قضية "التحدي الحضاري" بين
العرب وإسرائيل
السيد يسين
مدير مركز الدراسات الاستراتيجية
بجريدة الأهرام -
القاهرة
المقدمة (*)
يمكن
القول إن توقيع المعاهدة المصرية- الإسرائيلية بكل ما تتضمنه من إنهاء حالة الحرب
وتطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل ، وما تلاها من اتفاقية سلام بين إسرائيل
والأردن ، وقبلها اتفاقية أوسلو بين الإسرائيليين والفلسطينيين ، تعد من أبرز
الأحداث في مسار الصراع العربي - الإسرائيلي الذي امتد عقودا طويلة من الزمان.
ومرد ذلك إلى النظرية العربية التي سادت منذ عام 1948 ( تاريخ إنشاء الدولة
الإسرائيلية) والتي مبناها أن الصراع مع الدولة الإسرائيلية هو صراع ممتد ، وأنه
لن يحسمه إلا معركة عسكرية فاصلة . وبناء على هذه النظرية تبلورت صوره نمطية عن
الإسرائيليين كشعب ، وعن إسرائيل كدوله وكمجتمع. والإسرائيليون - وفق هذه الصورة
النمطية - أشتات من البشر جاءوا من مختلف بلاد العالم ، لا يجمع بينهم سوى العقيدة
الدينية (اليهودية ) ولا يدفعهم ويحركهم نحو استعمار فلسطين العربية سوى عقيدة
سياسية متطرفة وعنصرية هي الصهيونية ، وهم بذلك لا يكونون شعبا واحدا منسجما .
فالاختلافات الإثنية (السلالية
) بين اليهود الشرقيين (السفارديم ) واليهود الغربيين (الإشكنازيم ) تمزقهم ، بالإضافة إلى الاختلافات الاجتماعية
والحضارية بين فئاتها المختلفة. وإسرائيل كدولة - وفق هذا التصور النمطي - دولة
عنصرية تعتمد اعتمادا أساسيا على القوة العسكرية . والعدوان والإرهاب ، وهى بذلك مجتمع
عسكري صمم بحيث يكون في حالة حرب دائمة . وإذا كانت هذه هي بعض ملامح الصورة
النمطية التي رسمها العقل العربي طوال العقود الماضية عن إسرائيل شعبا ودولة
ومجتمعا، بكل ما تتضمنه من سلبيات، إلا أنه يمكن القول إن الصورة اكتسبت أبعادا
جديدة بعد الهزيمة العربية في يونيو 1967 . فتحت وطأة الهزيمة الساحقة بدأت بعض
بوادر التضخيم في النموذج الإسرائيلي ، وخلط الكثيرون بين التفوق العسكري والتفوق
الحضاري .
ونشأ
بعد عام 1967 نوع من الكتابات يمكن أن يطلق عليها كتابات " النقد الذاتي بعد
الهزيمة (ا) " وهذه الكتابات التي حاول أصحابها سبر أغوار الهزيمة
وتشخيص أسبابها واقتراح الحلول لتجاوزها ، ركزت تركيزا واضحا على البعد الحضاري في
المواجهة - العربية الإسرائيلية ، وكان التفسير السائد في هذا الوقت أن الهزيمة
ليست مجرد هزيمة عسكرية أو سياسية ، بل هي في المقام الأول هزيمة حضارية. ومضمون
هذا الحكم الخطير أن إسرائيل هزمتنا لأنها تمثل نمطا حضاريا أكثر تقدما من النمط
العربي. ومن هنا ارتفعت دعوات بعض الكتاب - مثل أحمد بهاء الدين - إلى ضرورة إنشاء
( دولة عصرية ) تكون قادرة على مواجهة إسرائيل .
ولقد
كانت هذه التفسيرات - بالرغم من صحة بعض جوانبها - بالغة الخطورة لأنها في نظرها
للنموذج الإسرائيلي ، لم تسطع التفريق بين القوة
العسكرية والتقدم التكنولوجي وبين التفوق الحضاري . ومن ناحية أخرى ، فالزعم بأن
المواجهة العسكرية مع إسرائيل بعد هزيمة 1967 تقتضي - كشرط مبدئي - إنشاء دولة
عصرية ، كان معناه أن ننتظر أجيالا وأجيالا إلى أن ننتهي من بناء الدولة العصرية ،
وكان معنى ذلك بالضرورة تأجيل حرب أكتوبر 1973 ، أو أي مواجهة عسكرية فاصلة مماثلة
إلى أن نستعد لذلك حضاريا .
إن
خطورة الخلط بين القوة العسكرية والتقدم التكنولوجي والتفوق الحضاري، تكمن في
تجاهل الحقيقة التي تؤيدها البراهين التاريخية ، في أنه ليس من الضروري أن تتلاءم
القوم العسكرية الفائقة مع التفوق الحضاري ، ففي كثير من الحالات كانت ممارسة
القوة العسكرية الفائقة في التعامل الدولي بما تتضمنه من عدوان وغزو واستيلاء على
أراضى الغير واحتلال واستعمار ، تعبيرا فجا عن تخلف حضاري مؤكد للدولة التي تقوم
بذلك . والتاريخ القديم والوسيط الحديث زاخر بحوادث هجوم البرابرة على المراكز
المتحضرة وتخريبها ، ولدينا في التاريخ العربي حوادث اكتساح التتار للمدن العامرة
العربية ، وفى التاريخ الغربي نجد الحملات الإمبريالية ضد بلدان العالم الثالث
التي كان بعضها - كما يؤكد عالم الاجتماع الإنجليزي بيتر ورسلى
فى كتابه ( العالم الثالث، أكثر حضارة من الدول الغربية
الغازية(2) ، ولدينا في التاريخ الأوروبي المعاصر ألمانيا النازية بكل
آلة الحرب المتقدمة التي كانت تمتلكها ، والتي سمحت لها باكتساح القارة الأوروبية
. هل كانت ألمانيا النازية أكثر تفوقا حضاريا من باقي الدول الأوروبية التي لم
اكتساحها ؟ أم كانت تعبيرا بليغا عن خطورة النزعات البدائية ، والتوجهات العنصرية
، التي كان من شأنها اضطهاد اليهود أنفسهم وملاحقتهم في كل مكان ؟ (3)
ومن
ناحية أخرى ، فالدعوة إلى إنشاء دولة عصرية كشرط مبدئي قبل المواجهة العسكرية مع
إسرائيل ، تجاهلت الحقيقة التي مؤداها أن الهزيمة في 1967 ، تمت نتيجة لظروف
استثنائية ظلمت فيها القوات المسلحة المصرية ظلما فادحا ، لأنه لم يتح لها أن تعد
للحرب وفق الأصول المعروفة . لقد كانت الهزيمة في الواقع هزيمة للصفوة السياسية
التي عجزت عن تعبئة المجتمع للحرب ، وأدت بالتالي إلى الكارثة العسكرية فى 1967 . والهزيمة ليست حضارية كما زعم بعض الكتاب العرب ،
ولعل أبلغ دليل على ذلك أن القوات المسلحة المصرية استطاعت أن تشن حرب أكتوبر بعد
ست سنوات فقط من هزيمة يونيو . هذه الحرب التي كشفت عن المعدن الأصيل للمقاتل
المصري العربي ، الذي أثبت قدرته على التحديث والمعاصرة ، بل وأكثر من ذلك قدرته
على التجديد والابتكار في مجال التخطيط العسكري والاستراتيجي ، وفى مجالات الإنجاز
الميدانية . ويكفى دليلا على ذلك أن ما استحدثته القوات المسلحة المصرية في هذه
الحرب ، اعتبرته المراكز الاستراتيجية في العالم نقطة
تحول حاسمة في الحرب الحديثة .
ولا
يعنى ذلك على وجه الإطلاق أننا بلغنا المدى في التفوق الحضاري ! على العكس نحن
مازلنا نكافح للانتقال من مرحله التخلف إلى مرحلة التقدم ، في إطار عالمي يتسم
بالصراع الحاد والعنيف بين الدول الفقيرة والدول الغنية . الدول الفقيرة تطالب
بحقها من المساعدات الاقتصادية، وحق الحصول على التكنولوجيا الحديثة ، والدول
الغنية مازالت غارقة - بمفهوم غير حضاري بالمرة - في سباق التسلح العقيم ، الذي
يؤثر سلبا على قدرتها فى مجال مساعدة الدول الفقيرة .
