عن حدود
الواقعي والمتخيل
عبد اللطيف محفوظ
تقديم
عام:
من البديهي
أن مقاربة مفهوم المتخيل الذي لا يعود شيوعه وانتشاره إلا إلى وقت وجيز(*)، تفرض العودة إلى التعريفات المختلفة
التي خصت بها مجموع المفاهيم القريبة منه، والتي شكلت دون شك ما قبل تاريخه الخاص،
مثل الخيال والمصورة والمخيلة والمفكرة.. والوهم والوهمية والتوهم.. ولما كانت
العودة الجادة إلى كل تلك المفاهيم، التي تشكل سياقا مناسبا لتحديده، ضرورية من
أجل إدراكه بشكل عميق، فإن ذلك يقود إلى مساءلة تاريخية عميقة وعسيرة تلامس
الخلفيات الإبيستيمولوجية الكامنة خلف الاختلافات سواء منها تلك التي تبدو ظاهرة
بدءا من مستوى الدال، أو تلك التي تكمن في مستوى المدلول، سواء على المستوى
التزامني أو التعاقبي. كما يقود ذلك إلى تجلية الفوارق والحدود الفاصلة بينه وبين
تلك المفاهيم… ولما كان ذلك من جهة يجعل الموضوع شاسعا يتطلب حيزا أكبر مما يتطلبه
المقال، ومن جهة ثانية يفرض على من يزمع معالجته أن يكون ذا معرفة موسوعية؛ فإن مدار
حديث هذا المقال سيقتصر على مساءلة الفوارق الممكنة بين الواقعي والمتخيل، مع
التركيز على الشكل المهمين الذي فهم به /ووظف وفقه/ المتخيل في مقاربات النقد الأدبي
عامة والنقد المغربي خاصة:
من الملاحظ
أن العديد من الدراسات الأدبية المغربية قد بدأت –خاصة منذ الثمانيات- على استعمال
مفهوم المتخيل، والملاحظ أيضا أن هذا المفهوم غالبا ما عبر في هذه الدراسات عن
العالم الممكن الذي تقترحه النصوص الأدبية[*]،
وهو عالم لا يختلف كثيرا عن العالم الذي يعتقد أنه عالم فعلي، الشيء الذي يفيد أن
مفهوم المتخيل قد استعمل بوصفه تصورا ذهنيا يحدد شبكة من العلاقات التي لا تتناقض
مع ما يتصور كونه قابلا لأن يحدث فعلا في الواقع[**].
المتخيل
والواقعي والحقيقي:
بما أن
المتخيل غالبا ما يدرك بوصفه نقيضا للواقعي، وبما أن الاقتراب الهادئ من مفهوم
الواقعي يفيد أنه من المفاهيم الأكثر غموضا، فإنه يبدو من الأجدى محاولة مقاربة
المتخيل انطلاقا من تحديد مفهوم الواقع، كما يبدو أن خير طريق لتحديد مفهوم
الواقع، هو إظهار اختلافه عن المفاهيم القريبة وأهمها مفهوم الحقيقة:
يعتبر مفهوم
(الواقع) من بين المفاهيم الغامضة جدا، والمستعصية على الفهم والتفسير. ويعود ذلك
إلى كون معناه المتداول لا يقوم إلا على فرضية حدسية. ذلك أن تلقينا له غالبا
ما يحدده تواطؤنا مع منتجه. والحقيقة أن
(الواقع) كلمة تحمل تصورا ملتبسا، يفتقد إلى حد ضابط. ويتمظهر ذلك بجلاء خلال
سيرورات التواصل المباشرة، التي تسمح لنا بأن نجرب بعضنا البعض مباشرة، بفضل
إمكانية السؤال عن المعنى الذي يقصده من يخاطبنا: فإذا حدث، وتلفظ من يجادلنا
بكلمة (الواقع) وبدت حاملة لمعنى إمكاني يحتمل عدة دلالات..، ودفعنا ذلك إلى
التساؤل عما يعنيه بها، فإن مخاطبنا وهو يحاول مرتبكا توضيح المعنى، غالبا ما يكون
توضيحه مصدرا لخيبتنا.. لأنه جراء غياب تحديد اتفاقي (ضروري) لن يشكل إلا فهما
خاصا وجزئيا.
أما في
المجال الأدبي فإن الأسباب التي تجعل كلمة (الواقع) أكثر التباسا، ترتبط أساسا
باستعمالها وفق المعنيين اللذين رسختهما سياقات الخطابات السطحية والعادية
والإيديولوجية النفعية. وهما معنيان لا يتجاوزان حدود التوظيف الشائع. أما المعنى
الأول فيرتبط بالسياقات العامة، ولذلك يتماثل مع
شكل حياة ما، في إطار مجتمع ما. أما المعنى الثاني، فيؤشر على موافقة الفعل اللغوي
للفعل الواقعي مثل قولنا "في الواقع لن أذهب" حيث يعني (الواقع) وفق هذا
السياق، مطابقة الفعل لإنجازه.
