ص1       الفهرس      31-40

 

تعامل لا أخلاقي مع كتاب في تهذيب الأخلاق !

محمد عابد الجابري

-1-

نتناول في القسم الأول من هذا الفصل([1]) موضوعا شائكا وحساسا ترددنا كثيرا في الخوض فيه حتى لا يؤول موقفنا على غير ما قصدنا. ولكن المسئولية الأخلاقية فرضت علينا، ونحن نكتب كتابا في الأخلاق، أن نقول ما نعتقده الصواب. لقد استهلك منا هذا الموضوع وقتا طويلا وتطلَّب منا البحثَ الشاق. والبحثُ عن الحقيقة شاق دوما. ومع ذلك فنحن لا ندعي أننا سنقتلع بسهولة "الآراء الراسخة" من أذهان الذي درجوا على اعتقادها طوال عقود من السنين، ولكننا نؤمن أن النتيجة التي توصلنا إليها هي الصواب وهي الحقيقة، على الأقل اعتمادا على ما ولده البحث الذي قمنا به من قناعة في أنفسنا، مبنية على مستندات وأدلة لا نعتقد أنه يمكن تجاهلها.

يتعلق الأمر بكتاب يحمل عنوان: "تهذيب الأخلاق" تعرّض لممارسات لاأخلاقية ترجع بداياتها على مستوى المخطوطات إلى القرن السابع الهجري على الأقل (الثالث عشر الميلادي) واستمرت إلى القرن العشرين. أما على مستوى الطبع والنشر فترجع هذه الممارسات إلى الثمانينات من القرن التاسع عشر، عندما ظهرت أول طبعة منه في بيروت سنة 1866. وقد ظهرت منه لحد الآن (سنة 2000) اثنتان وعشرون طبعة (في بيروت، والقاهرة، واسنتبول، ودمشق، وشيكاغو، والقدس، عدا ما لم يصل إلى علمنا). وكل واحدة من هذه الطبعات، التي مازالت تتناسل، هي لـ"محقق" أو ناشر معين، بعضهم ينسبه إلى هذا المؤلف وبعضهم إلى مؤلف آخر، مع مقدمات تبلغ الحِدَّةُ ببعضها إلى مستوى "الحرب الصليبية".

 وتتمثل هذه الممارسات اللاأخلاقية في كون بعض النساخ تجاوزوا حدهم فتصرفوا في بعض فقرات النص فأثبتوا كلمات أو عبارات تناسب دين المؤلف الذي ينسبون إليه الكتاب، وحذفوا مقابلها الذي هو علامة على دين آخر. بينما فضل بعضهم الجمع بين النوعين من الألفاظ. يتعلق الأمر بصفة خاصة بألفاظ ذات دلالة دينية مثل "المساجد" و"الكنائس"، و"الرهبان" و"الزهاد" وقد وردت ضمن عبارات في الكتاب في سياق النصح بلزوم أماكن العبادة هذه لمن يريد تعويد نفسه على الزهد([2]) الخ.

هذا على صعيد المخطوطات والنساخ، أما على صعيد الطبعات الحديثة واجتهادات "المحققين" فقد نسب الكتاب أول مرة  منذ سنة 1866 إلى أبي زكرياء يحيى بن عدي، المترجم والمنطقي الشهير؛ ثم توالت نسبته إليه أكثر من عشر مرات، حتى إن باحثا عربيا لم يجد سنة 1978 ما يستند عليه في الفصل في هوية مؤلف الكتاب، بعد بحث فيما توافر لديه من مخطوطات وطبعات، سوى "الإجماع" الذي حصل على نسبته إلى يحي بن عدي التكريتي الذي كان "نصرانيا يعقوبي النحلة"، والمتوفى سنة 363 هـ([3]) .

والواقع أنه لم يكن هناك "إجماع". فقد نسب الكتاب على صعيد الطبع والنشر إلى المتصوف الشهير محيي الدين بن عربي أكثر من خمس مرات، أولاها تلك التي صدرت في استنبول سنة 1896، ثم نسب إلى الجاحظ مرتين على الأقل، أولاها سنة 1924 من طرف الأستاذ محمد كرد علي (وقد تراجع بعد أن علم بكون الكتاب قد نشر باسم يحيى بن عدي)، والأخرى ظهرت في مصر سنة 1989، وقد نسب فيها إلى الجاحظ بنوع من العناد لا مبرر له([4]).

وقبل ذلك بخمس سنوات (1984) لم يتردد باحث آخر معاصر في إعادة نشر الكتاب نفسه مع دراسة يثبت فيها أنه ليحي بن عدي معتمدا على تضمين بعض ألفاظه وعباراته "معان" ربطها بمرجعيات في الدين المسيحي([5])، في حين أنها ألفاظ وعبارات دارجة ورائجة في الخطاب الفلسفي اليوناني والأرسطي منه خاصة، وقد ترددت بكثرة في كتابات الفلاسفة العرب ترددا لا يحصى.

أما عدد المخطوطات التي أحصيت لحد الآن (سنة 2000) للكتاب فقد ناهز اثنين وعشرين مخطوطا أقدمها ستة، أُرِّخت الأولى منها بعام 639 هـ  (=1242م). أما السادسة فترجع إلى القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي. والمخطوطات الأخرى يتراوح تاريخ نسخها بين القرن السابع عشر الميلادي والقرن العشرين! والغريب في الأمر أن المخطوطات الست الأقدم لم يذكر فيها اسم مؤلف الكتاب. أما في المخطوطات الأخرى فقد نسب الكتاب فيها لأول مرة إلى ابن عربي (مخطوطة استنبول 1628م) ثم إلى الجاحظ (مخطوطة دمشق 1637)، ثم ليحيى بن عدي لأول مرة (مخطوطة ترجع إلى القرن الثامن عشر)، ثم استمرت نسبته إلى ابن عربي وابن عدي : ست مرات إلى الأول وأربع مرات إلى الثاني. وأخيرا ظهر مخطوطان لم يذكر فيهما اسم المؤلف، آخرهما ظهر بالقاهرة 1942([6]).

