إحياء علوم الفلك: من السماوات إلى الفضاء
حيلوط باسكال
1
– عندما كانت الأرض مسطحة والسماء مقببة: الحضارات القديمة.
2
– نظريات متعددة انتهت بإقفال القيود: اليونان والإغريق.
3
– شكوك دون انعتاق: العرب والمسلمون.
4
– فك الأغلال: العصر الحديث.
إذا
ما أردنا تقفي نظريات البشرية في الكون، وجدنا أنفسنا أمام موضوع يلخص وجها مفيدا
من تاريخ العلم، أو الجهل (كل حسب تفاؤله أو تشاؤمه).
فمدارسنا
اليوم تعلمنا أن الأرض تدور حول نفسها مرة في اليوم كما تدور حول الشمس خلال سنة.
ونحن نتعلم كذلك أن الشمس مطوقة بالكواكب السيارة (وأقمارها) التي تدور حولها
بسرعات تتناقص كلما ابتعدنا عن الشمس (الرسم1).
لقد
تطور علم الفلك في القرون الأربعة الأخيرة إلى حد أنه أصبح بإمكان الإنسان أن
يتحكم في أقمار اصطناعية تعج بها سماؤنا اليوم بعدما فهم الظواهر التي استعصت على
الأجداد. ترى كيف كانت نظرة القدماء إلى السماء وأجرامها وإلى مكانة الأرض بالكون؟
وكيف تطورت تلك النظرة عبر التاريخ القديم والحديث؟
إن
هذا المقال لا يهدف إلى مسح شامل لكل مراحل علم الفلك، بل كل ما نتوخاه هو الوقوف
على رسوم عريضة لمحطات نعتبرها مهمة بالنسبة لتطور الفكر العلمي والإشارة إلى
القيود النظرية والعقائدية التي كانت تعرقل سيره. وهدفنا من وراء ذلك هو طرح أسئلة
قد تكون حافزا لحب الاستطلاع ولإحياء علوم الفلك كموضوع تهتم به
مجلاتنا وجامعاتنا.
1
– عندما كانت الأرض مسطحة والسماء مقببة: الحضارات القديمة.
إن
كان من العسير استنطاق نظرة الإنسان البدائي إلى السماء، لكون التاريخ يبدأ مع
المآثر المادية المتبقية من كتابة ورسوم ونحت الخ، فإنه بات من السهل مراجعة
ذاكرتنا لنستعيد نظرتنا العادية إلى الأرض والسماء قبل أن تتكون لدينا تلك الصورة
التي اكتشفناها في مدارسنا.
عندما
كنت طفلا (بدائيا مبتدأ)، أتذكر أنه لم يخطر ببالي أبدا أن الأرض مكورة وأنها
تتحرك عبر الفضاء الرحب. كنت أتخيل أنه يمكن الوصول إلى قبة السماء بالصعود فوق
الجبال الشاهقة أو تسلق السلاليم الطويلة كل الطول،
وربما أمكن ذلك بالسير إلى حد الأفق حيث تعتمد السماء على الأرض! كنت أتصور الشمس
والقمر قرصين يدأبان فوق رؤوسنا دون أن أتساءل عن طبيعتهما أو عن طبيعة النجوم
التي لا تحصى.
لكم
استغربت وأصدقائي بالمدرسة عندما أفهمنا أستاذ الجغرافيا أن الأرض كروية الشكل وأن
هناك أناسا يسكنون النظير المقابل للمكان الذي نحن به
"فوق" الكرة الأرضية. تعجبت لإمكانيتهم السير ورؤوسهم "واقفة إلى
أسفل"! وأخيرا طمأننا الأستاذ عندما شرح لنا مفعول الجاذبية التي تقينا شر
السقوط إلى ما لا تحمد عقباه. أظن أن كل من له اليوم حظ من التعلم يعيش نفس الثورة
الفكرية التي تنقلب فيها أنظارنا رأسا على عقب. ومن المحتمل أن تكون نظرة الإنسان
البدائي إلى الأرض والسماء لا تختلف عن نظرتنا إليها في سن الطفولة.
لقد
حظيت كل الحضارات القديمة بمعرفة جيدة لظواهر السماء. كانت تلك المعارف مبنية على
الأرصاد بالعين المجردة. والمحرك الأساسي لتلك المعرفة يكمن في الحاجة الملحة لضبط
تواريخ الفصول والأعياد والطقوس الدينية وجباية الضرائب؛ دون أن ننسى ضرورة التوجه
برا وبحرا، ليلا ونهارا. كل هاته الضرورات العملية أدت
إلى تدوين دقيق لمنازل القمر والأنواء[1]
ومحطات الشمس والكواكب عبر السماء.
