طب الأخلاق …
ومستشفى لتهذيبها !
محمد عابد الجابري
من بين الذين تابعوا
منهج جالينوس في دراسة الأخلاق[1] أحد أكبر الأطباء
العرب، سليل عائلة حرانية طبية، ثابت بن سنان. اشتهر جده أبو الحسن ثابت بن قرة
الحراني (المتوفى سنة 288 هـ) بكثرة ما ترجم وألف، إذ تذكر له مصادرنا العديد من
الكتب في الطب و الطبيعيات والفلسفة، وفي مجال الأخلاق والسياسة كذلك: منها كتاب
"في الأخلاق"، وآخر بعنوان "مختصر في أصول الأخلاق" وكتابان
في السياسة هما كتاب "في السياسة" و"رسالة في حل رموز كتاب السياسة
لأفلاطن". قال عنه ابن أبي أصيبعة: "ولم يكن في زمنه من يماثله في صناعة
الطب ولا في غيره من جميع أجزاء الفلسفة. وكذلك جاء جماعة كثيرة من ذريته ومن أهله
يقاربونه فيما كان عليه من حسن التخرج والتمهر في العلوم"([2]). منهم ابنه أبو
سعيد سنان بن ثابت بن قرة الذي "يلحق بأبيه في معرفته بالعلوم واشتغاله بها
وتمهر في صناعة الطب، وله قوة هائلة في الهيئة" (الفلك) وكان مكلفا بمارستان
بغداد أيام الراضي واعتنى بالسجون فخصص لها أطباء يعنون بصحة نزلائها. وقد اهتم
بـ"طب الأخلاق" فكلفه أحد الأمراء في زمانه بأن يتكلف بـ"إصلاح
أخلاقه" إضافة إلى معالجة بدنه، فابتدأ بأن كتب له رسالة شرح له فيها
"جملة علاج ما أنكره من نفسه" من صفات وأخلاق، وطلب منه قراءتها والعمل
بما فيها "قبل أن يجيئه التفصيل في أوقات". وقد ركز في الرسالة على
معالجة "الغضب والغيظ" بوصفهما أخطر الأمراض الخلقية بالنسبة للحاكم،
ووصف العلاج على الجملة وهو ضرورة التخلق بضديهما (العفو والصفح)، قبل أن يبين له
طريقة المعالجة. ويضيف ابنه ثابت ابن سنان، قائلا : "فاستحسن (الأمير) ذلك
وما زالت أخلاقه تصلح ووالدي ينبهه على شيء مما ينكره منه من أخلاقه وأفعاله
ويرشده إلى طريق إزالته، إلى أن لانت أخلاقه وكف عن كثير مما كان يسرع إليه من
القتل والعقوبات الغليظة، واستحلى واستطاب ما كان يشير عليه من استعمال العدل
والإنصاف ورفع الظلم والجور ويستصوبه ويعمل به"([3]).
أما صاحبنا راوي هذا
الكلام فهو ابن هذا الطبيب وحفيد ثابت بن قرة. واسمه الكامل : أبو الحسن ثابت بن
سنان بن ثابت بن قرة الذي كان بدوره "طبيبا فاضلا يلحق بأبيه في صناعة
الطب". وقد خدم في صناعة الطب كلا من المتقي والمستكفي والمطيع" (=خلفاء
عباسيين) وأسندت إليه رئاسة مارستان بغداد، واشتهر بكتابه في التاريخ الذي
"ذكر فيه الوقائع والحوادث التي جرت في زمانه" وقد توفي سنة 363هـ.
ومع أن مصادرنا لا تذكر
له من الكتب غير كتاب التاريخ المشار إليه الذي سجل فيه بتفصيل حوادث عصره من سنة
295 هـ إلى سنة وفاته (نحو 70 سنة) فقد وصلنا منه كتاب بعنوان "تهذيب الأخلاق".
ولا شك أن شهرة كتابه في التاريخ وأهميته البالغة قد صرفت الأنظار عن كتابه هذا.
ومهما يكن فالكتاب الذي بين أيدينا هو فعلا لثابت بن سنان، صحيح النسبة إليه([4]). ويتبين من
فهرسه أنه ينتمي إلى النوع الذي نتحدث عنه هنا، والذي ينظر إلى الأخلاق من زاوية
طبية. ومن مطالعته يتبين أنه أكثر إيغالا في هذه النزعة من أسلافه، بما فيهم
جالينوس والرازي.
