ص1     الفهرس    31-40

في المثل والتمثيل وضرب الأمثال

مبارك العلمي

تدل المادة في أصلها الثلاثي (م.ث.ل) وما يتصرف منها من صيغ الرباعي والخماسي، على الشخوص والانتصاب، يقال: مثل الشيء يمثل: انتصب، والممثل: المصور على مثال غيره، والمثل بفتح الأول والثاني- عبارة عن قول في شيء يشبه ويصور شيئا آخر لشبه ليبين أحدهما الآخر ويصوره.

وللتمثيل وضرب الأمثال قيمة بيانية، وله تأثير خاص متميز لأنه يخاطب النفس من حيث تألف وتذكر، وهو بذلك يجمع بين خبرة التذكر وبين الحس المباشر، الأمر الذي يجعله يتسلط على الحواس فيشغلها بما هو من شأنها وطبيعتها.

يقول عبد القاهر: (فصل في موقع التمثيل وتأثيره):

"واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه ونقلت عن صوره الأصلية إلى صورته، كساها أبهة وكسبها منقبة ورفع من أقدارها وشب من نارها وضاعف من قواها في تحريك النفوس لها ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفا.. فأول ذلك وأظهره أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريح بعد مكني، وأن تردها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس وعما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع، لأن العلم المستفاد من طرق الحواس والمركوز فيها من جهة الطبع وعلى حد الضرورة، يفضل المستفاد من جهة النظر والفكر في القوة والاستحكام وبلوغ الثقة فيه غاية التمام.. ومعلوم أن العلم الأول أتى النفس أولا من طريق الحواس والطباع ثم من جهة النظر والروية، فهو إذن أمس بها رحما وأقوى لديها ذمما وأقدم لها صحبة وأكد عندها حرمة".

إن مزية التمثيل تكمن في طاقته البيانية المستمدة من خاصية التصوير، والتصوير استجلاب للصورة وإعارة ملامحها التشخيصية –الألوان والظلال والحركة- للمعاني الذهنية والخواطر النفسية، وهي بذلك تكسب قوة تأثيرها، وتضمن استدامة تواصلها وتواشجها مع الإحساس المباشر والواقع الخارجي المشهود. وقد أكثر القرآن الكريم من ضرب الأمثال للناس ونوع فيها، فأنار كل جانب من جوانب النفس الإنسانية، وقرب كل حقيقة من حقائق الوجود ودقيقة من دقائق الحياة وهي من الرحابة والسعة حتى إنها لتلامس المطلق مما هو وراء الزمان والمكان، وذلك مبالغة في البيان وتقريرا للحق وترغيبا في الأخذ بأسبابه، وتحذيرا من الباطل وترهيبا من الوقوع في أحابيل الهوى والشيطان.

قال الإمام الزركشي:   "وضرب الأمثال في القرآن يستفاد من أمور كثيرة: التذكير والوعظ والحث والزجر والاعتبار والتقرير وترتيب المراد للعقل وتصويره في صورة المحسوس بحيث يكون نسبته للعقل كنسبة المحسوس إلى الحس".

وأصل الضرب في اللغة: إيقاع الشيء على الشيء ويطلق الضرب على الصيغة، يقال هذا من ضرب فلان، أي صيغته، لأنه إذا صاغ شيئا فقد ضربه، والضريب: المثل، كأنهما ضربا ضربا واحدا وصيغا صياغة واحدة، والضريب الصقيع، كأن السماء ضربت به الأرض، ويقال للسجية الضريبة، كأن الإنسان قد ضرب عليها ضربا وصيغ صيغة.

"وضرب المثل هو من ضرب الدراهم، وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره".

ويرى ابن القيم –رحمه الله- أن الضرب في المثل مأخوذ من معنى النصب والإشهار.