من الواضح
أن المعنى المرتبط بالسياق الثاني، يجعل الواقع حالا محل حقيقة جزئية ومحدودة؛ أما
المعنى المرتبط بالسياق الأول، فهو مجرد وصف لما يبدو للوعي.
ولما كان
المعنى المرتبط بالسياق الأول يلائم بصفة عامة طبيعة النصوص، فمن الأفضل منهجيا أن
يشكل بداية لمحاولة تحديد معنى الواقع:
ولا يعني
رفض اعتبار شكل تعيينه للموضوع الذي يعبر عنه بأنه لا يعبر عن حقيقة أنه يعبر عن
زيف أو تخييل حر، بل يعني فقط أنه يعبر عما هو متمثل في ذهن ما، بوصفه مظهرا
للحقيقة: أي أنه مجرد تمثيل(*)1. وإذن فبما أن ما هو متمثل في الذهن، هو
ما سبق معرفته حول العالم، سواء عن طريق تجريبه ذهنيا أو عمليا.. أي بما أن ما هو
متمثل في الذهن هو حصيلة المدركات المترسبة حول العالم في الذهن نفسه [و لا يهم إن
كانت تلك المدركات السابقة حاضرة في الذهن بوصفها من البديهيات، أو بفعل قوة
الأشياء الحاضرة (أي أنها مستدعاة بمجرد بروز مظاهر تؤشر على استدعائها)، أو بفعل
قوة تأشير الأشياء على نظائرها أو ما يتعالق معها مكانيا أو زمنيا..] فلا يمكن أن
يرقى إلى التعبير عن الحقيقة. ومن ثمة، يمكن القول إن هذه الأشكال المركزية
والأساسية لتشكل الوعي الذهني –الذي يتحول إلى دليل ذهني، قبل أن يحول، بفعل
الترابط الضروري بين العالم واللغة عن طريق وساطة الفكر، إلى دليل تواصلي- ليست
إلا أفعالا موسطة لتماس مختلف أنواع الوعي بنفس الشيء الظاهر. وإذن فهي أشكال غير
مجسدة في/أو مجسدة ل/واقع ما، بل هي مجرد استنتاجات
ذهنية حول ما يعتقد أنه واقع وحسب. ويمكن، من أجل توضيح ذلك، أن نسوق المثال
البسيط التالي:
لنفترض أنني
أدرك الآن شيئا موجودا وحادثا، ولنفترض أن هذا الشيء هو "وردة"، ولنفترض
أيضا أنه علي أن أنقل تجربتي البصرية هذه إلى ذات أخرى: إن إدراكي الذهني للوردة
ثم تمثيلي لذلك الإدراك، يخضع بالضرورة لكل تلك الإجراءات التي تشرط تشكله وتحققه.
ومن البديهي أن أول شرط هو وجودها المسبق في وعيي الخاص، أي وجودها ضمن معارفي
المسبقة عن العالم، ويتم ذلك بفضل كونها مؤشرة على إحدى تجاربي البصرية السابقة[i]،
أو باعتبارها نسخة متفردة لمسمى اسم جنس في لغتي الأم (وردة). وحالما يتحقق هذا
الشرط، تنضاف في نفس الوقت بقية الشروط المتصلة بكل تصوراتي المسبقة حولها،
لتتراكب مع كل تصوراتي المزامنة للحظة الإدراك –هذه اللحظة التي تعطيها تميزها
بوصفها نسخة متحققة في الوجود داخل إدراكي المتحقق أيضا في مستوى الوجود- وبما أن
حضورها المتميز في الوعي يفرض بالضرورة تجاوز معناها القاموسي المجرد إلى معنى
مخصوص مبطن بكل إرغامات التجربة المحايثة للحظة الإدراك، فإن تمثيلي لها لا بد أن
يضيف إليها حدودا مميزة. فلو فكرت ذهنا أو تلفظت لغويا: (إنها وردة حمراء..) مثلا،
فإن اللون الذي أسنده لها، ليس إلا اللون الذي يبدو لي –لحظة إدراكها- معتمدا في
وجوده على وجودها! لأنه قد يكون بالنسبة لمدرك آخر، وإن زامن إدراكه إدراكي، ليس
بالضرورة هو اللون الأحمر. وقد يتحقق ذلك إما نتيجة عطب طبيعي في نظامي البصري، أو
نتيجة جهلي بمكونات الطيف الفرعي للألوان (الحمراء)… ويصدق نفس الشيء على كل
الصفات التي يمكن أن تميز إدراكي الوجودي لها (الطول، الشكل، الجمال…). ثم إنني
