شعرية المثل
في الرواية الحديثة
قراءة في
"سرايا بنت الغول"
نور الدين محقق
أما بالنسبة للنص
الروائي، فإن هذه الأمثال تكسر من بنيته الإنسيابية المعتمدة في عمقها على لعبة
الاسترسال التلقائي، وتجعل لغته الكلية أو على الأصح لغاته، تعرف صراعات متعددة
فيما بينها، إذ أن كل لغة تحاول أن تؤثر في اللغات المتداخلة معها وتبرز إلى السطح
معبرة عن وجودها الذاتي، وهو ما يمنح للنص اتساعا في الرؤية وبعدا جوهريا في
التعبير، ويجعل منه نصا أدبيا عميقا منفتحا على مختلف الأصوات المتواجدة داخل
المجتمع ذاته
يتعدد حضور
المستوى النثري في نص رواية سرايا بنت الغول، للكاتب الفلسطيني إميل حبيبي، لأن
النص أصلا في بنيته الكلية المنفتحة، هو نص نثري، وبالتالي فعملية استيعابه
للأجناس النثرية الصغرى داخله، مسألة تبدو جد طبيعية، من هنا سنحاول أن نقتصر على
ذكر ما يتواجد فيها من الأمثال التي يستشهد بها الكاتب الضمني، وتبيين كيفية
اندماجها فيه، دون أن نتوغل في شعابها المتفرقة إلا حينما يقتضي الأمر ضرورة فعل
ذلك.
بداية سنحاول أن
نتطرق إلى تحليل تواجد المثل العربي الفصيح في هذا النص، والطريقة التي يشتغل بها
داخله، وتحديد أهم العلاقات التي يقيمها مع النص الروائي الذي يحتضنه كجزء لا يتجزأ
من بنية تكوينه الكلية. إن أول ما يثيرنا في المثل كمفهوم هو أنه "قول سائر
يستخدم في مواقف مماثلة أو شبيهة للموقف الذي استخلص منه، ومن أهم خصائصه أنه يتسم
بالإيجاز، ويعتمد على التصوير –حيث تكون الصياغة التصويرية غير مباشرة- فضلا عن
أنه يأخذ شكلا ثابتا لا يتغير- ولا يقتصر استعمال المثل على الاستشهاد به في
المواقف المماثلة فقط، بل يضرب مثلا في ذاته". وتبعا لهذا التعريف الدقيق له،
فإن مفهوم المثل يتحدد بكونه القول المأثور الثابت السائر الموجز الذي يعتمد على
الصياغة التصويرية أو التجريدية، الذي قد يستخدم في ذاته، أو قد يستخدم في موقف
مماثل لمورده الأصلي، وعلى الرغم من أن كثيرا من الأمثال السائرة تصويرية كانت أم
تشبيهية أم تفضيلية ارتبطت بقصص متنوعة ترويها كتب الأمثال وغيرها من المصادر
اللغوية والأدبية القديمة فإنها كانت تختزل في تلك العبارات الوجيزة التي تتضمن
الحكمة المستخلصة أو العبرة المستفادة. ونظرا لشمولية هذا التعريف المقدم للمثل،
لا سيما الفصيح منه، فإن ملامحه الكبرى، تشمل معظم الأمثال التي سنعالجها هنا. إلا
أن ما يهمنا ليس هو دراستها في حد ذاتها، بقدر ما يهمنا تناول الأبعاد اللغوية
والفكرية التي استطاع الكاتب الضمني أن يمنحها لنصه الروائي المدروس، بتضمينها
داخله. إن أول ما يصادفنا من هذه الأمثال هو المثل القائل: "لو فيها خير، ما
رماها الطير" الذي ورد على لسان بطل الرواية –عبد الله- حين اعتزل أصدقاءه.