والذي نراه نحن بعد البحث والتقصي، بقدر ما استطعنا، هو أن الكتاب للعالم الرياضي الفيزيائي العربي الكبير ابن الهيثم. وفيما يلي مستنداتنا في الموضوع.

إذا كان إبطال نسبة هذا الكتاب إلى الجاحظ أو ابن عربي أمرا هينا يسيرا يفرض نفسه فرضا على كل من اطلع على هذه الكتاب وكان على معرفة بفكر كل من الجاحظ وابن عربي وأسلوبهما، إذ لاشيء يجمعه بهما، فإن نسبته إلى يحي بن عدي بقيت مع ذلك يكتنفها قدر من الشك لأن إحدى مخطوطات هذه المقالة/الكتاب، وهي المعروفة بمخطوطة الفاتيكان وهي من أقدم النسخ (700 هـ 1301 م)، قد وردت فيها على الهامش أمام العنوان على الصفحة الأولى وبنفس خط الناسخ، العبارة التالية  : "ذُكِر أن مصنفها أبو الحسن بن الحسن بن الهيثم". كما أن مخطوطة وولفنبوتل (وترجع إلى القرن السابع عشر) قد نسب فيها إلى ابن الهيثم. ومما قوى هذا القدر من الشك حتى لدى بعض المستشرقين أن كتب التراجم القديمة (ابن النديم، القفطي، ابن أبي أصيبعة) لم تذكر ليحي ابن عدي أي كتاب في الأخلاق بينما ذكرت لابن الهيثم كتبا في الأخلاق والسياسة كما سنرى.

والغريب حقا أن جميع الباحثين المهتمين بالموضوع، عربا ومستشرقين، قد صرفوا النظر، وبـ"الإجماع"، عن احتمال أن يكون الكتاب هو فعلا لابن الهيثم، ولم يذكر أحد منهم السبب الذي جعله يسقطه من الحساب، وإن كان يفهم من عبارة بعضهم أن هذا الرياضي والفيزيائي العربي الكبير لم يكن ليهتم بـ "الأخلاق! هذا بينما اشتد الصراع العلني -والسري- حول نسبته إلى ابن عدي أو الجاحظ أو ابن عربي. والذين نسبوا الكتاب إلى الجاحظ اعتمدوا على أن من الكتب المذكورة له في الأخلاق، "كتاب في أخلاق الملوك" (والكتاب يعرض فعلا لأخلاق الملوك، كما سنرى). أما الذين نسبوه إلى ابن عربي فحجتهم أن هذا الأخير ذكر في كتابه "الفتوحات المكية" أن له "رسالة في الأخلاق" وصف مضمونها في بضعة أسطر وصفا لا يتناقض مع مضمون الكتاب الذي نتحدث عنه، بل يتطابق معه إلى حد كبير([7]). أما الذين نسبوه إلى يحيى بن عدي -على الرغم من إشارتهم إلى أن كتب التراجم لم تذكر له أي كتاب في الأخلاق- فحجتهم الوحيدة هي أن أسلوب الكتاب ومضمونه هما أبعد ما يكون عن أسلوب الجاحظ وابن عربي، وأنه أقرب إلى أسلوب الفلاسفة وفكرهم وبالتالي فهو ليحيى بن عدي. أما أن يكون أسلوب الكتاب ومضمونه يختلفان اختلافا جذريا عن أسلوب كل من الجاحظ وابن عربي واتجاههما الفكري فهذا صحيح تماما. وأما أن يكون الكتاب ليحيى بن عدي فهذا ما يحتاج إلى إثبات، ولا إثبات هناك!

كان هذا هو الوضع إلى سنة 1981، السنة التي نشر فيها د. عبد الرحمان بدوي نص المقالة/الكتاب الذي نحن بصدده اعتمادا على مخطوط لا ذكر له في اللوائح السابقة. يتعلق الأمر بـ"المخطوط رقم 1367 في كتابخانة مجلس شورى ملي في طهران"، ويحمل عنوان: "مقالة في الأخلاق لأبي علي الحسن بن الحسن بن الهيثم": تبتدئ المقالة/الكتاب بـ"بسم الله الرحمان الرحيم: قال الشيخ أبو علي بن الحسن بن الحسن بن هيثم رحمه الله"، وتنتهي بالعبارة التالية: "وهذا حين نختم القول في الأخلاق. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله"([8]).

واللافت للنظر أن د. عبد الرحمان بدوي الذي اعتاد على كتابة مقدمات طوال للكتب التي حققها، يتحدث فيها عن كل ما يخص مخطوطاتها وموضوعاتها الخ، لم يفعل الشيء نفسه هذه المرة، بل اكتفى بتصدير هذه المقالة بعبارة واحدة، هي : "مقالة في الأخلاق للحسن بن الحسن بن الهيثم أو ليحي بن عدي"، مع نقطة استفهام (؟).

وإذا كنا لا نعلم شيئا عن تاريخ نسخ مخطوطة طهران، فإن اكتشافها يرجح، مع ذلك، كفة ابن الهيثم على كفة يحيى بن عدي، بالنظر إلى المخطوطات فقط. أما القرائن التي ترجع إلى ما ذكره الذين ترجموا للرجلين، وكذا إلى المقارنة بين أسلوب هذا الكتاب ومنهجه ومضمونه مع ما نعرف عنهما في هذا المجال فجميعها يشهد لصالح ابن الهيثم كما سنرى. من هذه القرائن نستخلص أن الكتاب ليس ليحيى بن عدي قطعا، وأنه لابن الهيثم ترجيحا. وإنما قلنا : ترجيحا ولم نقل "قطعا" بقصد ترك المجال مفتوحا لمؤلف آخر غير من ذكر، إذا ظهر في المستقبل ما يفرض إدخاله في الحساب([9]).

