ص1      الفهرس       31-40

الزمــن

خورخي لويس بورخيس

ترجمة: محمد آيت لعميم

لم يكن نيتشه يحب أن نجعل جوته وشيليغر في نفس المرتبة. ويمكننا القول أنه من غير اللائق أن نقرن في الحديث بين الفضاء والزمن، لأنه يمكننا ذهنيا غض الطرف عن الفضاء ولا يمكن غضه عن الزمن.

لنفترض أنه ليس لدينا سوى حاسة واحدة بدل خمسة، وأن هذه الحاسة هي حاسة السمع. إذن فاختفاء العالم المرئي، يعني اختفاء القبة الزرقاء، والنجوم.. وإذا فقدنا حاسة اللمس سيختفي إذن مفهوم الخشونة والليونة الخ.. وإذا فقدنا حاسة الشم والذوق، سنفقد الإحساسات المتمركزة في الفم والأنف. ولن تبقى لدينا سوى حاسة السمع. وسنظفر بعالم ممكن نستغني فيه عن الفضاء. عالم أشخاص، أشخاص يستطيعون التواصل فيما بينهم، يمكن أن يكونوا آلافا أو ملايين. وسيتواصلون فيما بينهم عبر اللغة والموسيقى –لا شيء يمنعنا من تصور لغة معقدة وأكثر تعقيدا من لغتنا-، ويعني هذا أنه يمكننا الحصول على عالم حيث لا مجال إلا للإحساسات والموسيقى. قد يعارضني أحد، بأن الموسيقى تحتاج إلى الآلات. فالآلات ضرورية لإنتاج الموسيقى. لكن إذا فكرنا في إحدى التوليفات الموسيقية، فإننا لا نحتاج لأية آلة -بيانو، كمان، ناي- حتى نتخيلها.

سيكون لدينا عالم معقد كعالمنا، يتكون من إحساسات فردية ومن الموسيقى، وكما قال شوبنهور: "الموسيقى ليست شيئا يضاف إلى العالم، إنها عالم قائم بذاته". وفي هذا العالم سيوجد الزمن، لأن الزمن هو التتابع، فإذا تخيلت أو إذا تخيل أحدكم وهو في غرفة مظلمة، بأن العالم المرئي اختفى، فإنه لا محالة سيختفي من جسدنا. كم مرة لم نفقد فيها الإحساس بالجسد…! مثلا، أنا هنا فقط، في اللحظة التي ألمس فيها هذه الطاولة بيدي، إذ ذاك أحس بيدي وبالطاولة. شيء ما يحدث، لكن ما هو؟ يمكن أن تكون إدراكات حسية؟ يمكن أن تكون إحساسات أو بكل بساطة يتعلق الأمر بذكريات أو تخيلات. على كل حال فشيء ما يحدث.

إني أتذكر بيتا شعريا جميلا للشاعر Tennyson، وهو أحد الأبيات الأولى له: "Time is flowing middle of the night "الزمن ينساب وسط الظلام". فها هنا فكرة أكثر شاعرية، فحينما ينام الجميع، ينساب نهر الزمن الهادئ في الحقول وعبر الأروقة والدهاليز، والفضاء وبين النجوم.

فالزمن إذن مسألة جوهرية، وأريد أن أؤكد أنه لا يمكننا غض الطرف عنه. فإحساسنا يتحول باستمرار من حالة لأخرى، وهذا هو الزمن: إنه التتابع. أذكر أن هنري برغسون قال إن الزمن هو المعضلة الأساسية في الميتافيزيقا، وأنه إذا أجيب عن هذه المعضلة ستحل كل الإشكاليات، لن يبقى هناك من خطر إذا حلت هذه المعضلة. وبتعبير آخر، فإن القلق سيغادرنا. يمكننا أن نقول كما قال القديس أغسطين: "ما الزمن؟ حينما لا أسأل عنه أعرفه، وبمجرد ما يتعلق الأمر بتفسيره فإنني لا أعرفه أبدا".

لا أعتقد أننا طوال عشرين أو ثلاثين قرنا قد تقدمنا كثيرا في حل معضلة الزمن هذه. أقول إننا نحس دائما بهذه الحيرة القديمة، التي أحس بها هرقليطس حد الموت، في قولته الشهيرة والتي أتمثل بها دائما: "لا أحد يستحم في النهر نفسه مرتين". لماذا لا نستحم في النهر مرتين؟ أولا، لأن مياه النهر لا تتوقف عن الجريان. ثانيا، وهذا أمر غريب يؤثر فينا ميتافيزيقيا، ويسبب لنا بداية رعب مقدس، وهو أننا نحن نهر يجري بلا انقطاع. إن إشكالية الزمن تكمن هاهنا، إنها معضلة الزوال والفناء. فالزمن يمر، وهنا أذكر هذين البيتين الرائعين لبوالو:

فلنسرع، لأن الزمن هارب ويجرنا معه

واللحظة التي أتحدث فيها تنأى عني.