وتظل العلاقة بين المعاني اللغوية للضرب في إيقاع الشيء على الشيء، ويغلب في الإيلام بقصد العقاب، والنصب والإظهار، وهو ما يفهم من مضارب الخيام، تظل العلاقة بين تلك المعاني اللغوية –وهي من بعض- وبين المعنى الاصطلاحي البياني، بحاجة إلى مزيد من الإيضاح تستوثق معه الصلة وتتمكن، ويتقرر وجه الإضافة ويتحرر، وإنما يتم ذلك ويتحقق بالقول: إن ضرب الأمثال تركيب استعاري أريد به إظهار أثر المثل في النفوس، فكما يحدث الضرب صوتا ويكون له التأثير الخاص المناسب في المضروب وينفعل لوقعه السامع الرائي فيترقب أو يشفق أو يغضب.. فكذلك يفعل المثل المضروب، إنه يقرع الحس بما يشغله أو يهوله فيملأ السمع والأبصار حتى لا مكان فيها لغير ما ترى وتسمع، والحواس موصولة بقوى النفس، وهي منافذها الطبيعة على الحياة، لها لدى كل مشهد هزة ومع كل خبر استجابة.

ومصداق ذلك من أمثال القرآن الكريم:

1 – تمثيله لسلطان كلام الله على القلوب:

قال تعالى: >>لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون<<.

فلينظر المعرضون عن ذكر الله حالهم وليتفكروا فيما أصاب قلوبهم من قسوة إذ تتلى عليها آيات القرآن الكريم فلا تستجيب ولا تخشع والحال أن الجبل، وهو ما هو صلابة وثقلا، لو خوطب بكلام الله –جل وعلا- بأن كان له مثل ما للإنسان من أسباب التلقي والتقبل، لرثي للجيل خشوع وتصدع من خشية الله الجليل المتعالي فالكل أمام سلطانه سواء لا إله إلا هو.

2 – تمثيل كلمة الإيمان وكلمة الكفر:

قال تعالى: >>ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، توتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار<<.

قال الإمام ابن القيم –رحمه الله تعالى-:

"والإخلاص والتوحيد شجرة في القلب، فروعها الأعمال، وثمرها الطيب الحياة الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فثمر التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك.

والشرك والكذب والرياء، شجرة ثمرها في الدنيا الخوف والهم والغم وضيق الصدر وظلمة القلب وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم..".

ولعل الأليق والأوفق أن ينظر إلى الأمثال نظرة شمولية كلية، لأن من شأن التجزئ أن يذهب بقوة التأثير ووحدته، ويفتح أبواب الاحتمال وأضرب القياس، وعليه فإن المثل مضروب لفطرة الإيمان وتحققها وتجمعها الكلمة الطيبة، لا إله إلا الله، فبفضلها يستقيم حال العبد على الأرض، ينعم ببركاتها ويستمد نور الهداية من رب الأرض والسماء، ثابت في أمره كله لا تزلزله أعاصير الأهواء بصير لا تضله الشياطين، والكفر عياذا بالله من الكفر طمس لمعالم الفطرة في النفس، والكافر يعيش في نكد، فلا الأرض ترضاه ولا السماء ترعاه.

وقرينة التمثيل ماثلة في الفصل البياني:

>>اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة<<.

فمن خلال الفصل تبدو حقيقة الإيمان مشرقة ثابتة متجددة زكية في المومنين، وينكشف وجه الكفر كريها ممقوتا، لأنه دخيل على الفطرة البشرية، فليس له فيها موقع وليس له ساق ولا له جذور، إن العبد المومن واصل موصول بخالقه سبحانه، والكافر مجتث محجوب.

3 – تمثيل حال المومنين وحال الكافرين:

قال الله تعالى:

>>أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون<<.

>>أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين<<.

>>مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون<<.

وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور<<.

4 – ومثل القرآن الكريم الإيمان في قلب المومن والكفر على قلب الكافر

قال الله تعالى: >>الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم... والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب. أو كظلمات في بحر لجى يغشاه موج من فوقه، موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور<<.