نعم هو يعتمد جالينوس ويذكره. ومع أننا لا نتوفر
على جميع نصوص هذا الأخير فإن ما اطلعنا عليه منها، سواء مما اختصره حنين بن إسحق
أو لخصه الرازي، يسمح لنا بالقول إن ثابت بن سنان قد ذهب بـ"طب الأخلاق"
إلى أقصى مدى، إلى أبعد مما رأينا عند جالينوس والرازي. هو يتحدث في كتابه عن
"علم الأخلاق"، وأحيانا كثيرة عن "الطب النفساني" بوصفه علما
ضروريا وأكثر شرفا من الطب الجسماني نفسه. هو لا يستعمل عبارة "الطب
الروحاني" التي استعملها الرازي، لأن البحث في "الروح" هو في نظره
من اختصاص الفلاسفة الذين اختلفوا في شأنها، ولذلك يعرض عن الخوض فيها. وبالمقابل
يتحدث عن "النفس" من زاوية طبية محض بوصفها جماع القوى الثلاث :
الشهوانية التي مسكنها الكبد، والغضبية التي مسكنها القلب، والناطقة التي مسكنها
الدماغ. ومع أنه اعتمد جالينوس وذكره مرارا فهو لم يطرح مثله مسألة ما إذا كانت
النفس الناطقة خالدة أو غير خالدة، ولا يتحدث عن "السعادة" خارج توازن
هذه القوى في حياة الإنسان. والرجل مسلم كما يبدو من استعمال تعابير إسلامية، وكان
أبوه قد أسلم في قصة ذكرها ابن أبي أصيبعة. ويبدو أنه قطع بإسلامه مع الفلسفة
الدينية الحرانية (الديانة الصابئة) ونظريتها في النفس والفيض الخ. أما جده ثابت
بن قرة فقد "كان من الصابئة المقيمين بحران"، كما ذكر ابن أبي أصيبعة.
نحن إذن إزاء كتاب
"علمي" في "طب الأخلاق"، ولنقل أيضا في "الطب
النفسي"، يعالج موضوعه ضمن أفق علمي محض (كما كان العلم في عصره)، لا يستحضر
لا أفلاطون ولا أرسطو. وإذا ذكر أفلاطون فالغالب ما يأتي ذلك في سياق طبي وعلى
لسان جالينوس. أما أرسطو فقد ذكره بمناسبة تعريف الفضيلة، بوصفها "وسطا بين
رذيلتين". ومع أن نظرية أرسطو هذه كانت رائجة ومقبولة على أوسع نطاق في
الثقافة العربية فقد فضل عليها، بعد مناقشة، نظرية مخالفة تقول بأن الفضائل
"مركبة" وليست مجرد وسط، كما سنرى.
ينقسم الكتاب إلى سبعة
أبواب كما يلي:
الباب
الأول: عبارة مقدمات، يشرح فيها موقع "علم الأخلاق" ضمن العلوم الفلسفية. وهكذا ينطلق من شرح معنى كلمة
فلسفة، لينتقل إلى علومها فيبدأ بـ"المنطق" فيقرر أن منزلته فيها كمنزلة النحو والعروض بالنسبة للعلوم العربية،
فهو إذن ليس جزءا من الفلسفة بل هو "كالميزان" الخ. ثم ينتقل إلى
التعريف بأبواب المنطق : المقدمات، الجدل، البرهان الخ. بعد هذا يعرض لأقسام
العلوم الفلسفية كما صنفها أرسطو إلى "الجزء النظري وهو العلم، والجزء الخلقي
وهو العمل". ثم يعرض أقسام كل منهما (العلوم الإلهية والطبيعية، والعلوم
التعليمية الرياضية)، وعندما يصل إلى "علم الطب" بوصفه أحد العلوم
الطبيعية يسهب في التعريف به وبأقسامه ومسائله، مبرزا الشبه القوي بين الطبيب
والفيلسوف: الأول يداوي الأبدان والثاني يقوم بإصلاح الأخلاق.
والمنطلق
في تعلم العلوم النظرية يجب أن يكون "الرياضيات" فهي "تروض العقل
وآلاته كلها" كما تفعل الرياضة البدنية لأجزاء البدن. أما العلم الإلهي فهو
علم المبادئ الأولى التي لا مبادئ فوقها، وأما الطبيعيات فهي جميع العلوم التي
تبحث في السماء والأرض وما فيهما. ومن ذلك الإنسان وتختص به صناعة الطب.
