات المتحدة حاليا قوات منتشرة في أوروبا الغربية وكوريا الجنوبية واليابان، وقوات أقل شأنا في باناما وهندوراس وكوبا وبرمودا وإيسلندا والسعودية والكويت وقطر وسنغافورة واستراليا. أما في القارة الأمريكية وسطا وجنوبا فقد سيطرت على المنطقة منذ القرن التاسع عشر عبر مزيج من التدخلات العسكرية والسياسية والاقتصادية. وبعد إطاحة أنظمة الحكم المعادية لها في تشيلي وهندوراس ونيكاراغوا، لم يبق سوى كوبا تتحدى القوة الأمريكية مكافحة من أجل إلقاء في وجه الحصار الاقتصادي الأمريكي الذي أدى بالشعب الكوبي إلى حافة المجاعة.

وفي أوروبا يبدو أن السباق على القوة قد انتهى عقب انهيار الاتحاد السوفياتي. فحلف وارسو لفظ آخر أنفاسه وأخذ حلف شمال الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة يتوسع شرقا؛ ففي مؤتمر مدريد في شهر تموز/يوليو 1997 قبلت المنظمة مبدئيا عضوية بولندا وجمهورية تشيكيا والمجر، علما أن عددا من البلدان الأخرى في أوروبا الوسطى تتلهف للانضمام إليه. وعن روسيا صدرت بعض التحفظات في شأن توسع الحلف، ولكن روسيا نفسها طلبت أن يكون لها دور في الحلف العسكري الغربي. وفي شرق آسيا للولايات المتحدة تحالفات قوية مع اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، كما تسعى للتفاهم مع القوة الصينية دون استعداد حلفائها الآخرين. وقياسا على الزيارة المليئة بالحيوية التي قام بها جيانغ زيمن أخيرا للولايات المتحدة يبدو أن العلاقات الصينية-الأمريكية سائرة نحو تحسن ملحوظ. تبقى كوريا الشمالية الدولة الوحيدة في شرق آسيا المناهضة بثبات للنفوذ الأمريكية، أما في جنوب شرقي آسيا فقد تحولت الخلافات المريرة السابقة مع فييتنام ولاووس وكبوديا إلى تعاون واضح، أما في جنوب آسيا فإن غزل الهند مع الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة وفي ضوء الخلاف الهندي الباكستاني، قد أصبح في ذمة التاريخ وبات فريقا الخلاف الهندي والباكستاني قريبين من الولايات المتحدة.

وفي جنوب الصحراء الأفريقية صارت الخلافات التي قسمت القارة الأفريقية -أي الحرب الأهلية والثورات على سيطرة البيض في روديسيا وفي جنوب أفريقيا ما قبل نلسون منديلا- جزءا من الماضي. وبانتهاء الحرب الباردة لم يعد للولايات المتحدة رهان عسكري في أفريقيا. وبنجاح الثورات ضد سيطرة البيض، لم تعد الولايات المتحدة مجبرة على الانحياز إلى فريق من الأفرقاء وأخذت تعمل على إقامة علاقات قوية بمعظم الدول الرئيسية في أفريقيا واستعمال شتى أساليب لإبعاد مبعدة بذلك نفوذ فرنسا وغيرها من القارة. ولا تواجه الولايات المتحدة أي تحد جدي لسيادتها إلا في العالم العربي الإسلامي. وعلى الرغم من علاقاتها الوطيدة بالمغرب وتونس ومصر والسعودية والدول الصغيرة الخليجية، فلا يزال العراق وإيران وليبيا، وإلى حد ما السودان وسوريا، تتحدى القوة الأمريكية. هذا التحدي العربي الإسلامي له خطره الخاص على الولايات المتحدة لسببين: أولا إنه قائم في منطقة حيث توجد أضخم الاحتياطات النفطية اللازمة للقرن الحادي والعشرين وبالتالي فإن الذي يسيطر على ذلك النفط يكون له سلطة كبيرة على الاقتصاد والقوة في العالم طوال القرن المقبل؛ ثانيا إن هذا التحدي قائم من ضمن سياق تحد أيديولوجي ديني متماسك وله أصداؤه في أرجاء العالم الإسلامي في أفريقيا وآسيا وكذلك في المجتمعات الإسلامية المهاجرة في أوروبا وأمريكا الشمالية. فإن التحدي الإسلامي هذا مثل أكثر التحديات جدية للسيطرة الغربية الثقافية وغيرها السائدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتراجع الفكر الاشتراكي والشيوعي. فقد شدد الباحث الأمريكي صاموئيل هنتنغتون في كتاباته الأخيرة على أن هذا الخطر الديني هو الأشد الذي يواجه الولايات المتحدة والغرب في السنوات المقبلة.