عندما أنقل تجربتي إلى المتلقي الذي لم يدرك ذلك الشيء مباشرة، أفرض عليه أن يتصور
ما تصورته. وقد يحدث في كثير من الأحيان أن يشعر –رغم اعتقاده أنني جاد- بعدم
تطابق معارفه المسبقة حول الشيء مع تحديداتي له. ومع ذلك فإنه لا يملك في هذه
الحالات إلا الاستعداد للتعاون. ولن يتحقق ذلك إلا بتحويله للأدلة التي أشرت بها
على تجربتي الوجودية إلى أدلة إمكانية محضة، لكي يقوم انطلاقا منها بصياغة أدلة
مؤشرة على تجربة وجودية مضاعفة، تنسجم مع معارفه المسبقة حول الشيء. الشيء الذي
يعني أنه انطلاقا من أدلته الناسخة لأدلتي يمثل من جديد –لنفسه أو لغيره- ما سبق أن
مثلته له.. وهكذا، يصبح ما نقلته له مجرد عالم ممكن مؤسس على حالة أشياء فعلية،
بينما يصبح إدراك من نقلت إليه ذلك، عالما ممكنا منضدا على عالمي. وقد يحدث أن ينقل بدوره تجربتي لغيره، فتصير
التجربة في وعي تلك الذات الثالثة عالما ممكنا ثالثا..
يجد
الالتباس، الذي تجلبه سيرورة فعل التوسط تلك، مرجعيته إما (أ) في العالم الذي لا
يعرض كل الأشياء وفق نفس الصورة، سواء كانت موجودات مثل الأشجار..، أو كليات
تجريبية ملموسة مثل الحمرة..، أو (ب) في الفكر، الذي من جهة، ينجز فعله بناء على
مقولات كلية هي في الواقع كليات غير موضوعية، بل تصورات ذاتية للعقل البشري؛ ومن
جهة ثانية، لأن حضور المعرفة الخاصة بشيء محدد لدى مدركه، يكون مشروطا بمعرفة
مسبقة وعامة به، ثم بمعرفة خاصة فقط بهذا المدرك، وهي المعرفة التي تتصل بتجاربه
السابقة والمزامنة لإدراك الشيء، وتعتبر هذه المعرفة مصدرا لوسم الشيء المدرك
بملابسات إدراكه أثناء تحويله إلى دليل تواصلي؛ أو قد يجد ذلك الالتباس مرجعيته
(ج) في التعبير اللغوي فقط، وذلك نتيجة إما لقصور المنتج في انتقاء أدلة إظهارية
معبرة عن الشيء، وإما لقصور المتلقي في إدراك أدلة المنتج(*).
يوضح المثال
السابق من بين ما يوضحه، أن إدراك الشيء أو تمثيله لغويا لمن لم يدركه مباشرة، هو
في الواقع إبعاد له عن حال وجوده الفعلي. الشيء الذي يسمح بالقول إن الواقع يقترب،
من حيث استعصاء الإمساك به، من مفهوم الحقيقة التي سبق لديكارت أن حسم في عدم
إمكانية إدراكها، حين أكد أن حقيقة الشيء لا تكون أبدا معروفة3.
لكن الاقتراب لا يعني التماثل الكلي، بل التناظر في بعض العناصر. فإذا كانت
الحقيقة غير قابلة لأن تدرك بإطلاق، فإن الواقع بفعل كونه يتعالق مع دلالة ممثلة
لتصور ما، وأن هذا التصور بدوره ممثل بواسطة حد لغوي ما، يمكن أن يكون –على خلاف
الحقيقة- قابلا لأن يتعرف عليه في مستويات ما، وخاصة في مستوى إدراك المعنى
الموضوعي لذلك الحد اللغوي4
الذي يمثل التصور الذي يمثل الشيء الواقعي. ومعنى ذلك أن الواقعية هي درجة في
سلمية إدراك الحقيقة التي تظل أبدا مطلقة ومتعالية و-عبثا- مبحوثا عنها…
وباختصار
ووضوح، إن واقعية الشيء أو غيره (الدليل بصفة عامة)، هي أكبر فسحة متاحة لمعرفته.
ولعل هذه الخاصية هي التي جعلت بورس نفسه يربط الواقعية بسيرورة المعرفة، خاصة وأن
تلك السيرورة لا تتحقق في الأشياء في ذاتها، بل تتحقق خارجها، بحيث تكون عبارة عن
متتالية من المعارف الموجودة في الذهن، والمدعمة بافتراضات واستنتاجات مناسبة
ومتطورة. أي أنها بالنسبة لأي دليل، هي تاريخ سيرورته الاستمرارية الموسعة.