لنبدأ أولا بما في مصادرنا التاريخية عن ابن الهيثم، مع التركيز على الجوانب التي تهم موضوعنا.

-2-

أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم، توفي حوالي 432 هـ-965م. قال عنه القفطي: "أبو علي المهندس البصري نزيل مصر صاحب التصانيف والتواليف المذكورة في علم الهندسة (…)، نقل عنه أنه قال: لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته، من زيادة ونقص" (ربما كان يفكر في تشييد سد على غرار "سد أسوان"). وعندما قدم إلى مصر استقبله الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، وكان قد سمع بمشروعه، "ثم أعد له العدة للذهاب إلى الموضع الذي يريده من النيل"، وعندما اختبر ابن الهيثم المكان تبين له أنه "لا يمشي على موافقة مراده"، فعدل عن مشروعه. ويضيف القفطي: "ثم إن الحاكم ولاه بعض الدواوين فتولاها رهبة لا رغبة". وتقول الرواية إنه عمد إلى "إظهار الجنون والخبال" للتخلص من الوظيفة والانقطاع إلى العلم، فأعفاه الحاكم منها، "واشتغل بالتصنيف والنسخ وأخذ يعيش من نسخه". ثم يذكر له القفطي مؤلفات في علوم مختلفة من بينها كتاب باسم "الأخلاق"([10]).

على أن أهم وأطول ترجمة له إنما نجدها عند ابن أبي أصيبعة. وقد ذكر رواية تجعل البصرة، وليس القاهرة، مسرحا لـ "إظهار الخبل" للتخلص من الوظيفة. ذلك أن ابن الهيثم حسب هذه الرواية تولى وزارة في البصرة "وكانت نفسه تميل إلى الفضائل والحكمة والنظر فيها ويتمني أن يتجرد عن الشواغل التي تمنعه من النظر في العلم، فأظهر خبالا في عقله وتغيرا في تصوره وبقي كذلك مدة حتى مكن من تبطيل الخدمة وصرف من النظر الذي كان في يده"، ثم انصرف إلى الاشتغال بالعلم.

بعد ذلك يورد مقالة صنفها ابن الهيثم نفسه يتحدث فيها عن تجربته الفكرية وأعماله العلمية، مما جاء فيها قوله: "إني لم أزل منذ عهد الصبا مرتابا في اعتقادات الناس المختلفة، وتمسك كل فرقة منهم بما تعتقده من الرأي فكنت متشككا في جميعه (…)؛ فخضت لذلك في ضروب الآراء والاعتقادات وأنواع علوم الديانات، فلم أحظ من شيء منها بطائل، ولا عرفت منه للحق منهجا ولا إلى الرأي اليقيني مسلكا مجددا: فرأيت أنني لا أصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية. فلم أجد ذلك إلا فيما قرره أرسطوطاليس من علوم المنطق والطبيعيات والإلهيات التي هي ذات الفلسفة وطبيعتها".

ثم أخذ في شرح طريقة أرسطو وعرض محتويات منظومته الفلسفية، من المنطق إلى الطبيعيات إلى الإلهيات. ليتحدث بعد ذلك عن دراسته لهذه العلوم وإتقانها، ثم انصرافه في وقت مبكر، إلى شرح وتلخيص أصول تلك العلوم الثلاثة (الرياضيات الطبيعيات والإلهيات) والتأليف في فروعها إلى سنة كتابة مقالته تلك وهي سنة 417 هـ . وقد ذكر  ما صنفه في العلوم الرياضية أولا (25 كتابا)، ثم ما ألفه في العلوم المنطقية والطبيعية والإلهية ثانيا (44 كتابا). ثم مقالات وكتبا أخرى لا تندرج عادة في العلوم المذكورة، من بينها مؤلفات تنتمي إلى ميدان التأليف في الأخلاق وهي: مقالة في الفضل والفاضل، ومقالة في تشويق الإنسان إلى الموت بحسب كلام الأوائل، ورسالة أخرى في هذا المعنى بحسب كلام المحدثين، ومقالة في طبيعتي الألم واللذة، ومقالة في طبائع اللذات الثلاث الحسية والنطقية والمعادلة. هذا إضافة إلى مؤلفات تنتمي إلى "الآداب السلطانية"، ذكر منها "كتاب في صناعة الكتابة على أوضاع الأوائل وأصولهم" و"عهد إلى الكُتّاب".

ثم يورد ابن أبي أصيبعة لائحة أخرى من مؤلفات ابن الهيثم يقول إنه وجدها بخطه كذلك، وفيها يعرض ابن الهيثم ما كتبه بعد اللائحة المذكرة (بعد 417 هـ) إلى جمادى الآخرة سنة 419 هـ وتضم تلخيصات وردودا في الطبيعيات والإلهيات وفي علم الكلام. منها رسائل في الرد على المعتزلة، وتلخيص الآثار العلوية لأرسطو ومقالة في "رأيه المخالف لرأي جالينوس في القوى الطبيعية في بدن الإنسان". ثم يذكر ابن أبي أصيبعة قائمة ثالثة من كتب ابن الهيثم قال إنه وجدها مؤرخة إلى سنة 429 هـ أي قبل وفاة ابن الهيثم بنحو سنتين أو ثلاث. والملاحظ أن هذا الفهرس الثالث خاص بأعمال ابن الهيثم في الرياضيات والفلك والفيزياء، وأهمها "كتاب المناظر" المشهور.  والمؤلفات الوحيدة التي يذكرها خارج هذه العلوم هي التالية: "مقالة في الأخلاق، مقالة في آداب الكتاب، كتاب في السياسة: خمس مقالات"!([11])

