ص1     الفهرس    31-40

 

المثل العربي "الشرط أملك عليك أم لك" وقيمته في التشريع الحقوقي

 

حميد حماني

I - تحديد المثل مفهوما وتاريخا

تحديد لمفهوم المثل لغويا واصطلاحيا:

فهم المركب –كما يقول المناطقة- موقوف على فهم أجزائه، لذلك نرى من المناسب تنزيل هذه القاعدة على ما نحن بصدده، في تحديد معنى مثل "الشرط أملك عليك أم لك" وشرح بعض ألفاظه الأساسية التي يتكون منها، لما تتضمنه من دلالات ذات بال في مجالي الشريعة والقانون، فـ"الشرط بفتح فسكون، وجمعه شروط يدل من حيث مادته في أصل اللغة على معنى العلامة الدالة المميزة"، ومنه اشتق لفظ الشرطي واحد الشرطة، المكلفة بضبط النظام والأمن الداخلي، لما يمتازون به من علامات في ألبستهم تميزهم عن غيرهم.

فالشرط لغة إذن، هو إلزام الشيء والتزامه، وبعبارة أوضح، ما يشترطه الإنسان من شروط يضمنها في صلب العقود المبرمة مع غيره، كعلامة تميز العقد عن أمثاله بأحكام إضافية تخصه، تكون إرادة كل من الطرفين المتعاقدين قد تطابقت بشأنها.

ولفظ أملك مأخوذ من الملك، وهو السلطة التي يتأتى معها الاحتواء على الشيء، أو مكنة الاستفادة منه، بكل الأوجه التي يسمح بها حق الملكية، كحق من الحقوق العينية الأصلية، وما يخوله من ممارسة حق التصرف والاستعمال والاستغلال..

والمعنى المستفاد من المثل المذكور، أن ما اشترطه المتعاقدان من شروط وضمناها صك العقد فهي لازمة وملزمة لهما، وأولى أن تتبع ولا ينبغي أن تخالف، سواء كانت تلك الشروط ضارة ضررا محضا، أو نافعة نفعا محضا، أو دائرة بين النفع والضرر.

أما في اصطلاح الفقهاء والأصوليين، فالشرط هو "ما يتوقف وجود الحكم على وجوده ويلزم من عدمه عدم الحكم"، والمرادوجوده الشرعي الذي يترتب عليه أثره، فالشرط أمر خارج عن حقيقة المشروط، يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده. مثال ذلك أهلية العاقد، فإنها شريطة في كل عقد، ففاقد هذه الأهلية كالمجنون مثلا لا ينعقد عقده. وكذا قابلية المال المبيع للتمليك، فإنها شريطة لانعقاد البيع، فإذا لم يكن المال المبيع قابلا للتمليك لا ينعقد البيع، كما في المال الموقوف، فإن بيعه باطل لعدم قابليته للتمليك.

والشرط عند الفقهاء ينقسم من حيث مصدر شرطيته إلى قسمين: شرط شرعي وشرط جعلي.

فالشرط الشرعي: هو الذي يكون اشتراطه بحكم الشارع، كالشروط التي اشترطها في العقود والتصرفات، والتي اشترطها للعبادات وإقامة الحدود وغير ذلك، وهذه الشروط يكون موضوعها حكم تكليفي، وهو ما اقتضى طلب فعل من المكلف، أو كفه عن فعل، أو تخييره بين فعل والكف عنه. ويستحسن أن يجمع الشرط الشرعي على شرائط، لأنه تشريع صادر عن إرادة الشارع تمييزا له عن الشرط الذي هو تصرف صادر عن إرادة العاقد.

أما الشرط الجعلي: هو الشرط الذي أباح الشارع فيه للعاقدين –وفي حدود معينة- أن يشترطوه في العقود لتترتب أحكامها عليها، فهو إذن يكون بتصرف المكلف وإرادته، ومثاله، الشروط التي يشترطها الزوج مثلا ليقع الطلاق على زوجته، أو شروط الواقف والواهب.. وموضوع هذا النوع من الشروط يتصل بالحكم الوضعي، الذي هو ما يقتضي وضع شيء سببا لشيء، أو شرطا له، أو مانعا منه.