وبهذا
المعنى تصبح واقعية الشيء هي تاريخ أشكال إدراكه المتعاقبة إلى حدود لحظة إدراكه
الفعلي من قبل ذات ما. وإذن تصبح آلية تدلالية تساعد على إنتاج الموضوعات
الدينامية. كما تصبح الواقعية مرادفة لسيرورة الاستنتاجات التي تعطى انطلاقا من كل
التجارب المعرفية والحسية بخصوص الأشياء المدركة…
العالم
الداخلي والعالم الخارجي:
إذا صدق
التحديد السابق لواقعية الأشياء بوصفها الشكل الذي تحضر به في أشكال الوعي وحسب،
وصدق تحديد الوعي بوصفه فعالية مكونة من (أ) معارف سابقة حول العالم (الحس
المشترك)، و(ب) من معارف خاصة بعلاقة المدرك بالشيء المدرك (تجارب خاصة)، و(ج) من
معارف عامة تستخدم لحظة الإدراك بوصفها آليات لاستنتاج خصوصيات الشيء المزامنة
للحظة إدراكه؛ فإن واقعية الشيء نفسها تصبح نسبية ومتعددة بتعدد أنواع الوعي وتعدد
درجات قدرات الذوات على تمثل الخلفيات المعرفية للأشياء؛ خاصة وأن تلك الخلفيات
–التي قد تكون كونية أو ثقافية، تجريبية أو شائعة..- هي التي تشكل، بشكل أو بآخر،
محمولات الفكر.
إذا صدق
ذلك، ستصبح الواقعية إذن قريبة من تخييل معقلن، ويتضح ذلك في الحالات التي تنتفي
فيها إمكانات التجريب، أي في الحالات التي نكون فيها إزاء الأشياء أو الظواهر التي
لا ندرك إلا مظاهرها أو مفعولاتها (أي مؤشراتها)، كما هو الحال مع دليل [نظام
الكون ] الذي تبدو واقعيته الأكثر ثباتا مرتبطة لحد الآن بنظرية كوبرنيك. وذلك على
الرغم من كونها ليست سوى "تخييل ممارسي"، لوضعية أكثر انسجاما مع ظهورات
النظام5.
ومهما يكن
نوع /أو تكن طبيعة/ الشيء المدرك من قبل الأفراد، فإن التباس واقعياته، العائدة
إلى أنواع الوعي الموجهة لإدراكه، تجد مبررها في وجود العالمين اللذين يسكنهما
الإنسان كما وضح بورس: "إن كل إنسان يسكن عالمين. وهذان العالمان يتميزان
مباشرة بفضل مظهريهما المختلفين" وهما العالم الداخلي والعالم الخارجي:
يرتبط
العالم الخارجي بكل المعطى المدرك بواسطة المعرفة المسبقة به، وبفضل المعارف
المترتبة عن إدراك جزئياته(*).
ويتميز هذا العالم بكون شكل إدراكه لا يتغير إلا بفعل جماعي. أما العالم الداخلي
فهو مجموع الأحاسيس والمشاعر والتصورات الخاصة بكل ذات حول العالم، وتكمن ميزته من
جهة، في ممارسته لضغط خفيف علينا؛ ومن جهة ثانية، في استطاعتنا تغييره بفضل إمكانية
تقويض أو خلق موضوعاته6.
والواقع أن
تعدد وتفرد الواقعيات المسندة لنفس الشيء، تعود إلى العالم الداخلي، الذي يسقط
معارفه على العالم الخارجي. ويشمل ذلك حتى المدركات التي تصدر –بخصوص الشيء
المدرك- عن نفس الخلفية المعرفية[*].
وباختصار
فإن العالم الداخلي، هو عالم الحياة الذهنية المخصوصة، التي تعطي المعنى وترسم شكل
واقعية العالم، الذي ليس في مستوى حضوره في الذهن، إلا نسقا فيزيائيا محضا7، تتفاعل عناصره داخليا. ولا مانع من كون
حضوره في الوعي مؤطرا بفضل المعرفة المسبقة به وبتفاعلاته البينية[**].
ومع ذلك
يبدو هذا التمييز، لكي يصير دقيقا، في حاجة إلى تحديد مستواه، وإلى علاقة طرفيه:
ـ أما
بالنسبة للمستوى، فواضح أنه لا يتجاوز العلاقة (عالم/فكر) إلى الارتباط بالحد
الثالث (اللغة)، وستتم محاولة توضيح ذلك في الفقرة اللاحقة الخاصة بالموسوعة
والقاموس.