نحن
إذن - كدولة في العالم الثالث - في خضم الصراع في سبيل التحديث والتقدم ، غير أننا
لسنا بعيدين كثيرا عن المستوى الذي وصلت إليه إسرائيل . ذلك أن إسرائيل - وهذه هي
الفكرة الرئيسية في هذا البحث - لا تقدم لنا نموذجا حضاريا يستحق الاقتداء ، بل
إنها على العكس - بحكم سياستها العنصرية إزاء الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة -
مازالت تفتقر إلى المفهوم الحضاري الحقيقي في كيفية التعامل السلمي مع الشعوب، وهى
إن كانت متفوقة عسكريا ، فالتفوق العسكري ليس حكرا عليها ، فقد استطعنا في حرب
أكتوبر أن نضع أيدينا على المفاتيح الأساسية لأساليب التطوير العسكري الحديث ، وهى
إن كانت متفوقة تكنولوجيا في بعض الميادين ، فهذا التفوق مستعار في المقام الأول
من التكنولوجيا الأمريكية والأوروبية . وإذا كنا نستطيع أن نذهب إلى الأصول - في
مجال نقل التكنولوجيا - فما هي حاجتنا لكي نتسكع في دروب الفروع ؟
إن
قضية التحدي الحضاري بين العرب وإسرائيل في ظروف السلام تقتضي نظرة ثاقبة لطبيعة
الصراع العربي - الإسرائيلي ، وتحليلا نقديا للنظريات الغربية التي صيغت بصدد
تفسيره . بغير هذه النظرة وبدون هذا التحليل يصبح الحديث عن التحدي الحضاري لغوا .
ذلك لأنه بغير معرفة بجذور الصراع وبطبيعته ، لا يمكن الكلام عن مرحلة السلام
واتجاهاتها .
أولا : طبيعة الصراع العربي - الإسرائيلي في ضوء نموذج
الصراع في العلاقات الدولية.
ليس
هناك شك في أن التحديد الدقيق لطبيعة الصراع العربي - الإسرائيلي من شأنه أن
يساعدنا في التعرف على آفاق العلاقات بين العرب وإسرائيل . هل ستكون علاقات تعاون
في إطار تنافسي، أم أن هناك احتمالات لكي تنشأ علاقات صراع فكرى أو حضاري ؟
وقد
حاول بعض علماء العلاقات الدولية وضع نموذج model يمكن الاستعانة به في دراسة الصراع
الحضاري (5) ، ومن المعروف أن وضع " النماذج " هو أحد
الأساليب العلمية التي تساعدنا على دراسة واكتشاف العلاقات بل المتغيرات المختلفة
ونحن بصدد دراسة ظاهره محددة · )) .وقد دعا هؤلاء العلماء ( أ . جلين ، د . جونسون
، ب . كملل ، ب . ودج ) إلى صياغة هذا النموذج لعدم
اقتناعهم بكفاية بعض النماذج السائدة فى ميدان تحليل
الصراعات الدولية مثل نموذج "نظرية الألعاب" game theory . ذلك أن نموذج نظرية الألعاب ينطبق - أكثر ما ينطبق - على صراع
المصالح بين الدول ، ولكنه لا يصلح في التطبيق إذا ما كان الصراع صراعا في الفهم
وليس صراعا في المصالح بين طرفين دوليين.
نموذج نظرية الألعاب :
تستهدف
نظرية الألعاب إلقاء الضوء على المواقف التي تضم طرفين على الأقل - يطلق على كل
منهما اسم اللاعب - بينهما صراع في المصالح ، ويعمد أحد
هؤلاء اللاعبين على الأقل إلى انتهاج أسلوب معين في التصرف - وهو ما يطلق عليه اسم
استراتيجية - من شأنه أن يودي إلى زيادة مصلحته أو
مكاسبه إلى أقصى حد ممكن تسمح به ظروف الموقف وقيوده ،
وأهم تلك القيود التي يفرضها عليه الموقف ولاشك هي : استراتيجيات اللاعبين الآخرين
الذين يشاركون ذلك الموقف ، والملاحظ عند تطبيق نظرية اللعب في تحليل استراتيجيات
اللاعبين الأفراد الذين يوجد بينهم صراع فى المصالح أن
المفروض عادة أن يتوفر لدى اللاعبين المختلفين :
(
أ ) نفس الفهم الواحد لقواعد اللعبة التي يشتركون فيها.
(
ب ) نفس مدلول قيم المكسب والخسارة في هذا الموقف.
وتوضح
لنا هذه الفروض وغيرها أن نظرية الألعاب لا يمكن أن تقدم لنا نظرية شاملة لتفسير
الصراعات بصفة عامة والصراعات الدولية على وجه الخصوص ، ذلك أنه من المؤكد أن
مختلف أطراف الصراعات الدولية لا يتفقون دائما في فهمهم لقواعد اللعبة ولمعنى قيم
المكسب والخسارة ، ويمكن أن نقول بمعنى آخر إن الصراعات ليست كلها بالضرورة صراعات
فى المصالح أساسا. ولو أن هذا لا ينفى طبعا أن هناك بعض
المواقف فى السياسة الدولية التي بتشابه فيها فهم طبيعة
الموقف لدى صانعي القرارات ، كما يتشابه تقديرهم لما هو مرغوب وما هو غير مرغوب ،
وأن هذا التشابه من الكفاية بحيث يسمح لنا باستخدام نموذج نظرية الألعاب كأداة
فعالة من أدوات البحث في مثل تلك المواقف .
نموذج الصراع الحضاري :
فى ضوء هذا النقد الذي
قدمه هؤلاء العلماء إلى نموذج نظريه الألعاب ، قدموا تفرقة بين صراع المصالح وصراع
الفهم ، على أساس أن هناك كثيرا من المواقف الدولية التي لا يرجع فيها الصراع إلى
تعارض المصالح (ندرة الموارد مثلا) بقدر ما يرجع إلى تباين طرق الفهم (مثل اختلاف
الأساليب المعرفية ) ، وصراع المصالح لا يمكن حله إلا عن طريق تنازل كل من الأطراف
المعنية عن جانب من مصالحه ، أو عن طريق تنازل أحد الطرفين عن مصالحه كاملة لصالح
الطرف الآخر ، وبنك يحل الصراع . أما بالنسبة لصراع الفهم ، أو بعبارة أخرى تعارض
أسلوب كل طرف في فهم موقف الطرف الآخر ، فإن السلام لا يتحقق إلا من خلال تكوين
بعض "الأفكار الوسيطة"· )) أي التي تتوسط بين الأطراف المختلفة وآلتي
يمكن أن تؤدي إلى فهم كل منها لموقف الآخر ، وبالتالي للموقف المشترك . ويضرب
المؤلفون مثلا لهذه الأفكار الوسيطة بمفهوم الدولة ذات السيادة ، والثقافة
المشتركة ، والتقارب عن طريق المنظمات . فكرة الدولة ذات السيادة ، معناها أن يعترف كل طرف من أطراف الصراع بالطرف الآخر بدون انتقاص .
بعبارة أخرى إذا نظر للبلاد المتصارعة باعتبارها دولا وللأشخاص باعتبارهم مواطنين
، فإن جزءا من صراع الفهم يمكن حله . ( الإشارة الضمنية هنا عدم اعتراف العرب
بإسرائيل باعتبارها دولة ذات سيادة ، وعدم اعترافهم بالإسرائيليين باعتبارهم مواطنين
في هذه الدولة ) . أما فكرة الثقافة المشتركة فيمكن أن تتحقق من خلال الاتصال
الثقافي بين الأطراف المتصارعة وما يترتب عليه من التقارب الحضاري ، مع الأخذ في
الاعتبار أن هذه العملية تتم ببطء وتتعرض لمعوقات عديدة. هذه الوحدة في الهوية
الحضارية من شأنها أن تقضى تماما على الصراع الناشئ عن الاختلافات في الفهم (
وليست تلك الناجمة عن صراع المصالح ) .