وعلى الرغم من ذلك يبقى الوضع العسكري الأمريكي في نهاية القرن العشرين على مستوى لم يسبق له مثيل من حيث التفوق. فأول مرة بعد الحربين العالميتين والحرب الباردة تكون الولايات المتحدة مرتاحة لعدم وجود خطر رئيسي منظور يهدد أمنها أو سيطرتها على العالم. والتهديد العراقي يبقى ذا طبيعة إقليمية، في حين لا توجد أي مواجهات ناشطة في المناطق الأخرى. وفي الواقع ظهر التفوق الأمريكي على نحو واضح من خلال حرب الخليج ضد العراق حيث أجرت الولايات المتحدة أولى تجاربها وعرضت الأساليب القتالية بالتقنية الرفيعة وبالفيديو. إننا نشاهد اليوم تغيرا في التقنية العسكرية له من العمق ما كان للتحول عن الجيوش الراجلة إلى استعمال الخيالة أو إلى استعمال البارود أول إلى مكننة المدفعية الثقيلة أو إلى دخول الطيران ساحات القتال. فالحاسوب والفيديو، والمكننة، والقنابل الذكية وأشعة لايزر وتقنية الانسلال (Stealth) والاتصالات العالمية جعلت الأكثرية الكبرى من جيوش العالم -جيوش الحرب العالمية الثانية بعد تحديثها- جيوشا عتيقة الطراز. وقد اتضح ذلك جيدا خلال حرب الخليج، الأمر الذي عزز اقتناع الولايات المتحدة بزيادة اتفاقها على تقننة قواتها العسكرية. ونظرا إلى كون الولايات المتحدة على رأس الدول في هذه الأبحاث التقنية العسكرية ونظرا إلى إنفاق المبالغ الطائلة عليها وعدم إشراك أي من حلفائها فيها فضلا عن منع دول أخرى من تطوير أسلحة مماثلة، فلا عجب من أن يزداد تفوق الولايات المتحدة العسكرية على القوى العسكرية في الدول الأخرى ويتوسع الفرق بين هذه وتلك عوضا من أن يتقلص. لم نشاهد حتى الآن النتائج الكاملة لهذا الفرق العسكري المتنامي؛ ولكن، النتائج ستتضح في أول عقدين من القرن المقبل. فهل ستتبدد هذه التقنية والقوة العسكرية أم أن البنتغون سيبرز على أنه الميليشيا العالمية دون منازع؟

مقابل هذا التفوق العسكري الشامل يبقى الخطر، وفق مزاعم الاختصاصيين الأمنيين الأمريكيين وبعض الكتاب في الأمور الاستراتيجية، الذي يهدد الأمن هو خطر عمل منعزل تخريبي نووي أو بيولوجي أو كيميائي تقوم به دولة عدوة أو منظمة عالمية سرية بواسطة تهريب وسيلة كهذه إلى داخل الولايات المتحدة أو رشقها بها بواسطة قذيفة باليستية. وهذا بات من أهم المخاوف بعد تفكك ترسانة الأسلحة السوفياتية النووية، وفي ضوء محاولة دول خارج السيطرة الأمريكية (مثل العراق وغيران وكوريا الشمالية) تطوير قدرات نووية وبيولوجية وباليستية، وفي ضوء تقصير المعاهدات الدولية في منع انتشار، ولو جزئي، لأسلحة الدمار الشامل. في وجه هذا الخطر تسير الولايات المتحدة قدما في تطوير جهاز دفاعي مضاد للقذائف الباليستية وتعمل على تقوية منظومات أقمارها الصناعية الخاصة بالمراقبة والتجسس، وتحاول دحر هذه الحفنة من البلدان التي لا تزال خارج نطاق نفوذها عبر استعمال وسائل الضغط الاقتصادي والسياسي ومن حين إلى آخر العسكري.

مع ذلك فإن الولايات المتحدة تدخل القرن الحادي والعشرين وهي في موقع سياسي وعسكري مركزي في العالم على الرغم من وجود تهديدات بسيطة لأمنها وتحديا هامشية على صعيد السياسة الدولية.

ثانيا - العناصر الاقتصادية: الرأسمالية العالمية.