ـ أما
بالنسبة لعلاقة الطرفين فهي متنوعة، إذ تارة يتقاطعان وتارة يتضمن الواحد منهما
الآخر. لكن نظرا لصعوبة تفسير كل مظاهر علاقتها التي تقتضي أن يفرد لها بحث خاص،
سيتم الاكتفاء بالإشارة إلى إحدى مظاهر تقاطعهما. وتتصل بتفاعلهما من أجل إنتاج
فعل الإدراك:
من البديهي
أن العالم الخارجي ليس مشكلا فقط من الأنساق الفيزيائية المحرومة من الوعي، كما
وضح سورل، ولكنه مشكل أيضا من عناصر "رمزية" مجردة (مثل اللغة والأسطورة
والفن والدين والإيديولوجيا النفعية..) والتي تشكل بدورها –بوصفها عناصر العالم
الخارجي- نسيج تجربة الإنسان عبر الزمن8.
وتشكل هذه
العناصر موضوعا هاما من موضوعات العالم، مثلما تشكل آليات لإدراكه. وبما أنها
آليات لإدراكه (بمكونيه الفيزيائي والرمزي)، فإنها في نفس الوقت آليات تتحكم في
اشتغالية العالم الداخلي. ولا تأخذ ذلك الوضع لأنها تشكل مكونات الخلفية المعرفية
فقط، ولكن لأنها تشكل أيضا مصدرا للمشاعر والأحاسيس والقيم المؤطرة للأشياء
المدركة.. إلا أنها في الوقت الذي تساهم فيه في تشكيل فضاء العالم الداخلي وتنظيمه
بمساعدته على مفصلة موضوعاته وموضوعات العالم
الخارجي المنطبعة عليه، تساهم في تغريب الإنسان عن الوقائع الفعلية التي يعيش فيها
وبينها(*)..
وهكذا،
بإرجاع واقعية كل شيء مدرك –فعليا كان أو غير فعلي، محسوسا كان أو غير محسوس- إلى
الشكل الذي أدرك به من قبل الذات، ثم بإرجاع شكل هذا الوعي، الذي هو نتيجة تفاعل
العالمين اللذين يسكنهما الإنسان، إلى معارف مسبقة عامة (معطيات الموسوعة) وخاصة
(الإبيستيمي الفردي) وأخرى مزامنة للحظة الإدراك (الشروط خارج السيميائية
للإدراك)؛ يمكن استنتاج أن الواقعية، هي مجرد تأثير ناتج عن شكل وعي ما، وأن الشيء
(أو الظاهرة) الذي ندعوه عادة (واقعا) ليس سوى رابط لإدراكه، أو مؤشر ظاهر لسيرورة
غير ظاهرة، هي موضوعه. ومن الأدلة الواضحة على ذلك كون نظامنا الفكري نفسه، لا
يدرك الأشياء كما هي، بل يميل دائما إلى إدراكها من خلال علاقتها بأشياء أخرى:
(بأسبابها، بمسبباتها، بأصولها، بامتدادتها، بوظيفتها، بنظائرها، بأضدادها..) أو
من خلال علاقاتها بانفعال ما[*]9: كالرغبة فيها، أو النفور منها.. ولذلك
نقترح تسمية كل ذلك بتأثير المتبدي، ومن ثمة نقترح تعويض مصطلح الواقع والواقعية
بالمتبدي.
وإذا كان من
الواضح أن كل التحليلات السابقة، ترتبط بالظاهراتية البورسية، فهي منسجمة –سواء
نظر إليها في مستوى إنتاج الخطابات أو في مستوى تلقيها- مع سيرورات التدلال (sémiosis) ذات الطابع الاستمراري المشروط بأنواع الوعي. ومن أجل تأكيد ذلك
الارتباط، سيتم التمثيل بمثال قدمه بورس لكي يبرهن من خلاله على أهمية الإدراك
الأولي السابق على كل تأويل، مفترضا إمكانية تحققه في السيرورة الإدراكية لمدرك ذي
ملكة فنان: إن ملكة الرؤية الجيدة، أمام ما يبدو، كما يعرض ذاته، بدون تعويضه بأي
تأويل، [ أي ] بدون خيانته، [وذلك حتى يتسنى لنا أن ] نهتم بهذه الحالة المغيرة أو
تلك(…) [لنفترض ] ملكة الفنان الذي يرى ألوان الطبيعة المتقاربة كما تبدو. [ فإذا
حدث ] وغطيت الأرض بالثلوج التي تلمع الشمس بقوة فوقها، باستثناء أمكنة الظل،
وطلبنا من رجل عادي تحديد اللون الذي يبدو له [ هناك]. فسيقول إنه أبيض محض، [ إنه
] أكثر بياضا في الشمس، ورماديا شيئا ما تحت الظل. [والواقع ] أن ما هو منشغل
بوصفه، ليس هو ما أمام عينيه [ فعلا] ولكنه ما يعتقد أنه من الواجب رؤيته. أما
الفنان فسيقول له، إن الظلال ليست رمادية، بل زرقاء غامقة وأن الثلج تحت الشمس هو
بلون أصفر غني10.
