نحو قصيدة انطباعية
مسارات حسن نجمي
يحيى بن الوليد
خطاب حسن نجمي متعدد،
ومفترق طرق. وهو يريد أن يقوم بأداء دور المثقف الذي يسعى إلى تحريك الشأن الثقافي
العام، وذلك من خلال الانخراط الفاعل وتحمل المسؤولية في بعض الإطارات الثقافية.
وهو يرأس منذ 29 نوفمبر 1998، ومن موقع الشاعر/المثقف، "مؤسسة" اتحاد
كتاب المغرب وهي أهم مؤسسة ثقافية في بلادنا بدون منازع. ويظهر لي أن الجانب الأهم
في شخصيته هو جانب الشاعر والمبدع والإنسان الذي يحسن الإنصات. وأدرك حجم الشاعر
فيه الذي دفعه إلى نشر أربعة أعمال شعرية متفاوتة ودالة على مسارات محكومة ببعض
الفواصل إن لم أقل بـ"قطيعة" كما حصل له مع
عمله الأول الذي سلفت الإشارة إليه. وقبل الحديث عن هذه المسارات فإنه يمكن القول
بأن حسن نجمي، وهذه ميزته بين مجايليه، يملك قدرة
الدفاع عن شعره، وبالتالي عن فهم معين للشعر، وهو ما يدل عليه كتابه الأخير الشاعر
والتجربة (أواخر 1998) الذي يضم مقالات متفرقة حول الشعر والشعراء والفن
التشكيلي. وقد استخلصت من بعض الحوارات التي أجريت معه،
وبعض كتاباته المفتوحة، أربعة أفكار أساسية تعكس فهمه للشعر. وهذه الأفكار هي
كالتالي:
أولا: هو
يؤمن بأن هناك قصيدة جديدة بالمغرب، وأنها بدأت تدرك أفقها الخاص، وأنها على
المستوى الجمالي والبنيوي لا علاقة لها بالقصيدة التقليدية المغربية.
ثانيا:
قصيدة النثر –وبلغته- لحظة رفيعة في المشهد الشعري المغربي.
ثالثا: هذه
القصيدة تنسج علاقات مع الفنون الأخرى، خاصة الفن
التشكيلي.
رابعا: الشعر "ضرورة من ضرورات الإقامة على الأرض".
وحتى إن كانت
هذه الأفكار ترتبط أكثر بإنجازه الرابع حياة صغيرة (1995) فإنه من المفيد
أن نطرح السؤال التالي: من أين أتى حسن نجمي؟ وكيف كانت البداية؟. وهنا يستوقفنا
ديوانه البكر لك الإمارة أيتها الخزامة (1982) الذي جاء في فترة حاسمة من التاريخ
الثقافي والسياسي لبلادنا. وكان الشاعر وقتذاك، مثل الكثيرين، من أبناء جيله،
مفتونا بالإيديولوجيا وأحلام بناء الدولة الوطنية الحديثة.
والحزب، وحده الحزب، من يوحد بين المسافات والوجوه في دنيا المخايلة التي تسعى إلى
المواجهة في حدود "قبائل الكلمات". وكل شيء، في سن الشاعر، كان يبدو
ممكنا ومتاحا. وفي مثل ذلك المناخ الساخن كان لا بد أن
يظهر الشعر جمرا، والكتابة محراثا، والسماء كأسا. ثم إن كل معطى في النص كان يحفز
على القراءة بدءا من العنوان بنغمته التي لا تخلو من القطيعة والثبوتية
إلى صورة الشاعر الواردة على ظهر الغلاف والمرفوقة
بكلمات الشاعر أحمد لمسيح التي تتحدث بدورها وبحرارة مرسومة عن "لعنة الشعر
الجميلة" و"نجمي – الوعد والإصرار" في تقديم قرابين الشعر اللغوية.