في العام 1941 بدت الولايات المتحدة وكندا وكأنهما آخر دولتين رأسماليتين في العالم قادرتين على الاستمرار. فقد استولت تجارب متنوعة من الأحكام الشيوعية والاشتراكية والاشتراكية الديموقراطية والفاشية على السلطة في أماكن أخرى من العالم وبدا أن الرأسمالية المتبقية من القرن التاسع عشر سائرة نحو الاحتضار السريع. وعلى الرغم من عودتها إلى الساحة بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة هزيمة ألمانيا النازية وبسبب تحول أوروبا الغربية واليابان بفعل النفوذ الأمريكي، كانت الاشتراكية والشيوعية في أوائل الستينات تسيطران على معظم أوروبا الوسطى والشرقية وآسيا والشرق الأوسط وأفريقيا، كما بدا النمو الاقتصادي السوفياتي أسرع من النمو الأمريكي. ولكن خلال السبعينات والثمانينات تقهقرت الاشتراكية والشيوعية، وبحلول التسعينات بدت الرأسمالية وكأنها نظام التعامل الاقتصادي دون منازع. كان من شأن هذا الفوز الأخير أن أعلن بعض المراقبين الأمريكيين مثل فرانسيس فوكوياما نهاية التاريخ، بمعنى أنه بعد قرنين من التناقض والخلاف بين الرأسمالية والاشتراكية بدت الرأسمالية فائزة بالصراعحاسمة بذلك، حسب زعمه، الجدل التاريخي حول النظام الاقتصادي الأنسب للبشرية.

لقد أدت الولايات المتحدة دورا رئيسا في دعمها للرأسمالية وفي ظفر هذه الأخيرة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ففضلا عن كونها طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أكبر سوق وأكبر دولة مصدرة في العالم جعلت الولايات المتحدة من بناء اقتصاد عالمية رأسمالي حجر أساس في توجهها على الصعيدين السياسي والاقتصادي الدولي. ولما كانت أكبر دولة مصدرة، لها مصلحة إذا في الإنماء الاقتصادي على الصعيد العالمي لكونه يغذي نموها الاقتصادي. وكي تحافظ على أنظمتها ومؤسساتها الرأسمالية في وجه التهديدات التي تكونها أنظمة اجتماعية اقتصادية أخرى، وأهمها الشيوعية السوفياتية، أنفقت الكثير على انتشار اقتصادات رأسمالية في بلدان أخرى، وعلى الأخص في عدويها السابقين ألمانيا واليابان، وفي بلدان أخرى في أوروبا الغربية وفي شرق وجنوب شرقي آسيا. فإضافة إلى مشروع مارشال في أوروبا الغربية وإلى المساعدات الضخمة التي قدمتها إلى شرق آسيا، استعملت الولايات المتحدة مساعداتها الخارجية لمناطق أخرى في العالم النامي تعزيزا للمؤسسات والاقتصادات الرأسمالية حيثما أمكن ذلك.

رافق هذه الجهود إقامة مؤسسات اقتصادية رأسمالية على نطاق عالمي نتيجة اجتماعات بريتون وودز (Bretton Woods) عام 1947 مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي واتفاقية الغات (GATT) وغيرها من المؤسسات الاقتصادية العالمية التي تسيطر عليها أمريكا، هذا فضلا عن عشرات الاتفاقات التجارية الثنائية أو متعددة الأطراف مع مختلف دول العالم. ولا ريب في أن الاستراتيجية الاقتصادية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية استراتيجية ذات طابع عالمي علما بأنها لم تشمل جزءا من العالم ما دامت هناك أنظمة اشتراكية وشيوعية كانت لا تزال في قيد الحياة؛ وبزوال معظمها في السنوات الماضية استطاع النظام الرأسمالي أن يتحول إلى نظام عالمي حقا.

واستعملت الولايات المتحدة سوقها الداخلية الواسعة في خدمة استراتيجيتها الدولية، بحيث بكرت في فتحها أمام حلفائها الجدد مثل ألمانيا واليابان وتايوان وكوريا الجنوبية لمساعدتها على النهوض باقتصاداتها، وذلك من أجل بعث استراتيجية إنمائية قوية يكون التصدير قوتها الدافعة. ولئن خلق ذلك عجزا تجاريا جديا للولايات المتحدة فقد خدم أيضا مصالحها الدولية الرامية إلى خلق دول رأسمالية حليفة وقوية في أنحاء عدة من العالم وجعل اقتصادات تلك البلدان مرتبطة بالاقتصاد الأمريكي وتابعة له.