واختار الجلوس فوق صخرة مرتفعة بعيدة عن سواها من الصخور الأخرى، بغية ممارسة
هوايته المحببة، صيد السمك. وحتى لا يعتقد المتلقي المفترض، أن هذا المكان من
لدنه، مكانا استثنائيا، لا يمكن لأحد أن يعثر عليه أو أن السمك جد متواجد فيه،
فإنه يقدم له ذلك، كدليل على عكس ما قد يعتقده، إذ أن هذا المكان، لو كان يوجد فيه
أي نفع، لكان غيره من الصيادين قد وصل إليه قبله، واحتله بدلا منه، فهذا المكان
المهجور، لم يهجر إلا لأن لا خير فيه، وهذه الصخرة التي يجلس عليها الآن
"البحر أمامها، شحيح السمك، فلا يقر بها سماك جاد، يعلم بأن البحر من تحتها
لا يجود بالسمك" ص27. من هنا نلاحظ أن العلاقة التناصية التي يقيمها الكاتب
الضمني بين المثل المستشهد به من لدن بطل النص الروائي وبين الحالة التي هو فيها،
علاقة تماثلية، بحيث يصبح المثل هنا، دالا بوضوح عليها، حتى ولو لم يقم البطل –عبد
الله- بتوضيحها أكثر، إلا أن عملية وروده في هذا السياق والوظيفة التي يؤديها فيه،
تكمن أساسا، على حد تعبير عبد الكبير الخطيبي "في مقاومة ابتذال
الكلام"، إنه يمنح قوة كبرى وتدفقا متراصا لما يسعى الكاتب الضمني للإعلان
عنه، بل أبعد من ذلك إنه يهب لكلامه بعدين زمنيين جد متباعدين، بعد زمن المثل
الحقيقي وامتداداته وبعد زمن الحدث المتحدث عنه من لدن البطل –عبد الله- كما أنه
يعطي للغة النص الروائي ذلك الصراع الدرامي الذي بتواجده فيها، تصبح ذات بعد
تعددي، مقاوم لكل أحادية محتملة، حتى وإن أورده الكاتب الضمني من أجل تعضيد موقفه
الانعزالي هذا. في نفس الاتجاه، يمكن أن نتعامل أيضا مع المثل الآخر الذي استشهد
به بطل الرواية لتبيان عدم قدرته على الجمع بين السياسة من جهة وبين الأدب من جهة
أخرى وإن كان قد قام بهذا الجمع في السابق. ولعبة الاستشهاد هاته هي الأخرى، لم
يقم بها الكاتب الضمني عفويا، وإنما قد قام بها عن قصد وسبق إصرار (حسب التعابير
القانونية) من أجل الرد على بعض التهم التي قد تلصق به، كالجبن والهروب وتغيير
المبادئ..، ويتضح ذلك انطلاقا من المثل المؤتى به نفسه، هذا المثل القائل:
"لا يستطيع المرء أن يحمل بطيختين في يد واحدة" ص28. وحتى تتضح الرؤية
كاملة، فإننا سنقوم بإيراد السياق الذي جاء فيه هذا المثل في النص الروائي، يقول
عبد الله: "لم أجد، منذ صغري وسيلة للترويح عن أعصابي، التي ولدت مشدودة، سوى
هواية صيد السمك فأدمنت عليها إدمان الراهب على النبيذ المخزون في دنان ديره،
ويحسبني معارفي مازحا، وما أنا بمازح، حين أقول لهم، إن مهنتي هي صيد السمك وأما
الأدب فهو هوايتي المحببة، وأما السياسة؟ قد قيل: "لا يستطيع المرء أن يحمل
بطيختين في يد واحدة" فكيف بهذه البطيخة الثالثة؟! قيل "حملوه عنزة
فضرط، قال شيلو علي الثانية" ص28. إن المثل المستشهد به هنا، قد ورد على لسان
عبد الله كجواب منه على سؤال مفترض يتعلق بالأساس، بالأسباب التي دفعته للتخلي عن
السياسة، خصوصا وأنه قد عرف بالاشتغال بها أكثر مما عرف مثلا بصيد السمك وقبل أن
يعرف بالكتابة الأدبية في حد ذاتها. وقوة جوابه هذا تستند إلى قوة المثل الضارب في
اللازمن، إذ أن المثل يستمد مشروعيته المطلقة في الإقناع من "زمنيته
اللاتاريخية"، إضافة إلى انتمائه بشكل من الأشكال إلى بنية الشعر، إذ أنه
يكتسب من هذه البنية "بعضا من القوة كالدقة، والصورة السريعة، الخاطفة
(العنيفة في حالات عديدة) والتشخيص البلاغي". وهذه القوة الإقناعية في حد
ذاتها هي ما يحتاج إليه الكاتب الضمني ومن خلاله بطل الرواية عبد الله، لتبرير
موقفه الرافض للجمع بين اهتمامات مختلفة، أو على الأصح الرافض للجمع بين السياسة
والأدب والساعي إلى التفرغ لعمل واحد، ونظرا للإحباطات السياسية التي مني بها مرات
متعددة، فإنه لن يعود إلى الاشتغال بالسياسة، وإنما سيتركها لغيره، ويعود لممارسة
هوايته القديمة المتمثلة في الأدب، هذا الأدب الذي بواسطته سيعسى إلى البحث عن