وتبقى
أخيرا الفكرة الوسيطة الثالثة ، وهى التقارب عن طريق الاشتراك في منظمات واحدة ،
ويبدو هذا النوع من التقارب أوضح ما يكون في الهيئات الدولية، ولكنه - كما يشير المؤلفون
ببراعة - يبدو فعالا بدرجة أكبر في الحالات تكون فيها تلك الهيئات ثنائية تجمع بين
دولتين وتنسق بين وجودهما وتقرب بينهما (الإشارة ضمنية أيضا لإسرائيل وغيرها من
البلاد العربية ) . في هذه الحالة - كما يرون - يتحول أعضاء تلك الهيئات في معظم
الحالات من معبرين عن أيديولوجيتهم القومية الخاصة إلى خبراء في أيديولوجية البلد
الآخر ، أو حتى الوقوف في صف تلك الأيديولوجية الأخرى التي يمكن أن تكون أكثر نفعا
وأجدى في تحقيق رسالة منظمة ثنائية معينة .
.أنماط
التفاعل الفكري :
نموذج
الصراع الحضاري - كما سبق شرحه - هو النموذج الأمثل الذي يراه هؤلاء المؤلفون لحل
صراع بين طرفين دوليين متصارعين، ولكي يكتمل النموذج فهم يقدمون وصفا لأنماط
التفاعل الفكري بين الدول . بعبارة أخرى يمكن تصنيف الدول بحسب مجموعة من الأبعاد:
البعد
الأول : الدول التي تسودها النظرة الشمولية العامة في مقابل الدول التي تسودها
النظرة التفصيلية التي تنطلق من الحالات الفردية .
البعد
الثاني : الدول التي يسودها التفكير الارتباطي في مقابل
الدول التي يسودها التفكير التجريدي .
ولنلاحظ
قبل أن ندخل في التفاصيل أن هؤلاء المؤلفين يوحون بأن الدول العربية تنتمي إلى
النوع الأول (النظرة الشمولية العامة والتفكير الارتباطي
) وهذا النوع متخلف ، وأن إسرائيل تنتمي إلى النوع الثاني ( النظرة التفصيلية
والتفكير التجريدي ) ، وهذا النوع متقدم.
البعد الأول : النظرة الشمولية في مقابل النظرة التفصيلية
الثقافة ذات النظرة الشمولية :
تؤكد
هذه الثقافة على أهمية التبرير اللفظي ، فالقوانين تعبر عن مثل عليا ، أما تنفيذها
فيأتي في المرتبة الثانية بعد التركيز على محتواها المثالي ، ومن هنا تحلل الأفكار
العامة والمثل العليا المرتبة الأولى ، وتمثل محور الارتكاز الأساسي ، وبالتالي لا
نجد هنا اهتماما كبيرا بالنزول إلى مستوى التفاصيل الدقيقة ، ولا الميل هذه
الثقافة إلى الحلول الوسطى ، على أساس أن التسليم بنقاط غير مقبولة قد يفهم منه
أنه تسامح في التسليم بمبادئ فاسدة .
الثقافة ذات النظرة التفصيلية :
تتميز
هذه الثقافة بتحديد مجال الرؤية أو تضييق الإطار المرجعي كلما أمكن ذلك، فالمعرفة
تقسم إلى عدد كبير من الحالات أو القضايا الفردية المستعملة ، ومن ثم لا تسعى هذه
النظرة إلى حل قضايا ومواقف كلية دفعه واحدة . وتتميز هذه الثقافة أساسا بالتفكير الاستقر ائي inductive، أو محاولة استخلاص الأحكام العامة من الحالات الفردية ، ومن
أمثلة هذا الاتجاه استخدام الإحصاءات كأساس لاتخاذ القرارات ، على خلاف استخدام
المبادئ لإثبات صحة وصواب قرارات متخذة سلفا ، كما هو الحال بالنسبة لسلوك أبناء
الثقافة الشمولية ، لذلك فالمفاوض من أبناء هذه الثقافة يسعى دائما نحو الحلول
الوسط واقتناص الامتيازات بقدر الإمكان .
البعد الثاني: التفكير الارتباطي
في مقابل التفكير التجريدي
يتميز
التفكير الارتباطي associative بميل الإنسان إلى الاستجابة لبيئته بشكل مباشر ، غالبا ما يكون
حدسيا أيضا ، بينما يتميز التفكير التجريدي abstractive بالتفكير المنظم القائم على الاستنتاج من الوقائع أو المقدمات ،
والمحاولات المنهجية المنظمة للتمييز بين ما هو متصل بالموضوع وما ليس متصلا به.
والاستجابة
الارتباطية للأحداث تتمثل في كونها نتيجة تداعى الأفكار
، وليس نتيجة لتفكير منهجي منظم ، أما أسلوب التفكير التجريدي فنجده متمثلا في
العلوم الحديثة . فالنتائج تعتمد على الاستعانة بمناهج ذات قيمة وكفاءة مؤكدة ،
ويميز هذا النوع من أنواع التفكير تمييزا حاسما بين ما هو متصل بالموضوع وما ليس
متصلا ، أو بين المعلومات " والشوشرة " أو "الضوضاء " التي قد
تنشأ بصدد دراسة موضوع معين
ويكشف
المؤلفون القناع عن وجههم حين يحاولون تطبيق نموذجهم على الصراع العربي الإسرائيلي
. فهذا الصراع - في زعمهم - ليس صراع مصالح ولكنه صراع فهم ، وهو بهذه الصفة راجع
إلى زرع دولة - هي إسرائيل - ذات ثقافة تجريدية ( متقدمة ) وسط منطقة ذات ثقافة ارتباطية ( متخلفة ) ، وأن أساليب معيشة هذه الدولة الجديدة
تهدد الفهم الارتباطي ( المتخلف ) لمعنى المشروعية
وللإحساس بالهوية.
تقييم للنظرة الغربية الإسرائيلية للمجتمع العربي:
إن
نموذج الصراع الحضاري في مجال العلاقات الدولية الذي عرضنا له ليس سوى صياغة حديثة
ومنهجية للنظرة العنصرية الغربية والإسرائيلية للعرب، وقد سبق لنا أن تعقبنا
الأصول التاريخية لهذه النظرة العنصرية في كتابنا ( الشخصية العربية بين مفهوم
الذات وتصور الآخر ) ، وحللنا نقديا كل هذه الآراء التي تزخر بها
كتابات المستشرقين والكتاب الغربيين .
والجديد
في هذه المحاولة هو محاولة نفي تناقض المصالح بين إسرائيل والدول العربية ، والزعم
بأنه مجرد صراع في الفهم ، لو أمكن إصلاحه من خلال الأفكار الوسيطة ( الاعتراف
بشرعية الدولة بالنسبة لكل طرف ، وصياغة ثقافة مشتركة ، والتقارب من خذل التعاون
في المنظمات ) لانتهى الصراع .
والواقع
أن هذه الأفكار الوسيطة التي تدعو لها هذه الدراسة تهدف في المقام الأول إلى ما
يمكن أن نطلق عليه ترويض الشخصية القومية العربية . ونعنى بهذا على وجه التحديد
ليس فقط انتزاع الاعتراف بشرعية الدولة الإسرائيلية ، ولكن أخطر من ذلك القضاء على
الهوية الفكرية والثقافية والحضارية للمجتمع العربي بعملية غزو ثقافي مدروسة ، من
خلال الدعوة البريئة إلى خلق ثقافة مشتركة تتم من خلال الاتصال الثقافي الذي من
شأنه أن يؤدى إلى التقارب الثقافي . بل إن الفكرة الوسيطة الثالثة (التقارب عن
طريق المنظمات ) يراد لها أن تؤدى إلى أن أعضاء تلك الهيئات الثنائية المشتركة لا
يقنعون فقط بتفهم أفكار الطرف الأخر ( إسرائيل في هذا المثال ) ولكن أبعد من ذلك
يقومون بالترويج للإيديولوجية الأخرى ( الإسرائيلية ) على أساس أنها أكثر نفعا
وأجدى في تحقيق رسالة هذه الهيئة الثنائية . وبالرغم من أن الدراسة تتحفظ وتقرر
أنه ليس من الضروري أن ينصب هؤلاء الأعضاء ( العرب في هذا المثال) أنفسهم مدافعين
عن أيديولوجية البلد الآخر فإنهم قد يجدون أن لتلك الثقافة الأخرى (الإسرائيلية في
هذا المثال ) شيئا يمكن التعامل معه وتوجيهه وجهة معينة . وهكذا يمكن القول إن
هناك استراتيجية غربية ( إسرائيلية ) تحاول من خلال
عملية السلام ترويض الشخصية القومية العربية من خذل الغزو الثقافي ، الذي يراد له
أن يتم تحت شعار أهمية التقارب الثقافي وخلق ثقافة مشتركة .