عقب ما سببته الحرب العالمية الثانية من دمار برز الاقتصاد الأمريكي كقوة مهيمنة في الاقتصاد العالمي. وقد استعملت الولايات المتحدة موقعها القوي هذا بعد الحرب لخلق حلف دولي سياسي واقتصادي على أساس مساعدة ألمانيا واليابان وفي محاولة لأحداث نمو سريع في أوروبا الغربية وفي شرق وجنوب شرق آسيا لمواجهة التهديدات السوفياتية والصينية. تحققت منذ الخمسينات مستويات عالية من النمو في تلك المناطق وقابلها ورافقها مستويات عالية أيضا من النمو في الاتحاد السوفياتي. ومع بداية تراجع الأداء الاقتصادي السوفياتي في أواخر الستينات، أخذ تحد اقتصادي جديد يذر بقرنيه في شرق وجنوب شرق آسيا على شكل سلع تصديرية رخيصة الثمن ورفيعة الجودة أخذت تغرق السوق الأمريكية وتهدد بخلق عجز جدي في الميزان التجاري. وازدادت مشكلة الولايات المتحدة هذه بسبب ارتفاع أسعار النفط عام 1973 و 1974 وبالصعوبات التي رافقت التحول من اقتصاد صناعي إلى آخر قائم على الخدمات والتقنية في حقل الإعلام والمعلومات. وقد استطاعت الولايات المتحدة، على الرغم من المشاكل الجدية التي واجهت اقتصادها في السبعينات والثمانينات أن تتحمل عجزا ضخما في ميزانها التجاري وأجرت إعادة بنيان لاقتصادها، واستعادت في أوائل التسعينات المبادرة في القوة الاقتصادية. وفيما لا تزال أوروبا الغربية تقاوم ارتفاع كلفة الإنتاج فيها وارتفاع البطالة وعوائق أخرى، وفيما اليابان تفوق حصتها في الأسواق في صناعتي السيارات والكومبيوتر الهامتين وأعادت تأكيد موقعها على أنها أكبر سوق وأكبر دولة مصدرة في العالم. ولعل الأهم أنها بإنفاقاتها وبتفوقها في الأبحاث في حقل التقنية الرفيعة والتطوير وضعت نفسها في موقع جيد يخولها الاستمرار في السيطرة على الأسواق العالمية لبرامج الحاسوب وشبكة الاتصالات العالمية (انترنت) في مطلع القرن الحادي والعشرين.

مع ذلك فإن موقع الولايات المتحدة القوي في الاقتصاد العالمي ليس مطلقا على مستوى مناعة موقعها العسكري، بكلام آخر، ولئن كان من الصحيح إن إطار الأمن السياسي الدولي ذو قطب واحد فإن الاقتصاد العالمي متعدد الأقطاب. فمجمل اقتصاد أوروبا الغربية أضخم من الاقتصاد الأمريكي وكذلك هو اقتصاد منطقة شرق وجنوب شرق آسيا بوجه عام. كما أن الاقتصاد الأمريكي لايزال يواجه مشاكل جدية قد تهدد نموه في المستقبل. ومن هذه المشاكل العجز في الميزان التجاري، وعلى الأخص مع شرق آسيا، البالغ قرابة 160 مليار دولار في السنة، وديون دولية متراكمة تربو على الألف مليار دولار. وكانت الولايات المتحدة قد اعتمدت التسامح تجاه العجز التجاري على أنه جزء من استراتيجياتها الرامية إلى تقوية حلفائها الرأسماليين عقب الحرب العالمية الثانية. ولكن حجم وثبات العجز أبقى الضغط على الدولار الأمريكي وبقي ينطوي على خطر التسبب في انخفاض مفرط في قيمة الدولار. لقد استطاع الدولار الحفاظ على مركز قوي نظرا إلى ثقة المستثمرين بالاقتصاد الأمريكي وإلى غياب عملة بديلة قادرة على الاستمرار، ولأن اقتصادات شرق آسيا يهمها بقاء الدولار قويا لتنشيط صادراتها. إلا أن استمرار العجز مشفوعا بنمو الاقتصاد الصيني نموا سريعا، علما أن الصين تصدر سلعا كثيرة إلى الولايات المتحدة، قد يكون له تأثيرات مدبرة في الدولار وكذلك في اقتصادات شرق آسيا نفسها التي تعتمد على التصدير إلى الولايات المتحدة وعلى أسواق المال العالمية. لقد أدى العجز في الميزان التجاري إلى توسع الاستثمارات الأجنبية، وخصوصا اليابانية منها، في الولايات المتحدة، وكذلك إلى شراء شطور كبيرة من الاقتصاد الأمريكي ومنها العقارات والمؤسسات الصناعية والخدماتية. كما أن الدين الخارجي البالغ ألف مليار دولار والمتوجب في أكثره لليابان، يفرض نزفا مستمرا على الميزانية العامة ويحول دون توظيف موارد مهمة في الاقتصاد وفي الأنشطة الإنتاجية. ولئن كان بالإمكان تحمل هذا الدين نظرا إلى الناتج القومي الأمريكي الذي يربو على السبعة آلاف مليون دولار، يبقى هذا الدين معيقا للنمو السريع.