وصناعة الطب أربعة أجزاء: التشريح، والصحة
والأمراض، ودلائل ما خفي من الأمراض، والطريق في حفظ الصحة وعلاج الأمراض. فإذا كملت للطبيب معرفة هذه الأشياء على الوجه
المطلوب "كان طبيبا حاذقا". ويضيف ابن سنان قائلا: "ومثل هذا بعينه
يلزم الفيلسوف في الصفات الخيرة وإكسابها، وإصلاح الأخلاق وتهذيبها، حتى يكون
طبيبا وحتى يجتهد أن يجعل نفسه ومن يسوسه ويداوي أخلاقه خيِّرا فاضلا… فإن الطبيب
أيضا ليس يمكنه في الأبدان أكثر من ذلك".
الباب الثاني: في أصول الأخلاق، وموضوعها قوى
النفس الثلاث، ويستهله بتعريف الخلق، مستعيدا تعريف جالينوس بنصه، فيقول :
"الخلق حال للنفس داعية الإنسان إلى أن يفعل أفعال النفس بلا روية ولا
اختيار"، لينتقل إلى مسألة ما إذا كان مصدر الأخلاق هو النفس الشهوانية
والغضبية وحدهما، أم أن للنفس الناطقة دور فيها؟ وللحسم في هذه المسألة يحلل أصول
الأخلاق" كما يلي: الأول مسكنه القلب وهو القوة الغضبية. والثاني مسكنه الكبد
وهو النفس الشهوانية. أما القوة الناطقة فهي تختص بالعلم، وليس بالخلق ولا بالعمل،
هي أداة الفهم والعقل الخ، ومسكنها الدماغ، ولذلك ليست هنا في مقام الأصل الثالث.
وإنما الأصل الثالث للأخلاق "هو قياس الأنفس الثلاثة بعضها إلى بعض"، أي
نسبة بعضها إلى بعض بما يحقق قيام التوازن وهو "العدل". وهذا التوازن
يجب أن يكون على غرار ما يحصل في المدينة : للنفس العاقلة منزلة الملك، وللنفس
الغضبية منزلة الجند مع الملك، و أما النفس الشهوانية فقد "جعلوا مثَلها في
البلدان مثلَ العامة في المدينة والمملكة، أعني الأكرة الذين يخدمون أمر الأغذية
والتجار ومن جرى مجراهم". أما إذا قلنا بصدور الأخلاق عن النفس الناطقة أيضا،
على ما ذكره جالينوس أخيرا، فستكون أصول "الأخلاق" حينئذ أربعة، وهي :
ما يصدر عن النفس الناطقة، ما يصدر عن النفس الغضبية، ما يصدر عن النفس الشهوانية،
والرابع قياس (نسبة) هذه الأنفس بعضها مع بعض (ص23 –24).
ذلك باختصار عن
"أصول الأخلاق" التي تناولها الكتاب في الباب الثاني. أما الباب الثالث
فيتحدث عن الفضائل والرذائل، والأحوال التي بينهما التي هي نظير ما بين الصحة
والمرض في البدن. ذلك "أن بين صحة
النفس ومرضها، أعني بين العدالة وضدها، وإن شئت قلت الفضيلة والرذيلة أو الخير
والشر، وسائط تقوم فيها مقام تلك في البدن". فكما أن أحوال البدن ثلاثة، حال
الصحة، وحال المرض، وحال ليست بصحة ولا مرض، فكذلك الشأن في أخلاق الناس : فمنهم
محمودون، ومنهم مذمومون، وآخرون يكونون تارة هكذا وتارة هكذا، "حسب درجات
المريض في المرض". والمرض هو خروج عن الحال الطبيعي سواء تعلق الأمر بالبدن
أو بالنفس. فـ"أمراض النفس هي أحوال فيها، خارجة عن المجرى الطبيعي، مضرة
بأفعالها بلا توسط" (ص 38)
"والأمراض تعرض للنفس من إحدى ثلاث جهات :
1-
"إما من قبل أمراض الأعضاء التي مسكنها فيها، أعني الدماغ والقلب والكبد، فقد
بين جالينوس أن أخلاق النفس تابعة لمزاج البدن"، ويرجع ذلك إما إلى أصل في
نفس خلقة كل إنسان، وإما إلى حادث يحدث بعد ذلك، فيزول أو يثبت.
2- وإما من قبل الأحوال النفسية كالعادات
والاعتقادات وغيرها.
3- وإما من قبل اجتماع الأمرين جميعا (ص39).
ولتوضيح ذلك يذكر هذا المثال كالنموذج، وهو يخص
النفس الناطقة, وهي تتكون من قوة التخيل ومسكنه من الدماغ في البطينين اللذين في
المقدمة، وقوة الفكر والتمييز ومسكنه في البطينين الذين في وسطه، وقوة الذكر
(التذكر) والحفظ ومسكنه في البطين الذي في المؤخرة (ص40).
