الترجمة
والهرمينوطيقا
العريصة محمد
مصطفى
ع6
ما الذي يسمح للفلسفة بوجه عام، والمعاصرة منها
على وجه الخصوص أن تهتم باللغة ؟
هناك عدة
أسباب، نذكر منها ثلاثة على الأقل
1 - ارتباط الفكر باللغة لدرجة أن لفظ لوكوس
اليوناني يعني الإثنين، إضافة إلى معنى العقل.
2 - ارتباط الفكر واللغة بالكينونة أو الوجود
الذاتي لهذا الطائن الذي ندعوه بالإنسان في طل تجلياته.
3 - كون اللغة ذاتها، كمجالات أخرى، تتوفر على
لاهوتها الخاص الذي يحتل مكانه ضمن موكب السائرين في صحبتها.
أول عبارة
تتصدر كتاب هيدكر "التوجه أو السير نحو الكلام"
(Achemunement vers la parole عن الترجمة الفرنسية لبوفري) هي :
"الكائن البشري يتكلم"
وفي
الوجود والزمان :
"اللغة مسكن الإنسان"
لنتأمل
هذه العبارة الأخيرة : "اللغة مسكن الإنسان" ولنضع بصددها الأسئلة
التالية :
1 - بأي معنى يمكن للانسان أن يسكن اللغة؟
2 - بأي وجه يمكن للغة أن تأوي الإنسان وتحتويه؟
وما ثمن ذلك الإسكان والإحتواء؟
3 - من يحدد هوية الآخر : هل الساكن أم المسكون؟
4 - هل يمكن أن نستغني عن هذا المسكن - الوسيط،
لكي نسكن العالم بشكل مباشر دون وساطة اللغة؟
5 - وأخيرا هل يمكن للسكان، وهو الجزء المحتوى،
أن يلم بالمسكن وهو الكل المحتوي؟..
"الكائن البشري يتكلم" : أن يتحدد الإنسان ككائن متكلم، معناه في هذا
السياق أن الكلام ليس ملكة من بين الملكات التي تدخل في حوزة هذا الكائن، بل
الملكة التي تجعل من الإنسان إنسانا. ويستخدم هيدجر لفظ : "كلام بدل لفظ
"لغة"، للتأكيد على بعد الكينونة الذاتية للكائن البشري DA-Sein، لتجربته المصيرية فكرا ولغة، لموته الرمزي الذي يبدأ مع تواجد
عنصر اللغة فيه، كشرط لإنسانيته.
أن يتكلم
الإنسان، معناه أنه يتكلم الكلام الذي يتحدد بواسطته كإنسان. المنفعل هنا هو
الإنسان وليس الكلام أو اللغة. وتوخيا للدقة يجب أن نقول : "يتكلم الكلام
الإنسان" وليس العكس وحده. ومن ثمة السؤال :
"كيف
يمكن أن ألم بأطراف ما يحيطني، وأن أحتضن في قبضة فكر ما يشكل شرط وجودي كإنسان ،
وكإنسان يفكر ويحاول التفكير في حامله : اللغة؟ وإذا كان الفكر لا يسترسل في نشاطه
وتجربته إلا مخترقا باللغة وفعل الكلام، فما قيمة هذا الفكر، بل ما وضعه قبل ذلك.
تستوقفنا
هنا أطروحة هيدجر عن "حدية" أو "محدودية الإنسان" ،وهي أطروحة
ستتخذ مناحي متعددة في الفكر الفلسفي المعاصر، خصوصا لدى فوكو في "الكلمات
والأشياء" : أتكلم لأوجد، فإذا بي أنمحي خلف اللغة التي أتكلمها والتي لا تكف
عن الهمس والهدير داخل كياني. الكلام، كالفكر : تجربة ، تجربة وجود وانمحاء، حياة
وموت رمزيان يقول هيدجر :
" أن
نقيم علاقة تجربة بأمرما، شيئا أو كائنا بشريا، أو ‘لها، فذلك يعني أن نتركه
يغمرنا {حرفيا : يأتي علينا ويكتسحنا} فيؤثر فينا ويهوي على رؤوسنا، ويقلبنا
فيحولنا تحويلا. ولا يعني فعل التجربة في هذه العبارة أننا فاعلوا التجربة ، بل
للفعل هنا دلالة كالتي نصادفها في فعل المرض faire une
maladie، أي فعل اجتياز ومعاناة
من البداية إلى النهاية، مقاساة في انصياع واحتضان لما يفعل فينا" (عن
الترجمة الفرنسية، "خطو نحو الكلام"، ص 144).