وعلى
ذلك يمكننا أن نقرر أننا في حاجة ليس إلى التحدي الحضاري لإسرائيل، فهي لا تقدم
كما أكدنا في المقدمة نموذجا حضاريا يمكن الإقتداء به ،
أو يستحق الصراع حضاريا معه ، ولكننا في حاجة إلى مقاومة الغزو الثقافي الإسرائيلي
الذي يمكن أن يصل إلى أهدافه لو لم نتسلح بالمنهج العقلاني النقدي ، ولو لم نكن
على وعى كامل بأهمية عمليات الغزو الثقافي في السيطرة على الشعوب . والغزو الثقافي
عملية برعت فيها الدول الاستعمارية التقليدية ، ويبرع في تطبيقها الآن الاستعمار
الجديد ، الذي كف عن احتلال الدول بالقوة العسكرية ، ولكنه ينفذ إليها من خلال
تصدير نموذجه الحضاري ، وتأثيره على الاتجاهات والقيم والعاد'ت
وأسلوب الحياة ، ويعتمد في ذلك على عديد من الوسائل والأدوات ، لعل أهمها الثورة
العلمية والتكنولوجية في مجال الاتصالات الدولية . فمن خلال الإذاعة والتليفزيون
ومن خلال الأقمار الصناعية التي تسيطر عليها الدول الكبرى ، يمكن لهذه الدول أن
تؤثر تأثيرا فعالا على الاتجاهات والقيم ، وبالتالي أسلوب الحياة في عديد من بلاد
العالم الثالث . وهكذا يمكن القول إن هذه حالة بارزة من حالات تأثير التكنولوجيا
على الأيديولوجيا ، وهى مسألة تحتاج إلى دراسة نقدية
متعمقة ، ليس هنا مجال الإفاضة فيها(6)
وإذا
كانت أمامنا مهمة عاجلة هي مقاومة الغزو الثقافي الإسرائيلي من خلال الحفاظ على
إيجابيات الشخصية القومية العربية ، فلا يعنى هذا أن مهمتنا قد انتهت . ذلك أن
مهمتنا الرئيسية التي سوف تحتاج إلى كل جهودنا الفكرية ، وإلى جميع إبداعاتنا
الذهنية هي صياغة استراتيجية حضارية عربية قادرة على
التعامل مع !لمشكلات التي يثيرها عصرنا ، وتكون هي وسيلتنا في القضاء على التخلف ،
والانطلاق في مجال التقدم ، ولا يمكن لنا الحديث عن هذه الاستراتيجية
الحضارية ، قبل محاولة تشخيص أزمة التطور الحضاري في العالم العربي .
ثانيا : أزمة للتطور الحضاري في العالم العربي
يمر
التطور الحضاري في العالم العربي بأزمة لاشك فيها ، وقد كشف عن عمق هذه الأزمة
الصدام العنيف العاصف بين جيوش الحملة الفرنسية بقيادة نابليون وجيش المماليك عام
1798 . في هذه المعركة العسكرية الفاصلة ظهر للعيان تخلف المجتمع العربي بوجه عام
في مواجهه المجتمع الغربي المتقدم ممثلا في فرنسا ، وأيا كانت أسباب هذا التخلف ،
وسواء رددناها إلى مرحلة الانحطاط التي مرت بها البلاد
الإسلامية بعد قرون طويلة من الازدهار والرقى والتقدم ، قادت فيها الحضارة العربية
الإسلامية الإنسانية جمعاء في ميادين العلم والفكر والفن ، أو إلى تأثير مرحلة
الجمود والتخلف الطويلة في ظل الهيمنة العثمانية على العالم العربي ، والتي استمرت
حوالي خمسة قرون ، فإن المفكرين المصريين سرعان ما أدركوا عمق تخلفنا في مواجهه
تقدم الغرب . ولنقرأ كتاب مؤرخنا العظيم عبد الرحمن الجبرتي وهو يصف معامل الحملة
الفرنسة وما تزخر به من أدوات حديثة ، ولنتأمل انبهاره
الشديد واندهاشه من بعض التجارب الكيمائية البسيطة التي أجراها أمامه علماء الحملة
، لندرك عمق هذا التخلف الذي عبرت عنه عبارة الجبرتي الشهيرة " إن هذه أشياء
لا تدركها عقول أمثالنا " .
أي
أنه في الوقت الذي غرقنا فيه في ظلمات التخلف خمسة قرون كاملة شهد الغرب - كما
يقرر مؤرخنا الجليل الدكتور أحمد عزت عبد الكريم - " عدة ثورات أضفت على
حضارته قوة جديدة : النهضة الأوروبية أو حركة إحياء العلوم ، الثورة الدينية أو
حركة الإصلاح الديني ، ثورة النقل أو اكتشاف طرق عالية جديدة وقارات جديدة ، حركة
الاستنارة أو الثورة الفكرية في القرن الثامن عشر، الثورة الصناعية واكتشاف البخار
، الثورة الفرنسية أو ثورة الديمقراطية "وجوب النظر العقلي". (7)
وبناء
على ذلك تغير المجتمع الغربي تغييرات جوهرية ، في حين وقف الشرق الإسلامي جاهلا
تماما مدى التطور الذي حدث لخصيمه ، فظن كما يقرر د .
عزت عبد الكريم - " أن جنود بونابرت لا يختلفون عن فرسان القديس لويس الذي
هزمهم وأسر ملكهم في المنصورة ، وخرج زعيم أمراء المماليك مزهوا بنفسه وجنده ليدوس
الغزاة بخيلة وركبه ويلقى بهم في البحر، وسرعان ما تبددت الأسطورة وأدرك المصريون
أن الأمر مختلف ، وأنهم يواجهون اليوم قوما يختلفون عن أسلافهم منذ خمسة قرون
".
ففي
هذه اللحظة راح العرب والمسلمون - بتأثير الصدمة الأولى - يتساءلون عن سر الهزيمة
التي لحقت بهم : أهو كامن في مجرد التفوق العسكري ، أم كامن وراءه تفوق آخر في
العلم والصناعة وشئون الاقتصاد والمال؟ وهكذا يخلص الدكتور عزت عبد الكريم إلى أن
الاصطدام بين القوتين الإسلامية والأوربية الغربية لم يكن مجرد صدام بين قوتين
مسلحتين ، ولكنه كان صداما بين حضارتين ونظامين .
ولا
يقبل د . عزت عبد الكريم مغالاة بعض الباحثين الذين يذهبون إلى أن الصدام كان بين
حضارتين إحداهما آفلة والأخرى مزدهرة ، وهى الحضارة الأوروبية الغربية ممثلة في
فرنسا في ذلك الوقت ، ويؤكد على الفكرة التي ركزنا عليها فى
المقدمة وهى أن الانتصار العسكري ليس دائما مظهرا لتفوق حضاري ، ومن ناحية أخرى
يرى أن الحضارة الإسلامية في ذلك الوقت من القرن الحادي عشر للهجرة ( القرن الثامن
عشر الميلادي ) لم تكن حضارة آفلة وإن كان قد أصابها قدر كبير من الركود والجمود ،
نتيجة لانتشار روح المحافظة والنأي عن أي تجديد . المهم أن فريقا من المفكرين
المسلمين الرواد راحوا يبحثون عن سر هذا التفوق.
أو
الانتصار العسكري الذي أحرزه الغرب . هذا السر على نحو ما أدركه هؤلاء الرواد كامن
لا في تفوق الحضارة الغربية على الحضارة العربية الإسلامية ، وإنما يكمن في أن هذه
الحضارة الأخيرة أخذت بالعلم مطبقا في مجالات الصناعة والحكم والإدارة والقوة
العسكرية وسائر مرافق الحياة الغربية .
