ص1      الفهرس    المحور 

المشهد النقدي في المغرب

مساراته وخياراته

 

نجيب العوفي

قبل الستينات من هذا القرن، الآيل للأفول، لم يكن في الإمكان الحديث عن "مشهد نقدي" في المغرب، واضح السمات والمعالم داني القطوف والثمار. ولم يكن ممكنا بالأحرى، حتى الحديث عن "نقد أدبي" أو مشروع نقد أدبي، بالدلالات المعرفية والمنهجية العميقة لمصطلح "نقد". بل غاية ما يمكن الحديث عنه في هذا الصدد، قبل إطلالة الستينات، هو جملة من المحاولات أو الخواطر النقدية الانطباعية واللغوية، تلوح على هامش بعض النصوص الشعرية على وجه الخصوص، كباقي الوشم بظاهر اليد.

لم يكن ممكنا الحديث عن "مشهد نقدي" أو "حركة نقدية" قبل الستينات، لأنه، ببساطة، لم يكن ثمة "مشهد إبداعي" أو "حركة إبداعية" بمعنى الكلمة، في هذه المرحلة الضاربة في الزمان.

والنقد الأدبي، كما هو معلوم، فاعلية قرائية بعدية تقتضي بداهة، مادة إبداعية قبلية تقرأها وتشتغل عليها وتستولد منها وحولها أسئلتها وتأملاتها وإشكالاتها البانية لخطابها والمحركة لوتائرها. وبقدر ما يغتني المشهد الإبداعي وتزكو آثاره وثماره، يغتني المشهد النقدي ويزكو، ويجد التربة الملائمة والمرتع الخصب لاستنبات ذاته وموضوعه. وبقدر ما يفتقر المشهد الإبداعي، عكسا، وتتقلص فاعليته، يفتقر المشهد النقدي، تبعا، وتتقلص فاعليته. ولا مصادرة على مطلوب. لا مكان للعربة أمام الحصان. فالنقد خطاب مؤسس على خطاب، يبتدئ من حيث ينتهي سلفه ويكمل.

صحيح أنه في الفترة المتراوحة بين الأربعينيات والخمسينيات، كانت أقلام بعض الأدباء المغاربة تجري بين الحين والآخر، ببعض "النقود" الأدبية على أعمدة الصحف والمجلات الوطنية الرائجة آنئذ، تعقيبا على قصيدة أو مقالة أو رأي. ونفكر هنا بخاصة في نقود ومقالات كل من محمد بلعباس القباج وأحمد زياد وعبد الله كنون وعبد الرحمان الفاسي على سبيل المثال… بيد أن هذه النقود كانت أقرب ما تكون إلى الردود العفوية والملاحظات الانطباعية-التقييمية، التي تتصيد هفوة لغوية أو نحوية أو عروضية أو بلاغية في النص المنقود، فتقيم أودها وتقيل عثارها. كان النقد بالنسبة إليها تقييما وانتقادا في أغلب الحالات، وتقريظا وإطراء في بعض الحالات. ولم يكن وراء هذا النقد، وما كان يمكن له ذلك، "وعي" نقدي، نظري ومنهجي، يضبط صنيعه ويجعله على بينة كافية بالصنيع الأدبي الذي بين يديه.

ما كان يمكن، بعبارة، لهذا "النقد" الأولي-العفوي أن يتجاوز شرطه التاريخي والإبستيمي. وكان لا بد من مجيء الستينيات، حتى يجيء معها النقد الأدبي، بدلالاته وطرائق اشتغاله الحديثة، وتتأسس على تخومها الصُّوى الأولى لمشهده والأجنة الأولى لمشروعه الذي سيتنامى صعدا مع الأيام، منفتحا على خيارات ومسارات متنوعة، تتفاعل فيما بينها وتتداخل، حد الالتباس أحيانا. كانت الستينيات نقطة انطلاق "الوعي" النقدي الحديث في المغرب، وبداية إرسال خطابه ورسالته. وكانت وراء صحوة الوعي النقدي هذه وانطلاقتها، عوامل وملابسات سوسيوثقافية، نجملها فيما يلي:

1 - حصول المغرب على استقلاله السياسي وتفرغه لذاته ومشاكل بنائه الداخلي، وهي مشاكل بنيوية ستتفاقم مع الأيام وتتخذ أنفاقا ومسارب معقدة، من أطوائها سينبثق "الوعي" السياسي الجديد.