ويمثل لهذه الثلاثة بالجزء الذي به يكون
الفكر والتمييز: فأمراضه من جهة الأحوال
البدنية كعدد أمراض الجزء من الدماغ الأوسط الذي ذكرنا أن مسكنه فيه" (ص 39).
وأما أمراضه من جهة الأحوال النفسية فهي مثل أن يعتقد اعتقادا رديئا، إما بتقليد
من لا يجب أن يقلده، أو بغلط يقع فيه في القياس إذا فكر وهو صبي قبل أن يقوى فكره
ويستحكم، أو يوقِعه فيه مُوقِع بقصد مغالطتِه أو من غير قصد لذلك، ثم يستحكم فهمه
ويقوى فكره فيقيم على ما قد ألفه منه ويستوحش من مفارقته ويرتاب مما يصور له في
معارضته أو ينبهه عليه منبه ويبصره إياه مبصر، ويتعبد لذلك الاعتقاد ويتعصب له
وينصره، ويظن أنه فيه على الحق ولا يمكن ما سواه من تأمله ولا من فكره ورأيه
وتمييزه وتحصيله، فإن ذلك مرض من أمراض النفس لا صنع لمزاج البدن فيه. فإن انتقل
عنه كان الانتقال هو البرء والعافية، وإن ثبت عليه كان بمنزلة الأمراض التي لا
تبرأ، إما لصعوبتها وإما لتقصير علم المعالج لها أو لسوء طاعة المريض أو لغير ذلك
من الأسباب.
وإضافة
إلى أمراض النفس من جهة البدن والأحوال النفسية هناك أمراض ترجع إلى العادات. فالعادات
قد تغير الأخلاق تغييرا عظيما من حيث لا يتغير مزاج البدن ولا شيء من أحواله ولا
يتغير الاعتقاد، لا الذي من جهة الدين ولا الذي من جهة الرأي ولا يتقوى الفكر ولا
يضعف الخ (ص41).
ومن أسباب مرض النفس المعاشرة فالأخلاق تعدي
بالمعاشرة، فقد يرى الإنسان غيره ناعسا فينعس أو يرى غيره يشرب الماء فيعطش… وقد
تتغير أخلاق الإنسان بالمسموعات كالموسيقى بشكل لا دخل فيه لا للاعتقاد ولا للرأي
ولا يرجع إلى التغيرات البدينة بسبب السمع، بل هو من الأمور النفسانية خاصة،
"لأن مزاج البطنين الوسطين من الدماغ خاصة وأحوالهما كلها لم تتغير عما كانت
عليه قبل سماع ما سمع، فقد يرى الإنسان الضوء أو الخضرة والصور الحسنة فيحدث له
ضرب من السرور والنشاط وقد يرى الظلمة فيحدث له ضرب من الوحشة" (ص45).
والأحوال النفسانية التي تقف وراء المرض على
نوعين :
- منها ما ليس للبدن فيه دور ولكنه قد يعود هو
فيؤثر في البدن "كالإنسان الذي يكون أصلَ سوء ظنه وكثرة فكره أخبارٌ سمعها،
صحيحة أو باطلة، فيهوله وتتابع عليه، أو مصائب ومحن تتوالى عنده، فكل ذلك ولا صنع
ليديه فيه، غير أنه إذا أطال الفكر فيها والجزع منها أثر ذلك في بدنه. وربما انعكس
إليه حينئذ من تأثيره في البدن ما يزيد في مرضه كما تفعله الأحوال البدنية، فإنها
ربما أثرت في النفس تأثيرا يعود ويرجع بالضرر على البدن، فإن صنفا من الخلط
السوداوي قد يحدث سوء فكر وسوء ظن، وربما يكرر هذا ويزاد، كان الابتداء من البدن
أو من النفس، فيصير الخلط السوداوي سببا لكثرة الفكَر الرديئة والظنون السيئة
والخوف في غير موضعه والسهو بسببه وأشباه ذاك، وتعود هذه الأحوال التي تحدث في
النفس بالزيادة في الخلط السوداوي وتولده، ولا تزال زيادته تزيد في الأحوال،
وزيادة الأحوال تزيد فيه، حتى ربما أفسد هذا الخلط الأحوال البدنية وأبطلا الفكر
والفهم والتمييز، إما بطلانا تاما لا يعود بعده، وإما مدة ثم يعافى منه. وفعل
الفكر الرديء بالبدن مثل ذلك وهو أن ينتهي به إلى التلف أو إلى ما دون التلف.