ثمة عامل آخر يهدد قدرة أمريكا على تمويل النمو، هو المستوى المتدني للادخار فيها مقابلة ببلدان أخرى متطورة. ونظرا إلى التشديد على الاستهلاك والاقتراض وإرضاء رغبات المستهلك بسرعة نرى أن نسبة الادخار الأمريكي تعادل نصف نسبته في اليابان ولا تتجاوز ثلثيها في ألمانيا. إن مستويات الادخار المتدنية تهدد القدرة على التثمير اللازم في البنية التحتية وفي التنمية، كما تهدد القدرة على اتخاذ الإجراءات المناسبة للمستقبل.

المجالات الأخرى حيث ستواجه الولايات المتحدة فيها مصاعب اقتصادية تتضمن انخفاض نوعية ومستوى التثمير في التعليم والتدريب، ذلك أن الاقتصاد في المستقبل سيزداد اتكالا على قوة عاملة رفيعة الثقافة والتدريب، إلا أن نظام التدريس والتدريب الأمريكي، دون مستوى الجامعة، هو من الأضعف في العالم المتقدم. وعلى الرغم من تشديد إدارة كلينتون على التربية لكونها الطريق المؤدي إلى النمو في المستقبل فإن لا مركزية التعليم في الولايات المتحدة قد حالت دون حصول تقدم سريع ودرامي. ويزيد من تعقيد هذه المشكلة توزيع الثروة الذي يشكو عدم المساواة، وهذا التوزيع هو أيضا من الأسوأ في العالم المتقدم. وعلى الرغم من المكاسب التي تحققت في هذا المضمار في سنوات الستينات والسبعينات كان النمو في الثمانينات قليل التساوي وأفاد فيها فقط العشرون في المائة الأغنى من الشعب الأمريكي، فيما ازداد الفقراء ورأت الطبقات الوسطى قدرتها الشرائية تتضاءل. واستمرار وجود الفقر في الولايات المتحدة مقرون بنظام تربوي ضعيف يهدد بتوسيع الطبقات المحرومة التي لا يستهان بإعدادها في الولايات المتحدة، وهي أيضا بعيدة من الاقتصاد المنتج وتهدد أيضا بتفاقم العنف والانحلال الاجتماعي والسياسي، وخصوصا في كبريات المدن الأمريكية مثل نيويورك وواشنطن وشيكاغو ولوس أنجلس.

وفي مطلق الأحوال ستبقى الولايات المتحدة قادرة على الاستمرار في تأدية دور مركزي في الاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين. فالاقتصاد الرأسمالي العالمي الذي صممته وروجت له بعد الحرب العالمية الثانية يبدو على أنه مسيطر، والولايات المتحدة، على الرغم مما لها من منافسين أقوياء في أنحاء العالم، لا تزال الأقوى بينها، ولا تزال تتحكم بالكثير من المؤسسات الاقتصادية ومؤسسات التجارة العالمية وتسيطر عبر الخليج العربي على المصادر الرئيسية للطاقة اللازمة للاقتصاد العالمي والأهم من ذلك لزومها (الطاقة) لاقتصادات كبار منافسي الولايات المتحدة مثل اليابان وألمانيا، ولما كان الاقتصاد الأمريكي قد تحول عن الصناعة إلى الصيرورة اقتصادا خدماتيا فقد بات على كبار منافسيها في أوروبا وفي شرق آسيا مواجهة هذا التحدي. ومع ذلك، ونظرا إلى كون الولايات المتحدة أكبر دولة مصدرة في العالم فذلك يعني أن لها المصلحة الكبرى في إنماء الاقتصاد العالمي وإرساء الاستقرار العالمي. لذلك فإن سياستها العامة المنبثقة من مصالحها الاقتصادية الذاتية قد تستمر في العمل على تقوية الرأسمالية العالمية كي تكون أساسا للصادرات الأمريكية، وقد تستمر أيضا سياستها الرامية إلى إحلال السلم الأمريكي توفيرا لسوق عالمية ضرورية لعافية الاقتصاد الأمريكي.

 

ثالثا - العنصر الثقافي: هوليوود ومايكل جاكسون.

من أكثر ما يلفت الانتباه من ظواهر العولمة المدى الذي بلغته الثقافة الشعبية الأمريكية (Popular Culture) من الانتشار والسيطرة على أذواق الناسفيالعالم. فالموسيقى الأمريكية والتلفزيون والسينما، من مايكل جاكسون إلى رامبو إلى دلاس، أصبحت منتشرة في مختلف أنحاء العالم، كما أن النمط الأمريكي في اللباس والأطعمة السريعة وغيرها من السلع الاستهلاكية انتشرت على نطاق عالمي واسع، وبالأخص بين الشباب. إضافة إلى ذلك تسير اللغة الإنكليزية، وخصوصا اللهجة الأمريكية، نحو الصيرورة لغة عالمية. ما هي بعض أسباب هذا النفوذ الثقافي الواسع؟