فإن نقوم
بتجربة الكلام يعني أن نقبل بحقيقة التغلغل الدفين للكلام فينا، وكأننا نتكلم
الكلام بأمر منه. غير أنه لابد من استحضار الوجه الثاني لهذه المفارقة،
ولذلك أوردنا مؤلف "الكلمات والأشياء" لأنه يذهب بالسؤال حول العلاقة
بين اللغة ومتكلمها إلى حد بعيد : فاللغة التي بدونها لا يمكن أن أتقمص دوري ككائن
متكلم، لا يمكنها هي الأخرى أن تتواجد بشكل عيني وملموس إلا عبر نطقي وكلامي، ولو
على نحو جزئي. فتمظهر اللغة يتم على مستوى المتكلمين وليس على مستوى المتكلم
الواحد. اللغة سابقة عن المتكلم، شرط لوجوده، كلنها تشرط وجودها بفعله، فهو الذي
يعمل على إخراجها من حيز "الكمون" إلى حيز "الفعل" . اللغة
سابقة ولكنها لا تتجسد إلا عبر وساطة المتلكم : في محدوديتي كمتكلم تنكتب محدودية
اللغة أيضا ، فأنا شرط وجودها. إنها كالموت، سابقة عن الموتى لكنها لا تدرك إلا
عبر تحقيقهم لإمكانية الموت. فالموت هنا هو حكم على الأحياء عندما يتحولون إلى
موتى ، ولذلك تترادف "حياة" المتكلم مع "موتة" الرمزي، وينطلي
فعل الكلام بمسحة تراجيدية، فنحن دوما في قلب اللغة، معها وضدها في آن واحد.
لنخرج من
هذه المتاهة، أو على الأقل لنغير المتاهة، ولنعد إلى مسألة علاقة الفكر باللغة،
وعلاقة الإثنين بالوجود، كوجود تاريخي في بعديه الزماني والمكاني.
ماذا يحدث
عندما يحاول المتكلم ، هذا الكائن البشري الذي ينمحي لا محالة كذات داخل لغته
كبنية، ومن ثمة موته الرمزي؟ ماذا يحدث عندما يحاول أن ينقل بفكره من لغة إلى أخرى
- ولنقل من انمحاء إلى انمحاء مضاعف - في فعل الترجمة على سبيل المثال؟
لكي نبقى
في نفس السياق، نستحضر هنا جانبا من المعالجة التي يخص بها هاتر جورج كادامير
مسألة الترجمة كعبور من لغة إلى أخرى. تدخل الترجمة كفعل لغوي ضمن ما يسميه
كادامير بالهرمينوطيقا كتجربة ابستمولوجية وانطولوجية، ويرتبط هذا الفعل اللغوي
المظهر بشكل لا يقبل الانفصال بثلاثة أبعاد : بعد الفهم، وبعد الكفر، وبعد التأويل
، على هذا الأساس يمكن تعريف الترجمة كعبور فكري من لغة إلى أخرى عبر الفهم
والتأويل .
يمكن،
تبعا لهذا المعطى، أن نسند عبارة هيدجر " الإنسان كائن يتكلم" إلى عبارة
ثانية " الإنسان كائن يسعى دوما إلى أن يفهم". والفهم هنا ليس مجرد حالة
معرفية، إنه حالة انطولوجية حسب كادامير الذي يقتفي على نحوما آاثار هيدجر،
فهو يضع الفهم في مستوى انطولوجي، مستوى الكائن المحدود. فعندما نتشاءل عن
الكيفية التي يمكننا بواسطتها أن نفهم نصا أو وضعا تاريخيا، فإن هذا السؤال يتجذر
في صميم كينونتنا كأفراد أو جماعات تبحث عن محلها في طوبوغرافيا التاريخ وإعراب
معنى الحياة. يقول بول ريكور : " من هذا الكائن الذي يحدد وجوده بالبحث
الدؤوب عن الفهم ؟(…) إنه الكائن البشري - DA-Sein" ويضيف " إن الشمكل الهرمينوطيقي يتحول على هذا النحو
إلى منطقة تابعة لتحليل الكينونة" (صراع التأويلات من النص الفرنسي).