وهذا الشرط الجعلي هو ما يتصل وثيق الاتصال بالمثل العربي مدار بحثنا، "الشرط أملك عليك أم لك" ومجال بسط الكلام في أحكامه، وما يصح تعليقه بالشرط من التصرفات وما لا يصح، هو بحث سلطان الإرادة العقدية في كل من الفقه الإسلامي والقانون الوضعي.

منشأ مثل "الشرط أملك عليك أم لك" تاريخيا:

يتضح من خلال مراجعة المظان، التي أرخت للأدب الجاهلي، الذي لا يتجاوز من حيث مدته القرنين من الزمن قبل مجيئ الإسلام، أن المعنى الذي يفيده المثل المذكور في مجال الالتزامات، قد شاع وانتشر في أوساط هذا المجتمع العربي، حتى غدا عند العرب في جاهليتهم من العادات والأعراف والتقاليد التي يحتكم إليها الناس، وتسير أمورهم بمقتضاها، ويتحاكمون إليها عند نشوء الخصام والنزاع، فقد كان هذا الموروث الحضاري البسيط هو الذي يشكل المرجعية التشريعية عندهم، لأنهم درجوا عليه حتى استحكم تأثيره في النفوس والعقول، فأضحى من ثم ما يمكن أن نطلق عليه القانون الجاهلي.

وقد اتضح تأثير القانون الجاهلي جليا، والاقتناع بضرورة الخضوع لأحكامه عن طواعية واختيار، في مجال التحكيم، وهو أن يحتكم طرفان مختصمان إلى شخص يختارانه برضاهما، ليكون حاكما أو حكما بينهما في خصومتهما.

وقد ذهب الفقهاء والأدباء طرائق قددا في أول من تلفظ بمثل "الشرط أملك عليك أم لك"، والمناسبة التي قيل فيها، فمن الفقهاء من زعم نسبتها إلى ابن شبرمة (92هـ-144هـ) الفقيه التابعي والقاضي الكوفي في عهد أبي جعفر المنصور، وذلك في تعبيره عن مذهبه في اعتبار الشروط، وظنها بعضهم من كلام ابن أبي ليلى (…-148هـ) الفقيه من أصحاب الرأي، الذي ولي القضاء والحكم لبني أمية وبني العباس، واستمر ثلاثا وثلاثين سنة، ونسبها بعضهم مع إبداء شيء من التحفظ من غير قطع أو جزم، إلى القاضي شريح على الكوفة (… 78 أو 80هـ)، بقوله: "وهذا المثل نطق به القاضي شريح، ولا أدري أهو المخترع له أم قيل قبله" وذلك في معرض الفصل في خصومة بين عدي بن أرطاة الدمشقي (…-102هـ) أمير البصرة لعمر بن عبد العزيز، وامرأة له من أهل الكوفة".

وقد أصاب الأديب المغربي البارع، الإمام الحسن اليوسي رحمه الله شاكلة الصواب، في كلامه الذي سقناه آنفا حسبما يستفاد منه، حين ترك الباب مفتوحا في مسألة نسبة المثل إلى قائله الأصلي، وهو الرأي السديد والتاريخ يعضده، إذ المثل يعود منشأ قوله إلى العصر الجاهلي، فكان أول من قاله الأفعى الجرهمي الحكيم الجاهلي القديم، في قضية احتكم إليه فيها، كما في مجمع الأمثال للميداني، حيث ورد ذكر بعض الأمثال المنسوبة إليه، ومنها "مساعدة الخاطل تعد من الباطل"، ولعل من نطقوا بمثال "الشرط أملك" من الفقهاء قالوه في معرض التمثل به.