إن حاضري –أو الذي كان حاضري- هو شيء ماض. لكن هذا الزمن الذي يمر لا يمر كلية، فمثلا، كنت تحدثت لكم الجمعة الماضية، واليوم يمكننا القول إننا أناس آخرون، لأنه في غضون هذا الأسبوع وقعت لنا مجموعة من الأشياء، ومع ذلك فنحن هم نحن. اعرف أني تحدثت في هذا المكان نفسه، وأني أثرت مجموعة من القضايا أمامكم، وتذكرون بلا شك أنكم كنتم معي في الأسبوع المنصرم. على كل حال، فذكرى الزمن تظل في الذاكرة. إن الذاكرة فردية. وجزء كبير منا يتكون من الذاكرة، وهذه الأخيرة مكونة في جزء منها من النسيان.

إن إشكالية الزمن من القضايا المتعذر حلها، ولننظر إلى الأجوبة التي قدمت لها. إن أقدم هذه الأجوبة تعود إلى أفلاطون، ثم لدينا جواب أفلوطين، وأخيرا جواب القديس أغسطين، وتعود هذه الأجوبة إلى إحدى الابتكارات الجميلة للإنسان، إنني أريد أن أتحدث عن هذا الابتكار الجميل الذي هو الأزلية، فما هي الأزلية؟

إنها ليست حاصل أيامنا الماضية، إنها كل أيامنا الماضية، كل الأيام الماضية لكل الكائنات العاقلة، كل الماضي، هذا الماضي الذي لا نعرف متى بدأ، ثم أيضا كل الحاضر، هذه اللحظة الحاضرة التي تشمل كل المدن، كل الناس، كل الفضاء بين الكواكب، ثم أخيرا المستقبل: هذا المستقبل الذي لا زال لم يتحقق، لكنه على الأقل موجود.

إن علماء اللاهوت يفترضون بأن الأزلية إن صح التعبير، هي لحظة تتجمع فيها كل هذه الأزمنة المتعددة بشكل خارق للعادة. يمكننا أن نستعيد كلمات أفلوطين، الذي أحس بعمق إشكالية الزمن، لقد ذهب أفلوطين إلى أن هناك ثلاثة أزمنة، وهذه الأزمنة كلها هي الحاضر. أحدها هو الحاضر الراهن، أي اللحظة التي أتحدث فيها، أي اللحظة التي تحدثت فيها لأنها مسبقا تنتمي إلى الماضي. ثم لدينا زمن آخر، وهو حاضر الماضي، الذي نسميه الذاكرة، ثم هناك زمن ثالث، وهو حاضر المستقبل، أي ما نتخيله من آمال ومخاوف.

لنأت الآن إلى الحل الذي قدمه أفلاطون لأول مرة، إنه حل يبدو اعتباطيا، لكنه مع ذلك ليس كذلك، كما سأوضحه لكم. قال أفلاطون بأن الزمن صورة متحركة للأزلية، فالزمن يبدأ من الأزل، من كائن أزلي، هذا الكائن يريد أن ينعكس في كائنات أخرى. والحالة هذه لا يقوم بذلك في أزليته، بل يفعله في التتابع. فالزمن إن صح التعبير هو صورة متحركة للأزلية. إن المتصوف الكبير وليام بليك قال: الزمن هبة الأزل. فلو منحنا كلية الكائن.. فالكائن أكثر من الكون، أكثر من العالم، ولو تجلت لنا كلية العالم دفعة واحدة سننمحق ونندثر ونموت. إن الزمن هبة من الأزل. وفي التتابع تسمح الأزلية بهذه التجارب كلها: فلدينا أيام وليال، وساعات ودقائق، ولدينا الذاكرة، والإحساس بالحاضر، ثم لدينا المستقبل، هذا المستقبل الذي مازلنا نجهل مصيره لكننا نستشعره أو نخافه.