- ومنها ما
لا يؤثر في البدن كما أنه لا أصل له في البدن مثل القوة التي يكتسبها الإنسان في
رأيه وفكره وفهمه وتحصيله لعلوم يتعلمها ويرتاض فيها، وسِيَر يقرؤها وأحوال يتصرف
فيها وكثرة الدربة والحنكة، فإن ذلك لا يؤثر في البدن ولا يغير مزاجه بنفسه إلا أن
يفعل ذلك بالعرض : بأن يقع فيه تلف بكد البدن أو بسهره فيكون الكد والسهر وكثرة
الفكر تؤثر في البدن …
ومن الأشياء التي تؤثر في الأخلاق : الأمراض التي
تكون من جهة البدن والنفس معا، مثل أن يطرأ على الإنسان، بسبب سوء التدبير في
المطعم والمشرب أو غير ذلك، صنف من الخلط السوداوي يكسب صاحبه سوء الفكر وسوء
الظن، فإنه تتغير بذلك أخلاقه من جهتين : إحداهما بدنية من جهة الخلط السوداوي،
والأخرى نفسانية من جهة ما يحدثه الفكر السوداوي من الاعتقادات الرديئة والظنون
الفاسدة .
ومن أحوال الأنفس الخارجة عن المجري الطبيعي
المضرة بأفعالها ما هو للنفس أو جزء النفس أو قوة النفس التي فيها مرض وهي لمرض آخر حادث عنه في جزء آخر من
أجزاء النفس أو في نفس أخرى من الأنفس الثلاث…
"وإذا كانت هذه الأمور كما شرحنا فقد يجب أن
يكون عدد أمراض الجزء الذي به يكون الفكر والتمييز من أجزاء النفس الناطقة كعدد
أمراض ذلك الجزء من الدماغ الذي هو مسكنه وإن اختلفت أسبابها، وأن تكون هذه
الأسباب النفسانية والمجتمعة من النفسانية والبدنية إنما تزيد في مقدار كل مرض
منها أو تنقص أو تحدثه وتولده كما تولده الأحوال البدنية"…(ص 50)
"وإذا كان هذا هكذا فقد وجب أن نقتصر، في
إحصاء أمراض الجزء الذي به يكون الفكر والتمييز، على إحصاء ووصف ما يوجبه اختلاف
مزاج وأحوال هذا الجزء الأوسط من الدماغ من أمراض … وقد لا يقع الخلل في هذا الجزء
الأوسط من الدماغ من ذات نفسه، فيقع الخلل
في الجزء الذي يكون به التخيل مثلا، فيكون ذاك من أسباب مرض الجزء الذي به الفكر
والتمييز (ص 52).
لنكتف في هذا الموضوع
بهذه القدر ولننتقل إلى الباب الرابع وهو "في الاستدلال على ما خفي وكمن من
الأخلاق". وهذا الاستدلال شبيه
بالاستدلال على المرض من عوارضه، وهكذا نصل إلى معرفة كوامن الأخلاق الرديئة من
جهة الأسباب الفاعلة لها، البدنية والنفسية والممتزجة منها أي بنفس الطرق التي
نستعملها في طب البدن في الاستدلال على الأمراض الغامضة التي لا يلحقها عيان ولا
حصر. وهكذا فالأسباب البدنية في هذه الحالة "ليس يدل شيء منها على الأخلاق
الظاهرة ولا الكامنة إلا بتوسط أحوال الأنفس. أما الفراسة وهي من الأحوال البدنية
فقد تدل على الأخلاق بغير واسطة. وقد يستدل على أخلاق المرء بأخلاق من يحبه
ويصافيه ويصاحبه… أو من الصنائع والعلوم التي مارسها والآراء التي اعتقدها.
وإنما يحصل إخفاء الأخلاق إما بسبب استقباح صاحبها
وإما بسبب الدهاء والحيلة. والاستدلال عليها قد يحصل بالقياس والحجة، وهذا نادر،
ويحصل في الأكثر بالحزر والتخمين والحدس الصناعي (الذي يقوم على التدريب فيصيب كما
في التدريب على الرمي بالسهام) فإذا كثرت دلائله قوي في النفس حتى كاد أن يلحق
اليقين.
من طرق الاستدلال على الأخلاق "وجه
غريب". ذلك أن من شأن الأخلاق أن تزدوج أحيانا، فإذا عُرف أصناف ازدواجها
فربما وجدت في الإنسان إحدى الخلتين من الزوج منها ظاهرة، فوجب من ذلك أن يظن أن
قرينتها قد كمنت فيه. وهناك أمثلة كثيرة على هذا (ص81).