إن هذا
المثال الذي قدمه بورس، وإن كان يرتبط فقط بالمستوى الأولي للإدراك المحايد لكل
أشكال المقصدية، فإنه مع ذلك يوضح اختلاف حضور الشيء الفعلي نفسه في أنواع الوعي
المختلفة، وذلك نتيجة الإحساس الأولي المحايد بالشيء الفعلي، ذلك الإحساس الذي
تتحكم فيه الخلفية المعرفية للذات المدركة.
إضافة إلى
الانسجام الذي تأكد بشكل ملموس من خلال المثال السابق بين التصور الذي يحاول هذا
المقال إرساءه وتصور بورس، يمكن تدعيمه بفضل استحضار التعريف المجرد الذي أسنده
بورس إلى مفهوم الواقع:
يرى بورس أن
الواقع، قد انبجس عندما اكتشفنا لأول مرة وجود اللاواقعي (الوهم)، أي أننا قد
اكتشفناه مع أول مرة قمنا فيها بمراجعة أنفسنا. فالواقع إذن، محدد من قبله، داخل
فعل الزمن؛ لأنه ختام ما يصل إليه –الآن أو فيما بعد- الإخبار والتحليل [والختام
(أو النهاية) لا يقطن طبعا في لحظة ما..]. ومعنى ذلك أن الواقع كما يراه، مستقل
بالنتيجة عن استيهاماتنا11. من
الواضح أن تصور بورس هذا، يتضمن مفهوم الجماعة، بكل ما تحمله وتنتجه من معارف في
زمن ما. ومعنى ذلك الربط، في نهاية التحليل، أنه يسند إلى مفهوم الواقع خاصيات
الانفتاح وعدم الإنجازية والنسبية.. ومن الواضح أيضا، أن الإخبار والتحليل الذي
يقصي الوهم ويكشف اللاواقعي، يقر بوجود الواقعي واللاواقعي في أساس معارف المجموعة
الاجتماعية قبل فصلهما في لحظة ما من تطور الفكر الاجتماعي، لكن تلك اللحظة التي
ينتفي فيها اللاواقعي ويستمر بمفرده في الزمن، يبدأ فيها ذلك الواقعي في إفراز أو
إنتاج لا واقعي خاص. وهذا اللاواقعي الخاص ينتظر بدوره نهاية مرحلة أخرى يستطيع
فيها التحليل أن يميزه –بوصفه وهما- عن الواقعي وهكذا دواليك(*)12..
ويدل كل ذلك على تطابق معناه عند بورس مع المعنى الذي أعطي له في هذا المقال ومع
دلالة المصطلح المقترح (المتبدي) لتمييزه عن اللفظة اللغوية (واقع).
وهكذا يمكن
الانتهاء إلى القول، إن الواقعية هي مطابقة الوحدة اللغوية للوحدة الثقافية (شرط
تضمن مفهوم الثقافة مفهوم المواضعات الاجتماعية)، أو هي مطابقة الوصف اللغوي
للمتبدي سواء كان هذا المتبدي شيئا معطى في الوعي المباشر، أو ظاهرة، أوشيئا مجردا
(رمزيا)، أو ظاهرة بينية (أي تفاعلا علائقيا بين الموجودات وأنظمتها)..
ويعني كل
ذلك أن الواقعية ليست حقيقة –وإن كانت درجة في سلمها- إذ ليست الواقعية إمساكا
مباشرا بجواهر أو مصادر الأشياء الفعلية، ولكنها فقط أشكال لتصور شكل الوجود
الأنطولوجي والوظيفي لتلك الأشياء. وهو تصور موسط بأشكال الوعي المحكومة بكليات
متنوعة: كونية وثقافية وأفرادية، وهي أيضا خاضعة لفعل الزمن، ولعالم الإنسان الموزع
بين عالمين.. ومن ثمة فإنها لا يمكن أن تكون موضوعية ونهائية إلا في حدود. ومع ذلك
فإن هذا القول لا يعني أن تحديد واقعية الأشياء أمر سائب أو اعتباطي أو رهين
بالأهواء، بل يعني أن التحديد الموضوعي لها يفرض هو نفسه الاختلاف، نتيجة اختلاف
آليات الإدراك الموسطة (وذلك واضح في المستوى التزامني، من خلال اختلاف الأديان
والأساطير والعادات.. وفي المستوى التعاقبي، من خلال نسخ النظريات لبعضها البعض..)