2 - انطلاقة الجامعة المغربية، وتأسيس كلية الآداب والعلوم الإنسانية، التي ستكون بدءا من الستينيات "ورشا" مهما ومرتعا خصبا للحركة الأدبية والنقدية الحديثة بالمغرب.

3 - ظهور أعمال إبداعية تنتمي لأجناس الأدب الحديثة، كالرواية والمسرحية والقصة القصيرة والقصيدة الحديثة.

4 - الازدهار النسبي للصحافة الأدبية، في شكل ملاحق ثقافية تابعة للصحف الوطنية، أو مجلات ثقافية وأدبية متخصصة (أقلام/أفاق/القصة والمسرح..)

5 - تأسيس اتحاد كتاب المغرب، ومساهمته في التحسيس بسؤال الثقافة بعامة، وبسؤال الكتابة الأدبية بخاصة، إبداعا ونقدا، وذلك من خلال إصداره لمجلة (آفاق) وإشرافه على عقد الندوات والقراءات الأدبية.

6 - انفتاح المغرب على الحركة الثقافية والأدبية في المشرق العربي(القاهرة/بيروت/بغداد) وإقبال أجيال ما بعد الاستقلال على قراءة المشرق وتمثل أدبه ونقده وأسئلته الثقافية، بأذن صاغية وبنية استقبال متحفزة واعية، وذلك موازاة مع انفتاحه على الثقافة الغربية-الفرانكفونية وإقباله على قراءة بعض أدبها ونقدها.

كانت هذه العوامل في الأساس، متضافرة مع أخرى محايثة، بمثابة المهامز والمحفزات للوعي النقدي الحديث بالمغرب، الذي ابتدأ هاجسا متلجلجا في الصدور، ثم بوحا شفويا مستفيضا على الألسن، إلى أن ارتسم مكتوبا ومبثوثا بين السطور. وكان صدور بعض الأعمال الروائية والشعرية على الخصوص، أوائل الستينيات، هي الفرصة السانحة والموعودة التي أطلقت النقد المغربي الحديث من عقاله وفكت عنه حبسته. ونفكر هنا تحديدا، في المقالات الرائدة والماهدة التي كان يكتبها، من حين لآخر، كل من محمد باردة وأحمد اليابوري ومحمد السرغيني وأحمد المجاطي وحسن المنيعي وإبراهيم السولامي، حول بعض النصوص الروائية والشعرية الصادرة في الستينيات، وكانت قلة قليلة. فكانت النصوص النقدية لهؤلاء، بدورها، قلة قليلة. ومع قلتها وتراخي مواعيدها، كان طموحها المنهجي والمعرفي كبيرا. كانت تحترث أرضا بكرا وتؤسس لغتها على شبه فراغ. وجدير بالإشارة، أن هؤلاء الماهدين هم في الآن ذاته أساتذة جامعيون، بل هو من رواد ومهاد التدريس في كلية الآداب عقب الاستقلال. وما يزال معظمهم قائما بأمانة التدريس والإنتاج الأدبي إلى الآن، فرسانا ما يدركهم كلل أو ملل. والأساتذة الجامعيون الكبار عادة، قد لا ينتجون كتبا كثيرة، ولكنهم ينتجون أجيالا ومشاريع. ينتجون تلامذة. وكذلك الأمر بالنسبة لهؤلاء.