فهذه العتبات كفيلة بأن تؤجج فعل القراءة، القراءة التي نتحرر بها
من التغرب في الذات، ونحاول بالتاليأن
نخرج إلى الجبهة النقيضة تأكيدا لمبدأ الحضور. إنها
القراءة المجاز، واندفاعة الشباب الأولى التي لا تقبل
المهادنة. وكل ذلك قبل ولوج النصوص المصاحبة برسومات الفنان عبد الله بلعباس، وكل
ذلك أيضا في المتصل (القريب) الذي يصل ما بينهما: متصل القصيدة من حيث هي أداة ليس
غير، أو من حيث هي شهادة تبحث عن موقع لها في ساحة الاستشهاد. وهذه القصيدة،
وبينما هي تقوم على أرض القصيدة ذاتها بعد أن تجردها من خاصيتها النوعية، تندفع
خارجها بحثا عن العائلة السياسية المحبوسة وقتذاك. وفي هذا السياق يمكن استحضار رب
هذه العائلة الوارد في نص الإهداء: أقصد القائد والنقابي نوبير
الأموي الذي يهدي له الشاعر صرخته الأولى مفترضا فيه "أبوة سياسية
جليلة". وكل ذلك قبل أن يهدي ديوانه الثاني سقط
سهوا (1990) لأمه التي فارقت الحياة العام 1984، أي بعد عامين من تاريخ إصدار
نص الإمارة.
إنه التعلق
بالشعر ذاته، بنداءاته الغامضة. تلك هي القصيدة
"المتحزبة" التي توظف كل معطى بنائي متاح تأكيدا لمبدأ الانتماء
والاحتجاج، قصيدة مطلق الانتماء حيث يغدو كل شيء بموجبها رديفا لهذا الاحتجاج.
وكما أن هذه القصيدة هي علامة على ذات الشاعر مقدار ما هي علامة (نقيضه هذه المرة)
على القمع اللاهب الذي يبدد أحلام الذات والجماعة. وفي
الواقع فإن تاريخ نشره هذا العمل كان يسمح بالاعتقاد في
جدوى الارتباط بالعمل السياسي المباشر. إذ كانت أحداث 20 يونيو 1981 لا تزال تخيم
على الأجواء. ولذلك كان مفهوما أن تفصح هذه القصيدة عن
عطشها الكبير وحلمها العريض. وفي مثل هذا المنظور يغدو الشعر
تدخلا ورفضا واحتجاجا. ومن الجلي أن يهتدي صاحب الإمارة" إلى هذا
الفهم رفقة بعض أبناء جيله ممن أدركوا لهيب أواخر السبعينيات مثل صلاح الوديع صاحب
جراح الصدر العاري (1985) ثم رواية العريس (1998) التي يرصد فيها
تجربته في المعتقل، وتوفيقي بلعيد صاحب منعطفات سائبة (1998). هذا بالإضافة إلى أسماء أخرى توقفت نهائيا عن الكتابة وإعلان العطش.
إنه الحلم
الذي سرعان ما ستأخذ مفرداته في التلاشي والسقوط مثلما تسقط أوراق الخريف عادة،
ومثلما سقط جدار برلين أيضا وبتلك الطريقة السريعة والصادمة. إضافة إلى الآليات التفكيكية للمحو الإيديولوجي، والطمس المقصود، وشعارات
التنمية الزاعقة، والمغرب الجديد، والسياسة التي صارت ارتزاقا وتجارة.وكأن الأمر، أو هو بالفعل، يتعلق بانقلاب ثقافي/سياسي. إن هذا التحول سينعكس حتما على فهم الشعر، الفهم الذي ينعكس
بدوره على اللغة والنظرة المتضمنة في هذه الأخيرة. من هنا ستكون بدايات الجيل
الجديد/جيل الثمانينيات في القصيدة المغربية المعاصرة رغم ما تكشف عنه تسمية الجيل
من اختلاف في الرأي والتصور والمفهوم ذاته، ويظهر أن جذر الذات هو ما سيوجد بين
تجارب هذا الجيل بأكمله، وطبعا بصيغ متفاوتة تبعا لتفاوت المرجعيات التي تسند فهم
كل تجربة على حدة.
ولذلك، وبعد خمس
سنوات، سيتخلى حسن نجمي عن الفهم الذي كان يسند الإطار العام لقصيدة الإمارة.
والأكثر من ذلك سيعلن، في لغة الواثق من نفسه، أن تجربة الإمارة
ترتبط بـ"الوعي الشعري المغلوط". ولا زلت أتذكر كيف ربط "هذا الوعي"، في حوار كنت قد
أجريته معه، بجريدة القدس العربي (الأربعاء 10 يوليو 1996)، ببعض
"أخطاء" جيله. وقد يكون لي رأي آخر لأني أقدر
هذا الديوان، وأعتبره علامة على بدايات صاحبه. وما زلت أتذكر كيف كنا قد قرأنا هذا
العمل، حتى وإن كنا قد أتينا بعد ما يقرب من عقد من الزمن، وذلك حين وجدنا فيه ذواتنا بين العناوين والسطور والنصوص والرسومات. تلك مرحلة كانت تطوي صفحاتها الأخيرة، وتودع نفسها بـ"مرارة" و"دهشة"، مرحلة قيل عنها الشيء
الكثير.