ونظرا لاختلاف شكل إدراك الذوات لتلك الآليات (وذلك واضح من خلال اختلاف فهم
الأفراد لثوابت أديانهم ولدلالات أساطيرهم..).
استخلاصات عامة:
يتأكد من
خلال التحليل السابق أن المعنى العام للمتخيل ينحو بقوة نحو التناظر مع معنى
الواقعية سواء تعلق الأمر بالشيء أو الظاهرة. كما يتأكد أن معناه في مجال النقد
الأدبي يرتبط بوجود بناء متماسك ونهائي، يماثل المتبديات الفعلية التي تؤطر حياة
المجموعات الاجتماعية المختلفة..
ويترتب عن
هذه النتائج ضرورة إعادة التفكير في تحديد مفهوم المتخيل سواء تعلق الأمر
بالاستعمالات التي يوظف وفقها في الكتابات الصحافية والتي بفضل شيوعها أصبحت
مهيمنة على الفهم المهيمن في سيرورات التواصل العادية، والتي انطلاقا منها أصبح
دالا على الاعتقاد الخاص بفئة اجتماعية ما (ومن ذلك المتخيل الشعبي، المتخيل
الشيوعي، المتخيل الديني، المتخيل الروائي..)؛ أو تعلق الأمر بما يحدده المفهوم في
النقد الأدبي.
إن الالتباس
الذي تولده هذه الاستعمالات تفرض علينا إعادة النظر في معاني مفهوم المتخيل عامة،
وفي معناه في مجال النقد الأدبي خاصة، وذلك لكي لا يلتبس بمفهوم الخيال ولكي لا
يكون ضدا لمفهوم الواقع..
أما بالنسبة
لمفهوم المتخيل الأدبي فمن اللازم أن ينطلق تحديده من تمييز معناه عن بقية معاني
المتخيل الناتجة عن استعماله لتوصيف أشكال خطابية أخرى. ولا يمكن أن يتحقق ذلك
التمييز إلا انطلاقا من إدراك أن المتخيل الأدبي هو نتاج واقعية مخصوصة منتجة بشكل
واع من قبل ذات مخصوصة لكي تؤشر على واقعية عامة ليست بالضرورة واعية، بينما
تتماثل أغلب الاستعمالات الأخرى مع المعنى للواقعية، أولا لأنها توصيف مباشر للمتبدي
المتشارك بين المجموعة الاجتماعية، وثانيا لأنها ذات صبغة عامة وجماعية، وغير
واعية في عدد من عناصرها التكوينيةn
(*) يعود الانتشار الواسع لمصطلح المتخيل
إلى باشلار الذي اقترحه في كتابه الهواء والأحلام (1943).
[*] تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك بعض
الاستعمالات –الناتجة عن عدم ضبط المفهوم- تجعل المتخيل يفقد العديد من مقوماته
الاصطلاحية، ويتضاءل إلى حدود الدلالة عن الموضوعة (التيمة)، ذلك أننا نجد بعض
الدراسات الأدبية تحمل عناوين مجسدة لذلك الفهم، مثل: متخيل الصحراء في الرواية،
متخيل العنف.. متخيل الريف.. ومن الواضح أن هذه الاستعمالات المحرفة للمفهوم غير
معنية إطلاقا من قبل هذا المقال.
[**] يعتبر العالم المعطى من قبل النصوص
الأدبية عالما مبنيا من قبل المنتج، وإذا كان هذا العالم المبني تجسيدا استعاريا
لفكرة يعمل المنتج على تمريرها إلى المتلقي، فإنه يقبل أن يستعير مادته الدلالية
إما من الوقائع المحتملة الوقوع.. أو غير المحتملة الوقوع سواء في الماضي
(الأسطورة مثلا..)، أو في المستقبل (رواية الخيال العلمي مثلا..). إن هذا التنوع
الذي يجب أن يخضع للبعد الإيديولوجي والجمالي وللحساسية العامة لزمن الإنتاج
والتلقي، لا يؤثر في المعنى الاصطلاحي العام للمتخيل: إن المواد البنائية حتى حين
تكون خيالية فإنها بفضل كونها عمادا لتوليد دلالة إيديولوجية، لا تشكل انزياحا
داخل مفهوم المتخيل الذي هو توصيف للعالم المبني نصيا. وذلك لأن الوصف (متخيل) لا
يعطى إلا من الخارج، وهو الشيء الذي يجعل البناء الخيالي للمادة البانية بناء
واعيا يهدف إلى تمرير فكرة بشكل قصدي. ومعنى هذا أن الانتباه إلى التنوع الغني
للمواد الدلالية للنصوص الأدبية وإن كان يغري بافتراض وجود مستويات للمتخيل
الداخلي، فإن ذلك غير ممكن، من جهة لأن المتخيل لا يتجزأ، ومن جهة ثانية لأن
المتخيل وصف يربط العالم الفعلي –الذي ننطلق من معاييره للحكم والتصنيف- بالعالم
المبني نصيا. إن هذه الحقيقة تجعل مثل تلك الدراسات لا ترتبط بالمتخيل بل بالخيال.