مما تقدم نسجل النتائج التالية:

1) إن القفطي وابن أبي أصيبعة ذكرا لأبن الهيثم "مقالة في الأخلاق". وأن هذه المقالة وجدت منسوبة إليه في ثلاث مخطوطات ذكرناها أعلاه. كما ذكر له ابن أبي أصيبعة مصنفات أخرى في الأخلاق والسياسة. هذا بينما لم تذكر المصادر لابن عدي أي كتاب في الأخلاق مع أن القفطي ذكر له تسعة وأربعين مؤلفا، كلها في الفلسفة والمنطق والكلام. بينما اقتصر ابن أبي أصيبعة على ذكر سبع فقط، منها مقالة في "سياسة النفس" وقد افترض بعضهم([12]) أنها قد تكون هي نفسها كتاب"تهذيب الأخلاق"! والواقع أنه لم يرد في الكتاب، موضوع حديثنا، ما يدل على ذلك، بينما تتكرر فيه كلمة "الأخلاق"، و"تهذيب الأخلاق" مرات كثير، كما سنرى.

2- إن ابن الهيثم "تولى وزارة في البصرة "وكانت نفسه تميل إلى الفضائل والحكمة" كما ذكر ابن أبي أصيبعة. وتولى بعض الدواوين في القاهرة للحاكم بأمر الله، كما ذكر القفطي (ونقل ذلك عنه ابن أبي أصيبعة"). أما يحي ابن عدي فلم يذكر أحد أنه تولى مثل هذه المناصب. ومن المعلوم أن جل الذين كتبوا في "الأخلاق والسياسة"، في الثقافة العربية، كانت لهم علاقة بالملوك والوزراء وكثيرون منهم عملوا في الدواوين.

3- ورد في مقدمة الكتاب، موضوع الكلام، في سياق عرضه لموضوعه ومحتواه، قول المؤلف: "فمن أجل ذلك وجب أن نقول في الأخلاق قولا نبين فيه ما الخلق وما علته وكم أنواعه وأقسامه وما المرضي منه المغبوط صاحبه (…) ونصف أيضا الإنسان المهذب الأخلاق التام" الخ. وعند انتهاء المقدمة أعلن عن الشروع في موضوعات الكتاب فقال: "وهذا حين ابتدائنا بذكر الأخلاق فنقول : الخلق هو…". وتتكرر كلمة "أخلاق" في صفحات الكتاب كلها تقريبا إلى أن يختم بالعبارة التالية: "وهذا حين نختم القول في تهذيب الأخلاق". ومثل هذا الاستهلال والختام أقرب إلى طريقة ابن الهيثم في كتابه الوحيد الذي بين أيدينا وهو أهم كتبه على الإطلاق : "كتاب المناظر". واللافت للنظر أكثر، تطابق عبارة الختم في الكتابين: فقد ختم "كتاب المناظر" قائلا: "وهذا حين نختم هذه المقالة"([13]). وهي نفسها العبارة التي ختم بها كتاب الأخلاق الذي نتحدث عنه :"وهذا حين نختم القول في تهذيب الأخلاق". وقد رجعتُ إلى المقالات المنشورة ليحي بن عدي سواء مقالاته اللاهوتية([14])، أو مقالاته الفلسفية([15]) فلم أجد في خواتمها عبارة مماثلة لهذه.

5- وما دمنا في مجال المقارنة لنذكر أن أسلوب يحيى بن عدي يختلف تماما عن أسلوب الكتاب الذي نحن بصدده، وقد سبق أن أشار إلى ذلك بيريي نفسه في كتابه عن يحي بن عدي، والذي حاول فيه إثبات نسبة "تهذيب الأخلاق" إليه، فقد صرح بوضوح "أن الألفاظ المستعملة في الكتاب تختلف بدون شك اختلافا بينا عن الألفاظ المستعملة في مؤلفات فيلسوفنا" (ابن عدي)، ولكنه يبرر هذا بكون الأمر لا يمكن أن يكون خلاف ذلك لأنه يتعلق بالتعبير عن أفكار جديدة"!([16]). والحق أن أسلوب يحي بن عدي يختلف اختلاف بينا عن أسلوب كتاب "تهذيب الأخلاق". فابن عدي كاتب مجادل، وقلما يخلو نص من نصوصه من الرد أو الاعتراض على الغير، سواء كان هذا الغير مذكورا أو مفترضا افتراضا. كان يحيى  متكلما من رجال اللاهوت المسيحيين العرب، يعقوبي النحلة، رد على خصوم نحلته النسطوريين كما رد على المتكلمين الإسلاميين في نقدهم عقيدة التثليث وجادلهم في قضايا أخرى، ورد عليهم فيما اعترضوا به على أرسطو. وأسلوبه في الجملة أسلوب متكلم مجادل. وإلى ذلك كان رئيس المناطقة في عصره، ويبدو أثر المنطق والترجمة في أسلوبه واضحا.

 أما ابن الهيثم فأسلوبه علمي هادئ لا أثر للجدل فيه بل هو أسلوب العالم الرياضي الفيزيائي. وهذا واضح أيضا في نص الكتاب الذي نتحدث عنه، والذي يتميز بتسلسل الأفكار ووضوحها وبساطتها. وأسلوبه لا يمت بصلة لأسلوب المتكلمين ولا المناطقة، هو يقرر المسائل الأخلاقية التي يعرضها كما تقرر الحقائق العلمية في كتب العلماء. والذي يقرأ صفحة من "كتاب المناظر" لابن الهيثم وينتقل مباشرة إلى صفحة من هذا الكتاب -"تهذيب الأخلاق"- لا يشعر قط بأي اختلاف في الأسلوب. أما إذا انتقل إلى كتاب لابن عدي فسيشعر بالفرق في الحين، فعبارة هذا الأخير غالبا ما تطول وتتخللها جمل اعتراضية، كما هو شأن أسلوب التراجمة/الفلاسفة.