أولا، إن سيطرة الاقتصاد الأمريكي بوصفه سوقا مستوردة ومصدرة واعتماد اقتصادات أخرى على الاستهلاك في الولايات المتحدة إضافة إلى هيمنة شركات الإعلان الأمريكية على التسويق العالمي، كل ذلك أدى إلى صيرورة أساليب الدعاية والتسويق الأمريكية عالمية الاتساع. ولما كان للإعلان والتسويق دور أساسي في قولبة الأذواق والأزياء في العالم الرأسمالي الحالي، فإن الاتجاهات والميول والأزياء التي تأتي بها كبرى بيوتات الإعلان والتسويق، والسلع التي تدفع بها الشركات العالمية الكبرى ينتهي بها الأمر لأن يكون لها تأثير كبير في توجيه الأذواق عالميا وفي قولبة الرموز الثقافية الناشئة.

ثانيا، للولايات المتحدة تفوق واضح على منافسيها الاقتصاديين في المجالات الثقافية الشعبية وعلى الأخص في صناعتي الأفلام والموسيقى. فقد سبق لهما أن نمتا تلبية لحاجة سوق داخلية ضخمة ولكنه تبين لمسوقي الأفلام والموسيقى أن لهذين المنتوجين سوقا خارجية لا تقل أهمية عن السوق الداخلية، فراحوا يسوقونها عالميا. تزامن ذلك مع انتشار التلفزيون في مختلف أنحاء العالم هذا فضلا عن البث التلفزيوني بالأقمار الصناعية. وقد تمكنت الولايات المتحدة من استغلال قوتها في الإنتاج الفني التلفزيوني وفي الصناعة الترفيهية وشركات الأقمار الصناعية فدخلت كل بيت على وجه الأرض وأثرت في كل فرد.

ولكن ينبغي أن نسأل أيضا ما هو سبب الإقبال على هذه الصادرات الثقافية؛ فمن الصعب أن نتصور إقبالا مماثلا على صادرات ثقافية يابانية حتى ولو كان اليابانيون يسيطرون على صناعة السينما والتلفزيون والموسيقى. فهل في الصادرات الثقافية الأمريكية بعض العناصر التي تجعلها ذات جاذبية خاصة لدى جمهور المستمعين والمشاهدين العالمي؟

عن هذا التساؤل تأتي عدة أجوبة: أولا أن الصادرات الثقافية الأمريكية لا تعكس إلا المستوى المتدني من الأنشطة الثقافية الأمريكية. فخلافا لأوروبا الغربية أدركت الولايات المتحدة باكرا أن الحضارة الرفيعة سوقها محدودة. ففيما تنفق وزارات الثقافة العليا في أوروبا الأموال الباهظة لدعم أفضل الفنانين والموسيقيين والشعراء والروائيين والمخرجين السينمائيين، تركت الولايات المتحدة الأمر إلى هوليوود وإلى وكالات الإعلان في نيويورك لتقرر ما هي المنتوجات الثقافية الأكثر قابلية للتسويق في العالم. ومع العلم أن في الولايات المتحدة شعراء وروائيين وفلاسفة ومخرجين سينمائيين من أعلى المستويات، فقد تبين لها أن رامبو وسوارزينغر ومادونا ومايكل جاكسون لهم أفضلية اقتصادية. إن النخبة الثقافية موجودة وجيدة في الولايات المتحدة وتلاقي دعما مقبولا من الدولة ومن مؤسسات المجتمع، ولكنها نخبة محدودة ومحصورة في الدوائر الفكرية وهي تدرك أن للثقافة المتدنية المستوى سوقا أوسع كثيرا من سوق الثقافة الراقية.

ثانيا، يبدو أن الثقافة الأمريكية قابلة للتسويق العالمي أكثر من بعض الثقافات الأخرى لأسباب محددة، منها:

(1) إن الولايات المتحدة بلد المهاجرين وهي بالتالي مكونة من مزيج عالمي من المجموعات العرقية والإثنية والدينية والثقافية؛ كما ليس لها هوية إثنية أو عرقية معينة وليس لها هوية تاريخية أو حضارية عميقة الجذور. لهذه الأسباب من الاسهل على أمريكا أن تسوق عالميا عما هو على ألمانيا مثلا أو اليابان أو بريطانيا أو فرنسا أو الصين أو إيطاليا أو إيران. بمعنى آخر، إنه من حيث العرق أو الإثنية أو الدين أو غيره، باستطاعة أي شخص في العالم أن يخال نفسه أمريكا؛ فهذا يعني، من ناحية التسويق، أنه يمكن استعمال الثقافة الأمريكية مطية للمنتجين والمسوقين العالميين للتعريف بمنتوجاتهم في العالم.

