ص1      الفهرس    المحور 

نص من التراث وأخر من الفكر المعاصر

العدل والظلم

 

يقول الراغب الأصفهاني:

"العدالة لفظ يقتضي المساواة، ولا يستعمل إلا باعتبار الإضافة. وهي في التعارف، إذا اعتبرت بالقوة : هيئة في الإنسان يطلب بها المساواة. وإذا اعتبرت بالفعل: فهي القسط القائم على الاستواء. وإذا وصف الله تعالى بالعدل فليس يراد به الهيئة وإنما يراد به أن أفعاله واقعة على نهاية الانتظام. والإنسان في تحري فعل العدالة يكون تام الفضيلة إذا حصل مع فعله هيئة متنزهة لتعاطيه، وقد يقع فعل العدالة من الإنسان ولا يكون ممدوحا به نحو أن يُقْسِط مُرَاآة، أو توصلا إلى نفع دنيوي أو خوف عقوبة السلطان".

والعدل صنفان: "عدل مطلق يقتضي العقل حسنه، ولا يكون منسوخا في شئ من الأزمنة ولا يوصف بالجور في حال، وذلك [ مثل ] جذب الإحسان إلى من أحسن إليك، وكف الأذية عمن كف أذاه عنك. وعدل مقيد يعرف كونه عدلا بالشرع، ويمكن أن يكون منسوخا في بعض الأزمنة، وذلك [ مثل ] مقابلة السوء بمثله، كأحوال القصاص وأرش الجنايات وأخذ مال المرتد. وهذا النحو يصح أن يوصف على المجاز في بعض الأحوال بالجور، ولذلك قال عز وجل: "وجزاء سيئة سيئة مثلها" (الشورى 40) فسمى جزاء السيئة سيئة من حيث إنه لو لم يكن معتبرا بالسيئة المتقدمة كانت هي سيئة… وبالنظر إلى النوع الأول والاعتبار به قال بعض المتكلمين: يعرف العدل والجور بالعقل قبل الشرع. وبالنظر إلى الأول (اقرأ: الثاني) والاعتبار به قال بعضهم: لا يعرف إلا بالشرع، وبالجملة إن الشرع مجمع العدالة وبه تعرف حقائقها، ولو توهمناه مرتفعا لكان يؤدي إلى أن لا يكون عدالة على الحقيقة في شئ من جزئيات الأفعال، ولا يكون في كثير من كلياتها. والعدالة المحمودة هي التي تتحرى لا رياء ولا سمعة ولا رغبة ولا رهبة، وإنما تكون عن تحر للحق عن سجية".

 "والذي يجب أن يستعمل الإنسان معه العدالة خمسة: الأول بينه وبين رب العزة بمعرفة أحكامه. والثاني مع قوى نفسه وهو أن يجعل هواه مستسلما لعقله، فقد قيل أعدل الناس من أنصف عقله من هواه. والثالث بينه وبين أسلافه الماضين، في إنفاذ وصاياهم والدعاء لهم. والرابع: بينه وبين مُعامِله، من أداء الحقوق والإنصاف في المعاملات من المبايعات والمقاربات والكرامات. والخامس بث النصيحة بين الناس  على سبيل الحكم، وذلك إلى الولاة وخلفائهم."

أما الظلم فهو: "الانحراف عن العدالة، ولذلك حُدَّ بأنه: وضع الشيء في غير موضعه المخصوص. وقد تقدم أن العدالة تجري مجرى النقطة من الدائرة(=مركزها) فتجاوزها من جهة الإفراط: العدوان والطغيان، وإليه أشار تعالى بقوله: "قد ضلوا ضلالا بعيدا" (النساء 167). والانحراف عنها في بعض جوانبها جور. والظلم أعم الأسماء، ولما كان الظلم ترك الحق الجاري مجرى النقطة من الدائرة صار العدل عنها إما بعيدا وإما قريبا: فمن كان عنه أبعد كان رجوعه إليه أصعب […]

 وأما المستعمل معهم الظلم فخمسة: وهم الذين يجب أن تستعمل العدالة معهم وقد تقدم ذكرهم. الأول رب العزة سبحانه. الثاني قوى النفس. الثالث أسلاف الرجل. الرابع معاملوه من الأحياء. الخامس الناس إذا تولى إنسان الحكم بين بعضهم بعضا. وقال بعض العلماء: شر الناس من جار على نفسه، ثم من جار على ذويه، ثم من جار على كافة الناس. وأفضلهم من عدل مع كافة الناس، ثم مع عشيرته، ثم مع نفسه. وهذا قول أُُوِرِد بِنَظر عامي. فإن الظالم لا يكون ظالما لغيره حتى يكون ظالما لنفسه. فإنه أول ما يهم بالظلم فقد ظلم نفسه، فإذن الظالم أبدا مبتدئا بنفسه بالظلم، والعادل في الناس إذا هم بالعدل  وتحراه فقد عدل مع نفسه قبل أن يعدل مع غيره".