كل هذه الأشياء أخذناها متتابعة، لأننا لا نستطيع تحمل العبء الذي لا يطاق، ذلك الاصطدام القوي بكل الكائنات. إن الزمن سيصبح إذن هبة من الأزلية، إن الأزلية تمكننا من العيش في التتابع. قال شوبنهور، إنه من حسن الحظ أن وجودنا ينقسم إلى أيام وليال، وبأنه مقطوع بالنوم، فنحن ننهض في الصباح، نقضي النهار، ثم ننام، فلو لم يكن النوم، فإننا لن نطيق العيش، ولن نتحكم في لذاتنا. لا نستطيع تحمل كلية الكائن. لقد أخذنا الكل، لكن بالتدريج.

إن مذهب تناسخ الأرواح يجيب عن هذه الفكرة. إذ يمكن، كما يعتقد الحلوليون، أن نصبح كل المعادن والنباتات والحيوانات وكل البشر في الوقت نفسه. لكن لحسن حظنا لا ندرك ذلك. ومن حسن الحظ أننا نعتقد بالفردية، وإلا فسنصاب بالرهق والدمار من جراء هذا الامتلاء.

والآن، أصل إلى القديس أغسطين، فلا أحد في اعتقادي، أحس بشدة بمعضلة الزمن مثله، لقد وضع الزمن موضع تساؤل. يقول أغسطين بأن روحه تحترق، تحترق من أجل معرفة الزمن. ويتوسل إلى الله كي يلهمه معرفته. وليس ذلك مجرد فضول تافه، فهو لا يستطيع العيش دون أن يعرف ماهية الزمن، وهو يعبر عن كل هذا بحرارة.

ما دمنا بصدد الحديث عن الزمن، لنأخذ مثالا يبدو بسيطا، إنه مفارقات "زينون"، فهو يطبقها على المكان، ونحن سنطبقها على الزمن، ولنأخذ أبسط هذه المفارقات، مفارقة المتحرك. لنتخيل أن جسما متحركا يقع في طرف الطاولة، والحالة هذه، يريد أن يصل إلى الطرف الآخر. يجب في البداية أن يصل إلى الوسط، لكن لكي يتم ذلك ينبغي أن يصل إلى نصف النصف، وقبل كل هذا ينبغي أن يصل إلى نصف نصف النصف.

وهكذا إلى ما لا نهاية. فالجسم المتحرك لن يتحرك أبدا من هذا الطرف إلى الطرف الآخر. ويمكن أيضا أن نضرب مثلا من الهندسة، لنفترض أن النقطة ليس لها امتداد، فإذا أخذنا متتالية لا نهائية من النقط، سنحصل على خط، وبعد ذلك نأخذ عددا لا نهائيا من الخطوط، لنحصل على المساحة، وبمجموع لا نهائي من المساحات سنحصل على الحجم. ولكن، لا أدري، إلى أي حد يمكننا القبول بمثل هذا، لأنه إذا لم يكن للنقطة امتداد، فبأي صفة، يمكن لمجموع النقط، وليكن لا نهائيا، ليست فيه واحدة ممتدة، أن يعطينا خطا. لا أتصور خطا يمتد من هذه النقطة إلى القمر، أفكر فقط في هذا الخط، أي جانب الطاولة التي ألمس، إنه مكون من عدد لا نهائي من النقط. لقد ظننا من كل هذا، أننا وجدنا الحل.

يقدم برتراند رسل التفسير الآتي، هناك أعداد لا نهائية (سلسلة الأعداد الطبيعية 1 إلى 10 وهكذا إلى ما لا نهاية). لكن لنفحص سلسلة أخرى، وهذه السلسلة سيكون لها نصف امتداد الأولى بالضبط. إنها سلسلة مكونة من الأعداد المزدوجة، وهكذا فبالنسبة للعدد 1 يناسبه العدد 2، و2 يناسبه 4 و3 يناسبه 6… ثم سلسلة أخرى أيضا. لنأخذ أي عدد كيفما كان، مثلا 365، فبالنسبة لـ 1 يناسبه 365، و2 يناسبه 365 مضاعفة، و33 يناسبه 365 مرتفعة إلى قوة مضروبة في ثلاثة –هكذا سنحصل على سلسلات مختلفة من الأعداد، والتي ستكون كلها لا نهائية- وهذا يعني أنه في الأعداد اللانهائية، الأجزاء تساوي الكل (أي اللانهائي). أعتقد أن هذا الأمر كان مقبولا من طرف الرياضيين، لكن لا أعرف إلى أي حد يمكن لواقعنا أن يقبل به.