فالمسألة
إذن - كما يقرر د . عبد الكريم - لم لكن اختلافا " في درجة الحضارة "
بقدر ما كانت اختلافا في " نوع " الحضارة، فالحضارة العربية الإسلامية
بقيت مقصورة في الغالب على النواحي النظرية أو ما يجري مجراها في شئون الحياة
العامة ، ولكن حضارة الغرب منذ عصر النهضة في القرن الخامس عشر أخذت تتوسع في جانب
التطبيقات العلمية ، واتخذت منها على الخصوص سلاحا اصطنعته في بناء القوة الحديثة
في البر والبحر ، وبهذه القوة غزا الغرب الأوروبي العالم وسيطر على كقدراته.
أدرك
هؤلاء الرواد إذن أن تفوق الأوروبيين - الكفرة - على حد تعبير نفر منهم ، يرجع إلى
ما أسموه " الصنايع " الحديثة التي أخذ بها
الغرب ، فدعوا قومهم إلى الأخذ بهذه الصنايع أو ما نسميه بلغتنا الحاضرة ،
تكنولوجيا الغرب ، وهذه الدعوة تكاد تتطابق لدى رواد الفكر الإسلامي في النصف
الأول من القرن التاسع عشر ، وقد عاصروا جميعا المعارك الأولى التصادمية بين العرب
والغرب ، ونتائج هذه المعارك التي لم تكن في مصلحة العرب والمسلمين .
منذ
هذا الوقت تبلورت الإشكالية الأساسية في الفكر العربي الحديث وهى إشكالية الأصالة
والمعاصرة . ومبنى هذه الإشكالية ببساطة أنه بعد إدراكنا ووعينا بأننا متخلفون عن
الغرب ، أي سبيل نسلك لكي نعبر هوة التخلف وننطلق في مضمار التقدم ؟ نحن مجتمع
قديم يمتلك تراثا حضاريا أصيلا هو التراث العربي الإسلامي، وقد مررنا من قبل في
مرحلة تاريخية كنا فيها السابقين، بل كنا نحن أشعة استنارة في العالم ، في الوقت
الذي رزحت فيه أوروبا في ظلمات القرون الوسطى، ومن ثم فنحن لا ننطلق من فراغ ،
لدينا تراثنا الذي جمدناه طويلا فلم نواصل الإبداع في رحابه ، ولم نبن على قواعد
الإنجاز العظيمة التي وضعها أسلافنا ، كيف نوفق بين الاحتفاظ بتراثنا وبين
الانفتاح على الغرب لكي نمتلك ناصية القوة والتقدم ؟ هل نقلد الغرب تقليدا كاملا
فتضيع بالتالي هويتنا الحضارية ؟ أم نجدد تراثنا العربي الإسلامي ويكون هو الأساس
للتنمية والتقدم ؟ أم نوفق بين تراثنا وبين المعاصرة بحل وسط ؟ كل هذه التساؤلات
دارت في أذهان المفكرين المصريين والعرب منذ رفاعة الطهطاوي حتى زكى نجب محمود .
عبر الزمن تبلورت إجابات متعددة تحاول الرد على السؤال الرئيسي الذي تطرحه إشكالية
الأصالة والمعاصرة.
يقرر
د . زكى نجيب محمود في دراسته "الأصالة والتجديد" في الثقافة العربية
المعاصرة "أن رجال الثقافة العربية الحديثة ينقسمون طوائف ثلاثا في مواقفهم
من العصر وقضاياه " طائفة منها رفضت العصر ولاذت بالتراث وحده ، كما تطرفوا
في وجوب الأخذ بمبادئ الشريعة في تنظيم الحياة ، كما تناولوا الفكر بمثل ما تناوله
مصطفى صادق الرافعي . وطائفة ثانية قبلت العصر بحذافيره ، فإذا تعارض مع أصول
التراث العربي رفضوا التراث ، مثل فرح أنطون وسلامة
موسى، وأما الطائفة الثالثة فهي التي صنعت لنا ثقافتنا العصرية لأنها هي التي زودت
نفسها بكلا الزادين :
الثقافة العربية الأصيلة وثقافة عصرنا ، وأخرجت منها مزيجا هو الذي نطلق عليه بحق
" الثقافة العربية الحديثة" وفى مقدمة هؤلاء : طه حسين ، والعقاد ،
وتوفيق الحكيم، وأمين الريحاني ، وميخائيل نعيمة ، وسائر من سار على هذا النهج
القويم .
من
هذه الفقرة يمكن أن نضع أيدينا على تيارات فكريه ثلاثة أساسية حاولت الرد على
إشكالية الأصالة والمعاصرة :
-
تيار رافض للمعاصرة ويميل أساسا إلى جانب التراث ( على اختلاف في درجة رفض
المعاصرة ، من الرفض الكامل إلى محاولة التوفيق مع روح العصر ) .
-
تيار قابل للمعاصرة تماما حتى ولو تعارضت مع التراث .
-
تيار يحاول التوفيق والوصول إلى حل وسط بين الأصالة والمعاصرة .
ولو
حاولنا أن نتعمق في هذه التيارات الفكرية الثلاث من خلال عملية تنميط علمي لقلنا
إن ثلاثة مفكرين مصريين يصلحون للدلالة على الإجابات المختلفة التي اقترحت للرد
على إشكالية الأصالة والمعاصرة، وهؤلاء - ونحن هنا نطبق منهج المفكر العربي
المعروف عبد الله العروي في كتابه" الإيديولوجية
العربية المعاصرة " - هم الشيخ محمد عبده ، وأحمد لطفي السيد ، وسلامة موسى.
أما
الشيخ محمد عبده فقد دعا إلى التوفيق بين الإسلام والمعاصرة في حين أن أحمد لطفي
السيد دعا بكل قوته إلى تطبيق النموذج الليبرالي الغربي ، وأخيرا نجد سلامة موسى
ممثلا لهؤلاء الذين دعوا الي اقتباس تكنولوجيا الغرب ،
وخلاصة ذلك كله أن الدين والديمقراطية والتكنولوجيا هي المسائل الكبرى التي عنى بها المجتمع العربي منذ نهضته الحديثة .
ومن
الواضح أن كل مسألة من هذه المسائل تثير خلافات واسعة المدى :
-
أى مفهوم للدين نتبعه ، وما علاقة الدين بالدولة ، وما
علاقة الدين بالسياسة بوجه عام ؟
-
أي نمط من أنماط الديمقراطية يصلح لنا ؟ لقد خبرنا الديمقراطية الليبرالية وفشلت ،
وكانت ثوره يوليو 1952 إعلانا بفشلها . وجربنا الديمقراطية الاجتماعية في المرحلة
الناصرية وفشلت ، و ها نحن نحاول صياغة ديمقراطية اجتماعية جديدة فهل ننجح ؟
-
وتبقى مسألة التكنولوجيا بكل ما يحيط بها من مشكلات :
هل يمكن استيراد التكنولوجيا بدون أن يتأثر بناؤنا الاجتماعي بها
؟ بعبارة أخرى هل يمكن استيراد التكنولوجيا ونقلها إلى مجتمعنا بدون استيراد القيم
المصاحبة لها والتي تركز عليها ، وإذا كان هذا صحيحا فهل نحن على استعداد لمجابهة
عملية صراع القيم، بين القيم الوافدة وقيم مجتمعنا ؟
كل
هذه أمثلة على التساؤلات الأساسية التي تطرحها مشكلة الأصالة والمعاصرة، والتي
تكشف عن أزمة التطور الحضاري في العالم العربي، وهى أزمة لأننا مازلنا بعد لم نجب
إجابات نهائية على ما تثيره المشكلة من أسئلة. ومازلنا ندور وندور في نفس الحلقة .
نجرب ونفشل ونستفيد من التجارب ، هذا صحيح ، ولكن هل معرفتنا بمجتمعاتنا ذات طابع
تراكمي إيجابي من شأنها أن تدفعنا في كل حقبة تاريخية إلى الأمام ؟ أم أننا نتقدم
خطوه ثم ما نلبث أن نتأخر خطوات عديدة ، ونبدأ من الصفر
من جديد ؟ هذا هو السؤال.