فقد كانوا قطرا يعقبه غيث. كانوا برقا للرعد الآتي. لقد تخرج على أيدي هؤلاء الأساتذة، مع طلائع السبعينيات، جيل جديد من النقاد والمبدعين هم الذين سيؤثثون بعطائهم ودأبهم المشهد النقدي الذي وضع الأساتذة مداميكه وصواه، وهم الذين سيملأون فضاءه بأصواتهم وهدير أفكار وأرواحهم. ومن هنا فصاعدا، ستتفرع وتتنوع المسارات والخيارات ضمن المشهد النقدي العام المتنامي مع الأيام.

وأقصد بـ "المسارات" هنا، الأنحاء التي انتحاها النقد والمستويات الثقافية والتداولية التي تجلى عبرها. كما أقصد بـ "الخيارات" القناعات والمواقف المنهجية والنظرية التي توزعته وتحكمت في خطواته وخطاباته. وليس في وسع هذا العرض، ذي الطابع الوصفي-البانورامي، استقصاء فسيفساء هذا المشهد وتحري جزئياته وتفاصيله، بل حسبه فقط، أن يرصد بعض الخطوط العريضة والمجملة الدالة على المشهد والكاثفة لتضاريسه. وما لا يدرك كله، لا يترك قله.

لقد تنوعت مسارات ومستويات النشاط النقدي بدءا من السبعينيات، ولم يعد رهين مسار أو مستوى تداولي واحد لا يحيد عنه. لم يعد محصورا في رقعة ضيقة وهامشية كما كان الشأن في الستينيات، بل تراجعت فسحته وأصبح يحل، بالتدريج، بؤرة المشهد الثقافي والأدبي العام.

وإجمالا، يمكن رصد النشاط النقدي في هذه المرحلة، من خلال المحافل التالية:

1 - النقد الشفوي، وهو يشكل الفضاء التداولي الواسع الذي يتحرك فيه النقد على سجيته، داخل أوساط النخب والشرائح المثقفة والمهتمة بالأدب والنقد. والنقد الشفوي مؤثر في النقد المكتوب ومتأثر به، ولحد الآن، لم تنجز أية دراسة ميدانية أو نظرية، لوصف هذا النقد وكشف آلياته ومستوياته ولغاته.

2 - النقد الصحفي، وهو النقد المكتوب وفق استراتيجية نقدية ومنهجية محددة، تطول أو تقصر، تتعمق موضوعها أو تلامسه لمسا. وتشكل الملاحق والصفحات الثقافية والمجلات الأدبية المتخصصة، المجال الحيوي لهذا النقد. كما يشكل النقد الصحفي بدوره، المجال الحيوي لحركية النقد الأدبي بوجه عام.

3 - النقد الجمعوي، وهو محفل نقدي لا يقل أهمية وحضورا ضمن مشهدنا النقدي. ويتجلى في اللقاءات والقراءات النقدية التي تنظمها بعض الجمعيات الثقافية في بعض المدن المغربية، قراءة لأعمال إبداعية، أو مطارحة لقضايا وظواهر أدبية ونقدية، وهي لقاءات وقراءات يعقبها في الغالب نقاش "نقدي" مفتوح بين النقاد والمتلقين.

4 - النقد الجامعي، ويشمل الرسائل والأطاريح الجامعية التي لها علاقة ماسة بالنقد الأدبي من جهة. كما يشمل توسعا، البحوث الجامعية التي ينجزها طلبة الإجازة والسلك الثالث من جهة ثانية. وقد يشمل مصطلح النقد الجامعي أيضا، المؤلفات النقدية "الأكاديمية" التي ينتجها الأساتذة الجامعيون.