6- أما من حيث المضمون فالكتاب، موضوع حديثنا، ينتمي، بوصفه كتابا في الأخلاق، إلى مدرسة جالينوس، مثله في ذلك مثل "الطب الروحاني" للرازي و"تهذيب الأخلاق"  لابن سنان. وكما سيلاحظ القارئ ذلك بنفسه فالكتاب وإن كان لا يذكر جالينوس ولا غيره، يقع في أفق "طب الأخلاق" أو "الطب الروحاني". فهو يتبنى تعريف جالينوس للخلق ويبني الأخلاق على قوى النفس الثلاث (الشهوانية والغضبية والناطقة) ويفهم "تهذيب الأخلاق" من منظور الطبيب الذي يشخص المرض ويعين الدواء. وابن الهيثم كان ذا صلة قوية بكتب جالينوس : فقد لخص كثيرا منها ومن بينها كتبه الطبية، فهو معدود من علماء الطب. أما يحي بن عدي فلم تكن له صلة لا بالطب ولا بجالينوس بشهادته هو نفسه. فقد اعتذر عن الجواب عن مسألتين طبيتين سأله أحدهم عنهما فقال، بعد أن أجاب على مسائل أخرى فلسفية: "وقد بقي مما سألت أعزك الله مسألتان طبيتان لا جواب لي عنهما إذ لم يتقدم لي من النظر في صناعة الطب وأصولها ما يصح لي به تكلف حديث عن فروعها"([17]). ونحن نجزم أنه لا يمكن لمؤلف أن يكتب كتابا في الأخلاق كالذي بين أيدينا ما لم يكن مرجعه الأساسي جالينوس.

7- والكتاب يهتم اهتماما بالغا بخصوصية وضع الملوك فيميز بينهم وبين سائر الناس في درجة التحلي بهذه الفضيلة أو تلك، وتجنب هذه الرذيلة أو تلك، كما سنرى. وقد بلغ به الاهتمام بهذا التمييز إلى درجة تحمل على الاعتقاد في أنه كتب كتابه بطلب من ملك أو أمير أو وزير، أو أنه قصد به أحد هؤلاء. ذلك أن الاهتمام بـ"أخلاق الملوك"  في كتب "الأخلاق والسياسة" يكون وراءه في العادة علاقة من نوع ما بالحكام. وابن الهيثم كان وزيرا أو على الأقل اشتغل في الديوان وذكر له ابن أصيبعة كتابا "في السياسة" من خمس مقالات، و"مقالة في آداب الكتاب" و"عهد الكاتب". وهذه المؤلفات تفسر اهتمامه بخصوصية وضع الملك وما يجب أن يتصف به من الخصال ودرجة اتصافه بها، والتمييز بينها وبين ما ينطبق على جميع الناس. أما يحي بن عدي فلم تذكر له المصادر أية مؤلفات في السياسة ولم تشر ترجماته إلى أية علاقة له برجال الدولة سوى ما صرح به لابن النديم من أنه نسخ نسختين من التفسير للطبري وحملهما "إلى ملوك الأطراف"([18]). وكان يعيش من نسخ الكتب. ومهما كان الأمر فالكتاب كما سنرى لاحقا يبدو وكأنه ألف قصدا لملك. وهنا لا يملك المرء إلا أن يبدي تعجبه من كون المؤلف ينصح بلزوم "الكنائس" في كتاب موجه لملك في بلد إسلامي، أو على الأقل مملوء بنصائح للملوك؟ إن أقرب الاحتمالات هو أن ينصح بـ "لزوم المساجد". وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الكتاب كتب في القاهرة حيث يشكل الأقباط شريحة هامة من "الخاصة" وأن ابن الهيثم كان رجلا غير متعصب لدين –كما رأيناه يصرح بذلك هو نفسه- فليس من المستبعد أن تكون العبارة هكذا :"لزوم المساجد والكنائس"، كما ورد في بعض النسخ، تماما كما يذكر "الزهاد والرهبان والواعظين" هكذا مجتمعين.

8- لنشر أخيرا إلى خلو الكتاب من أية عبارة دينية، إسلامية كانت أو مسيحية، إلى درجة أنه "يمكن أن يوقعه كاتب وثني (…) أو مسيحي أو مسلم" كما لاحظ ذلك بيريي.([19]). غير أن هذا لا يعني شيئا بالنسبة لموضوعنا. فابن الهيثم الذي يستحضر الأفق الديني بقوة ويتحدث حديث المؤمن الصادق، فيما كتبه في سيرته الفكرية ونقله ابن أبي أصيبعة –كما رأينا أعلاه- يحجم تماما في كتابه الوحيد الذي بين أيدينا، "كتاب المناظر"، عن الإحالة بصورة من الصور إلى الموروث الإسلامي. ومع أن الكتاب في "كيفية الإبصار" فلقد كان من المتوقع أن يستحضر عبارات من قبيل "حكمة الله" أو "عظيم صنعه"، عندما يكون بصدد الكلام عن تركيب العين مثلا. وإذا كان ابن الهيثم لم يفعل هذا في كتاب "المناظر" فلا شيء يمنع من أن يسلك السلوك نفسه في كتاب "تهذيب الأخلاق". هذا بينما نلاحظ أن هناك تطابقا تاما بين ما ذكره في سيرته الفكرية من ضرورة اعتماد "العلوم العقلية"، ونشدان "كلية الخير" الخ، وما ذكره في الكتاب الذي بين أدينا من ضرورة اعتماد "العلوم الحقيقة" والتزام "العمل الفاضل" كوسيلة لتهذيب النفس الناطقة كما سنرى أسفله.