وقد قيل الكثير في تأويل جزئيات مشهد النور: المشكاة والمصباح والزجاجة.. وفي نص الآيات وسياقها ما يرجح ما ذهبنا إليه، ومن القرائن النصبية أن الله –جل وعلا- قال: >>مثل نوره<< وقال: >>ويضرب الله الأمثال للناس<< وذلك يقتضي توضيح أمر خفي من خلال آخر مدرك مشهود، ومن القرائن السياقية، أن الله تبارك وتعالى أرانا برهان الإيمان وآيته وهي الصلاة والذكر والزكاة، وجاء بالآيات مفصولة فصل بيان فقال:

>>في بيوت أذن الله.. الآيات الثلاث<< وذلك أزكى ما يتقرب به العبد المومن إلى ربه سبحانه، ثم قارن القرآن الكريم أعمال المومن بأعمال الكافر الذي يصرف طاقته ويفني عمره أسير أهواء، صريع شهوات، لا يقضي أربا منها إلا ليلهث وراء آخر حتى ينقطع ولما يفارق طينيته، لم يشرق في قلبه نور الإيمان، ولم يلهج بتسبيح ولا بتحميد ولا بتهليل له لسان، وهو عن ربه ومولاه محجوب، ومن ضنك عيشه في لغوب.

ومثل القرآن الكريم لما ينفقه المومن ولما ينفقه الكافر ومثل للمنسلخ من دينه المتمرد عليه وللمنافق المخادع ذي الوجهين الذي يقول بلسانه ما ليس في قلبه. ومثل حال الدنيا كلها، إذا لم يكن سعي الساعين فيها وكدح الكادحين وتقلب المتقلبين وعمل العاملين، موصولا بدين الله، محكوما بأمره ونهيه راجيا ومشفقا من لقائه.

وهكذا تتعدد أمثال القرآن الكريم وتتنوع، ولكنها في تعددها وتنوعها تدور حول أصل واحد وغرض واحد ومبدإ واحد هو العقيدة، عقيدة التوحيد ونور الإيمان بالله، وهو نور السماوات والأرض، له الملك كله وله الحمد وهو وكيل كل شيء ووليه، لا إله إلا هو.

وقد تبين بهذا البيان الإلهي الرشد من الغي، والهدى من الغواية والزيغ من الضلال، فصار الإنسان بفضله أمام نجدين استبانت معالمهما واتضحت المسالك.

>>فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر<<.

خصائص المعارض التمثيلية:

تشترك معارض الأمثال المضروبة لوحدانية الله تعالى، ولكل ما يعبد من دونه، في أنها جميعا تصور صفات الكمال الواجبة له، جل وعلا، كما القدرة وكمال العلم وكمال الغنى وكمال القيومية على كل شيء، وتصور مقابل الكمال الإلهي، بجلاله وجماله، عجز ونقص الأنداد أوثانا وأصنافا أو مخلوقات أخرى لله تبارك اسمه وتعالى جده، وذلك من خلال صور محسوسة وواقع مشاهد يقيني لا يتطرق إليه شك وليس لإنكاره من سبيل. وهي في ذلك تشارك معارض المقابلة العقدية غير التمثيلية، الكل يثبت وحدانية الله تعالى وبطلان عبودية كل ما سواه.

ولكن الأسلوب يختلف، فالمعارض غير التمثيلية تعتمد في إثبات موجبات الألوهية ودلائلها  آيات الله المبثوتة في الآفاق وفي الأنفس، وهي بذلك تمتاز بخاصية الاستقصاء والتفصيل والمباشرة، وآيات الله تعالى لا تعد ولا تحصى.

وفي كل شيء له آيــــة      تدل على أنه الواحــد

وأما المعارض التمثيلية فتمتاز بالإجمال والتركيز، لأن من طبيعة المثل الإيجاز في اللفظ، والإيجاز تكثيف للمعاني وتأليف بين الحقائق وطي للمسافات، ومصدر هذه الخصائص فيما يبدو آت من أن النظر لا يملك أن يركز على أكثر من شيء شاخص وماثل أمامه، والنظر موصول بالفكر حتى سمي الفكر نظرا ولم يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

ومصداق هذا من أمثال القرآن الكريم في هذا المجال أن المعارض لا تكاد تتجاوز الآيتين ومنها ما ورد في آية واحدة.

ونظرا لخاصية التكثيف القوي والإيجاز الشديد في المثل، فإنه من العسير الاهتداء إلى عنونة معارض الأمثال، كما كان الشأن في معارض المقابلة غير التمثيلية، فالمثل المضروب نفسه عنوان.