5 - النقد السجالي، وهو صراع نقدي بين خيارات نقدية متباينة فيما بينها نظريا ومنهجيا، تشف لغاتها السجالية عن تباين في الخيارات الإيديولوجية والسياسية الموجهة لها، وتباين في درجات الوعي بالأدب والتاريخ. وقد كانت مرحلة السبعينيات ذات الإيقاع السياسي والإيديولوجي المحتدم، هي المحطة الساخنة للنقد السجالي الذي انخرط فيه بشكل خاص وبدأب وحماس، في سنوات 77 - 78 - 1979، كل من حسن الطريبق وأحمد المجاطي (كبور المطاعي) ونجيب العوفي ومحمد بنيس وبنسالم حميش ومحمد فقيه والعياشي أبي الشتاء… وذلك على أعمدة الملحق الثقافي لكل من جريدتي (العلم) و(المحرر). وكان هذا أطول وأسخن سجال نقدي شهدته الساحة النقدية حتى الآن. ورغم الهنات والسلبيات الذاتية والانفعالية التي شابته، كما يحصل عادة في كل سجال، فقد طرح "المسألة النقدية"، لأول مرة، على محك التساؤل و "النقد"، وأثار اهتماما واسعا بقضايا المنهج والمصطلح. بخاصة، وقضايا الأدب والنقد والإيديولوجيا بعامة، حيث كانت المرحلة "مسيسة" و "مؤدلجة" بامتياز.

تلك، باقتضاب، هي أهم المحافل النقدية التي توزعت المشهد النقدي المغربي منذ طلائع السبعينيات فصاعدا. وتلك هي المسارات والأنحاء التي انتحاها وتجلى عبرها.

ويهمنا أن نتريث هنا قليلا عند محفلين أساسيين، وهما النقد الصحفي والنقد الجامعي.

-المحفل الأول/النقد الصحفي / =

كانت الصحافة هي الموئل الأول والمتاح الذي وجد فيه النقد المغربي المعاصر منتجعه ومتنفسه، وكانت الملاحق الثقافية على نحو خاص، هي حواضن جهوده وأمكنة حضوره، في سياق ثقافي كانت إمكانات الطبع والنشر فيه، محفوفة بالمشاق والتكاليف. فكانت الصحافة لذلك بديلا وملاذا للنقد المغربي، كما كانت منطلقا ومعبرا له إلى جمهور القراء والمهتمين. ويهمنا هنا أن نصحح "وهما" خفيف المحمل يسير الكلفة يتوجه إلى عموم القراء أكثر مما يتوجه إلى خاصتهم. هذا الوهم يغاير تماما حقيقة ما ينشر من نقد في صحافتنا الأدبية ولا ينسحب عليه جملة وتفصيلا. ومع إقرارنا المبدئي بأن كثيرا من النقد المنشور في هذه الصحافة يكتسي طابعا "صحفيا" خفيفا ومتسرعا لا كد فيه ولا أناة، لا بد من الإقرار أيضا بأن جزءا مهما من هذا النقد هو ثمرة تأمل وفحص وئيدين للنصوص، يتحرى الدقة المنهجية والكفاية الاصطلاحية ويستوفي شروط القراءة المتأنية، كما وكيفا.

وحين ينعت هذا النقد بصفة "الصحفي"، من ثم، فلأنه أساسا منشور في الصحافة أو مجبر على اللجوء إلى الصحافة، ولا تغمز هذه الصفة لذلك من قناته ولا تعني دلالة أخرى غير هذه.

وبقدر ما ساهمت الصحافة الأدبية في إغناء المشهد النقدي وتفتيت طاقاته وعطاءاته، ساهمت أيضا في خلط أوراقه والتباس فسيفسائه، حين فتحت أبوابها في وجه الغث والسمين وتركت حبل النقد على غاربه، يفعل به من شاء ما يشاء.

ويبقى معيار الحضور والاستمرار والكفاءة، هو الكفيل وحده بجلاء اللبس والاختلاط، وغربلة المشهد النقدي من لغوه وحشوه.

وإن نحن عدنا بالتأمل إلى الفسحة المشهدية النقدية في السبعينات مثلا، راعتنا كثرة الدلاء والأسماء النقدية التي احتشدت بها الصحافة الأدبية على اختلاف منابرها ومواقعا، وهو حشد سرعان ما كان يظهر وسرعان ما كان يختفي.