وفي هذا ملمح من ملامح إقرار الشريعة الإسلامية بعض العادات والمأثورات، والتعديل من بعضها، وإلغاء البعض الآخر منها، حين تعرضت للقانون الجاهلي المبني على عادات العرب وأعرافهم، ويبدو ذلك واضحا في قانون الأسرة، وفي مجال المعاملات، وفي القصاص والديانات، والبيانات..

ويظهر اعتداد الشرع الإسلامي بفحوى مثل "الشرط أملك عليك أم لك"، من خلال النصوص القرآنية والحديثية، وآثار الصحابة وأقوال التابعين، وفقهاء المذاهب على مر تاريخ الفقه الإسلامي.

فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: }ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم{. وقال: }والموفون بعدهم إذا عاهدوا{. وقال في صداق النساء وعدم السماح للأولياء بأكل شيء منه دون رضاهن: }.. فإن طبن لكم عن شيء منه فكلوه هنيئا مريئا{.

وجاء في السنة النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) ، وقال أيضا: (ما بال قوم يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل).

وقال عمر صلى الله عليه وسلم: "مقاطع الحقوق عند الشروط، ولك ما شرطت".

وقال شريح القاضي: "من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه".

وعلى هذا السنن سار من أتى بعد هؤلاء من الفقهاء أصحاب المذاهب، كما سنرى في الفصل الثاني من هذا الدراسة.

بقي أن أشير إلى أن مذهب ابن شبرمة، كان هو المعتمد من قبل واضعي قانون المحاكمات الحقوقية العثماني في مادته رقم 64، الذي اعتبر فتحا جديدا تقربوا به من التشريع الأوروبي الحديث، إذ سن قاعدة اعتبار الشروط العقدية في المقاولات والعقود، فقرر بذلك احترام الشروط التعاقدية وصحة العقود معها، وهذا هو عين النظرية الحقوقية الحديثة القائلة: "إن عقد الإنسان قانون له"، وقررتها كل من المواد 148 من القانون السوري والمادة 147 من القانون المدني المصري، بنصهما على أن "العقد شريعة المتعاقدين"، والمادة 230 من قانون العقود والالتزامات المغربي، التي جاء فيها: "الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها، ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا..".

ونستنتج من خلال هذا العرض التاريخي الموجز، لمثل: "الشرط أملك عليك أم لك"، الذي أدرنا عليه الكلام، أن ما استقر عليه كل من الفقه والقانون الحديث في مجال الشروط التعاقدية، لا يعدو أن يكون مظهرا من مظاهر تأثر نظرية الالتزام بالعوامل الأدبية، في أبعادها التاريخية والعرفية والتراثية والدينية، في إطار التحكيم الذي كان شائعا عند الأمم منذ قديم الزمان، سواء عند اليونان والرومان، أم عند العرب قبل مجيء الإسلام، والذي دل اللجوء إلى سلوك مسطرته على رقي الجماعات البشرية الفطرية، كوسيلة لقطع دابر الخصومات، والفصل في النزاعات، على وجه يضمن مصالح الأطراف، قال أبو شريح: "يا رسول الله إن قومي إذا اختلفوا في شيء فأتوني فحكمت بينهم فرضي عني الفريقان، فقال عليه الصلاة والسلام: ما أحسن هذا".

II - قيمة مثل: "الشرط أملك عليك أم لك" في التشريع الحقوقي

تظهر قيمة هذا المثل، كما ألمعنا إلى ذلك على وجه الخصوص، في سلطان الإرادة ومداه في إنشاء العقود والشروط، ونرى من الأنسب أن نعرض لذلك في نطاق النظام الحقوقي للشريعة الإسلامية، وما لها من أثر بين من هذا الوجه وغيره في التشريع الوضعي، للوقوف بالملموس على مواطن الثراء، والجوانب الخصيبة وما أكثرها في شريعتنا الغراء، التي أقر بمبادئها التشريعية الخالدة ثلة من المنصفين من علماء الغرب.