فالترجمة
إذ ليست مجرد عملية لغوية، إنها تستدعي الفكر وتستفز الوجود. كما يستدعي التنقل من
لغة إلى لغة ثانية لغة ثالثة بإمكانها أن تقيم توازنها ايطيقيا بين
اللغتين/الوجودين يقول طادامير :
"
لكي نسيتطيع أن نعبر عما يقصد إليه نص ما في مضمونه الموضوعي، لابد من ترجمته إلى
لغتنا، وبعبارة أخرى يجب علينا أن نربطه بمجموع التصورات الممكنة التي نتحرك
داخلها عندما نتكلم، والتي نكون على استعداد لوضعها موضع نقاش".
فإن نحمل
نصا من لغة إلى لغة أخرى يعني أن نتفاوض بأمر آفاق إنتاجه وصياغته الأصليين، ولأن
الفهم يتجاوز المستوى المعرفي لينغرس في بعد أنطولوجي، ولأن الكائن البشري يظل
منفتحا عن التاريخ، فإن الأسئلة المتعلقة بفترة أو تاريخ أو تراث أو نص
للترجمة تبقى بدورها أسئلة مفتوحة على الممكن، ليتحول الفهم إلى فعل
حوار حضاري لا نهاية له، لسبب بسيط، هو أن الكائن الذي يسعى لأن يفهم، يظل دوما
يصطدم بتجربة محدوديته ككائن : فنحن لا مفهم إلا ما نستطيع تاريخيا وانطولوجيا
فهمه. وانحباس إدراكنا، وكذا توقف أحكامنا لا يعني انحباس المعاني وتوقف قابلية
فهم الأشياء على نحو مختلف ومنفتح . فالترجمة من هذا المنظور تحكي تجربة اصطدامنا
بحدودنا الخاصة وآمالنا في الخروج من بوثقة الانسداد، إنها تجربة ما
نفعله فعلا، وا يمكن أن نفعله أو نفهمه ونمرره من لغة إلى أخرى.
إن البحث عن
الفهم يتضمن في تناياه بعدا ايطيقيا وجماليا، إن أمكن الحديث عن جماليات في مجال
التواصل الحضاري. فصعوبة البحث وحضور العوائق يفرض عنا كمترجمين ومؤولين نوعا من
المرونة نحو "الآخر"، سواءا كان ثراثا أو تاريخا أو نصا نسافر به من لغة
إلى أخرى. لا بد وأن يستند فعل الترجمة إلى فكر حواري وأخلاقيات للتواصل. الترجمة
إضفاء ضوء على ما نترجمه، تكثيف لهذا الضوء حتى يصبح النص قابلا للنظر والقارءة
والفهم، رغبة منا في الإحاطة بمكامن الظل فيه. غير أن المبالغة في تسليط الضوء
المكثف قد تعمي، لذلك يتحدث أمبرتو إيكو عن "حدود التأويل" وعن الدفاع
عن "حق النص" في المحافظة على تماسكه الداخلي وعلى هويته المكونة. ففي
حدود أي توازن يمكن أن نزاوج بين الفهم والتأويل؟
يرى
كادامير أنه من الصعب جدا أن نفصل الفهم عن التأويل. ففعل التأويل ليس مجرد موقف
بيداغوجي، إنه فهم يتحقق داخل صياغة تأويلية، وداخل لغة تستهدف المؤول قبل
المخاطب. والتا,يل عنا ليس عنصرا خارجيا ينضاف إلى الفهم، بل هو بعد مكون ومؤسس له
على نحو داخلي : "إنه ليس أداة تعمل على إحداث الفهم - يقل كادمير - إنه مجسد
سلفا في صلب ما يفهم".