المثل الأول:

سورة الزمر: ترتيب النزول: 59

ترتيب المصحف: 39

قال الله تعالى:

>>ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون<<

المثل في سياق السورة

دلت سورة الزمر منذ مطلعها على أصل الإيمان ورأس الدين كله، ألا وهو العقيدة، عقيدة توحيد الله تعالى، فهو –سبحانه- المستحق لأن يعبد، وأن كل معبود سواه باطل وأن الشرك به هو الظلم الذي لا يغفر والمشرك مخلد في النار.

>>تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم. إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين. ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون. إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار<<.

وتتوالى آيات الوحدانية في خلق الأكوان وتصريف الأحوال بما يوافق حاجات العباد، وقد أقام لهم العزيز الغفار الدلائل في أنفسهم وفيما حولهم ليعلموا ويستيقنوا أن لا رب لهم سواه، ويستطرد القرآن الكريم مبينا للناس أن الله جل وعلا، غني عن خلقه لا تضره معصية وهي تسخطه ولا تنفعه طاعة وهي ترضيه، ترغيبا وترهيبا، والموعد الآخرة حيث النعيم المقيم أو الخزي العظيم، ويتخلل ذلك وتكتنفه صورة ومشاهد، تري العباد –رأي العين- مصير المومنين ومآل الكافرين، وتلك حجة القرآن، آيات الله المنزلة المسموعة بعد حججه المرئية المشهودة في الآفاق وفي الأنفس.

>>ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون. قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون. ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون<<.

في توكيد الله جل وعلا على ضرب الأمثال للناس امتنان عليهم وإملاء لهم، عسى أن تحصل لهم الموعظة والذكرى، وذلك التوكيد، محل المنة، متبوع بمنة أخرى وحجة عظمى هي القرآن الكريم، كلام الرحمن الرحيم، لأن الإتيان بلفظ القرآن مفصولا عما قبله، إنما يفهم منه أنه كله حجة الله على خلقه، يحدث لهم الذكر والتذكر وهو الذكر. وكل من الأمثال المضروبة في القرآن وبيان القرآن يعد توطئة وتمهيدا للمثل المضروب للألوهية وللأنداد.

وهو تشخيص لحال الكافر المشرك الذي يعبد آلهة شتى متفرقة أو أهواء مختلفة متضاربة لا يطمئن له قلب ولا يستقيم له حال، والعبد المومن المنقاد لأمر ربه المالك لشأنه، فهو على بينة، يمشي سويا على صراط مستقيم، هو صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، فهو في طاعته لله تعالى وانقياده لأمره منسجم مع الحياة من حوله زمانا ومكانا وحيوانا ونباتا وأشياء، الكل يسبح بحمد الله، فلا شذوذ ولا نشوز، وإنما هي الفطرة الأولى التي فطر الله الخلق عليها في استوائها وطهرها وسموها.

يقول الإمام الطبري:  "مثل الله مثلا للكافر بالله الذي يعبد آلهة شتى ويطيع جماعة من الشياطين، والمومن الذي لا يعبد إلا الواحد، يقول تعالى ذكره: ضرب الله مثلا لهذا الكافر رجلا فيه شركاء يقول: هو بين جماعة مالكين متشاكسين يعني مختلفين متنازعين، سيئة أخلاقهم، من قولهم: رجل شكس إذا كان سيء الخلق، وكل واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه وملكه فيه، ورجلا سلما لرجل، يقول: ورجلا خلوصا لرجل يعني بالمومن الموحد الذي أخلص عبادته لله، لا يعبد غيره ولا يدين لشيء سواه بالربوبية.. وعن مجاهد قال: هذا مثل إله الباطل وإله الحق".