قيمة المثل في الشريعة الإسلامية:

يشغل مثل "الشرط أملك عليك أم لك" حيزا هاما في التشريع الإسلامي فكرا وممارسة، ويستمد قيمته فضلا عن قيمته الحقوقية كمبدأ هام في نظرية الالتزام، من خلفية عقدية في اعتبار المثل عموما، كما جاء النص على هذا الاعتبار في القرآن الكريم والسنة النبوية، قال بعض السلف: "إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي، لأن الله تعالى يقول: }وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون{، وقال مجاهد في تفسير قوله تعالى: }إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها{: الأمثال صغيرها وكبيرها يومن بها المومنون ويعلمون أنها الحق من ربهم ويهديهم الله بها".

وقال الإمام أحمد فيما يرويه عن عمرو ابن العاص رضي الله عنه قال: "عقلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل" قال ابن كثير وهذه منقبة لعمرو ابن العاص رضي الله عنه".

فلا غرابة إذن أن نجد لهذا المثل موقع قدم راسخ في منظومة التشريع الإسلامي، وبخاصة في مبدأ سلطان الإرادة العقدية، ومدى حرية الأفراد في إنشاء العقود والشروط إعمالا لهذا المبدأ الهام، إما بالنقص وإما بإضافة التزامات على أحد الطرفين المتعاقدين في إطار العقود كأسباب جعلية شرعية.

وبعبارة أخرى، فإن الشارع قد نص على بعض العقود، وجعلها أسباب مفضية لآثارها، فهل يعتبر هذا التنصيص على بعض العقود مانعا من إنشاء غيرها من العقود؟ ثم إن آثار العقود عينها حددها الشارع بالنسبة لكل عقد، والشروط من شأنها أن تزيد أو تنقص من هذه الآثار لمصلحة هذا العاقد أو ذاك، فهل يملك العاقد تعديل هذه الآثار بما يشترطه من شروط؟ أم لا يستطيع هذا، باعتبار أن تحديد الشارع لهذه الآثار يعني وجوب ترتيبها، وعدم إمكان تغييرها أو تعديلها بإرادة الإنسان؟

الواقع أن الاجتهادات الإسلامية المشهورة، اختلفت بينها في شأن هذا الموضوع إلى زمرتين، زمرة من الفقهاء المضيقين الذين يريدون النص الصريح على إباحة العقد أو الشرط ليقولوا بالجواز، وهو ما عبر عنه هؤلاء بنظرية مقتضى العقد، وزمرة الفقهاء الموسعين الذين لا يشترطون النص الصريح على الإباحة، بل يكتفون بعدم وجود النص على تحريم العقد أو الشرط، ليقولوا بالجواز. ونعرض فيما يلي بشيء من الإيجاز غير المخل لآراء هؤلاء وأولئك.

رأي المضيقين المتمسكين بنظرية مقتضى العقد من الفقهاء:

يذهب هذا الفريق من الفقهاء إلى أن لكل عقد في الشرع أحكاما أساسية تسمى "مقتضى العقد"، نص عليها الشرع تنصيصا مباشرا، أو استنبطها المجتهدون وأثبتوها حفظا للتوازن بين العاقدين في الحقوق، فليس للعاقدين أن يشترطا من الشروط ما يخالف هذا المقتضى، فإن اشترطا شرطا مخالفا له يفسد العقد.

وأصحاب هذا الرأي هم فقهاء الأحناف وجمهور فقهاء المالكية، ثم الشافعية، والظاهرية. وقد استدل أهل الظاهر على سبيل المثال بجملة أدلة منها:

أ – إنشاء العقود والشروط التي لم يشرعها الإسلام تكون من باب التعدي لحدود الله والزيادة في دينه، وهذا لا يجوز لأن الله تعالى يقول: }ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون{، وقال: }اليوم أكملت لكم دينكم{.