على أن الباحث الفاحص لما يقرأ، إذا كان يلاحظ فعلا، خلو البنية السطحية لنص الكتاب الذي نتحدث عنه من عبارات تشير إلى انتمائه الديني، فإن بإمكانه بل من واجبه أن ينظر إلى بنيته العميقة. إنه في هذه الحالة سيلاحظ، وبسهولة كذلك، طريقة "الفقيه" على مستوى جهات الحكم التي يستعملها والتي تشي بها كلمات عديدة مثل : مكروه، جائز، مستحسن، واجب، لا يليق الخ، كما يدل عليها حرص صاحب النص على التمييز بين الحالات، واعتبار "النوازل" والجزئيات، وتجنب إصدار الأحكام العامة، واستعمال صيغ النصح والنصيحة. وبعبارة قصيرة فالنص ليس من جنس الكتابات التحليلية التركيبية من نوع كتابات المناطقة، بل هو من جنس الكتابات التي تعتمد الاستقراء والسبر والتقسيم والاعتبار، كما يفعل الفقهاء والأطباء لا المناطقة. والحق أن عقل الفقيه والطبيب والمهندس -وهو عقل واحد- يفرض نفسه على الفاحص الإيبيستيمولوجي لـ "متن" هذا الكتاب([20]).

وبعد، فربما يلاحظ القارئ أننا أكثرنا من الحجج التي تؤيد نسبة الكتاب إلى ابن الهيثم مع أن بعض ما ذكرنا يكفي. والحق أننا فعلنا ذلك قصدا، لأننا ندرك مدى تغلغل "الأفكار المسبقة" التي تحكمت، منذ الثمانينيات من القرن التاسع عشر، في طبعات الكتاب التي بلغت أزيد من عشرين طبعة لـ"محققين" مختلفين "كل يغني على ليلاه"، ما عدا ابن الهيثم الذي يُجهل أو يُتجاهل؛ وإذا ذكر فلكي يستبعد بسرعة!

فلعل فيما كتبنا ما يعيد الحق إلى نصابه ويحقق أمل ابن الهيثم في أن ينصفه "الحكماء الأفاضل والعقلاء الأماثل"، وهو الذي كتب في خاتمة الرسالة التي ضمنها القائمة الأولى لكتبه سنة 417 هـ ، ما يلي: "وهذا ما وجب أن أذكره في معنى ما صنعته واختصرته من علوم الأوائل، قصدت به مذاكرة الحكماء الأفاضل والعقلاء الأماثل من الناس، كالذي يقـول:

رب مـيت قـد صار بالعلم حيـا        ومُـبَـقَّى قـد مـات جهـلا وغيـا

 فاقتنـوا العلم كي تنـالوا خلـودا        لا تعدّوا البقاء في الجهل شيئـا"

ويضيف ابن الهيثم: "وقلت في ذلك كما قال جالينوس في كتابه في النبض الكبير : "ليس خطابي في هذا الكتاب لجميع الناس بل خطابي لرجل منهم يوازي ألوف رجال، بل عشرا ألوف رجال، إذ أن الحق ليس هو بأن يدركه الكثير من الناس، لكن هو بأن يدركه الفهم الفاضل منهم، ليعرفوا رتبتي في هذه العلوم (…) ويعلموا تحققي بفعل ما فرضته هذه العلوم علي من ملابسة الأمور الدنيوية وكلية الخير ومجانبة كلية الشر فيها، فإن ثمرة هذه العلوم هو علم الحق والعمل بالعدل في جميع الأمور الدنيوية. والعدل هو محض الخير، والذي يفعله يفوز أين العالم الأرضي ونعيم الآخرة السماوي"([21]).

-3-

من حق القارئ أن يتساءل، بعد كل ما تقدم، عن مدى أهمية هذا الكتاب الذي قامت حوله "الحرب" التي عرضنا لبعض جوانبها!

الواقع أن أول ما يشد القارئ إلى هذا الكتاب هو بساطة أسلوبه واستقامة عبارته، وتسلسل الأفكار فيه بمنهجية محكمة تلقائية، وخلوه من الحشو والاستطراد وفضل الكلام، مع الدقة في الشرح والتعريف، والتركيز في التصنيف والتأليف و العرض. إن القارئ الذي سبق له أن تعامل مع المؤلفات الأخرى في الأخلاق في الثقافة العربية، قبله وبعده، يشعر أن مؤلف هذا الكتاب قد جمع مادة كتابه وفكر فيها وعرف غوامضها ومقاصدها، ثم بعد أن عجنها ودلكها ورتبها إلى أجزاء مترابطة متلاحمة، أخذ يعرضها بقلم تعود على الكتابة، وبعقل اعتاد في حركته النظام والترتيب، مع تجنب الأحكام العامة ومراعاة النسبية والفروق واختلافات الوضعيات: فكر الرياضي والعالم الفيزيائي.

أما على صعيد المضمون فالمؤلف يتعامل مع موضوعه : "تهذيب الأخلاق"، لا من موقع الفيلسوف الذي يعنى بـالمعرفة "الأخلاقية" بوصفها علما أو ثمرة لعلم، كما هو الشأن عند أرسطو والمشائين عموما، ولا من موقع الفيلسوف الذي يرسم نموذج "الرجل الفاضل" بوصفه عضو "المدينة الفاضلة" أو رئيسا لها، بل من موقع "الطبيب" الذي يتجه باهتمامه إلى المحافظة على الصحة وإزالة المرض وتحديد نظام في الحياة يضمن أعلى درجة من الصحة الجسمية والنفسية للإنسان! والمؤلف يصدر عن هذه الرؤية دون التصريح بها بل يمارسها بصورة تلقائية، كما يمارس "الحكيم" المتمرس عمله بعفوية ودون تكلف يذكر.