ثالثا : نحو استراتيجية حضارية
ينبغي
قبل الحديث عن الاستراتيجية الحضارية أن نحدد بشكل نقدي
بعض التعريفات لمشكلة الأصالة والمعاصرة.
الأصالة
بمعنى التراث يمكن أن تنطوي على موقف رجعى كما يقرر د . صادق جلال العظم : "
إذا فهمنا الأصالة على أنها نوع من الارتداد إلى الوراء ، أو نوع من السلفية أو
القول بأن هناك شيئا يدعى ( الروح العربية الأصيلة ) ، وهذه الروح ثابتة وباقية على
ما هي عليه عبر العصور ، وهذا يعنى أنها غير خاضعة لشروط المكان والزمان والظروف
الاجتماعية والتبدلات التاريخية، أى
بتعبير آخر أن هناك جوهرا ثابتا اسمه الأصالة العربية ، وهو غير مرتبط بالظروف
الاجتماعية والطبقية والتحولات التاريخية "وجوب النظر العقلي" . (10)
والأصالة
التي تدعو إلى العودة إلى التراث ينبغي عليها أن تحدد ما هو التراث على وجه
التحديد ، والتراث - كما يقرر د . إحسان عباس: " هو نتاج تراكمي لأمة من
الأمم على مر الزمن . هو ذروة النشاط الإنساني في مجالات الفكر والأدب والأسطورة
والدين والفن والعلم والعمران . في صراع ذلك الإنسان مع واقعه المتغير المتطور ،
أو بعبارة أخرى : التراث صورة الماضي ، وبما انه كذلك فإنه لا يمثل عصرا بذاته ولا
مجتمعا بذاته ، كما أنه ليس إيجابيا دائما ولا سلبيا على الدوام ، ومن ثم تتفاوت
في القيم وتتعدد وتموت وتحيا ، بحساب الحاجات الإنسانية
في البيئات المختلفة ". (11)
ولن
يجدينا أيضا أن نرفع شعار المعاصرة بغير تحديد ، ففي العصر الراهن هناك العديد من
الإيديولوجيات ، ومن أنماط المجتمعات الإنسانية ، ومن الثقافات وأساليب الحياة ،
أيها نأخذ وأيها ندع ولماذا في الحالتين ؟
لعل
أول موجه من موجهات الاستراتيجية الحضارية التي ينبغي
على المتجمع العربي أن يصوغها هو بناؤها على قاعدة متينة من الفهم النقدي لتراثنا
العربي والإسلامي . تراثنا زاخر بالخبرات والممارسات الفكرية والسياسية
والاجتماعية ، ولا يكفي أن نحمله فوق أكتافنا ونتغنى به
فيصبح تاريخنا عبئا - بمصطلحات أستاذنا قسطنطين زريق - بدل أن يكون حافزا . هناك إذن ( التاريخ - العبء )
الذي يمنع أصحابه من الحركة ، والذين يغرقون في تأمل ماضيهم الذهبي عاجزين عن
التعامل الإيجابي مع الواقع ، وهناك ( التاريخ - الحافز) الذي يدفعك دفعا إلى
الأمام في ضوء فهم نقدي للماضي لتجاوز السلبيات وتأكيد الإيجابيات (12)
ولنطرح
الآن السؤال الرئيسي : ما هو الهدف من الاستراتيجية
الحضارية العربية التي ندعو إليها ؟
الهدف
- فيما نتصوره " هو بناء مجتمع إنساني متحضر قادر على الوفاء بالحاجات
الأساسية للإنسان ، وفاعل في التعامل مع متغيرات العصر وأبرزها الثورة العلمية
والتكنولوجية ، والمشاركة السياسية الجماهيرية ، واحترام حقوق الإنسان. لتحقيق هذا
الهدف لابد لنا من أن ندخل عديدا من التغييرات على عاداتنا الفكرية واتجاهاتنا
وقيمنا وأساليب حياتنا ، وطرقنا في التعامل والتفاعل مع الآخرين .
مشكلتنا
الأساسية وهى التخلف تكشف عنها ضآلة سيادتنا على الطبيعة ، وضعفنا في استغلال
مواردها ، وهزال تنظيماتنا الاقتصادية والاجتماعية ، وضيق قدرتنا التكنولوجية
والتنظيمية بوجه عام . وليس أمامنا من سبيل لتجاوز مشكلة التخلف إلا الاعتماد على
مجموعة متشابكة من الوسائل والأدوات والأساليب يمكن إيجازها فيما يلي:
1- الاعتماد على التفكير العلمي في نواحي حياتنا :
هذا
هو موضوع الساعة في العالم العربي . كما يقرر د . فؤاد زكريا : " ففي الوقت
الذي أفلح فيه العالم المتقدم - بغض النظر عن أنظمته الاجتماعية - في تكوين تراث
علمي راسخ امتد في العصر الحديث طوال أربعة قرون ، وأصبح يمثل في حياة هذه
المجتمعات اتجاها ثابتا يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه ، في هذا الوقت ذاته يخوض
المفكرون في عالمنا العربي معركة ضارية يى سبيل إقرار
أبسط مبادئ التفكير العلمي، (13) والحقيقة أننا في عصر العلم ، فالثورة
العلمية والتكنولوجية تعنى أول ما تعنى أن العلم أصبح - وللمرة الأولى في تاريخ
البشرية - قوة أساسية من قوى الإنتاج .
ولا
تكفى دعوتنا لتطبيق التفكر العلمي بغير إثارة مجموعة أساسية من الأسئلة :
(
أ ) ما هي المعوقات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تمنع ممارسة التفكير
العلمي في مجتمعنا ، وفى كل المجالات ؟
(
ب ) لماذا لا نحصل من علمائنا وباحثينا المدربين على أكبر عائد ممكن ؟ هل العيب في
سياسات العلم في مجتمعنا وتذبذبها وعدم اتساقها ، أم العيب يكمن في العلماء أنفسهم
؟
نحن
في حاجة إلى دراسة في سوسيولوجية العلم لكي نصل إلى رد
على هذا السؤال .
2 - حاجتنا إلى النقد الاجتماعي والنقد الذاتي :
مشكلة
التخلف تحتاج إلى تضافر كل الجهود الفكرية والاجتماعية والسياسية للقضاء عليها ،
ومن هنا نحن في المجتمع العربي في حاجه شديدة لممارسة النقد الاجتماعي . النقد
الاجتماعي معناه ببساطه تشخيص وتحليل كل جوانب التخلف في مجتمعنا بكل أشكاله
السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وبالتالي فالنقد الاجتماعي لا يقنع بما هو
موجود ، ولا يستكين إلى ما هو تقليدي ، ولكنه يبحث ويحلل ويشخص داعيا لتجاوز
التخلف واتباع أساليب جديدة لحل المشكلات . والنقد
الذاتي نوع من أنواع النقد الاجتماعي ، وأهميته تكمن في أن مجتمعا من المجتمعات لو
رضى عن نفسه ولم يلتفت إلى سلبياته لكان محتما عليه أن
يفنى وينقرض . النقد الذاتي من أشجع ألوان النقد الاجتماعي ، لأنه لا يخشى
الحساسيات القومية أو الاجتماعية، ولا يتراجع أمام النعرات
الإقليمية أو العصبية ، ولكنه يمسك بالذات القومية أو بالبناء الاجتماعي بكل ما
يتضمنه من أنساق سياسية واقتصادية وثقافية لكي يحللها ويفحصها ويكشف عن مواطن
الضعف فيها . وما من شك في أن عملية النقد الذاتي التي قمنا بها
بعد هزيمة 1967 كانت أساسية وحاسمة في وضع أيدينا على أسباب الهزيمة ، وفى دفعنا
إلى حرب 1973 التي استعادت كبرياءنا ، وأدت إلى تغيرات كبرى في السياسة العالمية((14).