ب – دلت السنة على المنع من إنشاء أي عقد أو شرط لم يرد الشرع بجوازه، من ذلك حديث (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) ، ومن يعقد عقدا أو شرطا لم يرد به النص الشرعي يكون خارجا عن أمر الشرع فيكون باطلا، وفي حديث آخر (ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله، فليس له وإن اشترط مائة شرط، شرط الله تعالى أحق وأوثق).

فهذا الحديث صريح في تأييد ما ذهب إليه هذا الفريق من الفقهاء، فكل شرط لم يرد به نص من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فهو شرط باطل لا يجوز اشتراطه، وتقصر عنه إرادة الإنسان.

رأي الفقهاء الموسعين الذين يذهبون إلى أن الأصل في حرية الشروط العقدية هو الإطلاق:

يمثل أصحاب هذا الاتجاه فريق من فقهاء الحنابلة، وفي طليعتهم الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، فهؤلاء يطلقون إرادة الإنسان في العقود والشروط، ويوسعون من دائرة حريته في هذا الباب، دون تقييد أو تضييق، كما هو صنيع أهل الظاهر، فالأصل عند الموسعين في العقود والشروط الصحة والجواز، ووجوب الوفاء بكل ما يلتزمه العاقدان ويشترطانه، ما لم يكن في نصوص الشريعة أو قواعدها ما يمنع من عقد شرط معين، كالتعاقد على الربا أو الشروط التي تحل حراما أو تحرم حلالا.

فمبنى اجتهاد هذا الفريق من فقهاء الحنابلة، بحسب كتاباتهم، هو أوسع الاجتهادات الفقهية الإسلامية، وأرحبها صدرا بمبدإ سلطان الإرادة، ويتفق جوهر نظريته فيه مع النظريات القانونية الحديثة في الفقه الأجنبي كما سيرد لاحقا. ومثله مذهب شريح القاضي، ومذهب عبد الله ابن شبرمة الكوفي المنسوب إليهما القول بمثل "الشرط أملك عليك أم لك".

وقد استدل هؤلاء لتأييد رأيهم الراجح عند غيرهم من الفقهاء، لا سيما المعاصرين منهم، بأدلة من القرآن والسنة. فمن القرآن قوله تعالى: }يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود{ وقوله تعالى: }وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا{، إذن فقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود وهذا عام، وكذلك أمرنا بالوفاء بعهد الله وبالعهد، وقد دخل في ذلك ما عقده الإنسان على نفسه.

والسنة نهت عن الغدر وعدم الوفاء بالعهد، من ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي حصر فيه خصال المنافق ومنها: (إذا عاهد غدر) ، ومنه في حديث آخر: (أعطى بي ثم غدر) وغيرها من الأحاديث، المبينة أن الغدر ليس من الإسلام ونقيض أخلاقه والخروج عن مبادئه.

هذه خلاصة موجزة أشد الإيجاز لموقف الفقهاء من حرية الشروط المقترنة بالعقود، والأدلة والحجج التي يستندون إليها في دعم آرائهم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، ويثير في النفس الحيرة في زمننا هذا المتسم بالتطور والمدنية، وبخاصة في جانب المعاملات المدنية والتجارية، هل نساير المضيقين من الفقهاء على حرية الاشتراط في العقود، بدعوى أن الأصل في ذلك المنع إلا ما ورد بشأنه نص صريح، أم نركن إلى آراء الموسعين من حرية الاشتراط دفعا للحرج. ذلك ما سنراه في ما يلي:

المذهب الفقهي الراجح في باب الشروط العقدية، وأثره في التشريع الوضعي:

يميل فقهاء الشريعة والقانون المعاصرون من أمثال الإمام أبي زهرة والشيخ مصطفى الزرقاء وغيرهم إلى طريقة الحنابلة في الشروط التي تشترط في العقود المالية وفتح بابها، وإطلاق الحرية للمتعاقدين في اشتراط ما يريانه من شروط فيها، ما دامت لا تدخل في عموم منهى عنه، أو تخالف قاعدة مقررة في الشريعة، وهو المذهب الذي يستجيب لحاجات العصر ومواكبة النشاط التجاري الذي يعرف نموا مطردا، ويطالعنا من حين لآخر بأشكال من العقود لا قبل لنا بها، في نطاق الصفقات التجارية التي تتسع آفاقها وتتشعب أنواعها، وما يتولد عن ذلك من تنمية اقتصادية تنعكس ثمار نتائجها على الفرد والجماعة والدولة.