لجأ
الإنسان القديم والحديث، على السواء، إلى استعمال الحركات المادية الدورية وعدها
لقياس الوقت الذي لا نعرف له تجليا آخر غير هاته
الظاهرة. وأول ما استعمله القدماء لقياس الساعات هو حركة الظلال نهارا ودوران
النجوم في السماء ليلا. أما الأيام، فعدادها مرتبط بحركة الشمس الظاهرية. ولم يجد
القدماء أفضل من دوران القمر حول الأرض لحساب الأشهر المبتدئة مع ظهور الأهلة. إلا
أن المصريين أضافوا إلى ذلك التقويم الطقوسي أشهرا
"فلاحية" متساوية عدد أيامها ثلاثون. وكانوا
يضيفون إلى تلك الأشهر الإثني عشر خمسة أيام نسيئة على
رأس كل سنة. ولما تبين أن السنة الشمسية أطول من إثنى
عشر شهرا قمريا، اضطر القائمون على المواقيت في الحضارات الشرقية إلى إضافة أشهر
نسيئة لموافقة الفصول المرتبطة بالشمس: كانون الثاني، جمادى الثانية.. وهكذا يقرر حمورابي: "إن السنة الحالية ناقصة. فليسجل أيلول الثاني
كشهر قادم قبل تشرين". ولكنه لا ينسى التذكير بأداء الضرائب في وقتها:
"آخر أجل لتأدية الضرائب هو 25 أيلول الثاني عوض 25 من شهر تشرين"[2].
وبفضل
الرصد والتأريخ ألم المايا (أمريكا الوسطى) في وقت مبكر
جدا بمعرفة دقيقة لدورات الكواكب السيارة وكذا دورية الخسوفات
القمرية. ومزاولة الأرصاد عند الآنكا بأمريكا الجنوبية،
خلفت معرفة لا تقل ضبطا عن تلك التي طورها المايا.
1-أ-الحضارة
الصينية القديمة:
وإذا
عرجنا على الشرق الأقصى، وجدنا الحضارة الصينية قد اعتمدت على خدمات فلكيين
رسميين، ليس فقط من أجل حساب الأيام وضبط التواريخ وتدوين الحوليات، بل كذلك
لمراقبة إشارات السماء و"التوقع" بما قد يلم بالدولة من أخطار. ولقد برع
المراقبون الصينيون لأحوال السماء في تدقيقهم لعملية الأرصاد: فمنذ ظهور النصوص
الأولى في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، كانت مدة السنة عندهم تبلغ 365,25
يوما. وكان ذلك هو عدد الدرجات بالدائرة عندهم. لكن السنة المدنية كانت رغم ذلك
مسايرة لحركات القمر. وهكذا نجدها تحتوي على إثني عشر
أو ثلاثة عشر شهرا قمريا كما هو الحال عليه عند الحضارات الأخرى.
لم
يسم الصينيون الكواكب السيارة بأسماء خاصة. وكانت مدة دوراتها في السماء معروفة
عندهم بدقة فائقة. فقيمة اختلافاتها عن المدد المعروفة حاليا تقل عن مدة اليوم
الواحد. لقد أقام الفلكيون الصينيون لوائح لألف وأربعمائة وأربع وستين نجمة ثابتة
مع ضبط مواقعها في السماء. وتبعا لنظرتهم إلى نظام السماء على نفس النسق الأرضي،
كان القطب عندهم عنوانا لمركز السلطة التي تدور حولها كل مرافق المجتمع. فهم يسمون
النجمة القطبية "الإمبراطور الأعظم الجليل الأعلى"، مما ينم عن مبالغة
شرقية فضفاضة. ولم تتكون لدى الصينيين أية نظرية رسمية عن الكون. فلقد تداولوا من
بين ما تدالوا ثلاث نظريات[3]
يمكن تلخيصها كما يلي:
· فالنظرية الأولى تتصور
الأرض مربعة تدور فوقها قبة السماء والنجوم الثابتة. فالشمس والقمر كنملتين على
رحى القبة تتحركان بحركتها من الشرق إلى الغرب (دورة في اليوم) وتدأبان في نفس
الوقت ببطء إلى خلاف ذلك الاتجاه (دورة في السنة أو الشهر).