 

أبو القاسم الحسين بن محمد أبن الفضل الراغب الأصفهاني ( المتوفى حوالي502 هـ): الذريعة إلى مكارم الشريعة. دار الكتب العلمية. بيروت1980. ص  241-248

 

 

 

 

نص من الفكر المعاصر

 

السلطة واللغة

 

                                                                 ر. بارث

                                             ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي

 

تتحدث البراءة الحديثة عن السلطة كما لو كانت مفردة: فهناك من بيده السلطة، ثم هناك من لا يملكونها. لطالما آمنا بأن السلطة موضوع سياسي صرف، ثم أصبحنا نعتقد أنها موضوع إيديولوجي كذلك، يتسلل خلسة  حيث لا عهد لنا به لأول وهلة، داخل المؤسسات وفي التدريس، ولكننا بقينا نعتقد أنها واحدة وحيدة ، وماذا لو كانت السلطة متعددة مثل الشياطين؟ إنها يمكن أن تقول عن نفسها: "اسمي كثرة كثيرة". في كل مكان، وفي جميع الجهات، جهة الرؤساء والأجهزة كبيرها وصغيرها، وصوب الجماعات المقهورة أو القاهرة؛ هناك في كل مكان أصوات "مشروعة" تعطي لنفسها الصلاحية لتسمع خطاب كل سلطة، وأعني خطاب الغطرسة. ها نحن نرى أن السلطة حاضرة في أكثر الآليات التي تتحكم في التبادل الاجتماعي رهافة، في الدولة، وعند الطبقات والجماعات، ولكن أيضا في أشكال الموضة والآراء الشائعة، والمهرجانات، والألعاب، والمحافل الرياضية والأخبار والعلاقات الأسروية والخاصة، بل وحتى عند الحركات التحررية التي تسعى إلى معارضتها :أسمي خطاب السلطة كل خطاب يولد الخطأ عند من يتلقاه، وبالتالي الشعور بالإثم. ينتظر منا البعض، نحن المثقفين، أن نقوم، في كل مناسبة، ضد السلطة بصيغة المفرد، بيد أن معركتنا تدور خارج هذا الميدان؛ إنها تقوم ضد السلطة في أشكالها المتعددة. وليست هذه بالمعركة اليسيرة: ذلك أنه إن كانت السلطة متعددة في الفضاء الاجتماعي، فهي بالمقابل، ممتدة في الزمان التاريخي. وعندما نبعدها وندفعها هنا، سرعان ما تظهر هنالك؛ وهي لا تزول البتة. قم ضدها بثورة بغية القضاء عليها، وسرعان ما تنبعث وتنبت في حالة جديدة، ومرد هذه المكابدة والظهور في كل مكان هو أن السلطة جرثومة عالقة بجهاز يخترق المجتمع ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسي وحده. هذا الشيء الذي ترتسم فيه السلطة، ومنذ الأزل، هو اللغة، أو بتعبير أدق: اللسان.

اللغة سلطة تشريعية. اللسان قانونها، إننا لا نلحظ السلطة التي ينطوي عليها اللسان، لأننا ننسى أن كل لسان تصنيف، وأن كل تصنيف ينطوي على نوع من القهر: ordo تعني في ذات الوقت التوزيع والإرغام. هذا ما أوضحه ياكوبسون . إن كل لهجة تتعين، أكثر ما تتعين، لا بما تخول قوله بل بما ترغم على قوله. وفي اللغة الفرنسية ( وأنا أسوق هنا أمثلة لا تخلو من فظاظة)، أنا مرغم على أن أضع نفسي كفاعل قبل أن أعبر عن الفعل الذي لن يكون إلا صفة تحمل علي؛ وليس ما أقوم به إلا نتيجة تتمخض عما أنا عليه، وعلى نحو مماثل، أنا مرغم دوما على الاختيار بين صيغة التذكير والتأنيث، وليس بإمكاني على الإطلاق أن أحيد عنهما  معا  أو أجمع بينهما؛ ثم إنني مرغم على تحديد علاقتي بالآخر، إما باستعمال ضمير المخاطب بصيغة المفرد أنت أو بصيغة الجمع أنتم؛ وليس بإمكاني أن أترك المجال لمبادرة العاطفة والمجتمع. وهكذا فإن اللغة، بطبيعة بنيتها، تنطوي على علاقة استلاب قاهرة. ليس النطق ، أو الخطاب بالأحرى، تبليغا كما يقال عادة: إنه إخضاع: فاللغة توجيه وإخضاع معممان.