هذا عن الأمراض والاستدلال عليها، ولكن طب
الأخلاق لا يهتم بالمرض وحده بل هو كالطب البدني يعنى بحفظ الصحة، والصحة في
الأخلاق هي الفضائل. وحفظ الفضائل والتزيد فيها هو أشرف موضوعات الأخلاق،
"وهو الغاية المقصودة والغرض الأقصى... والطريق في حفظ الأخلاق المحمودة
بحالها حتى لا تتغير هو حفظ الأسباب التي أوجبتها وتلافي ما لا بد أن يحدث بمرور
الزمان: أما ما يحدث في مزاج الأعضاء التي فيها أصول الأخلاق أي الدماغ والقلب
والكبد فحفظ الأخلاق فيه يكون باستدامة صحة تلك الأعضاء، وهذا داخل جميعه في صناعة
الطب. وأما ما يحدث في الأسباب النفسانية فحفظ الأخلاق فيه يكون بلزوم شيئين :
أحدهما الارتياض المعتدل الملائم الذي لا
يزيد على طاقة الإنسان ولا ينقص عنها، فإن من شأن السكون أن يضعف من قوى النفس
وأحوالها المحمودة، كما يضعف الأبدان ترك الرياضة. فأما الرياضة للنفس الناطقة فهي
مداومة النظر في العلوم على ترتيبها وخاصة ما فيه القياس والحجة"، فإن به
تتجنب الأغلوطات والزلق في النفس إلى الاعتقادات الفاسدة (يجب البدء في التعليم
بـالهندسة والعدد من علوم العجم والفقه والنحو والعروض من علوم العرب). أما رياضة
النفس الغضبية فتكون بما يكسبها القوة في نفسها وبما في الأدب والعادة مما يحملها
على طاعة الناطقة. ومما تقوى به النفس الغضبية ما يسمعه الإنسان مما يبعث على
الأنفة ويحرك الرئاسة والشجاعة. والألحان المقوية للنفس لها تأثير كبير : فالألحان
تبعث على الشجاعة أو الحزن الخ، حسب نوعها، وكذلك المواعظ. وأما النفس الشهوانية
فإنها عسيرة التأديب والهدف من ترويضها إضعافها حتى لا تنازع ولا تجاذب النفس
الناطقة ولا الغضبية.
أما إصلاح الأخلاق
الرديئة وتهذيبها وهو موضوع الباب السادس فهو مظهر من مظاهر علاج النفس (ص 133) . و"علاج أمراض
الأنفس الثلاث على الجملة تجمعه قضية واحدة وحكم واحد، وهو كما قيل في الطب : علاج
الشيء بضده". فكما أنه لو كان المرض في المزاج بسبب ارتفاع الحرارة فعلاجه أن
يبرد الحار طلبا للاعتدال (=طريقة جالينوس في المعالجة الطبية)، فكذلك في النفس
إنه متى كان المرض بسيطا وفي قوة واحدة، وفعل واحد، وخلق واحد من إحدى الأنفس، كان
علاجه بسيطا. ومتى كان مركبا احتيج أن يركب له العلاج. وسبيله في الحالين أن تقابل
كل شيء من ذلك بضده.
هذه جملة
وأصل، ولكن لا بد من التفصيل وذلك بمراعاة اشتباك النفس والبدن، وهو "اشتباك
شديد" ( ص 140). وكما قال أبقراط : فالأبدان الممتلئة أخلاطا رديئة كلما زدت
في غذائها زدتها وبالا، فكذلك النفس الممتلئة اعتقادات رديئة وأخلاقا مذمومة كلما
أوردت عليها من العلوم والرياضات النفسانية ما يجري مجرى الغذاء والتقوية زدتها
وبالا، حتى إن الإنسان الشرير كلما تأدب ونظر وزاد ذكاؤه وقويت فطنته وبعد غوره …
فإنما يزداد سوءا ووبالا، وهو كالسكران والمجنون الذي يدفع إليه سيف قاطع. ولأن
يكون بليدا متخلفا أقل لبليته وبلية الناس به. ومن هذه الجهة كان الحكماء يتواصون
بمنع انتشار الحكمة.
"وينبغي أن يعلم أن هاهنا علاجين عامين
لجميع الأخلاق المذمومة، لهما موقع عظيم النفع، وأنا أصفهما : فأحدهما يسمى التكرير
والآخر يسمى التدريج: التكرير إعادة العلاج متى لم يؤثر، أما التدريج فحَطُّ الخلق
الرديء من مرتبة إلى مرتبة دونها. وكما يكون العلاج بالكي للبدن في بعض الأحيان،
يكون مثله للنفس : فقد ينبغي سجن المريض النفسي أو وضع السلاسل على رجليه حتى لا
يؤذي الآخرين".