جيل
الثمانينيات سيؤرخ للعودة اللافتة للذات، وتفجير خطاب المنسي والمكبوت والهامش،
وفي حقل ثقافي مغاير. في هذا السياق سيأتي الإنجاز
الثاني سقط سهوا الصادر عن دار النشر المغربية بالدار البيضاء العام 1990،
وهو في الأصل مجموعة من النصوص كتبها الشاعر ما بين سنتي 1986-1987. وهذا النص "سيقطع" مع التجربة السابقة سواء على
مستوى اللغة أو النظرة التي تتسرب في هذه اللغة. دون أن نغفل العنوان ذاته الذي
تراجعت عنه النغمة الوثوقية ليقر بالتلقائية وشساعة الحياة. فالقصيدة هنا ستفارق منطق "جبهة القصاة" و"الأجساد المجروحة بالعطش"
و"وسخ الأظافر" و"تدفئة زنزانات البلاد"… وهي تعابير مهيمنة وبارزة في خطاب الإمارة. وكما ستفارق
(أي القصيدة) منطق التبشير لتبحث عن "مكامن الظل" و"التأمل
البارد" كما كتب على ظهر الغلاف الشاعر محمد الأشعري (أو محمد العسير كما تم
نعته في نص الإمارة) رفيق حسن نجمي في الدرب والصحافة
"الاتحادية" (نسبة إلى حزب الاتحاد الاشتراكي). فالشاعر لم يعد ينظر
للبلاد كما ينبغي أن تكون وطبعا في حدود المفردات التي تسمح بها
دنيا الخيال اللاهبة. فهو
يقول في نص "عين الذئاب" (وهو فضاء له وقع خاص في المتخيل المغربي):
"يد في
القيد
والبلاد فخذ
عاهرة
والعاهرة
ماء بحر في فنجان مخمور
دم ينسرق في آخر الليل
والمقاهي
تجالس بعضها بعيدا عن ثرثرة الزبناء
وترجف
الكراسي بالندى البحري
يد في القيد
ترأس جماعة
عصيان…
ويد تنسل تحت
ثوب الخاصرة"( ص29)
فالقيد لم
يعد يوجع الرأس، ويضغط على الذات والحلم، يفجر من ثم الرفض والاحتجاج. إضافة إلى أن البلاد خلدت إلى عمليات المحو والتعليب. صارت
الذات تسعى إلى النظر إلى هذه البلاد/بلادها من موقع المسافة، موقع المتأمل في ما
آلت إليه الأحوال دون أن يعلن موقفه. يقول الشاعر وإن بلغة
لا تخلو من الأنين:
"يصبرون
اليومي
يصبرون المنلفت… والهارب
ونحن نبدد
الإسمنت… نؤسس لأعيننا فضاء" (ص25)
واليومي
والمنفلت والهارب… هو ما تحفل به قصيدة النثر
باشتراطاتها الصعبة، ومن موقع الإقرار بهوامش الحياة وفضاءاتها
ليس غير. وقبل أن نختم حديثنا عن نص سقط سهوا فإنه يمكننا أن نلتفت إلى
تقنية البياض التي يعتمدها الشاعر بكثرة في صياغة عوالمه الصغيرة. وهذه التقنية،
وفي ضوء ربطها بتجربة الإمارة، إقرار بالتخلي عن اللغة الوثوقية
التي كانت قرينة فورة حماس الشاب الباكر ودعايته لجهة دون أخرى. إن الشعر هنا يريد
أن يفارق هذا المنطق، وفي مقابل ذلك أن يتقوم على أساس
معرفي/أنطولوجي لكي يتسنى للقارئ أن يشارك الشاعر
تجربته الإبداعية الإنسانية من خارج دائرة "الدعاية" التي تجر حتما إلى
التحريض فيضيع الشعر والقارئ معا وفي نفس الآن.