أورد عبارة لرينان ساقها في إحدى محاضراته: "إن الفرنسية، سيداتي سادتي، لا يمكن أن تكون البتة لسان المحال والعبث، كما أنها لا يمكن أن تكون لغة رجعية. لا يمكن أن أتصور موقفا رجعيا يستعمل الفرنسية أداة.." لنقل إن رينان، كان بطريقته الخاصة، ثاقب النظر. لقد استطاع  أن يدرك أن اللغة لا تنحصر في ما تبلغه، وأنها يمكن أن تجتازه لتسمع عن طريقه، وبلهجة صارخة، غير ما تقوله، مضيفة للصوت الواعي المتعقل للذات الناطقة، الصوت المهيمن العنيد القاسي للبنية، أي صوت النوع البشري بما هو ناطق؛ كان خطأ  رينان تاريخيا لا بنيويا. إنه كان يظن أن اللغة الفرنسية التي أبدعها العقل، بحسب اعتقاده، كانت ترغم على التعبير عن عقل سياسي لم يكن ليكون في نظره إلا ديمقراطيا. بيد أن اللسان، من حيث هو إنجاز كل لغة، ليس بالرجعي ولا بالتقدمي. إنه، بكل بساطة فاشي: ذلك لأن الفاشية ليست هي الحيلولة دون الكلام، وإنما هي الإرغام عليه.

إن اللغة، ما إن ينطق بها، حتى وإن ظلت مجرد همهمة، فهي تصبح في خدمة سلطة بعينها. إذ لا بد وأن ترتسم فيها خانتان: نفوذ القول الجازم، وتبعية التكرار والاجترار: فمن ناحية اللغة جزم وتقرير: وما النفي والشك والإمكان وتعليق الحكم إلا حالات تستلزم عوامل خاصة سرعان ما تدخل هي ذاتها في عمليات التغليف اللغوي؛ وما يطلق عليه علماء اللسان الجهوية ليس إلا تكملة للغة، وما أحاول بفضله، استرحاما، التخفيف من سلطتها التقريرية القاهرة. ومن ناحية أخرى، فإن الدلائل والعلامات التي تتكون منها اللغة، لا توجد إلا بقدر ما يعترف بها، أي بقدر ما تتكرر وتردد. فالدليل تبعي مقلد؛ وفي كل دليل يرقد نموذج متحجر: ليس باستطاعتي الكلام دون أن يجر كلامي في ذيوله ما يعلق باللسان. وما أن أصغ عبارة ما حتى تلتقي عندي الخانتان المذكورتان، وأكون في ذات الوقت سيدا ومسودا: إذ أنني لا أكتفي بأن ألوك ما قيل وأردده، مرتكنا بارتياح إلى عبودية الدلائل، بل إنني أؤكد وأثبت وأفند ما أردده.

في اللغة إذن خضوع وسلطة يمتزجان بلا هوادة. فإذا لم تكن الحرية مجرد القدرة على الانفلات من قهر السلطة، وإنما، على الخصوص، عدم إخضاع أي كان، فلا مكان للحرية إلا خارج اللغة. بيد أن اللغة البشرية، من سوء الحظ، لا خارج لها: إنها انغلاق، ولا محيد لنا عنها إلا عن طريق المستحيل:إما بفضل الوحدة الصوفية، مثلما وصفها كيير كغارد، عندما حدد فداء ابراهيم كفعل لا مثيل له، خال من أي كلام، حتى ولو كان كلاما باطنيا، يقوم ضد شمولية اللغة وتبعيتها وطاعتها: أو بفعل أمين نيتشه الذي يشبه خلخلة مبتهجة موجهة ضد استبعاد اللغة، وما يطلق عليه دولوز رداءها الرجعي. ولكن، نحن الذين لسنا فرسان الإيمان، مثل ابراهيم، ولا الإنسان الأعلى الذي يتحدث عنه نيتشه، لا يتبقى لنا إلا مراوغة اللغة وخيانتها. هذه الخيانة الملائمة، وهذا التلافي والهروب، هذه الخديعة العجيبة التي تسمح بإدراك اللغة خارج سلطتها، في عظمة ثورة دائمة للغة، هذا هو ما أطلق عليه أدبا.

لست أعني بالأدب، جملة أعمال، ولا قطاعا من التبادل والتعليم، وإنما الخدش الذي تخلفه آثار ممارسة هي ممارسة الكتابة. وأقصد أساسا النص، وأعني نسيج الدلائل والعلامات التي تشكل العمل الأدبي، ما دام النص هو ما تثمره اللغة، وما دامت اللغة ينبغي أن تحارب داخل اللغة، لا عن طريق التبليغ الذي تشكل هي أداة له، وإنما بفعل الدور الذي تقوم به الكلمات والتي تشكل هي مسرحه. سيان أن أقول إذن أدبا أو كتابة أو نصا. إن قدرات التحرر التي ينطوي عليها الادب لا تتوقف على الشخص المدني ولا على  الالتزام السياسي للكاتب، الذي لا يعدو أن يكون إنسانا بين البشر، كما أنها لا تتوقف على المحتوى المذهبي لعمله، وإنما على ما يقوم به من خلخلة للغة.

R. Barthes, Leçon, Seuil, Paris 1978.

 

\