لنأخذ اللحظة الحاضرة، فما هي اللحظة الحاضرة؟ إنها تلك اللحظة التي تشتمل على شيء من الماضي وشيء من المستقبل، فالحاضر في ذاته يشبه النقطة في الهندسة. فالحاضر في ذاته غير موجود. لأنه ليس معطى مباشرا لوعينا. فلدينا إذن هذا الحاضر الذي نراه يصير بالتدريج ماضيا ويصير أيضا مستقبلا. إن هاهنا نظريتين حول الزمن. الأولى تتلاءم مع ما نعتقده جميعا، تعتبر الزمن نهرا، فهو يجري منذ البداية، بداية لا يمكن تصورها. والثانية هي نظرية الميتافيزيقي الإنجليزي جيمس برادلي، هذا الأخير يرى بأن العكس هو الذي يقع، فالزمن يأتي من المستقبل نحو الماضي. فاللحظة التي يصبح فيها المستقبل ماضيا هي اللحظة التي نسميها بالحاضر.

يمكننا أن نختار بين هاتين الاستعارتين، ويمكننا أن نجعل منبع الزمن في المستقبل أو في الماضي. إننا نتواجد دائما أمام نهر الزمن. لكن كيف نحل إشكالية أصل الزمن؟ لقد اقترح أفلاطون الحل الآتي: فالزمن صدر عن الأزلية، وسيصبح من الخطأ القول بأن الأزلية سابقة عن الزمن، لأنه إذا قلنا بأنها سابقة يعني هذا أن الأزلية تنتمي للزمن، وسيكون من الخطأ القول، كما قال أرسطو، بأن الزمن هو قياس الحركة، لأن الحركة تندرج في الزمن، ولا يمكنها أن تفسره. هناك جملة رائعة للقديس أغسطين يقول فيها: "ليس في الزمن ولكن معه، خلق الله السموات والأرض". إن الآيات الأولى للخلق لا ترجع فقط إلى خلق العالم والبحار والأرض والظلمات والنور. ولكن أيضا ترجع إلى بداية الزمن، ليس هناك زمن سابق: فالعالم بدأ في الوجود مع الزمن، ومنذ ذلك الحين الكل في تتابع.

لا أعرف هل في هذا المفهوم للأعداد اللانهائية الذي فسرته قبل قليل، لحظة يمكنها أن تساعدنا، لا أعرف، هل تقبل مخيلتي هذه الفكرة، ولا أعرف، هل مخيلتكم يمكنها أن تقبل فكرة الكميات التي تساوي أجزاؤها الكل. في حالة سلسلة الأعداد الطبيعية نقبل بأن مجموع الأعداد الصحيحة المزدوجة يكون مساويا لمجموع الأعداد الصحيحة الفردية، يعني يكون لا نهائيا: وأن أس العدد 365 ينبغي أن يكون مساويا للمجموع الكلي. لماذا لا نقبل بفكرة لحظتين من الزمن؟ لماذا لا نقبل فكرة السابعة وأربع دقائق والسابعة وخمس دقائق؟ يبدو من الصعب جدا القبول بأنه بين لحظتين يوجد عدد لا نهائي من اللحظات. مع كل هذا يطالب منا برتراند رسل أن نتصور الأمر هكذا.

لقد قال "برهايم" بأن مفارقات زينون ترتكز على فضائية الزمن. وأنه لا يوجد في الواقع سوى الحركة الحيوية التي لا يمكن تقسيمها. فحينما نقول مثلا إن آخيل قطع مترا بينما السلحفاة قطعت ديسمترا، فهذا خطأ، لأننا نقول بأن آخيل مشى في البداية بخطوات كبيرة ثم بعد ذلك مشى بخطوات السلحفاة، يعني هذا أننا نطبق على الزمن قياسات تنطبق على المكان. لكن افترضوا مدة زمنية من خمس دقائق. فلكي تمر ينبغي أن يمر نصفها، ومن أجل أن تمر دقيقتان ونصف، ينبغي أن يمر نصف الدقيقتين ونصف، ومن أجل أن يمر نصف الزمن ينبغي أن يمر نصف هذا النصف وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. فلا يمكن أبدا أن تمر خمس دقائق. فنحن هنا أمام مفارقات زينون مطبقة على الزمن، والنتيجة هي نفسها.

يمكن أن نأخذ أيضا مثال السهم، يقول زينون بأن السهم في مروقه يكون في كل لحظة ثابتا. فالحركة إذن مستحيلة، لأن مجموع الثوابت لا يمكنه أن يكون حركة.