وفي قوله جل وعلا، >>هل يستويان مثلا<< تقرير وإنكار على الكافر المشرك وكبت له وإذلال أن يزعم استواء الحالين، وجيء بالاستفهام مفصولا لأنه بيان وتقرير لسمو التوحيد وشرفه، وزيادة في تعظيم توحيد الله تبارك وتعالى وتشريف المومنين الموحدين لم يفصح القرآن الكريم عن الفاضل والمفضول، وفيه إشارة إلى أن الأمر هو من الوضوح والقوة بحيث يستغني عن التصريح والإعلان، وفي قوله تعالى:

>>الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون<<

"تقرير لما قبله من نفي الاستواء، بطريق الاعتراض وتنبيه للموحدين على أن مالهم من المزية بتوفيق الله تعالى، وأنها نعمة جليلة موجبة عليهم أن يداوموا على حمده وعبادته".

وموجبات الحمد المطلق مقصورة على الله، جل وعلا، فهو الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله: خلق فسوى وقدر فهدى، وضرب لعباده الأمثال، فقرع السمع والأبصار بما يوقظ القلوب الغافلة، فله –سبحانه- الحجة البالغة، والكافرون في غمرة جهلهم يعمهون.

المثل الثاني والثالث

سورة النحل: ترتيب النزول: 70

ترتيب المصحف: 16

قال الله تعالى:

>>ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون. وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كٌَّل على مولاه أينما يوجهه لآيات بخير هل يستوي هو ومن يامر بالعدل وهو على صراط مستقيم<<.

المثلان في سياق السورة

سورة النحل، وتسمى سورة النعم لما عدد الله تعالى فيها من نعمه الجلى، على عباده. وقد استوعبت كل دلائل الوحدانية وموجبات العبودية لله، جل وعلا: الهداية والتمكين لأسبابها من خلق الإنسان وتكريمه بالاستخلاف، وتسخير الأنعام له، فكان له فيها من المنافع الجليلة ما جعل حياته رغدا وأنزل الله بقدرته الماء من السماء، فأنشأ منه كل أصناف الأحياء، وسخر البحر مصدرا للرزق والتواصل بين الناس.. وأحاطهم بعنايته الجلية وألطافه الخفية في أنفسهم وفي الآفاق من حولهم، فكيف يشركون به بعض خلقه، وله يجسد ما في السماوات وما في الأرض، وتتوالى الآيات وتتضافر الدلائل، تكتنفها المواعظ البليغة والعبر الشديدة، وتضرب الأمثال، فيتجلى الحق ساطعا له نور يتبدد له ظلام الكفر، ويخنس لسماع صوته الباطل والمثل الأول المضروب ورد مفصولا عما قبله وهو نهي المشركين وتوعدهم بعد أن ساق لهم الآيات البينات الدالة على تفرده، جل وعلا، بالخلق والأمر أن يشركوا به شيئا، ولكن القرآن الكريم عبر عن ذلك بالنهي عن ضرب الأمثال له سبحانه.

>>فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون<<

"ووجه كون الإشراك ضرب مثل لله أنهم أثبتوا للأصنام صفات الإلهية وشبهوها بالخالق، فإطلاق ضرب المثل عليه. مثل قوله تعالى:

>>وقالوا آلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا..<<

وقد كانوا يقولون عن الأصنام: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، والملائكة هن بنات الله من سروات الجن، فذلك ضرب مثل وتشبيه لله بالحوادث في التأثر بشفاعة الأكفاء والأعيان والازدهاء بالبنين".

فهو إذن بيان لقدر الله جلت قدرته وتعليم للخلق أنهم لا يحيطون به علما، إذ لا يعلم كيف هو إلا هو، فمنتهى العلم به حمل صفاته التي وصف بها نفسه على الكمال والتنزيه عن مشابهة شيء من خلقه مع التسليم والتفويض.

>>ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه..<<.

قال الفراء: "ضرب مثلا للصنم الذي يعبدون أنه لا يقدر على شيء"

وقال الطبري: "وكان مجاهد يقول: هذا المثل والمثل الآخر بعده لنفسه والآلهة التي تعبد من دونه".

وقال ابن عطية: "وقال مجاهد والضحاك: هذا المثال والمثال الآخر الذي بعده إنما هو لله تعالى والأصنام، فتلك هي للعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء والله تعالى تتصرف قدرته دون معقب، وكذلك فسر الزجاج على نحو قول مجاهد، قال:

"وهذا التأويل أصوب لأن الآية تكون من معنى ما قبلها وبعدها في تبين أمر الله والرد على أمر الأصنام".