ولكي ننتقل إلى
مسار آخر فإن من يعرفون حسن نجمي يعرفون حبه للفن التشكيلي، وقد يتذكرون بعض
كتاباته المفتوحة حول بعض التجارب المغربية خصوصا وأساسا. ثم إن نصه السابق (أي سقط
سهوا) لا يخلو من بعض الرسومات الدالة على التشكيل. وللمناسبة
ليس كل ما يكتب من خارج دائرة التفعيلة يعبر عن قصيدة النثر بالضرورة. هذا
بالإضافة إلى ذلك السؤال حول ما إذا كانت قصيدة النثر تعنى بالهلوسات
القومية…في هذا الإطار يأتي الإنجاز الثالث للشاعر الرياح البنية (1993)
الذي أنجزه بالاشتراك مع الفنان المغربي محمد القاسمي.
والإنجاز عبارة عن نص طويل توازيه على امتداد الصفحات الرسومات المعبرة. فالنص هنا
يثري اللوحات مقدار ما تثري هذه الأخيرة النص. فالأمر
يتعلق إذن بالإبداع المتبادل، ولعبة الإغناء والاغتناء،
والإضاءة والاستضاءة.وقد جاء نص الرياح البنية في إطار بدايات حرب الخليج
الثانية والعدوان اللاهب على العراق. إلا أن هذه
التجربة المشتركة بعيدة عن الهلوسات السابقة طالما أنها
تقف عند البعد الإنساني للحدث. فنص الشاعر يحاور نص
الفنان. وكلاهما يستند إلى عين المبدع التي تنظر إلى العالم من موقع الإبداع ذاته
وموقع الجمال المهدد بالمحو من "ثقل الأرض" إذا جازت عبارة الشاعر
العراقي الراحل عبد الوهاب البياتي. عين المبدع التي ترفض آلة الدمار والخراب. الآلة التي تمضي إلى الإبداع ذاته:
رائحة شهرزاد، وتمثال الحرية لجواد سليم في قلب بغداد، وتمثال السياب
أيضا، والجسور التي كان يعبرها فائق حسن وبلند الحيدري وغيرهما من الشعراء
والمبدعين والفانين. إنه عراق الصداقة والإبداع، وليس عراق الأنظمة والرهانات
السياسية. إن المبدع هنا لا يملك أي سلاح من غير سلاح
الكلمة المبدعة التي لا يمكن هزمها، يقول الشاعر في نص "الرياح":
"تسقط
الجسور في النهر
ولا تسقط
جسور الكلمات
وناهضا يمضي الماء إلى سريره" (ص36).
إن الحدث
فاجأ القصيدة واللون معا. ولذلك يخاطب الشاعر حسن نجمي زميله الفنان محمد القاسمي مخبرا إياه بأن "الشعر يستأنف الحرب ولا وقت
للمراثي"، وذلك من أجل الدفاع عن "نقاء دمنا". هذا وأن محمد القاسمي بدوره لا يخفي "مذاق الرماد الساخن" و"قوة
اللون" على مستوى الخلق والإبداع والرفض.
أما الإنجاز
الرابع حياة صغيرة، الصادر عن دار توبقال بالدار
البيضاء العام 1995، فيكشف الشاعر فيه عن تجربة مغايرة: تجربة الفضاء،
والصداقة/الصداقات، وفق ما تتيحه القصيدة (قصيدة النثر) بتفاصيلها الصغيرة. إنها
تجربة الشيء/الأشياء، الشيء باعتباره "جوهرا
وشخصا". والذات هنا تنظر إلى ذاتها، وتنصت إليها من خلال الأشياء ذاتها. يقول
الشاعر في نص "الفصول الأربعة":
وأنا هنا
بلا صوت
أكلم
الأشياء كلها
ولا أكلم
نفسي" (ص13).