لذلك ننبه إلى أن هذا المقال لن يعنى إطلاقا بهذه القضايا بل سيهتم فقط بالمعنى
العام للمتخيل عامة والمتخيل الأدبي خاصة..
(*) انظر معنى التمثيل la
représentation عند فريجه.(1)
1 - G.Frege, Ecrits
logiques et philosophiques, Seuil, Paris, 1971, p102.
[i] - انظر كلا من: محمد الماكري، الشكل
والخطاب، (م.ث.ع)، البيضاء، 1991. فصل (نظرية الأشكال الجشطالت) و: Searle, L’intentionnalité,
éd. Minuit,
D.Zagar,
(L’approche cognitive de la littérature), In Psychologie cognitive de la
lecture, p22.
(*) ستجد هذه المستويات نسقا مفسرا لها في
ازدواجية العالمين الخاصين بكل ذات كما سيتضح لاحقا.
3 - C.S.Peirce, Textes
fondamentaux de sémiotique, Traduction et notes B.Fouchier – Axelsen et
C.Foz, éd. M.K.,
4 - Ibid, (5.311), p99.
5 - U.Eco. Les limites
de l’interprétation, Traduit par M.Bouzaher, éd. Grasset, Paris, 1992,
p279.
(*) تحصل هذه المعارف في الذهن إما بفضل
التعلم أو الاستنتاجات المراقبة تجريبيا..
6 - Peirce, Ecrits sur
le signe. Trad.par G.Deledalle., Seuil,
[*] إن ذلك هو ما يفسر وجود ما يمكن تسميته
بالاختلاف المؤتلف، والذي يلاحظ في أشكال إدراك نفس الشيء من قبل ذوات تنتمي لنفس
الحزب أو لنفس الثقافة..
7 - Searle, Du cerveau
au savoir, Col. Savoir, Hérmand, Paris, 1985, p8. A.R.
[**] تبدو هذه الحقيقة واضحة عند من يغيبون
تأثير العالم الداخلي (الذات) مثل أنصار الذكاء الاصطناعي الذين يحولون التفاعلات
البينية إلى أطر ومدونات وسيناريوهات.. والتي تصبح هي نفسها معيارا لرؤية واقعية
النص السردي..
8 – كاسيرير، (فلسفة الأشكال الرمزية)،
ترجمة كمال أسفطان، مجلة العرب والفكر العالمي، 1988، عدد3.
(*) يشبه التصور الذي يراد قوله هنا، تصور
كاسرير عن الأشكال الرمزية الموسطة للإدراك، والتي تمنع الإنسان من أن يوجد في
حضور مباشر للواقعية، إذ لا يمكنه أبدا أن يراها وجها لوجه. وبسببها تبدو الواقعية
المادية في تراجع، وفي المقابل تبدو الفعالية الرمزية في تطور. وهكذا، فإنه بفعل
السياج الرمزي، لم يعد الإنسان قادرا على رؤية أي شيء، أو معرفة أي شيء بدون
الالتجاء إلى العالم الداخلي.
[*] تقبل هذه العناصر الذهنية الناتجة عن
تفاعل العالمين أن تؤطر ضمن العناصر التي يختزلها مصطلح المقصدية، وفق تحديد سورل
له.
9 - Searle, Du cerveau
au savoir, op.cit, p19.
10 - Peirce, cité par
N.Everaert-Desmedt, Le processus interprétatif, éd.Margada, Liège, 1990,
p32.
11 - Ibid, p28.
(*) يخلص بورس إلى القول إن ما هو مفكر به
في هذه المعارف هو الواقع كما هو واقعيا. حيث يفيد ذلك أنه يدمج في مستوى تحديده
للواقع، ليس فقط مستويات العالم والفكر، وتفاعلهما داخل تفاعل العالمين الداخلي
والخارجي للإنسان، بل يدمج مستوى اللغة أيضا. مثلما يفيد أن الواقع هو ما هو مفكر
به بوصفه واقعا وحسب! ولذلك فليس الواقع عنده إلا وحدة ثقافية-اجتماعية
ولغوية..(12)
12 - Peirce, Textes..,
op.cit., p99 [5.311] & p/p (118/119) [5.356].