وكنا بينا في الفصل السابق فقد كانت بنية الفكر الطبي القديم تتكون من العناصر التالية: وصف الموضوع (التشريح)، الصحة، المرض، العلامات أو الأعراض ( التي يتم من خلالها تشخيص المرض)، الأدوية المفردة والمركبة، طرق الشفاء. وجميع كتب الطب القديم –تقريبا- ترتب مادتها على هذا الترتيب. والنزعة الطبية في الأخلاق تبني كلامها في الأخلاق على الترتيب نفسه، كما رأينا في الفصل السابق عند كل من الرازي وابن سنان. وهاهو المهندس ابن الهيثم الذي كان على معرفة عميقة بعلم الطب في زمانه يسلك المسلك نفسه.

 هو يشرح ذلك في مقدمة كتابه التي استهلَّها بالتذكير بأن الإنسان يتميز عن الحيوان بالفكر والتمييز وأنه لذلك يطلب كماله، وأن من تمام كماله أن يرتاض بمكارم الأخلاق ويتجنب مساوئها. ثم يشرح طريقته في بناء كتابه قائلا: "من أجل ذلك وجب أن نقول في الأخلاق قولا نبين فيه:

أولا - "ما الخلق؟ وما علته؟ وكم أنواعه وأقسامه؟" : الخلق حال للنفس، والنفس ثلاث قوى: شهوانية وغضبية وناطقة، تصدر عن كل منها أخلاق معينة  (=وصف الموضوع، "التشريح").

ثانيا - "وما المُرضي منها المغبوط صاحبه المتخلق به، وما المشين منها الممقوت فاعله والمتوسم به" : الفضائل والرذائل: يذكر عشرين من كل صنف، وهي أضداد. ويلح إلحاحا خاصا على النسبية في الأخلاق (= الصحة والمرض).

ثالثا - "وقد ينتبه أيضا، بما نذكره، مَن كانت له عيوب قد اشتبهت عليه، وهو مع ذلك يظن أنه في غاية الكمال"، فيعمل على معالجتها ثم يبين طرق الارتياض بالأخلاق المحمودة  الخ. "وقد ينتفع بما نذكره أيضا من كان غاية التمام والكمال (…) فإنه إذا وجد أخلاقه مدونة في الكتب موصوفة بالحسن كان ذاك داعيا إلى الاستمرار على سيرته والإصرار على طريقته" ( = العلاج والوقاية).

رابعا - "ونصف أيضا الإنسان التام المهذب الأخلاق المحيط بجميع المناقب الخفية وطرائقها التي يصل بها إلى التمام وتحفظ عليه الكمال" (=حفظ الصحة. وحفظ الملك عندما يتعلق الأمر بأخلاق الملك).

هناك جانب لابد من إبرازه هنا وهو حرص ابن الهيثم على التمييز بين وضعية "الملوك والعظماء" وبين عامة الناس في درجة التحلي بهذا الخلق أو ذاك، فضيلة كان أو رذيلة. هو لا يميز بين "أخلاق الملوك" وأخلاق العامة، كلا. فالأخلاق عنده واحدة، ولكنه يستحضر عند الحديث عن كل خلق –تقريبا- بيان الكيفية أو المدى الذي ينبغي للملك أن يتحلى به، وذلك لا بوصفه ذا منزلة أسمى وأعلى على المستوى الإنساني (البشري)، بل بوصفه ذا وضعية خاصة هي وضعية الرئيس في المجتمع. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالمؤلف يحرص على أن تكون نصائحه على صورة وصفات طبية دقيقة ومضبوطة.

يتعلق الأمر إذن بكتاب في "طب الأخلاق " لا يمكن أن يكون صاحبه لا رجل المنطق والتحليل والجدل الذي لا علاقة له بالطب، ولا الأديب الذي يجمع من هنا وهناك ويستطرد وينتقد ويسخر، ولا "العارف" الحالم المشغول بـ"باطن الدين" يكشفه ويؤوله … كلا، إن الكتاب لرجل عالم عميق المعرفة بالطب يتكلم هندسة ويفكر اعتبارا([22]). إنه لابن الهيثم.  

لنتعرف إذن، وباختصار، على محتوى الكتاب متبعين نفس الترتيب أعلاه -وهو نفس ترتيب موضوعات الكتاب، معتمدين في الأكثر عبارته، فهي من الوضوح والسلاسة بحيث أن كل عرض لها أو تلخيص بعبارات أخرى، لن يكون أوضح منها.

 

 



[1] - هذا النص جزء من الفصل الثاني عشر من كتابنا "العقل الأخلاقي العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية". صدر حديثا : مركز دراسات الوحدة العربية بيروت. وتوزيع المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء.

[2] - سنشير إلى هذه الألفاظ في سياقها من الكتاب عند عرض محتواه في القسم الثاني من هذا الفصل.

[3] - ناجي التكريتي. في البحث الذي نشره بالإنجليزية -وضمنه نص الكتاب بالعربية-  انظر هامش رقم 5

[4] - أبو حذيفة إبراهيم بن محمد. تهذيب الأخلاق. تأليف أبي عثمان عمر بن بحر الجاحظ. دار الصحابة للتراث بطنطا، مصر. 1989

 

[5] - جاد حاتم. يحي بن عدي وتهذيب الأخلاق، دراسة ونصوص. منشورات دار المشرق. بيروت 1985

[6] - اعتمدنا في هذه المعطيات على المصادر التالية:

- Endress, Gerard, The Works of Yahya Ibn Adi.  An Analytical inventory. Wiesbaden, 1977.