ومن ثم عد الفقهاء المعاصرون المذهب الحنبلي أكثر المذاهب الفقهية مزايا في سلطان الإرادة، واعتبروه الاجتهاد الجدير بالخلود "ولا سيما إذا عرفنا أن مبدأ سلطان الإرادة الذي قرره الاجتهاد الحنبلي منذ اثني عشر قرنا، استنباطا من نصوص الشريعة الإسلامية الخصيبة وأصولها المحكمة الواضحة، لم تكن لتعرفه أو تفهمه الشرائع العالمية والفقه الروماني، ولم تتنبه إليه الأفكار التشريعية والاجتماعية في أوروبا إلا منذ قرنين، مع أن الإمام أحمد رضي الله عنه، معدود من فقهاء مدرسة الحديث لا من مدرسة الرأي".

وإن ما يعزز هذا الطرح، المبادئ التي تبناها الفقه القانوني الحديث، والمستمدة من النظرة التشريعية الأكثر عمقا وأصالة لهذا المذهب الفقهي، وظهرت آثارها جلية في نصوص التشريعات الحديثة رغم الفارق الزمني الذي ليس باليسير.

ولعل في النواحي التي سنذكرها ما يعكس تأثر القوانين الوضعية بمبادئ الاجتهاد الحنبلي كما صاغها أصحابه:

الناحية الأولى: جواز تعليق التصرف بالشرط

أجاز الاجتهاد الحنبلي تعليق التصرف بشرط معلق في جميع أنواع العقود والفسوخ، من بيع وإجارة وكفالة وإبراء وغيرها. وتعليق العقد هو إنشاؤه بصيغة تفيد ارتباط وجوده بأمر آخر معلق عليه وهو المسمى بالشرط الجعلي، وذلك كقولك: إن جاءت بضاعتي الفلانية اليوم فقد بعتكها بكذا.

وصحة تعليق العقود بالشروط هو ما يتماشى اليوم مع سلطان الإرادة في القوانين الحديثة، كما هو الشأن في قانون الالتزامات والعقود المغربي الذي جاء في المواد 108 و109 ما نصه:

تقول المادة 108: "كل شرط يقوم على شيء مستحيل أو مخالف للأخلاق الحميدة أو للقانون يكون باطلا ويؤدي إلى بطلان الالتزام الذي يعلق عليه، ولا يصير الالتزام صحيحا إذا أصبح الشرط ممكنا فيما بعد".

وجاء في الفصل 109 ما نصه: "كل شرط من شأنه أن يمنع أو يحد من مباشرة الحقوق والرخص الثابتة لكل إنسان، كحق الإنسان في أن يتزوج، وحقه في أن يباشر حقوقه المدنية، يكون باطلا، ويؤدي إلى بطلان الالتزام الذي يعلق عليه".

وتقابل هذه النصوص في التقنيات المدنية العربية الأخرى: التقنين المدني السوري في مواده 265-267، والتقنين المدني العراقي في المادة 285، وتقنين الموجبات والعقود اللبناني في المادة 81، وغيرها من التقنينات المدنية العربية الأخرى.

 

الناحية الثانية: جواز اشتراط التعامل بطريقة العربون

إن الاجتهاد الحنبلي، على عكس جمهرة المذاهب الأخرى، من أحناف ومالكية وشافعية، أجاز التعامل بطريقة العربون، ومفادها أن يبيع الإنسان الشيء ويأخذ من المشتري مبلغا من المال يسمى: "عربونا" بهدف توثيق الارتباط بينهما، على أساس أن المشتري إذا قام بتنفيذ عقده، احتسب العربون من الثمن الأصلي، وإن نكل كان العربون للبائع.