لكن إذا فكرنا بوجود فضاء واقعي، هذا الفضاء يمكنه في النهاية أن يقسم إلى نقط، مع أن الفضاء ينبغي أن يكون مقسما إلى ما لا نهاية، وإذا فكرنا في زمن واقعي، فهو الآخر مقسم إلى لحظات، إلى لحظات اللحظات، إذا تصورنا بأن العالم لا يوجد إلا في مخيلتنا، وإذا تصورنا بأن كل واحد منا يحلم عالما خاصا، فلماذا لا نفترض أننا ننتقل من فكرة لأخرى، وأنه لا توجد هذه التقسيمات ما دمنا لا نعيها؟ إنه لا يوجد سوى ما نشعر به، توجد فقط إدراكاتنا الحسية، وأحاسيسنا. إن هذا التقسيم خيالي وليس حقيقيا.

هناك أيضا فكرة مشتركة بين كل الناس، إنها فكرة وحدة الزمن. لقد صدرت هذه الفكرة عن نيوتن، غير أن الرأي العام قد أحس بها قبله. فحينما كان نيوتن يتحدث عن الزمن الرياضي، فذلك أنه يتحدث عن زمن واحد يمر عبر العالم. هذا الزمن يمر الآن في أماكن خالية، يمر بين الكواكب، إنه يمر بطريقة واحدة، لكن الميتافيزيقي برادلي يذهب إلى أنه ليس هناك أي بسبب لافتراض مثل هذا الرأي.

يمكننا افتراض وجود سلاسل عديدة للزمن، لا رابط فيما بينها يقول برادلي، ستكون لدينا سلسلة ندعوها أ – ب – ج – د – هـ، هذه المعطيات لا رابط يربطها. فهي إما لاحقة أو سابقة أو متعاصرة، لكن يمكننا أن نتخيل سلسلة أخرى: ألفا – بيتا – كاما…. ويمكن أيضا تصور سلاسل أخرى للزمن.

لماذا لا نتصور سوى سلسلة واحدة من الزمن؟، لا أدري، هل يتقبل خيالكم، هذه الفكرة، فكرة وجود عدد كثير من السلاسل الزمنية، وأن هذه السلاسل ليست سابقة ولا لاحقة ولا متعاصرة، إنما سلاسل مختلفة، يمكننا أن نتخيلها ككائنات عاقلة، فكروا مثلا في ليبنتز.

فالفكرة هي، أن كل واحد منا يعيش سلسلة من الأفعال، وأن هذه السلسلة يمكنها أن تكون موازية أو غير موازية لسلاسل أخرى، لماذا القبول بهذه الفكرة؟ إنها فكرة معقولة. إذ سيكون لدينا عالم أكثر شساعة، وأكثر غرابة من عالمنا الراهن. أعتقد أن فكرة الأزمنة المتعددة لم تأت من الفيزياء الراهنة التي لا أفهمها وأعرفها معرفة سيئة، لماذا نتصور فقط زمنا واحدا. زمنا مطلقا كما تصوره نيوتن؟

لنرجع الآن إلى موضوعة الأزلية، التي تريد أن تتجلى بطريقة أو بأخرى في المكان والزمان. إن الأزلية هي عالم المثل. في الأزلية ليست هناك مثلثات، ليس هناك سوى مثلث واحد، لا بمتساو الأضلاع ولا الساقين ولا بمختلف الأضلاع، هذا المثلث في الأزلية هو هذه الثلاثة كلها وليس واحدا منها. إن كون مثلث ما يكون عجيبا له أهمية قليلة، إن هذا المثلث موجود.

يمكننا القول أيضا إن كل واحد منا هو نسخة زمنية وفانية للنموذج البشري. وسيصبح الإشكال هو معرفة ما إذا كان كل إنسان له مثله الأعلى الأفلاطوني أو ليس له. إن المطلق يريد أن يتجلى، وإنه ليتجلى في الزمن. فالزمن إذن صورة للأزلية. أعتقد أن هذا التصور يمكنه أن يساعدنا في فهم تتابعية الزمن، فالزمن متتابع لأنه آت من الأزلية، ويريد أن يعود إليها. وبتعبير آخر، ففكرة المستقبل توافق رغبتنا في العودة إلى الأصول، فالله خلق الكون؛ والكون وعالم المخلوقات يريد أن يعود إلى هذا الأصل الأزلي اللازمني، الذي ليس سابقا ولا لاحقا للزمن، إنه خارج الزمن. هذا ما نجده في القوة الحيوية الخلاقة l’élan vital وهذا ما سيفسر أيضا بأن الزمن يكون في حركية ثابتة. لقد قلنا بأن الحاضر لا يوجد أبدا. وقد زعم أحد الفلاسفة الهنود أنه ليس هناك لحظة تسقط فيها الفاكهة، فالفاكهة ستسقط أو أنها على الأرض. ليس هناك لحظة تسقط فيها.