(2) لما كانت الولايات المتحدة بلد مهاجرين فمجتمعها منفتح نسبيا وكذلك ثقافتها وأنظمتها إذا ما قوبلت بكبار منافسيها في العالم. لقد استطاعت الولايات المتحدة الاستمرار باجتذابها وامتصاصها أناسا من مختلف أنحاء العالم، وباستثناء تجارة الرقيق الكثيفة من أفريقيا، قدم أكثر الوافدين إلى الولايات المتحدة بملء إرادتهم فامتصهم المجتمع والاقتصاد والنظام السياسي دون إبطاء وارتقى بعضهم إلى مراكز سياسية واقتصادية وحضارية رفيعة. هذا لم يحدث في شرق آسيا أو في أوروبا الغربية حيث لم يسبق أن شاهدت أي منها تجربة مشابهة من حيث حجم الوفادة أو الامتصاص، ذلك أنها مجتمعات وحضارات قديمة أقل تعددا وانفتاحا.

(3) ثمة صلة مهمة بين العصرنة والأمركة إذا صح التعبير. فالعصرنة التي نعيشها اليوم، أي في التسعينات في عالم الرأسمالية والثقافة الاستهلاكية وعالم الإعلان ودنيا المادة وتغيير الأزياء والعولمة والأسواق الواسعة، هي، متى ما فكر فيها المرء، شبيهة بأمريكا مأخوذة على مقياس واسع. وبغض النظر عن الأسباب التي جعلت عصرنة اليوم تتخذ هذا المنهج (أي، هل أنها نتيجة قوة أمريكا وانتصارها على الاتحاد السوفياتي وغيره من منافسيها، أم أنها النتيجة الطبيعية للتطور الاقتصادي والاجتماعي ولنمو طبقة وسطى ذات عقلية استهلاكية) في العالم هذه العصرنة انتهت بأن تكون شديدة الشبه بأمريكا. بكلام آخر فلئن كان من الممكن القول إن أمريكا لم تقولب العالم على صورتها، فقد يكون العالم متجها الآن في الاتجاه الذي سبق للولايات المتحدة أن توجهت إليه، وهي بالتالي ربما تمثل النمط الذي تسير نحوه شرائح كبيرة من أهل الأرض الذين يلجون عالم الطبقة الوسطى الاستهلاكية التطلع.

(4) استطاعت الولايات المتحدة، نظرا إلى مستوى المعيشة المرتفع فيها وإلى سعة أسواقها أن تطور في الخمسينات والستينات صناعة ثقافية واسعة موجهة إلى الشبان والأحداث الأمريكيين. ذلك أن لدى الشبان والأحداث في الولايات المتحدة مدخولا مهما ونظرا إلى غياب حاجات اقتصادية ملحة عندهم (لا إعالة أسر ولا منازل)، فهم بالتالي مستهلكون مثاليون لتسويق المنتوجات الثقافية. من هنا قامت في أمريكا صناعة ثقافية خاصة بالشبان (أهمها السينما والتلفزيون والموسيقى) لتغطية هذه السوق الواسعة والمربحة. ومع تحسن الأحوال الصحية في العالم ومع النمو الاقتصادي العالمي صار الشبان يؤلفون شطرا متزايد الحجم من سوق الاستهلاك العالمية؛ في هذا الوضع وجدت الولايات المتحدة نفسها على أنها القوة الاقتصادية الرئيسية الوحيدة التي تتوافر لديها صناعة ثقافية للشبان قادرة على التصدير الفوري، فسارعت إلى العمل في هذا المضمار وصارت اليوم تسيطر دون منازع على أسواق الاستهلاك الثقافي للشبان في العالم. وتأثيرها في ثقافة الشبان سيكون له أثر مستقبلي قوي، إذ أن شبان اليوم هو نخب وراشدو المستقبل، ووصول أمريكا إليهم في عمر الشبان سيعطيها أفضلية في التأثير فيهم عندما يصبحون راشدين ونافذين في مجتمعاتهم واقتصاداتهم.