ووصل المثل بما قبله وبما بعده، التفاتة صائبة من ابن عطية رحمه الله، لأن المثل تاج للآيات المنصوبة المشهودة في الآفاق وفي الأنفس، وهي تنطق بلسان الحال بأن الله، جل وعلا، متفرد بالألوهية، لا شريك له ولا ند ولا نظير ولا ظهير.

والمثل محمل بالمعاني الجليلة والإرشادات الدقيقة وهي مما تستشعره المعرفة ولا تقدر على تأديته الصفة، ومن ذلك أن الله جل ذكره وتعالى قدره مثل بالعبد ووصفه بوصفين، الأول كونه مسلوب الحرية والاختيار والثاني أنه عاجز لا يقدر على شيء يقدر عليه غيره من الناس لشيخوخة أو زمانة.. وتلك ثلاثة أوصاف ترادفت على موصوف واحد هو الإنسان، ولكن القرآن الكريم استعمل العبد رديفا، إشارة إلى أن العبودية صفة ملازمة لا تنفك عن أحد كائنا من كان ثم أضاف إلى العبودية الرقية المعلومة ثم ألحق بهما العجز وعدم النفع، وزيادة في تقرير حطة هذا المثل المضروب للأنداد، قابله القرآن بصورة أخرى، شخص آخر أنعم الله عليه بنعمة الحرية ورزقه من حيث لا يحتسب، ويسر له سبل الإنفاق في وجوه الخير. فإذا كان التماثل منعدما والتفاوت مقررا بين عبدين "فما ظنك بالجماد ومالك الملك خلاق العالمين.. حيث تشركون به ما لا ذليلأذل منه وهو الأصنام".

وجاء الاستفهام محملا بمعاني التقرير والإنكار على المخالف وإفحامه بقوة الحق وتحديده أن يأتي بوجه –أي وجه- يستحق معه شيء من الطاغوت أن يعبد مع الله، وبثبوت الحق ساطعا مشرقا وزهوق الباطل واندحاره مغيظا محنقا، يتعالى صوت الحمد بلسان الأكوان ويتردد التسبيح والتهليل تتهاداه الكائنات طائعة منقادة لله رب العالمين.

>>وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لآيات بخير هل يستوي هو ومن يامر بالعدل وهو على صراط مستقيم<<.

وهذا مثل ثان بين القرآن الكريم من خلاله وجوها أخرى من عجز المعبودات من دون الله إزراء بقدرها وحطا وتحقيرا لشأنها، وهذا المثل أوغل من سابقه في وضاعة الأوثان وهوانها إذ مثلها في صورة من ولد بعاهة الخرس لا يفهم ولا يفهم، مسلوب القدرة وهو عبء على صاحبه، لا نفع فيه لنفسه ولا لمولاه، وفي مقابل الرجل العاهة أتى القرآن الكريم بصورة رجل سوي منطيق، ذي فهم ودين وصلاح يدعو إلى العدل وبالعدل يعمل، هل يستويان مثلا؟ حاشا وكلا.

قال الزمخشري –رحمه الله تعالى-: "وهذا مثل ثان ضرب الله لنفسه ولما يفيضه على عباده، ويشملهم من آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع".

هذا وفي المثل بشقيه أو شعبيته مغاز، وله إيحاء، منها أن الصورة المضروبة للأوثان صورة بشرية ولكنها مشوهة منحطة محرومة من نعمة السلامة والعافية وكمال الإحساس والقدرة على التصرف بما يجلب المنافع ويدفع المضار، وهي صورة منفرة قريبة جدا من الإنسان، لأنها من نفسه، ليعلم فضل الله عليه وتكريمه له بدءا ودون استحقاق منه، إذ خلقه وصوره في أحسن صورة وآتاه السمع والأبصار والعقل ومكن له في الأرض وسخر له من كل شيء وأعطاه ما سأل وفوق ما سأل.

>>يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك<<.