زمنه الضائع منه ويستعيد من خلاله سراياه التي افتقدها في غمرة اهتماماته السياسية
السابقة. إضافة إلى هذا نستشف من خلال هذا المثل المستشهد به، طابع السخرية الذي
يغلفه، إذ نجد فيه استهزاء عميقا، إن بالسائل المتعجب، أو الذي يتوقع جوابا آخر
غير ما أعلنه، وهذه السخرية، تظهر من خلال الصورة التي يقدمها المثل في طياته، وهي
صورة كاريكاتورية لإنسان أنعم الله عليه بيدين سويتين، وبدل أن يسعى لحمل
البطيختين اللتين اشتراهما كل واحدة في يد، وهي دعوة غير مباشرة لأهمية التخصص من
جهة ولفصل الأدب عن السياسة من جهة أخرى، يعاند هذا الإنسان ويقوم بحملهما معا في
يد واحدة، وبالضرورة فإن النتيجة ستكون كارثية، بحيث أن البطيختين ستسقطان منه على
الأرض وستصبحان غير صالحتين للأكل حتى، أو في أحسن الأحوال ستسقط منه إحداهما
وتبقى الأخرى، دون أن يترك له حرية اختيار الأصلح والأنضج منهما. فما بالك لو أراد
حمل ثلاث بطيخات في نفس الوقت وبيد واحدة، هل يستطيع ذلك؟ إن الجواب الذي يقدمه
الكاتب الضمني على لسان عبد الله، جواب ساخر إلى حد التأليم، وهو أيضا عبارة عن
مثل. كأنما المثل هو الخلاص الوحيد الذي لا محيد عنه ولا مهرب إلى سواه، لأنه يشكل
لحظة قوية لاستعادة الثقة في النفس وتثبيتها على السير في الخط الذي اختارته بعد
عمق تفكير وطول مكابدة، يقول المثل إذن، شارحا الوضعية التي يعيشها بطل الرواية
المتمثلة في حيرته الشديدة إزاء ما يختار، الأدب أم السياسة أم صيد السمك، ما يلي:
"لا يستطيع المرء أن يحمل بطيختين في يد واحدة" فكيف بهذه البطيخة
الثالثة؟! قيل "حملوه عنزة فضرط، قال: شيلوا علي الثانية" ص28. وإذا كنا
قد حللنا المثل الأول الذي يتعلق بعملية استحالة حمل البطيختين في يد واحدة، فإن
المثل الثاني، ما هو إلا تأكيد آخر لمعنى المثل الأول وإن بطريقة أخرى أكثر إيغالا
في السخرية وابعد غورا في التصوير الكاريكاتوري. إذ لا تكتفي بمنح الواقع كما هو
وإنما بتقديمه انطلاقا من مرآة أخرى. تقدم الحدث، لكنها في الأساس تعني إقرار
نقيضه، ويتجلى ذلك واضحا في الثنائية الضدية التي تتكون منها بنية هذا المثل،
فالقسم الأول منه تقدم لنا عجز الرجل الذي حمله الآخرون، ضدا على رغبته وفوق
طاقته، عنزة على ظهره، فوقع من ثقلها أرضا، في حين أن القسم الثاني منه يقدم لنا
هذا الرجل نفسه وهو يطالبهم بإضافة عنزة أخرى ليقوم بحملها أيضا، وتلك هي المفارقة
التي تنفجر منها السخرة في مداها الأبعد، إذ الحقيقة أن هذا الرجل، حين علم بعدم
قدرته على النهوض لم يعد يضره أن يضاف إليه حمل آخر على الحمل الأول، إذ أنه سيبقى
ساقطا أرضا في جميع الحالات.
إن المثل هنا يقوم
بإفراغ اللغة من دلالتها المباشرة، وبالتالي تصبح العادة ضرورية لممارسته
الاجتماعية، يقول عبد الكبير الخطيبي في هذا الصدد: "إنني عندما أستعمل مثلا،
فإن هذا الاستعمال بالتأكيد ليس استشهادا بريئا لوقف عنف استطرادي، ولكن من أجل
إشعار محدثي بأن ليس في إمكانه تسلم جسمي بسهولة، واحتضان المثل يفرض زمن العادة
وفق المتعة وحركة دلالة دائرية دوما". ونظرا لأهمية المثل، كما رأينا، فإن
الكاتب الضمني يستعمله باطراد، داخل النص الروائي سرايا بنت الغول ليمنح لمواقفه،
قوة أخرى، إضافة إلى قوتها الشخصية المستمدة من الأحداث السياسية والاجتماعية..
التي يستند إليها كلما حاول أن يوضح موقفا من مواقفه تلك، وهي في غالبيتها أمثال
يسعى من ورائها لامتلاك سلطة رمزية تجاه المتلقي المفترض الذي يخاطبه، بغية
التأثير عليه وجعله مساندا له، أو في أضعف الحالات متعاطفا معه. ولتوضيح ذلك نورد
هذه الأمثال حسب مجيئها في الرواية دون أن نحللها، كل مثل على حدة، مكتفين
بالتحليل الذي قمنا به للمثلين الأولين منها، إذ أنعملية تحليلها ستسير في نفس خط
التحليل السابق.
1 – لو فيها خير
ما رماها الطير، ص27.