والنقد
الاجتماعي والنقد الذاتي يحتاج - كما لا يخفى - إلى مناخ ديمقراطي يركز على أن كل
مواطن حر في الإسهام بفكره وعقله وسلوكه في مناقشة مشكلات مجتمعه ، وفى طرح الحلول
لها ، وفى العمل بإيجابية - في حدود الدستور والقانون - على تطبيقها . غير أن هذا
المناخ الديموقراطي لم يتوفر بعد في العالم العربي الذي
يعانى من أزمة ديمقراطية بالغة الحدة .
3 - القضاء على الفجوة بين الصفوة والجماهير :
لا
يمكن القضاء على التخلف بغير خلق وعي حضاري لدى الجماهير، وبغير أقصى مشاركة
جماهيرية في الفعل الحضاري . فلا يكفى - كما يقرر قسطنطين
زريق أن تبقى هذه الحقيقة مجرد اقتناع فكرى عند فريق من
المفكرين أو من أولى الأمر، بل يجب أن تنقلب إلى إيمان يمللك النفوس ويعم الشعب
بمجموعه ، وينطلق بحيوية فاعلة ودفق غامر. يجب أن يتحول الشعور بحاجاتنا الأساسية
هذه إلى فيض من الشعور الحضاري الذي ينطلق من الإحساس بجسامة التخلف والرغبة
العارمة في الوصول إلى آفاق التقدم . وسد الفجوة بين الصفوة والجماهير يحتاج إلى
ثورة ثقافية شاملة ، تركز على ديمقراطية الفكر ، وتشجيع الإبداع الذهني ، وتكتشف
القيادات الاجتماعية والسياسية والثقافية ، وتتيح الفرصة للمثقفين العضويين
الملتحمين بقواعدهم الجماهيرية أن ينطلقوا ويشقوا الطريق أمام قواعدهم ، حتى
يكسروا احتكار القلة من المثقفين المنعزلين الذين يظنون وهما أن تغيير المجتمع
يمكن أن يتم من خلال العمل الذهني البحت ، الذي يفتقر إلى حرارة التجربة
الاجتماعية ، والذي يقصر بالتالي عن تلمس الحاجات الأساسية للجماهير ، والذي لا
تتمثل فقط في الحاجات المادية ، بل أهم منها الحاجات الروحية ، والحاجة الماسة إلى
المشاركة السياسية الإيجابية الخلاقة(15)
والقضاء
على الفجوة بين الصفوة والجماهير لابد له أن يمتد للقضاء على الهوة بين المدينة
والقرية ، فليس هناك أمل في عبور أزمة التخلف الحضاري بغير أن ننجح في سحب ملايين
الريفيين الذين يسبحون في غمار الأمية والجهل إلى ميادين التحديث في مجال التعليم
والتدريب والعمالة والثقافة . ذلك أن المجتمع العربي لا يمكن له أن يتقدم محتميا
بقشرة هشة من المثقفين لحجب الآلاف من أنصاف المتعلمين ، الذين لم يتح لهم حقا أن
يتلقوا أصول المنهج العلمي ولا قواعد التفكير النقدي الخلاق .
4 - الصراع بين العلمانية والمفهوم الديني للمجتمع:
ذكرنا
من قبل أن تحديث الدين وتطبيق الديمقراطية والدعوة إلى نقل التكنولوجيا الحديثة
كانت هي المسائل الكبرى التي دار حولها الجدل منذ النهضة الحديثة . ولقد كان الدين
في مصر القرن التاسع عشر - كما يقرر د. على الدين هلال - " هو أساس الوجود
الاجتماعي. وساعدت النظرة والتفسيرات الدينية في تفسير كل مجالات الحياة
الاجتماعية ، وكان المعيار النهائي للتقييم والإطار الأخير لتحديد السلوك
الاجتماعي يقوم على الدين ، وذاع تفسير للإسلام يتضمن شموله لكل جوانب الحياة
الاجتماعية والسياسية والوجود الإنساني ذاته باعتباره دينا ودولة ، ومصدرا لكل
القيم الفردية والاجتماعية ، الأمر الذي تولد عنه نظرة للحياة كان الدين والأخلاق
والسياسة فيها تشكل نظاما واحدا للقيم مصدره الإسلام "(6) . غير
أن حركة تطور المجتمع المصري الشاملة التي بدأها محمد على سرعان ما دفعت إلى إعادة
النظر في هذه المقولات ، سواء من حيث انسجامها أو تنافرها مع عملية التحديث ، أو
من حيث تأثر بعضها تحت وطأة بدايات التعليم العلماني وانتشار الأفكار الجديدة من
خلال الصحافة ونشوء أجهزة إدارية جديدة ، ودخول التكنولوجيا وقيام الصناعات . وفد
أدى قبول الأنماط الحديثة في التنظيم والسلوك إلى الإسراع في وتيرة التغير
الاجتماعي والثقافي، وفى هذا السياق دارت المناقشات حول دور الدين في المجتمع ،
وعلاقة الدين بالدولة.
والواقع
أن النزعة العلمانية صاحبت النهضة الأوروبية الحديثة ، حتى أن عددا من المؤرخين
الاجتماعيين يعتبرونها أحد الأسباب الأساسية التي أسهمت فى
تحديث المجتمع الأوروبي الإقطاعي ونقله ليكون مجتمعا برجوازيا متقدما.
والعلمانية
على وجه التحديد تعنى :
(
أ ) الفصل بين السياسة والمؤسسات والإيديولوجيات الدينية .
(
ب ) قيام النظام السياسي بأداء أدوار تنظيمية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية
كانت تمارس من قبل بواسطة المؤسسات الدينية .
(
ج ) تحول الثقافة السياسية من سيادة نظرة دينية إلى تأكيد غايات اجتماعية وأهداف
عملية واقعية( 17 ) .
وفد
دعا بعض المفكرين المصريين الرواد إلى أنه نظرا لكون الدين لم يعد قادرا بمفرده
على تنظيم حياة المجتمع ، فإنه ينبغي حصر دائرة اختصاص ونشاط المؤسسات الدينية في
المسائل المتعلقة بالفرد وضميره ووعيه ، وسعوا إلى وضع الأساس لنسق علماني للقيم
يمكن لكل المواطنين على اختلاف دياناتهم أن يشاركوا فيه ، وأن يتمتعوا فى ظله بواجبات وفرص متساوية .
والواقع
أن هذه الدعوة لم تلبث أن تحولت إلى عقيدة سياسية في ظل التجربة الليبرالية في مصر(18)
(1923-1952)، ففي هذه الحقبة طبق مفهوم علماني ركز على فصل الدين عن الدولة
، وانعكس ذلك في ممارسة الأحزاب السياسية التى حرصت على
تحقيق الوحدة الوطنية ، غير أن بعض الجماعات الدينية ومن أبرزها "الإخوان
المسلمون" تحدت المفهوم العلماني صراحة ، ودعت إلى القضاء عليه، في ظل شعارها
الإسلام دين ودولة . غير أن ممارستها السياسية التي كانت تهدف إلى الاستيلاء على
الحكم ، أدتا بها إلى الاصطدام الحاد العنيف مع
الحكومات الحزبية في مصر في أواخر الأربعينيات ، ثم سرعان ما تكرر الصدام مع ثورة
يوليو 1952 . ومنذ هذا التاريخ كمنت الدعوة إلى هجر المفهوم العلماني إلى حين .
ذلك أنه عقب هزيمة 1967 وتصاعد المد الديني في البلاد ، نشطت الجماعات الإسلامية
والإخوان المسلمون من جديد ، وسرعان ما ارتفع من جديد شعار "الإسلام دين و
دولة ".
ولم
تقنع هذه الجماعات بالنص الصريح في الدستور على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي
المصدر الأساسي للتشريع . ذلك أن طموحاتها اتجهت إلى تغيير صيغة المجتمع كله ، من
مجتمع علماني إلى مجتمع ديني كامل ، وقد أدى هذا إلى صدامهم من جديد مع النظام
السياسي .
والحقيقة
أن عدم حسم الصراع بين المفهوم العلماني للمجتمع والمفهوم الديني ، ليس من شأنه
سوى مد أجل أزمة التطور الحضاري التي نعيشها حتى الآن .