وللأمانة التاريخية نقول، إن النقاد الذين "صمدوا" في الميدان وحملوا النقد هاجسا وشاغلا مستمرا، وثابروا على الكتابة النقدية بانتظام وبطموح منهجي متجدد مع الأيام، هم/عبد القادر الشاوي وإدريس الناقوري ونجيب العوفي وإبراهيم الخطيب..

هؤلاء الأربعة بخاصة، هم الذين أعطوا للنقد المغربي انطلاقته الحقة والجديدة، بعد أن سرقوا النار من جيل المؤسسين، وهم الذين أثثوا فسحته المشهدية في السبعينات، وما يزال بعضهم يواصل التأثيث والإضافة، إلى الآن.

وكان المنهج الواقعي-الجدلي الذي يقرأ النصوص في ضوء سياقاتها الواقعة ورؤاها الإيديولوجية والجمالية، هو الخيار المنهجي والنظري الغالب الذي يتحكم في كتابات هؤلاء، بأقدار ومستويات متفاوتة في القراءة والتحليل، أي بلغات نقدية متمايزة فيما بينها، تتراوح بين ضفاف البنيوية التكوينية تارة، وضفاف البنيوية الشكلانية تارة ثانية وتالية.

لقد كان المنهج الواقعي-الجدلي صاحب نفوذ أدبي وعلمي وإيديولوجي في المرحلة، وكانت البنيوية هي المرشحة بعدئذ للصعود والانفتاح على مزيد من "الحداثة" النقدية. فكان هذا التفاعل المنهجي بين الضفاف، وكان أحيانا هذا "التزحلق" من ضفة لأخرى، لأن التاريخ العربي، بدوره، كان قد بدأ في التزحلق والعد التنازلي، مغربا ومشرقا.

هكذا كانت الصحافة سكنا روحيا للنقد المغربي المعاصر، وطد على أرضيته وجوده واختبر إمكاناته وجهوده، وتواصل من خلاله مع جمهور واسع من القراء والمهتمين، كما كانت معبرا له بعدئذ نحو ولوج عالم الطبع والنشر.

وللأمانة التاريخية نقول أيضا، إن أولى الكتب النقدية الصادرة في المغرب بعد الاستقلال، والتي اتخذت من الإبداع المغربي المعاصر بأجناسه الثلاثة (شعر، قصة، رواية) موضوعا لها وسؤالا، هي ثلاثة كتب صدرت متتالية في ثلاث سنوات.

-المصطلح المشترك، لإدريس الناقوري/1979

-درجة الوعي في الكتابة، لنجيب العوفي/1980

-سلطة الواقعية، لعبد القادر الشاوي/1981.

ثلاثة كتب تعتبر، تاريخيا، مؤسسة لمشروع الكتاب النقدي المغربي المعاصر. وأول الغيث قطر.

ثلاثة كتب تأتلف رؤية ومنهجا، وتختلف لغة وحساسية ومصطلحا.

-المحفل الثاني/النقد الجامعي/ =

تجدر الإشارة بدءا إلى أن جل، إن لم نقل كل النقاد المغاربة ينتمون إلى الجامعة وتربطهم بها صلات وثقى.

فهم إما أساتذة في الجامعة أو خريجون منها. وقد يكون بعضهم طلابا فيها. وهذا يعني أن الجامعة تشكل فضاء معرفيا ومرجعيا مؤطرا للمشهد النقدي ومغذيا له. كما تشكل "ورشا" واسعا للتفكير النقدي والممارسة النقدية. ومصطلح "النقد الجامعي" واسع وفضفاض" قد يستوعب جماع الرسائل والأطاريح الجامعية، المرقونة والمطبوعة، وجماع المؤلفات التي ينجزها الأساتذة الجامعيون.