2 – لا يستطيع
المرء أن يحمل بطيختين في يد واحدة، ص28، ص37.
3 – فرخ البط
عوام، ص53.
4 – من شاب على
إضاعة الفرص، شاب على حياة كلها فرص مضاعة، ص67.
5 – ليس بالخبز
وحده، يحيا الإنسان، ص84، ص177.
6 – الدين لله
أما الوطن فللجميع، ص87.
7 – الغائب عذره
معه، ص99.
8 – إما أن يعيش
غبيا وإما أن يموت نبيا، ص105.
9 – الحاجة أم الاختراع،
ص106.
10 – الموت مع
الناس نعاس، ص126.
11 – ما أكذب من
شاب تغرب إلا شايبا ماتت أجياله، ص126.
12 – سبق السيف
العدل، ص126.
13 – لسانك
حصانك، إن صنته صانك، ص135.
14 – رمتني
بدائها وانسلت. ص145 = فلما حاولوا أن يرموني بدائه وينسلوا انتهرهم عمي، ص145.
15 – الحديث ذو
شجون، ص192.
إن أول ما يمكن
ملاحظته فيها، هو كونها، تختلف في تركيبتها اللغوية، فهناك أمثال تعتمد في بنيتها
على التقفية، بحيث يمكن تحديد جزأيها، انطلاقا من هذه التقفية نفسها، التي تقوم
بإغلاق النص، حادة من انفتاحيته على باقي العوالم اللغوية المندرج تحتها/فيها، وإن
كانت من جهة أخرى تمنحه قوة تأثيرية أكبر، نظرا للإيقاع الموسيقى الذي يتواجد من
خلالها، إذ القافية تكاد تشبه "الطبل الذي يدق" معلنا قرب حدوث شيء
معين، أو مؤكدا حدوثه. وهناك أمثال أخرى تعتمد في قوتها على الجانب الدلالي المضمن
فيها والذي غالبا ما يتأسس فيها على عنصر التقابل الضدي الموجود بين جزأيها.
ولتوضيح ذلك نورد هذا المثل نموذجا لما قلناه، "الدين لله أما الوطن
فللجميع". إلا أن هذه الأمثال بنوعيها، تخضع ككل نص أدبي إلى العملية
التحويلية التي يسعى الكاتب الضمني للقيام بها، انطلاقا منها، داخل بنية نصه
الروائي، إذ أنها تمنحه فرصة للتأويل الحر البعيد، لكل ما يسعى لإيصاله إلى
الآخرين، عبر طريق إيحائي هو أقرب إلى طريق الأسطورة والحلم منه إلى طريق الكتابة
المباشرة الذي يقتل العملية الإبداعية ويجردها من أهم عناصرها، أقصد عنصر التخييل
تحديدا.
إضافة إلى هذا،
فالكاتب الضمني لا يكتفي فقط بعملية الإتيان بهذه الأمثال وإدماجها في صلب لغته
الروائية، خالقا بذلك لعبة تناصية مثيرة، تتألف عناصرها من تلوينات دلالية مختلفة،
ترتكز تارة على عنصر الائتلاف وتارة أخرى على عنصر الاختلاف، بل إنه أيضا يقلد
قالب هذه الأمثال ويصوغ من خلالها أمثالا جديدة، محاولا بذلك الارتفاع بكلامه من
إطاره العادي الضيق الذي يتعلق به وحده ولا يشير إلا إلى معاناته الشخصية إلى إطار
كلي، يتجاوز جميع الحدود الزمانية والمكانية، ليعبر عن الإنسان في إطلاقيته، حتى
يكون لكلامه صداه البعيد في نفسية المتلقي المفترض ويتجاوب مع الموقف الفكري الذي
ينطلق منه، ويجد مبررات كافية لفهم المسار الذي اختار السير فيه، ضدا على رغبة
رفاقه القدامى ذوي الآفاق المحدودة (حسب وجهة نظره). أما بالنسبة للنص الروائي،
فإن هذه الأمثال تكسر من بنيته الإنسيابية المعتمدة في عمقها على لعبة الاسترسال
التلقائي، وتجعل لغته الكلية أو على الأصح لغاته، تعرف صراعات متعددة فيما بينها،
إذ أن كل لغة تحاول أن تؤثر في اللغات المتداخلة معها وتبرز إلى السطح معبرة عن
وجودها الذاتي، وهو ما يمنح للنص اتساعا في الرؤية وبعدا جوهريا في التعبير، ويجعل
منه نصا أدبيا عميقا منفتحا على مختلف الأصوات المتواجدة داخل المجتمع ذاته .
ملاحظة: جميع
الاستشهادات الروائية، مأخوذة من الرواية المدروسة أي: رواية سرايا بنت الغول،
منشورات دار رياض الريس، لندن، 1992.