إن
تردد النظام السياسي المصري في حسم هذه القضية لا يعدله سوى تردد المثقفين العرب
في حسم قضية الأصالة والمعاصرة . وقد أدت التطورات السياسية في العقد الأخير
بهؤلاء المفكرين إلى مراجعة العديد من مواقفهم السابقة ، ففشل الماركسية في العالم
العربي ، وفشل التجربة الناصرية في مصر الذي تمثل أساسا في هزيمة يونيو 1967 ، قد
دفع بكثير من المثقفين ذوى الاتجاه اليساري إلى الاقتناع بأن الإسلام لو طبق
تطبيقا ثوريا قد يكون هو الحل لمشكلة الأصالة والمعاصرة المزمنة . وتحت تأثير ثورة
إيران بقياده الخمينى في مراحلها الأولى حدثت هزة عنيفة
في أذهان الكثيرين منهم ، فقد اعتقدوا أن النموذج الإيراني ، الذي هو تعبير مجسم
عن ثورة الجماهير الشعبية في ضوء الإسلام ، هو الخلاص من المأزق . غير أن تردي
الثورة الإيرانية في الفوضى والقتل والدمار والممارسات غير الديمقراطية، كان
بمثابة الصدمة التي جعلتهم يدركون مخاطر الحكم الديني وخصوصا حين يسيطر على الأمور
رجال دين متعصبون .
وهكذا
يمكن القول إن الوقت قد أزف لحل الصراع بين المفهوم العلماني والمفهوم الديني
للمجتمع ، الذي هو في الحقيقة مجرد فرع من أصل هو إشكالية الأصالة والمعاصرة .
بغير حل هذه الإشكالية ستظل مسيرتنا الحضارية تتخبط بصورة عشوائية ، وسنجد أنفسنا
كل عقد من السنين نغير إيديولوجيتنا ، بما يعنيه ذلك من بلبلة فكرية ، وفوضى قيمية ، وانعدام للمعايير التي يمكن على أساسها قياس التقدم
وضبط خطى التنمية وتعجيل التحديث .
5 - العمل على سيادة النظرة المستقبلية :
لن
يجدينا أن نعيش في الماضي ، ولن ينفعنا وسط صراع العمالقة في عالم اليوم التغني
بأمجادنا السابقة ، ولن يصلح من حالنا اجترار فضل الحضارة العربية الإسلامية على
أوروبا . نحن في حاجة إلى دراسة منهجية ونقدية لماضينا ، تقوم على أحدث مناهج
التاريخ الاجتماعي، حتى نقوم ممارساتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية الماضية
، وحين نفعل ذلك ستتساقط كثير من الأساطير العلمية التي ورثناها كباحثين ومثقفين
ورددناها بغير تمحيص . إن دراسة الماضي هي الأساس لفهم الحاضر والنظر إلى المستقبل
، والحاضر الذي نعيشه يحتاج إلى دراسة تكاملية تحيط بكل أبعاده وتكشف عن كل جوانبه
. غير أنه أصبح اليوم من المسلمات أن دراسة الحاضر ينبغي أن تتم في إطار النظر إلى
المستقبل ، ومن هنا نشأ علم المستقبل Futurologie على اختلاف مدارسه في الشرق والغرب ، وعلى تعدد مناهجه ونظرياته ،
لكي يساعد المخطط الاقتصادي والاجتماعي وصانع القرار السياسي على أن يخطط في ضوء
سيناريوهات بديلة للمستقبل ، حلى يأتي تخطيطه ، وحتى يصدر قراره ، وهو على علم بكل
البدائل المتاحة .
وخلاصة
بحثنا أننا في حاجة إلى صياغة استراتيجية حضارية
متكاملة ، قد تكون في الصفحات السابقة مجرد إشارات إلى بعض ملامحها ، وهذه
الإشارات تحتاج إلى تعميق وتأمل وفحص نقدي ، وقبل ذلك تحتاج إلى مناقشة جماعية
ينبغي أن تنشغل بها الجماعة الثقافية العربية ·
الهوامش
(*) قدمت
هذه الدراسة في الندوة التي عقدها معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة وكان
موضوعها: "التسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي وتأثيرها على الوطن
العربي".
1) انظر
كتابنا : الشخصية العربية بين مفهوم الذات وتصور الآخر ، القاهرة : الطبعة
الثالثة ، مكتبه مدبولى ، 1994 .
2) انظر :
بيتر ورسلى ، العالم الثالث ، ترجمه حسام الخطيب ، دمشق
: مشروعات وزارة الثقافة والسياحة والإرشاد القومي ، 1968 .
3) انظر فى ذلك المرجع الأساسي :
Karl
Dietrich Bracher, The Cerman
Dictatorship: The Origins, Structure, and Consequence
of Notional, socialism. London. Penguin , 1963
4) انظر :
السيد يسين ( مشرف على التحرير ) ، حرب أكتوبر ، دراسات في الجوانب السياسية
والاجتماعية ، القاهرة : مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية
والمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ، 1973 .
5) انظر : أ .
جلين وآخرون ، نموذج للتفاعل الفكري لتحليل الصراع الثقافي في العلاقات الدولية ،
مجلة " حل الصراع ! ، رقم ا ، مارس 1970 . نعتمد على العرض والتحليل النقدي
الذي أعده
د . محمد
الجوهري في إطار مشروع بحث " الصراع الحضاري " بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بإشراف : السيد يسين .
6) سبق لنا أن
قدمنا دراسة استطلاعية للعلاقات المتشابكة بين الأيديولوجيا
والتكنولوجيا ، انظر : السيد يسين ، الإيديولوجيا
والتكنولوجيا ، ثلاث مقالات نشرت في مجلة الكاتب ، أعداد أغسطس وسبتمبر وأكتوبر ،
1969.
7) انظر : د .
أحمد عزت عبد الكريم ، لقاء الحضارات ، من بحوث ندوة التغيير الحضاري لمنطقة الشرق
الأوسط فى العصر الحديث ( 1 - 4 ديسمبر 1976 )
8) أنظر د.
زكي نجيب محمود:الأصلة والتجديد في ثقافتنا فى مواجهة
العصر ، القاهرة : دار الشروق ، الطبعة الثانية 1979 .
وانظر كتابه
الهام الذي طرح فيه القضية طرحا متكاملا! : تجديد الفكر العربي ، القاهرة : دار
الشروق ،
الطبعة الرابعة ، 1978 . وكذلك كتابه الذي يكمل هذه الثلاثية الفكرية : المعقول
واللامعقول
في تراثنا الفكري ، القاهرة : دار الشروق ( بدون تاريخ ) وانظر في هذا الموضوع
دراسة هامة
: غالى شكري ، التراث والثورة ، الطبعة الثانية ، بيروت : دار الطليعة 1979 .
9) انظر : عبد
الله العروي ، الإيدلولوجية
العربية المعاصرة ، ترجمة محمد عيتانى ، بيروت : دار
الحقيقة ، 1170 .
10) انظر صادق
جلال العظم، حول ثقافة الاستعمار وثقافة التخلف ، في : الثقافة العربية ، نيسان
1973. ص 73-92
11) انظر د.
}إحسان عباس ، العربي الجليد وتراثه التقديم ، فى :
الثقافة العربية ، نيسان ، 1973 ،ص 102-110
12) انظر :د : قسطنطين زريق ، فى معركة الحضارة ، بيروت: دار العلم للملايين ، 1964 ، ص 388
وما بعد ها
13) د . فؤاد
زكريا ، التفكير العلمي ، الكويت : سلسله عالم المعرفة ،1978، ص 8 .
14) انظر في
معنى وأهمية النقد الاجتماعي : ادوارد كارديلى، فى النقد الاجتماعي ، ترجمة : أحمد فؤاد بليع
، القاهرة : دار المعارف ، 1968
15) انظر في
ذلك : برهان غليون ، بيان من أجل الديمقراطية ، بيروت :
دار الطليعة 1974 .
16) د . على
الدين هلال ، التجديد في الفكر السياسي المصري الحديث ، أصول الفكرة الاشتراكية
(1882 1932) ، القاهرة : معهد البحوث والدراسات العربية ،1975 ، ص103 وما بعدها .
17) المرجع السابوق، ص 103 .
18) انظر : د .
عفاف لطفي السيد مارسوه ، تجربة مصر الليبرالية ، القاهرة : المركز العربي للبحث و
النشر ، 1981 .