وكما هو معلوم فإن طريقة العربون هي وثيقة الارتباط العامة في التعامل التجاري في العصور الحديثة، وهي معتمد القوانين التجارية وعرفها، وهي أساس لطريقة التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والانتظار كما يذهب إلى ذلك بعض الفقهاء. وقد تبنتها بعض التشريعات الحديثة بالتنصيص عليها صراحة، كما هو شأن التقنين المدني المصري الجديد في مادته 103 التي ورد فيها ما نصه: "دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه، إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك، فإذا عدل من دفع العربون فقده، وإن عدل من قبضه رد ضعفه، هذا ولو لم يترتب عن العدول أي ضرر"، وقد تابع المشرع المصري في ذلك القوانين الأجنبية سواء ذات النزعة اللاتينية كالقانون الفرنسي في مادته 1599، والقانون الإيطالي في مادته 1217، أو القوانين ذات النزعة الجرمانية كالقانون الألماني في مادته 336، وقانون الالتزامات السويسري في مادته 158.

الناحية الثالثة: الشرط الجزئي

وأصله في الفقه الإسلامي، ما ذهب إليه ابن القيم الجوزية اعتمادا على رواية البخاري في صحيحه في باب ما يجوز من الاشتراط، عن ابن عون عن ابن سيرين أنه قال: "قال رجل لكريه: ارحل ركابك، فإن لم أرحل معك في يوم كذا، فلك مائة درهم، فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه".

وهذا النوع من الاشتراط المروي عن القاضي شريح في ضمان التعويض عن التعطل والانتظار هو ما يسمى في الفقه القانوني العربي والأجنبي: الشرط الجزائي.

فالشرط الجزائي إذن هو تعويض مقدر اتفق عليه المتعاقدان مقدما، فتكييفه القانوني هو ذات التكييف القانوني للتعويض، وقد عالجه المشرع المصري في المواد 223-225، فهو إذن تعهد بضمان مالي جزاء النكول أو التأخر عن تنفيذ الالتزام.

الناحية الرابعة: تأثير العرف في اشتراط الكتابة لإثبات الدين

اشترطت الشريعة الإسلامية الكتابة لإثبات الدين، سواء كان الدين صغيرا أو كبيرا، ولكنها استثنت من هذا المبدأ العام الدين التجاري، وأباحت إثباته بغير الكتابة من طرق الإثبات، وذلك في قوله تعالى: }إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فلا جناح عليكم ألا تكتبوها".

والعلة في استثناء الديون التجارية من شرط الكتابة، أن الصفقات التجارية تقتضي السرعة ولا تحتمل الانتظار، ولأن المعاملات التجارية أكثر عددا وتكرارا وتنوعا، فاشتراط الكتابة فيها يؤدي إلى الحرج، وقد يضيع فرصة الكسب على المشتري، أو يعرض البائع للخسارة، ومن أجل هذا لم تقيد الشريعة المعاملات التجارية بما قيدت به المعاملات المدنية من اشتراط الكتابة.

وهذا ما درجت على إقرار التعامل به النظرية السائدة اليوم في القوانين الوضعية الحديثة، وأنها تعتبر أحدث ما وصل إليه القانون الوضعي في عصرنا الحاضر، وهو أيضا ما نص عليه المشرع المغربي في المادة 448 من قانون الالتزامات والعقود المغربي التي جاء فيها ما نصه: "استثناء من الأحكام السابقة يقبل الإثبات بشهادة الشهود (...) بين التجار فيما يخص الصفقات التي لم تجر العادة بتطلب الدليل الكتابي لإثباتها". فجاء صنيعه هذا منسجما مع القاعدة الفقهية رقم: 44، التي نصت عليها مجلة الأحكام العدلية العثمانية المستمدة من الفقه الحنفي بقولها "المعروف بين التجار كالمشروط بينهم".