· أما النظرية الثانية
الموروثة عن لوهيا هونج، من القرن الثاني قبل الميلاد، فإنها ترى الكون كبيضة
قشرتها السماء العليا والأرض أحها الأصفر. ولا أحد يعلم
ما وراء القشرة حيث لا توجد أية حدود أو معالم.
· النظرية الثالثة
المعروفة بنظرية الليل الشاسع والتي مفادها أن ليس هناك أية قبة سماوية، وما
نتخيله من قبة إنما هو ناتج عن وهم بصري (سراب). فالشمس والقمر وكل الكواكب
والنجوم تسبح في الفضاء على متن أنفاس عتيدة. فالكتاب الطاووسي
المنسوب للي تسو يشرح إذن أن لا خوف من أن تتكسر السماء وتتحطم على رؤوس البشرية.
1-ب-الحضارة
المصرية والبابلية:
أما
قدماء المصريين فلقد خلفوا لنا وصفا ميثولوجيا للأرض
والسماء (الرسم 2). فإله الأرض [جيب ] ممتد وسط بحر هائل، وإلهة السماء [نوت ]
عاكفة على العالم. وتزين النجوم جسدها. أما إله الشمس [راع ] فإنه يعبر السماء
نهارا على متن فلك قبل أن يلج أبواب الليل ويجتاز "العالم المنقلب" حيث
تنتظره أخطار جسام. وهو في أغلب الأحيان يتمكن من التغلب عليها، إلا أنها قد
تلاحقه من حين لآخر بأواسط النهار لتنتج عن معركتهما ظاهرة الكسوف. وبجانب المصريين،
يرجع الفضل إلى السوماريين الذين سجلوا لأول مرة بالشرق
الأوسط ملحمة التكوين كما تداولوها فيما بينهم. لقد كان لقصتهم هاته أثر كبير على الحضارات المجاورة. فالسوماريون
والبابليون من بعدهم لم يتصوروا الكون مخلوقا من طرف آلهة سابقة لذلك العالم، بل
كل شيء عندهم منبثق من الفوضى السابقة للكون ونظامه، بما في ذلك الآلهة.
من
الفوضى غير الموثوقة ينبثق [ أنكي ]، الكون بأكمله،
سماؤه وأرضه. ثم إن [ إنليل ]، إلاه
الهواء، يفصل فيما بينهما. فتتخذ الأرض شكل دائرة، وتتكون السماء على صورة قبة
صلبة فيما يبقى الهواء متجولا بينهما. ومن ذلك الجو تترسب الكواكب والنجوم. وأخيرا
تنبعث إلى الوجود كل النباتات والحيوانات وكذا البشرية. والفوضى البدائية عند
البابليين عبارة عن بحرين هائجين ممتزجين: [ تيامات ]
و[ أبسو]، إلاهة المياه
العذبة وإلاه البحر المالح.
ولم
تنته الفوضى ولم يستقر النظام إلا بعد حرب ضارية خاضها الإله [مردوك] تمكن على
إثرها من تجزئة جسم [تيامات] الهائل إلى قسمين، قسم
المياه السماوية وقسم المياه الأرضية الممدودة أسفله. وتذكر لنا قصيدة التكوين خلق
الأنهار والبهائم والغابات.. تبجيلا لمردوك، لقدرته
وقوته.
قام الإثنان، تيامات ومردوك الحكيم من بين الآلهة، تقدما للقتال، وتقاربا
للمقارعة لوح الرب بشركه ولفها به من كل الجوانب، أرسل
على وجهها رياحا عاتية كانت بظهره. فتحت تيامات أشداقها
فتحا، وملأ مردوك فاها بتلك الرياح ملأ. ما استطاعت تيامات
غلق شفتيها. اجتاحت الرياح الجامحة بطنها واقتلعت قلبها وأجبرتها على فتح فكيها
إلى أقاصيهما. رماها الرب بسهمه فمزق أحشاءها؛ شق كبدها وأنهك قواها. خارت قواها
وعلا مردوك جثتها منتصرا.. نشيد التكوين، ترجمة لنص من: Jean Deshayes, Les civilisations de l’Orient Ancien. Editions
Arthaud, Paris 1969, page 420.
إننا
نجد أصداء لهاته الملحمة عند الآشوريين والكنعانيين ثم العبريين كما سنبين ذلك
فيما بعد. وبجانب هذا التصور الأسطوري للكون الموروث عن السوماريين،
عثر المنقبون على خريطة بابلية تعطينا نظرة أكثر واقعية عن تصورهم للبلاد المعروفة
عندهم. فإحدى اللوحات الفخارية بالمتحف البريطاني تصور لنا بابل مركزا لأرض
مستديرة يحيط بها بحر [ أمورو][4]. وتتفق معطيات هاته اللوحة من القرن
الرابع أو الخامس قبل الميلاد مع المعلومات المتواجدة بلوحات سومارية
تعود إلى ألفي سنة قبل ذلك العهد. ففي جنوب بابل (الرسم 4) نجد قنوات ومستنقعات.