لكننا هنا، وفاءا بحدود المشهد النقدي المعاصر في المغرب، نضيق دائرة النقد الجامعي، ونعتد فحسب، بالرسائل والأطاريح الجامعية المطبوعة والمتداولة، التي لها علاقة ماسة بالأدب الحديث والمعاصر، في المغرب أولا وفي المشرق العربي ثانيا، حتى لا يفيض الكيل بمصطلح "النقد الجامعي"، ويصبح شاملا لكل تفكير نقدي يتم تحت القبة الجامعية.

انطلاقا من هذا التحديد الأولي، يمكن أن نضع الجردة التالية بعناوين بعض الرسائل والأطاريح الجامعية المطبوعة التي اشتغلت على الأدب العربي الحديث والمعاصر، مغربا ومشرقا، وذلك بحسب توالي صدورها إلى حدود 1993.

-القصيدة: الزجل في المغرب/لعباس الجراري/1970

-الشعر الوطني المغربي في عهد الحماية/لإبراهيم السولامي/1974

-أبحاث في المسرح المغربي/لحسن المنيعي/1974

-ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب/ لمحمد بنيس/1979

-محمد منذور وتنظير النقد العربي/لمحمد برادة/1979

-فن القصة القصيرة في المغرب، في النشأة والتطور والاتجاهات/لأحمد المديني/1980

-الرواية والإيديولوجية في المغرب العربي/لسعيد علوش/1981

-الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث/لمحمد الكتاني/1982

-الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي/لحميد لحمداني/1985.

-الخطاب النقدي عند طه حسين/لأحمد بوحسن/1985.

-الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث/لأحمد الطريسي أعراب/ 1987

-مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية، من التأسيس إلى التجنيس/لنجيب العوفي/1987.

-شعر الطليعة في المغرب/لعزيز الحسين/1987.

-القصيدة المغربية المعاصرة، بنية الشهادة والاستشهاد/لعبد الله راجع/87-1989.

-الشكل القصصي في القصة المغربية/لعبد الرحيم مودن/1988.

-تحليل الخطاب الروائي+ انفتاح انفتاح النص الروائي/ لسعيد يقطين/1989.

-الشعر العربي الحديث،بنياته وإبدالاتها/لمحمد بنيس/89-1991.

-بنية الشكل الروائي/لحسن البحراوي/1990

-شعرية النص الروائي/لبشير القمري/1991

-الشكل والخطاب، مدخل لتحليل ظاهراتي/ لمحمد الماكري/1991

-لسانيات النص/ لمحمد خطابي/1991

-نقد الشعر في المغرب الحديث/ لعبد الجليل ناظم/1992

-أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث/ لأحمد المعداوي/1993.

كانت هذه، الأعمال الجامعية أقرب إلى فضاء النقد التطبيقي والتحليلي، كقراءة متأنية للنصوص والخطابات الإبداعية والأدبية، وسبر لقيمها ودلالتها الجمالية والفكرية والتاريخية. وقد تعددت الخيارات المنهجية في هذه الأعمال، وتراوحت بين المنهج الوصفي التاريخي والمنهج البنيوي، التكويني والشكلاني، وشعرية الخطاب بمستوياتها السيميائية واللسانية والسردية. وكان بعض هذه الأعمال يوائم ويفاعل بين أكثر من خيار منهجي، وفق اقتضاءات للنص المقروء ومستويات تحركه وتحوله. كانت هذه الأعمال، بعبارة، تتحرك في فضاء "النقد"، وتقوم بعملية قراءة وتشريح لنصوص ومتون محددة.

ولا يعزب عن أذهاننا هنا، ونحن بصدد النقد الجامعي، التنوه بالجهود المعرفية والمنهجية الموصولة التي يبذلها بعض الأساتذة الجامعيين، تدريسا وتأليفا، لتحديث الخطاب النقدي وتجديد مساراته وخياراته، وشحذ أدواته ومصطلحاته، من خلال التعاطي والتصادي مع أحدث النظريات والمناهج الغربية. ونختص بالذكر هنا، جهود كل من أحمد اليابوري، ومحمد برادة، ومحمد مفتاح، وعبد الفتاح كيليطو.