فلينظر ابن آدم إلى صورته وليتفكر في ضروب التشريف والتكريم والتقويم والتفضيل على كثير من خلق الله، أيليق به أن يرتد بعد ذلك إلى أسفل السافلين فيمسخ معالم الفطرة فيه ويعطل ما أنعم الله به عليه من مقومات الاستخلاف في الأرض بأن يشرك بالله ويعبد كائنات هي دونه وقد رفعه مولاه فوقها درجات؟!

المثل الرابع

سورة الروم: ترتيب النزول: 84

ترتيب المصحف: 30

قال الله تعالى:

>>ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون<<

المثل في سياق السورة

ليس بين هذا المثل المضروب لوحدانية الله تبارك وتعالى ولكل ما يعبد من دونه، وبين معرض (الله المحيي المميت) من معارض المقابلة العقدية، ليس بينهما من فصل يذكر، بل إن معرض (الله المحيي المميت) بكل معالم هداه العشرة يعتبر أصلا وقاعدة لهذا المعرض التمثيلي. وقد رتب القرآن الكريم المثل على ما قبله لما بينهما من تمام الاتصال، فقد أرى الله جل وعلا عباده آيات قدرته ودلائل وحدانيته في الآفاق من حولهم: تعاقب الليل والنهار وانتظامهما، وتجدد مواكب الحياة، وفي الرزق بين الأرض والسماء، وفق سنن وضوابط ثابتة لا تختل ولا تختلف، تحكم الوجود كله في كل مظهر من مظاهره.

>>وله من في السماوات والأرض كل له قانتون. وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم. ضرب لكم مثلا من أنفسكم..<<.

إنه ترتيب في درجات البيان، ترتيب الأكثر ظهورا على الأظهر، والأكثر قربا على الأقرب، إنه تمثيل بالنفس وما يخالطها ويخالجها من أحاسيس وما يعتريها من نزعات ويصطرع فيها من رغبات.. وفي هذا المثل المضروب من النفس ارتقاءان الأول في الاستدلال والثاني في أسلوب درجة البيان.

والاستفهام في قوله تعالى: >>هل لكم من ما ملكت أيمانكم..<< للإنكار، وفيه معنى النفي، وتلك مزية الاستفهام، فكما تتراكب مبانيه وتتداخل تتفاعل معانيه، والاستفهام الإنكاري ينصرف إلى المعتقد أساسا، وبهذا يكون القرآن الكريم ملامسا لأعمق أحاسيس المخاطبين محركا لأرق مشاعر الذات أو الأنا فيما يمس غريزة التملك، وبقدر ما يعظم التأثير تكون الاستجابة، أي الإقلاع عن الشرك والإنابة إلى الله تبارك وتعالى.

يقول الإمام ابن عطية رحمه الله: "بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله بضربه هذا المثل، ومعناه أنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد تملكونهم، فإنكم لا تشركونهم في أمواكم ومهم أموركم ولا في شيء على جهة استواء المنزلة، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم أو يقاسموكم إياها في حياتكم كما يفعل بعضكم ببعض، فإذا كان هذا فيكم، فكيف تقولون إن عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته، وتثبتون في جانبه ما لا يليق بكم عندكم بجوانبكم..".

وقد استغني ببيان الحال، حال الطبائع وجبلة النفس عن بيان المقابل، وفيه من قوة الحجة والإفحام ما فيه، لما بين المثلين –مثل الأنفس ومثل العبيد- من التفاوت، ولأن الله –جل وعلا- ألجم كبرياءهم وكسر شوكة غرورهم فذكرهم بحاجتهم وافتقارهم إلى فضله وإحسانه فقال:

>>هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم<<

فأسند الجليل الرزق إلى نفسه، تذكيرا بالنعمة وتقريرا للمنة، ولولا ذلك لقال: (في أموالكم أو فيما تملكون). وقد نوه الله، جل وعلا، بهذا البيان، فأشار إليه إشارة إعلاء وتعظيم.

>>كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون<<

وزيادة في التنويه بشأن هذا البيان الإلهي المفصل المحقق، سكت القرآن الكريم عن معمول الفعل المضارع (يعقلون)، وفيه دلالة تعميم، أي أن كل من أوتي حظا من العقل والنظر، يدرك المراد من هذا التمثيل، ويكون له فيه غنم وتحصيل