ووراء البحر توجد سبع أقاليم شبه أسطورية مرسومة على شكل مثلثات؛ وصلنا وصف خمسة
منها:
ـ
"حيث لا ينهي الطير رحلته"،
ـ
"ضياء أقوى من الغروب ونور الكواكب"،
ـ
"حيث لا يمكن رؤية الشمس"، (النواحي القطبية؟ من المحتمل أن يكون
البابليون قد سمعوا عنها)
ـ
"مقر الثور الهاجم على الأجانب" (Le Minautaure ?)
ـ
"البحر الحاوي لحيوانات مردوك"
ولقد
بينت أعمال كل من Neugebauer, Kugler, Epping أن الرياضيات كانت تلعب دورا أساسيا في علم الفلك عند
البابليين. فحساباتهم، وإن لم تكن مبينة على نظرية هندسية، قد رقت إلى مستوى يمكن
مقارنته بنتائج النظريات الإغريقية في ميدانها[5]. ويتبين من دراسة جداولهم أن حساباتهم لقابلية رؤية الهلال لا تقل
دقة عن تلك التي سيطورها علماء الفلك المسلمون، فيما بعد، على أسس هندسية.
واللوحات التي استودعتها آثار بلاد الرافدين تدل
على أن أهل تلك البقاع قد اهتموا مبكرا بالأرصاد والحسابات المرافقة لها من أجل
تدبير شؤون المواقيت والتأريخ وكذا تتبع منازل "الآلهة" السماوية بعضها
بالنسبة للأخرى. ومن أقدم اللوحات التي يذكرها Neugebauer في هذا الميدان، نستشف عالما ذا ثمان طبقات كروية، أو طرقات.
فالقمر بمنزلة الطبقة السفلى من ذلك البنيان، تعلوه طبقات الآلهة الأخرى؛ وتلف كل
ذلك كرة النجوم الثابتة[6].
إن كان فهمنا لتلك الوثائق الفخارية صحيحا، فإنه
يمكننا القول بأن تصور السماء "كبصلة" كروية عظيمة، ذات قشور شفافة،
تصور عريق في القدم. وستتبنى كل ثقافات البحر الأبيض المتوسط هذا النموذج وسيبقى
مرجعها الأساسي حتى القرن السابع عشر بعد الميلاد[7].
1-ج-عالم
العبريين ثم المسيحيين من بعدهم:
إن الكتاب المقدس المشترك لدى العبريين
والمسيحيين (التوراة) يبدأ بسفر التكوين ورواية خلق العالم. ونحن نورد هنا جزءا
منها مع بعض التعليقات المسيحية الرسمية المرافقة لها. وتجدر الإشارة إلى أن هاته الحواشي من الأهمية بمكان، إذ تعبر عن موقف عقلاني
للكنيسة بعدما خسرت معركة تعنتها ضد العلوم في محاكمتها المشهورة لكالليو.
الكتاب المقدس، دار المشرق، بيروت، 1986
(الرهبانية اليسوعية) ص68:
الرواية الأولى لخلق العالم(1)
في البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض
خاوية خالية، وعلى وجه الغمر ظلام، وروح(2) الله يرفرف على وجه المياه. وقال الله:
"ليكن نور"، فكان نور.
ورأى الله أن النور حسن. وفصل بين النور
والظلام. وسمى الله النور نهارا، والظلام سماه ليلا. وكان مساء وكان صباح: يوم
أول.
وقال الله: "ليكن جلد(3) في وسط المياه،
وليكن فاصلا بين مياه ومياه". فكان كذلك. وصنع الله الجلد وفصل بين المياه
التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد. وسمى الله الجلد سماء، وكان مساء وكان
صباح: يوم ثان.
وقال الله: "لتتجمع المياه التي تحت السماء
في مكان واحد وليظهر اليبس". فكان كذلك. وسمى اليبس أرضا وتجمع المياه سماه بحارا. ورأى الله أن ذلك حسن..