جميع ما تقدم كان بمثابة "الكليات" في
"طب الأخلاق"، وهي توازي "الكليات" في الطب الجسماني، أما
الحالات الجزئية التي يعالجها "الطب التطبيقي" فيخصص لها ابن سنان الباب
السابع الذي يشغل نصف حجم الكتاب تقريبا (من ص 156 إلى ص282)، وعنوانه:
"مثالات في أخلاق بعينها من المحمودة والمذمومة وما يحتاج إليه في البحث عنها
والحفظ للمحمودة والتزيد فيها، والمداواة للمذمومة".
يبدأ بتعداد الأخلاق الفاضلة التي يخصها الناس
بالمديح وهي العقل والفهم وأصالة الرأي وجودة التدبير والفكر وصحة التمييز
والتحصيل… والورع واللين والزهد في الدنيا وتأدية الأمانة والوقار … والرحمة
والكرم والمروءة وكبر الهمة والشجاعة…
وأما الأخلاق المذمومة فهي أضداد هذه في الغالب
مثل الحمق والوسواس وقلة الفهم والتعجرف والرعونة والحيرة والغباوة والبله والبخل
والجبن …
وبعد إحصاء هذه الأخلاق يعود فيتحدث عن كل واحدة
منها مبتدئا بالعقل. فالعقل هو النفس الناطقة … وقد اختلف الفلاسفة في ذلك وأشباهه
فقال بعضهم إنه كلما زاد العقل وقويت آلاته كان أفضل. وقال بعضهم إن كل فضيلة هي
واسطة بين نقيصتين: فالعقل واسطة بين الدهاء والغباوة والشجاعة بين الجبن والتهور (ص
162). وهو لا يتحمس لنظرية أرسطو التي تقول إن الفضيلة هي وسط بين رذيلتين بل يؤيد
رأي من يقول إن الخلق يكون دائما مركبا : فالدهاء خلق مركب وكذلك سائر الأخلاق،
وإنما يسمي الناس "داهية" من اجتمع له قوة عقل ورأي وبعد غور ودقة حيلة
مع شيء من الرداءة والشر، وأن الرجل الداهية نفسه الناطقة متعبدة للغضبية التي تحب
الرئاسة تفتح له الأبواب والحيل ووجوه الحزم… وأنه قد يكون إنسان آخر ممن عقله مثل
عقل الداهية أو أكثر غير أنه خير فاضل في سيرته .. فلا يوصف بالدهاء. وأما الشجاعة
فليست خلقا بسيطا لا للنفس الغضبية ولا للناطقة، ولا يجب أن يسمى شجاعا المتوسط في
الإقدام والصبر، بل هي خلق مركب وإنما تكون الشجاعة شجاعة متى كانت إقداما.
وإذا كان
ذلك كذلك وكان العقل قد رزق كلُّ إنسان منه في أصل الخلقة مقدارا ما، والناس فيه
درجات متفاوتة وله أيضا آلات شتى وكثيرا ما يكون الإنسان في بعضها أقوى من صاحبه،
وهو في غيرها أضعف منه، "فنحن نقول فيه ما شاكل ما تقدم من أقاويلنا: إنه
كلما قوي وقويت آلاته كان أفضل. وربما كان في الخلقة ضعيفا في آلاته كلها كالأحمق،
وربما كان فاسدا في جميعها كالموسوس، وقد بينا الفروق بين الضعيف والفاسد، وأن بين
هذين وبين القوي في جميعها، والضعيف الفاسد فيها كلها، وسائطَ متناهية في أنواعها
وإن كانت كبيرة جدا، خاصة إذا ركبت سائر أصناف التركيب وغير متناهية في
مقاديرها".
ويتحدث
ابن سنان بتفصيل عن هذه الأخلاق الممدوحة والمذمومة وعلاقة كل منها بالأنفس الثلاث
ويعرض لدور العائلة. ثم ينتقل إلى الحديث عن "أخلاق البهائم" (ص266) مما
يشاكل أخلاق الناس، إذ يقال مثلا: إن الرئاسة والسيادة لا يستحقها إلا من اجتمعت
له عشرة أخلاق من أخلاق البهائم حراسة الكركي، ووفاء الكلب وروغان الثعلب وسخا
الديك… ويناقش ذلك ويقول يمكن أن يعترض على ذلك بأن كثيرا من هذه الأخلاق هي للنفس
الناطقة التي ليست للبهائم.