إنه لأمر عجيب أن نكتشف أنه من بين الأزمنة الثلاث، أن الأكثر صعوبة في الإدراك، والذي لا يدرك هو الحاضر! فالحاضر غامض مثل النقطة. لأنه إذا تصورنا الحاضر بلا امتداد فإنه لا وجود له. فالحاضر يشتمل على شيء من الماضي وشيء من المستقبل وهذا يعني أن نحس الزمن الذي يمر، فحينما أتحدث عن زمن يمر فإني أتحدث عن شيء نحسه جميعا. وإذا تحدثت عن الحاضر، فإني أتحدث عن شيء مجرد، فالحاضر ليس معطى مباشرا لوعينا.

إننا نحس بأننا نتطور داخل الزمن، وهذا يعني أنه يمكننا أن ندرك بأننا نمر من المستقبل إلى الماضي أو من الماضي إلى المستقبل، لكن لا يمكن أن نقول للزمن في أي لحظة توقف! إنك رائع جدا!… كما تمنى ذلك "جوته". إن الحاضر لا يثبت أبدا، فحاضر صرف لا يمكن تصوره، إنه سيكون عدما، فهو يشتمل على جزء من الماضي وجزء من المستقبل، يبدو أن هذا الأمر سيصبح ضروريا بالنسبة للزمن.

إن الزمن يشبه دائما نهر هرقليطس، فنحن دائما نرجع إلى ذلك المجاز القديم، أي الاعتقاد بأننا لم نتقدم شيئا على مر العصور. فنحن دائما هرقليطس يتأمل ظله في مياه النهر. وهو يفكر في أن هذا النهر ليس هو هو، لأن المياه فيه تغيرت، ويفكر أيضا في أنه ليس هو هرقليطس نفسه لأن كان شخصا آخر بين اللحظة التي رأى فيها النهر في المرة الفارطة وبين اللحظة الراهنة. وبتعبير آخر، فنحن كائنات تتغير باستمرار. إننا كائنات عجيبة. فماذا كنا سنكون لو لم تكن لنا ذاكرة؟ ذاكرة مكونة في جزء منها من النسيان، لكنها أساسية، إنه ليس من الضروري، لكي أستمر على الهيئة التي أنا عليها، أن أتذكر مثلا بأني عشت في Palermo وadrgué وgenève وespagne، إنني أحس جيدا، في الوقت نفسه، بأني لست نفس الشخص الذي سكن هذه الأمكنة، أحس أني شخص آخر. إنها المعضلة التي لا يمكن حلها وعلاجها: إشكالية هويتنا المتغيرة. ربما يكفي أن نتحدث عن التغير، لأنه إذا قلنا إن شيئا قد تغير، فإننا لا نريد أن نقول بأن هذا الشيء قد عوض بشيء آخر، نقول طلعت النبتة، ولا نريد بهذا القول إن نبتة صغيرة عوضت بأخرى أكبر منها. نريد أن نقول إن هذه النبتة قد تحولت إلى شيء مختلف. وبعبارة أخرى: إنها فكرة الاستمرارية في الزائل.

إن فكرة المستقبل تؤكد الفكرة القديمة لأفلاطون: فالزمن هو الصورة المتحركة لما هو أزلي، وإذا كان كذلك فسيصبح المستقبل هو حركة الروح نحو الآتي، وسيصبح الآتي بدوره هو الرجوع إلى ما هو أزلي. وستصبح حياتنا إذن احتضارا مستمرا. فحينما قال بولس، إني أموت كل يوم، فإن هذه الصورة ليست شاجية، لأننا نموت ونحيا باستمرار. لهذا تؤثر فينا معضلة الزمن أكثر من القضايا الميتافيزيقية الأخرى، لأن هذه القضايا مجردة.

إن إشكالية الزمن هي قضيتنا. فمن أكون؟ من تكون؟ قد نعرفه يوما أو لا نعرفه. لكن أثناء هذا، وكما قال القديس أغسطين، إن روحي تحترق لأني مشتاق لمعرفة الزمنn

 

المرجع:

Gorgé Luis Borgès – Conférences, éd., Folio, 1985, pp20-30.