هناك إذن
تداخل صميمي وحميمي بين الفهم والتأويل من جهة، وبين الفهم والتأويل وعنصر اللغة
من جهة أخرى. وعندما نتحدث عن عنصر اللغة، فالمقصود بذلك اللغة وسلطتها،
مقاومتها الداخلية ككيان له قواعده وآلياته، وهو ما يجعل من الترجمة مشكلا
هيرمنيوطيقيا بامتياز، حيث تتداخل الأبعاد اللغوية والتأويليو والأبستمولوجية
والأخلاقية في نفس الوقت . فالترجمة المتوازنة لا تتوقف فحسب على المهارة
اللغوية،بل تستدعي فهما، يشترط بدوره تفهما وتفاهما : Entente، لابد من التفاوض حول المعنى، معنى الألافظ ومعنى المواقف التي
تصدر عنها الدلالات المختلفة للأثر المترجم. وإذن لا بد للمترجم وأن يقاوم على
واجهتين، واجهة اللغة/المنطلق، وواجهة اللغة/الوصول بهدف تقليص المسافة الفاصلة
بين الخطاب الأصلي والخطاب الآوي له، إذ الترجمة على حد تعبير سرفانتس :
"مأوى للغريب أو البعيد"، وتقريب له. وهذه المسافة الفاصلة بين عالمين
لا يمكن أن ترفع بشكل قاطع، لأمر أساسي هو ارتباط اللفظ بالمفهوم، واللغة بالفكر
ارتباطا جوهريا. ونعرف اليوم بكل تأكيد أن الألفاظ هي أطثر من مجرد ألفاظ، إنها
قيم لها ذاكرتها وتاريخها الخاصة، وهذه القيم/الألفاظ، أو الألفاظ/القيم لا تحيل
فحسب إلى الفكر في صورته المجردة، إن كان هذا التجريد ممكنا بالفل، وإنما تحيل إلى
أنماط تاريخية يتحدد ضمنها الفكر، وقد نسميها بنيات أو باراديكمات أو
ابستميات. وباختصار لا يوجد الفكر إلا مشكلا ضمن أطر تخضع للزمان وللمكان، و هذه
الأطر لا تحدد فحسب معيارية طرقنا في الحكم على الأشياء وتقويمها، ولكنها تحدد
أيضا ما أسماه كريماس بموقفنا الميتا-لغوي إزاء اللغة نفسها(كموقف العربي المسلم
من اللغة العربية). كثيرا ما يشكل هذا الموقف لا-مفكرنا الذي يطبع تفكيرنا
وتداتولنا للألفاظ على نحو لا واعي.
نخلص من
ذلك إلى أن اللغة في علاقتها بالفكر أبعد ما تكون عن مجرد "وسيلة" أو
"أداة" محايدة. إنها آلة لتشكيل الفكر نفسه، وهو ما أكده مجموعة من
الباحثين بدءا من هامبولد، ومرورا بهيدجر ونيتشه، وقريبا منا بنفنيست في مقالته عن
علاقة المقولات الأرسطية باللغة اليونانية، وأيضا بارت في درسه الافتتاحي بالكوليج
دوفرانس. تستخدمنا اللغة بقدر ما نستخدمها، فاللغة مسكن الإنسان، على افتراض
أنهـها ربة البيت وسيدته، تسعف ولكنها تفرض قواعدها في اللعب مبدية بذلك منحاها
السلطوي، لذلك كان لا بد من ابتداع طرق التودد إليها واستلطافها، ولذلك أيضا كان
الشعر…
يقول هولدرلين :
"الكلام زهرة الفم"
ولربما
توجب علينا أن نفسهم ذلك في معنيين : معنى الجمال والروعة والوداعة المكون لعالم
الأزهار، وأيضا معنى الهشاشة والقابلية للفناء المتسارع والمحتوم التي تلحق بها
وهو ما يعني هشاشة المتكلم بالنظر إلى لغته السمكن وإذن محدوجيته الأنطلوجية..
لذلك كانت اللغة أكثر من مسكن للتكلم، إنها أيضا، بنوع ما، وعلى المدى البعيد ،
قبر له، ووسيلة انبعاثه.
H.G. Gadamer, Vérité et méthode. Traduction française, seuil.
Paris. p.76