(5) لئن كان الحجم الأكبر من الصادرات الثقافية الأمريكية من نوعية متدنية، فللثقافة الراقية الأمريكية مكانة مهمة ومهيمنة أيضا في مجال التعليم العالي والأبحاث في الجامعات الأمريكية وعلى نطاق عالمي أيضا. فمنذ قرابة المائة عام لم يكن هناك أي ريب في أن أعظم الجامعات كانت في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وأن الكليات الأمريكية كانت تعتبر تشبها متواضعا جدا بسابقاتها الأوروبيات. ولكن الصورة انقلبت في النصف الثاني من القرن العشرين. ففيما بقيت التربية في المدارس الثانوية ضعيفة، فالتعليم العالي، من خلال أكثر من 20 ألف جامعة ومعهد في الولايات المتحدة، بات في وضع قيادي دون منازع. فهيمنة الجامعات الأمريكية وانفتاحها أمام الطلاب الأجانب يعني أن أعدادا متزايدة من النخب في العالم تتخرج من الجامعات الأمريكية، حاملة معها ثقافة وطرائق التفكير والتصرف التي اقتبستها خلال سنوات الدراسة الجامعية. وبما أن هؤلاء الطلاب الأجانب يعودون إلى بلدانهم، وأكثرهم سيصبحون قادة كل في اختصاصه، فإن قدرتهم واسعة في التأثير في مجتمعاتهم حسب ما اكتسبوه من السنوات التي قضوها في الولايات المتحدة.

أخيرا، إن النواحي السياسية المتصلة بتصدير الثقافة الأمريكية لا يمكن تجاهلها. فبعد هزيمة الفاشية وانحسار الاشتراكية والشيوعية عادت الديموقراطية التمثيلية الليبرالية إلى الساحة على أنها الصيغة المثلى للتنظيم السياسي. ولئن كان الحزب الشيوعي الصيني لا يزال متمسكا بالسلطة وبمركزيته رغم تخليه عن الشيوعية الاقتصادية فإن معظم الدول الكبرى في العالم قد قبلت بالديمقراطية الليبرالية على أنها وحدها صيغة النظام السياسي القابل للاستمرار. وبعد الهجوم العنيف الذي سنه الاشتراكيون والماركسيون في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا الوسطى والجنوبية ودام عدة عقود، عاد زعماء وقادة ومفكرون، ولو على مضض إلى الرأي بأن الديموقراطية التمثيلية واقتصاد السوق تحت رعاية الدولة ربما كانا الشكل الأفضل لنظام اجتماعي ثابت ومزدهر. وقد استطاعت الولايات المتحدة وهي من رواد الديموقراطية التمثيلية في العالم استعادة بعض مما قد فقدته من رونق سياسي خلال الحرب الباردة، وأن تصبح مجددا نموذجا سياسيا قد يتمثل به بعض الدول الأخرى في العالم.

في الختام:

يبدو من خلال ما سبق أن الولايات المتحدة تشغل حاليا، وستبقى في العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، مركزا مهيمنا في النظام العالمي. ومع أن هذا الموضوع بالغ التعقيد ومتعدد الأوجه ولا يمكن إنجازه تفصيلا في دراسة مقتضبة كهذه، يبدو واضحا أن النفوذ الأمريكي في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد والثقافة الشعبية واسع ومتين، علما أن الولايات المتحدة معرضة للأخطار الداخلية وبوجه خاص في المجالين الاجتماعي والاقتصادي.

وعلينا نحن في أرجاء أخرى من العالم تحديد موقفنا من هذه الهيمنةالأمريكية ومواجهتها. وعلينا نحن في العالم العربي أن نقرر كيف سنواجه هذا التحدي على أبواب القرن الحادي والعشرين بأساليب يؤمل أن تكون أكثر نجاحا من تلك التي واجهنا بها حملة نابليون على مصر في العام 1798، أو تلك التي قابلنا بها انهيار الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى.

لا ريب في أننا ندخل عصرا جديدا وطورا جديدا وأننا ندخله وعندنا في العالم العربي عوائق قوية على الصعد السياسية والاقتصادية والحضارية. كيف سنتمكن من التغلب على مشاكلنا الداخلية في جميع هذه المجالات، ثم كيف سنواجه تحدي العالم الجديد الذي تهيمن الولايات المتحدة عليه والذي قد يتأثر بقوى عالمية أخرى سياسية واقتصادية وحضارية.

ليس في مقدورنا اختيار العالم الذي نولد فيه، وبما أن العالم يزداد تقلصا، علينا أن نجد مكاننا ودورنا فيه. دعونا في النهاية نأمل بأن يكون هذا التكامل العالمي الذي جاءت به العولمة سليما وذا طبيعة مغنية، وإلا يأخذ منحة صراع الحضارات كما تنبأ صاموئيل هنتنغتون. ودعونا نأمل أن تكون التحديات التي خلقتها العولمة حافزا لنا في العالم العربي ليستفيق من غفوته ولخلع أصفاد تجارب العقود الماضية.

ودعونا نعمل لكي لا تثنينا خلافاتنا وصراعاتنا مع الولايات المتحدة حول إسرائيل والسيطرة الأمريكية على النفط العربي وعلى غيرها من الأمور عن مواجهة تحديات العولمة ولكي نأخذ منها ما هو إيجابي ومفيد لنا من حيث الإصلاح الداخلي والتواصل العالمي.