ويختم ابن سنان كتابه "تهذيب الأخلاق"
بتوجيه نداء إلى الحكام والموسرين يطلب فيه إنشاء بيمارستان خاص لـ "طب
الأخلاق"، على غرار بيمارستانات طب الأبدان. ويلح على ذلك إلحاحا لكون أمراض
النفس معدية أكثر مما هو عليه الحال في أمراض البدن. "أما عدواها فإلى من
يعاشره وخاصة من تلميذ ووليد وقريبه وغيرهم ممن يتشبه به ويقتفي آثاره ويقتدي به
ويحب أن يتشبه بأخلاقه، ولا يظن أن شيئا أفضل من ذلك لجلالته في نفسه، وأما تعديها
فإلى من يعاملونه فإن شر الشرير ربما عم خَلْقا، وخاصة إن كانت له أدنى رئاسة أو
يد منبسطة وحكم نافذ وأمر حايز، فكان يجب على من بسط الله يده ووسع سلطانه أن يرسم
بطب الأنفس قوما من فلاسفة الأخلاق خاصة، ويرسم لهم الأجرة ويتخذ لهم
البيمارستانات يعلم فيها صنوف العلوم النافعة وتواصل المواعظ وتعالج أنفس الشرار
فيها خاصة طوعا وكرها"، كما هو عليه الأمر في البيمارستانات المختصة بالأمراض
العقلية.
كان ذلك عرض موجز لكتاب "تهذيب
الأخلاق" لثابت بن سنان بن ثابت بن قرة. وكما هو واضح من هذا العرض فهذا
الكتاب استمرار لنفس الخط الذي سار عليه الرازي في كتابه "الطب الروحاني"
(توفي الرازي سنة 320 هـ وابن سنان سنة 363 هـ).
والحق أن اكتشافنا لهذا المخطوط أعني اطلاعنا
عليه إذ كنا نجهل وجوده- هو الذي مكننا من موقعة رسالة الكندي "في دفع
الأحزان" وكتاب "الطب الروحاني" في موقعهما الصحيح من تاريخ الفكر
الأخلاقي العربي، وبالتالي مكننا من اكتشاف هذه النزعة الطبية العلمية في الأخلاق
بتراثنا، وهي في تقديرنا إنجاز على قدر كبير من الأهمية.
ليس هذا
وحسب بل لقد مكننا اكتشاف هذا المخطوط من الحسم في مسألة نسبة كتاب آخر بعنوان
"تهذيب الأخلاق" أيضا، بقي إلى الآن موضوعا لممارسات لا أخلاقية، كما
سنبين في الفصل القادم([5]).
[1] - هذا النص
هو القسم الثالث من الفصل الحادي عشر من كتابنا : "العقل الأخلاقي العربي
: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية". صدر هذا الشهر، ويطلب في المغرب من
المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، وفي بقية البلدان من مركز دراسات الوحدة
العربية ببيروت.
[2] - ابن أبي أصيبعة. نفس المعطيات السابقة. ص295- 300
[3] - نفس المرجع ص 303
[4] - لا نعلم هل هذا الكتاب نشر أم لا. ونحن نعتمد هنا على مخطوط للكتاب
يحمل عنوان : "تهذيب الأخلاق، تأليف ثابت بن سنان بن قرة المتطبب". وليس
ثمة مجال للشك في نسبة الكتاب إليه، فهو يذكر مرارا جده ثابت ابن قرة بالاسم بصيغة
"جدي" ويترحم عليه، كما يذكر أباه بعبارة "والدي أعزه الله"
مما يدل على أنه كتب كتابه هذا في حياة والده، هذا إضافة على ذكر أخبار عن بعض
الخلفاء العباسيين الذين اشتغل معهم كل من جده ووالده. هذا إضافة إلى أن ما ذكره
في هذا الشأن يتطابق ما حكاه ابن أبي أصيبعة في ترجمته له ولأبيه وجده، نقلا عن
مصادر أخرى. فالكتاب إذن هو لـ"ثابت بن سنان بن قرة المتطبب" كما ورد في المخطوط.
[5] - الواقع أن البحث الذي قمنا به من أجل الحسم في من هو مؤلف هذا الكتاب
هو الذي قادنا إلى العثور على لمخطوط كتاب ابن سنان في مركز الملك فيصل للبحوث
والدراسات الإسلامية بالرياض. فإلى مدير المركز المذكور وإلى العاملين معه الذين
لم يبخلوا علينا بأية مساعدة نجزي الشكر الجزيل والاعتراف بالجميل.