وقد ساهمت هذه الجهود، بلا شك، في التأسيس لوعي نقدي جديد، أو بالأحرى لـ "حساسية" نقدية جديدة تتوخى إعادة النظر في شروط القراءة وأدبية النص المقروء.

وآتت هذه الجهود أكلا طيبا لدى بعض التلامذة، والأساتذة هنا "تلامذة" أيضا بمعنى ما، لكنها في مقابل ذلك فتحت الباب على مصراعيه أمام "طوفان" من التجارب النقدية والخيارات المنهجية كان زبدها أكثر من نفعها، ولعبها أكثر من جدها، وطموحها أكبر من إمكانها واستعدادها.

ومن هنا كثرت الأفخاخ التي نصبتها التجارب النقدية الجديدة لنفسها فأربكت خطوها وهدفها، وهي الأفخاخ التي سبق أن رصدتها في مناسبة فارطة وأوجزها هنا في جملة آفات.

1 - المنهاجوية، وأعني بها الارتهان غير المشروط للمنهج على حساب النص المقروء. والمنهاجوية بذلك تؤدي إلى وثنية أو "فتيشية" المنهج، فيستعاض عن المبدأ المعروف (النص ولا شيء سوى النص) بمبدأ ناسخ ومضاد (المنهج ولا شيء سوى المنهج). والنتيجة الحتمية التي تفضي إليها المنهاجوية آخر المطاف، هي اغتراب النص، والمنهج، والناقد، والمتلقي.

2 - الانتقال والارتحال السريع بين المناهج والنماذج، فيما بين العشي والضحى. ولسنا ننفي مبدئيا أن الارتحال المنهجي يعد من زاوية ميتودولوجية ظاهرة صحية ودينامية، متى كان نتاج تفاعل وتلاقح وصيرورة، خاصة وأن الانفتاح النصي يقتضي بالضرورة الانفتاح المنهجي. لكن الإشكال هنا، هو أن يتحول الارتحال عند البعض إلى "قطائع" قسرية بين المحطات المنهجية، وإلى سلسلة من النواسخ والمنسوخات، وكأننا هنا، ونحن نستلف ونتقايض المناهج النقدية إزاء صندوق لـ" النقد الدولي" شبيه بسميه المعروف.

3 - غياب النقد عن النقد، وهيمنة النزعة الوصفية التحليلية على النزعة التقييمية التأويلية، بدافع من علمنة الخطاب النقدي وتحييده وإبراء ذمته من أية نوازع معيارية ونوايا إيدويولوجية، مما يجعلنا، في آخر التحليل، تجاه خطاب علموي شكلاني متعال، غايته الأولى والأخيرة، أن يعيد كتابة النص ويفكك أجزاءه وعناصره، ثم يعيدها إلى أماكنها أو يتركها لحما على وضح. ومن ثم تتساوى النصوص المقروءة وتوضع في سلة واحدة.

4 - غياب شخصية الناقد في قراءته وارتباك لغته النقدية، معجما ومصطلحا.

كان هذا ما رصدته في أواخر 1988 (انظر مقدمة كتابنا (ظواهر نصية) منشورات عيون ط.1، 1992).

وأعيد الأمر هنا جذعا، ما دامت أحوال الطقس النقدية، لم يطرأ عليها كبير تغير.

لقد "تغرب" النقد المغربي وتطوح عبر سواحل وشطآن متعددة. وآن له الآن أن "يتعرب" وأن "يتمغرب". آن له أن يعود إلى ذاته ونبض تاريخه ونصوصه، ليكون "هو" دون أن يقطع صلته بـ "الآخر".

معادلة شاقة عليه أن يواجهها بشجاعة وثقة ومعرفة.