إنها عودة
الذات إلى ذاتها، وتحررها من أي التزام من غير الالتزام بالإبداع ذاته. وفي ضوء هذه العودة يمكن أن نفهم لماذا يهدي الشاعر نصه إلى
ذاته، والأكثر من ذلك يحرص على أن يعنون النص الأول باسمه كاملا. فالذات، وبعد
الإشباع الإيديولوجي، تلتفت إلى ذاتها. الذات من حيث هي موطن للإبداع. وحتى إن كان
القائد والزعيم النقابي نوبير الأموي يحضر في أحد
النصوص، وذلك من خلال الحرفين الدالين عليه، فإنه يذوب وسط أسماء المبدعين
والفنانين التي تهيمن على فضاءات الديوان. فـ"حياة" الشاعر على صغرها، التي يوهمنا بها
مكر العنوان، هي حافلة بالأسماء والمشاهد والصور، مما يدل على أنها ليست "حياة
صغيرة" وليست إلغاء لحق الآخرين في الحياة والإبداع. وهذه
التجربة، التي سبق لي أن كتبت عنها تحت عنوان "مديح الحياة وفتنة
الهوامش" (جريدة الاتحاد الاشتراكي/الملحق الثقافي، العدد 487، الجمعة
18 أكتوبر 1996)، هي تجربة اليومي والعابر أيضا، وتجربة الأشياء التي تبدو غير ذات
أهمية كبيرة. وهذا جوهر ما تطرحه قصيدة النثر في وقتنا الحاضر، ودعنا من الذين
يرفضون هذه القصيدة من شعراء الزعامة والوثوقية
والبيانات. إن قصيدة النثر تعكس شعرا يقف على الطريق من هذا الفهم. لقد اصبح الشاعر ذاك الكائن المديني
(من المدينة) الذي يكتب عن هوامش المدينة من مقاهي وحانات وأرصفة ومحطات.. وعن
أصدقائه من المبدعين والبسطاء أيضا. ومن يعيش في الدار البيضاء يسهل عليه أن يعرف
الهوامش والأماكن التي يتكلم عنها الشاعر مثل "مقهى ابن بطوطة"
و"محطة المسافرين"… الخ وبالنسبة للأسماء فلا داعي للدخول في لعبتها،
خصوصا وأن حسن نجمي لا يتخلص منها حتى في حواراته وكتاباته الصحفية المفتوحة.
والقصيدة تحفل كذلك بالأشياء والتفاصيل واليومي والعابر
كما سلفت الإشارة إلى ذلك. الأشياء ذاتها، وليس الأفكار
التي يمكن نسجها حولها أو الآثار التي تخلفها هذه الأشياء. الأشياء والمشاهد هنا
كما هي وكأنه ليست هناك ذات متكلمة تقبع وراءها.
واليومي، في تجربة حياة صغيرة، مغاير لما نجده لدى الراحل أحمد بركات أحد
أبناء جيل حسن نجمي. إن أحمد بركات يحتج في شعره، وذلك على نحو ما يبدو جليا في
نصيه أبدا لن أساعد الزلزال(1991) ودفاتر الخسران(1995) الذي نشره
له اتحاد كتاب المغرب بعد وفاته المفاجئة. فشعر هذا
الأخير يظهر وكأنه وضع للإنشاد أصلا، عكس شعر حسن نجمي الذي وضع للقراءة بحكم شرط
الكتابة أو أكثر تحديدا "الكتابة الداخلية" (بتعبير الشاعر أنس الحاج)
التي تنتظم وفقها نصوص حياة صغيرة. وهذا الشرط
–في نظري- من بين الأسس المهمة في قصيدة النثر، وهو موضوع متشعب، ويمكن معالجته
بشكل مستقل. ويهمنا هنا أن القصيدة، وهي تحفل باليومي
والعابر، تظل محكومة بتقنية الاستعادة: استعادة الأشياء والوجوه والمشاهد كما هي. إنها القصيدة الانطباعية كما عبر عنها الشاعر نفسه في حوار من
حواراته. ومن المؤكد أن هذه العملية ليست سهلة، فهي
تتطلب الحس الجمالي الرفيع والفطنة البصرية العالية والعين اللاقطة. وهي تذكرنا
بتجارب كبيرة مثل تجربة فرنسيس بونج ويوجين غيلليفيك وسعدي يوسف..الخ. إن
الكتابة عن اليومي عملية صعبة؛ وهي تتطلب عمقا معرفيا وأنطولوجيا
في نفس الآن، لكي لا تكون مجرد نقل مسطح للأشياء التي تثير انتباه عين المبدع.
ختاما فإن
الشاعر كتب أكثر من نص بعد تجربة حياة صغيرة، ويمكن التركيز هنا على نص
"ثكنة مولاي إسماعيل" و"العيطة"،
كلاهما يواصل التعبير عن "مديح وفتنة الهوامش" مع فارق هو أن النصيين
يميلان إلى التأكيد على الجسد، وإن كان النص الثاني يهدد بعض الشيء نثرية الإيقاع
التي تميز قصيدة النثر وتكسبها بالتالي فرادتها النوعية المخصوصة. وفكرة المسارات،
التي اعتمدناها هنا، لا تسيء إلى تجربة الشاعر، لأنها
تكاد تكون ظاهرة عامة بالنسبة للشعراء المغاربةn