- Perier, Augustin, Petits traités apologétiques de Yhya Ben ADI.  J. Gabalda :. Paris 1920

- Perier, Augustin, Yahya Ben Adi : Un philosophe arabe chrétien du Xe siècle. J. Gabalda. Paris 1920 

- Samir, khalil, Le Tahdib al- Akhlaq de Yahya b. Adi, ARABICA  XXI 1974

- Samir, khalil, Nouveaux renseignements  sur Le Tahdib al- Ahghaq de Yahya b. Adi, ARABICA  XXVI 1979

- Platti. E. Yahya b. Adi : Théologien chrétien et philosophe Arabe, Département orientalistek leu ven 1983

- NAGI AL-TAKRITI. Yahya Ibn Adi, A critical Edition and Study of his TAHDHIB AL-AKHLAQ. Editions OUEIDAT. BEIRUT-PARIS 1978

 

[7] - محيي الدين ابن عربي. الفتوحات المكية. دار صادر بيروت د-ت. ج4 ص 459-460

 

[8] - نشر بدوي هذه المقالة ضمن كتابه: دراسات ونصوص في الفلسفة والعلوم عند العرب. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت 1981، أي بعد صدور دراسة ناجي التكريتي، والمقالة الثانية لسمير خليل.

[9] - الواقع أننا نفكر في ثابت بن قرة الحراني، أو ابنه سنان (والد ثابت بن سنان الذي تحدثنا عن كتابه في الفصل السابق). والذي أدخل هذا "التوهم" في ذهننا، أن النسخة الأقدم المعروفة بنسخة لندن للكتاب والتي يرجع  تاريخها إلى سنة 639 هـ، ولم ينسب فيها الكتاب إلى أي مؤلف، يوجد فيها نص الكتاب الذي نحن بصدده "مدمجا في رسالة سياسة النفوس لسنان بن ثابت بن قرة الحراني". (انظر Endress, Gerard المرجع المذكور في الهامش رقم 5،  وأيضا Samir, khalil, Nouveaux renseignements  نفس الهامش)، فقد أشارا إلى هذا الخلط  ولكن لم يستنتجا منه شيئا. ومن المحتمل أن يكون هذا "الدمج" هو السبب في الوضع الذي تحدثنا عنه أعلاه، خصوصا وهذه أقدم نسخة معروفة. وبما أن مصادرنا (القفطي وابن أبي أصيبعة) تنسب كتابين في الأخلاق لثابت بن قرة الحراني هما "كتاب الأخلاق" وكتاب "مختصر في أصول الأخلاق"، ولا تنسب له كتابا بعنوان "سياسة النفوس" ولا لابنه سنان، وبما أن ابن أبي أصيبعة ينسب كتابا بعنوان "مقالة في سياسة النفس" ليحيى بن عدي، فمن الجائز التخمين بأن كتاب "تهذيب الأخلاق" -المدمج في "سياسة النفوس"- هو لابن قرة، بينما أن "سياسة النفوس"  هو لابن عدي. هذا مجرد تخمين. ولكنه يتحول إلى فرضية للعمل حينما نضع في الاعتبار        الطابع "الإنساني" الذي لا يتعصب لدين ولا يتحرج في ذكر "المساجد والكنائس وأماكن العبادة" في عبارة واحدة، و"الرهبان والزهاد ورؤساء الدين والواعظين" في جملة واحدة كذلك. وخلو الكتاب خلوا تاما عما يشير إلى أن مؤلفه يعتنق المسيحية أو الإسلام. ومثل هذا الموقف لا يقبله الباحث بسهولة لا من ابن الهيثم ولا من ابن عدي. ولكنه سيكون موقفا طبيعيا تماما إذا صدر من صابئي حراني (وثني) كثابت بن قرة. فلعل البحث يتجه في المستقبل هذا الاتجاه لإثبات جدوى هذه الفرضية أو عدم جدواها. وإلى أن يتم ذلك فنحن نرجح نسبة الكتاب إلى ابن الهيثم نظرا للقرائن التي ذكرنا أعلاه.

[10] - القفطي: مختصر الزوزني. نفس المعطيات المذكورة ص 165-168

 

[11] - ابن أبي أصيبعة. نفس المعطيات المذكورة. ص 550-560

[12]- Endress, Gerard. The Works of Yahya Ibn Adi:  An Analytical inventory. Wiesbaden, 1977. P..84

[13] - ابن الهيثم. كتاب المناظر. تحقيق عبد الحميد صبرة. الكويت 1983. ص 532.

 

[14] - Perier, Augustin : Petits traités apologétiques de Yhya Ben Adi.  Gabalda :. Paris 1920

[15] - سحبان خليفات. مقالات يحيى بن عدي الفلسفية. كلية الآداب الجامعة الأردنية. عمان 1988

[16] - Perier, Augustin. Yahya Ben Adi : Un philosophe arabe chrétien du Xe siècle. J. Gabalda. Paris 1920 

[17] - سحبان خليفات. رسائل بن عدي الفلسفية. نفس المعطيات السابقة.  ص 335-336

[18] - ابن النديم  الفهرست نفس المعطيات السابقة.   ص 264

[19] - Perier, Yahyia Ben Adi...   p.119

[20] - كثير من هذه القرائن يناسب أيضا ثابت بن قرة أو ابنه سنان، بما في ذلك خدمة الملوك. ولكن ليس ثمة بعد ما يسمح بمساواته بابن الهيثم، على صعيد نسبة الكتاب في المخطوطات.

[21] - ابن أبي أصيبعة.نفس المعطيات السابقة.  ص 558

[22] - يستعمل ابن الهيثم كلمة الاعتبار في كتابه "المناظر" فيما نطلق عليه اليوم التجربة العلمية الفيزيائية.