وجملة القول، فإن مثل "الشرط أملك عليك أم لك"، يعتبر على الرغم من ضربه في أعماق التاريخ من حيث القدم، وكونه ظهر أول ما ظهر متسربلا بالسربال الأدبي، فإنه مع ذلك يعتبر بكل المقاييس المرتع الخصيب والركن الركين، لبعض النظريات الأساسية في مباني الأحكام، كما هو شأن نظرية العقود في الفقه بنظاميه الإسلامي والأجنبي، ونظرية المؤيدات الشرعية والقانونية، وأخيرا نظرية العرف، كمصدر من مصادر التشريع.

وتأسيسا على هذه المعطيات، يمكن القول دون مواربة، أن الأدب الرفيع، الملتزم بالقضايا الإنسانية بوجه عام، يعتبر رافدا من روافد التشريع، يمده بالتصورات والأفكار، والمعاني والقيم، والأمثال والحكم، والعادات والأنماط.. في شكل مادة خام، فيتلقفها التشريع لقيمتها الحقوقية السامية النبيلة، ليصوغها في مبدأ دستوري أو نص قانوني موجز، يلزم بأحكامها الأفراد والجماعات، في نطاق من التعميم والتجريد، كخصائص للقاعدة القانونية الآمرة أو المكملة.

ولعل في البيت الشعري، الذي جادت به قريحة شاعر المهجر، جبران خليل جبران ما يؤيد دعواي هذه، حين قال:

وقاتل الجسم مأخوذ بفعلتــه وقاتل الروح لا يدري به البشر

وقد ساقه على غرار من سبقوه من ذوي الهمم الوقادة والصيارفة النقادة، من المفكرين والأدباء والفلاسفة والمصلحين، في معرض التنديد بجريمة القتل المعنوي غير الملموس، والذي يفلت مرتكبه من طائلة العقاب، لأن المشرع الوضعي على النقيض من المشرع الإسلامي، لا يحفل إلا بالقتل المادي الظاهر، دون ما اهتمام بما تنطوي عليه جوانح الإنسان من لواعج ذات طبيعة مختلفة، كما تبحث وتفصل في ذلك الكتب المؤلفة في علم فلسفة القانون، وفي ذلك ما فيه من إجحاف بحق المقتول قتلا معنويا، وهو نوع من أنواع القتل أشد وطأة وألما على نفسية معانيه، مما استوجب معه، بعد نضال طال واستطال أمده، إقرار "مبدأ جبر الضرر المعنوي"، من قبل التشريعات الوضعية، التي جنحت راضية إلى التنصيص عليه في صلب مدوناتها القانونية على مختلف مستوياتها.

المصادر والمراجع

ـ أصول الفقه الإسلامي لوهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1986.

ـ إعلام الموقعين لابن القيم الجوزية، طبعة المنيرية.

ـ الأعلام لخير الدين الزركلي، ط6، 1984.

ـ تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير، تحقيق جماعة من العلماء، القاهرة.

ـ جامع الأصول لابن الأثير، دار إحياء التراث العربي بيروت، ط1، 1992.

ـ زهر الأكم في الأمثال والحكم للحسن اليوسي، تحقيق محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الثقافة، ط1، 1981.

ـ فتح القدير شرح الهداية للمرغيناني للكمال بن الهمام، مطبعة مصطفى محمد بالقاهرة.

ـ قانون الالتزامات والعقود المغربي، مع آخر التعديلات، تقديم وتحيين عبد العزيز توفيق، دار الثقافة، ط، 1999.

ـ مجمع الأمثال للميداني، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الفكر.

ـ المدخل الفقهي العام لمصطفى أحمد الزرقاء، دمشق، ط1967-1968.

ـ الملكية ونظرية العقد للإمام أبي زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة.

ـ الوسيط في شرح القانون المدني للعلامة السنهوري، دار إحياء التراث العربي، بيروت.