حواشي رسمية من الكتاب المقدس:
(1) ...والنص [ أي نص الكتاب المقدس ] يستند إلى
علم ما زال في عهد الطفولة. فلا حاجة إلى التفنن في إقامة التوافق بين هذه الصور
وعلومنا العصرية. بل يجب أن نرى في هذه الصيغة المتأثرة بطابع زمنها تعليما موحى
ذا قيمة دائمة عن الله الواحد والمتعالي والكائن قبل العالم والخالق.
(2) فروح الله هو ما يجعل حياة الإنسان وحياة
جميع الكائنات ممكنة. وقد فسر بعضهم هذا "الروح" بالعاصفة أو الروح
القدس.
(3) كان "جلد" السماء الظاهر عند
الساميين الأولين عبارة عن قبة متينة تحبس المياه المجتمعة فوقها، ومن كواها سيسيل
الطوفان.
بعد خروجهم من بلاد الرافدين مع إبراهيم، عرف
العبريون عبودية الفراعنة، تلاها الخروج من مصر مع موسى ثم تكوين ممالك (القرن
العاشر قبل الميلاد). وهم بعد ذلك يعيشون عبودية ثانية ببابل (القرن السادس قبل
الميلاد). فلقد تطورت ثقافتهم وهم على اتصال وعلم بالثقافات المجاورة. فبغض النظر
عن نبذهم لتعددية الآلهة، وعدم تقديسهم للأجرام السماوية، نجد عندهم تصورات كثيرة
مشتركة مع البابليين: فالأرض (والتي أصبحت القدس مركزا لها) يطوقها البحر المحيط
وتعلوها قبلة السماء. ورغم ذلك، يمكننا التلميح إلى بعض القواسم الخاصة بعض الشيء
بعالم العبريين:
*فالأرض عندهم ليست مستديرة وإنما هي على شكل
مساحة مستطيلة، نشرت على أربعة أعمدة كبساط ممدود. هاته
النظرة هي التي تتيح إبداع صور شيقة بسفر أيوب (الكتاب المقدس):
38/12 أأنت في أيامك أمرت الصبح
وعرفت الفجر مكانه
ليأخذ بأطراف الأرض
فينفض الأشرار عنها؟
38/28 من شق قناة لوابل المطر
وطريقا لقصف الرعد؟
وبفزع نتخيل المجرمين يتساقطون في هوة سحيقة لا
قعر لها.
*وهناك أبواب أربعة بين السماء والأرض، مهمتها
الوصل بين العالم المرئي عالم الغيب.
*و"الاختلاف" الثالث يكمن في الأهمية
القصوى التي تتخذها الرياح كعماد لنظام الكون: نفخ الله من روحه بأنف آدم ليبعثه
إلى الحياة. وفي كتاب إينوك نقرأ ما مفاده:
"رأيت الرياح الأربعة تدعم الأرض والجلد:
رأيت السماء تنفتح بهبوبها كالشراع. بأم عيني لحظت الرياح التي تدير متن السماء
وتدفع بقرص الشمس نحو المغيب، وهي التي تسير النجوم".
2
– نظريات متعددة انتهت بإقفال القيود: اليونان.
إن الحضارة الإغريقية قد انتعشت كثيرا بالحضارات
البابلية والمصرية والآشورية.. إلا أن حضارة اليونان لم تكن، أول الأمر، مكبلة
بالعراقة التي اتصفت بها حضارات الشرق آنذاك. إننا نميل إلى الاعتقاد أن اليونان
طوروا حضارة شابة أخصبت ثمرة ذلك الميراث العلمي الذي أثقل كاهل الجيران بأزيد من ألفي سنة من التقاليد، قبل أن تنضج وتشيخ هي الأخرى
وتصبح –كما سنرى ذلك فيما بعد- مكبلة بالشيوخ الأولين.
فكل الأرصاد وجداولها، وكل المعرفة بأحوال
السماء المتراكمة لدى البابليين، وكل عمليات الجبر والحساب التي طوروها.. كل ذلك
كان بمثابة مادة خام أضاف إليها اليونان هندسة نظرية مكنتهم من ابتكار تصورات
والقيام بحسابات في غاية الإبداع.
من المعروف أن التصور الميثولوجي
للكون والخلق ميدان من أخصب الميادين عند الإغريق. إنك لتجد عندهم أسطورة عجيبة
لتفسير كل ظاهرة من الظواهر تقريبا.
فمن ال [كاووس ]، من الفوضى، تنبثق الأم [ كايا]،
الأرض، وبجانبها [إيروس ] ملك الحب. وهي تنجب، من بين
ما تنجب، [أورانوس ]، البحر الخصب. ومن ثم يظهر إلى الوجود أبناء عدة نخص بالذكر
أهولهم: [كرونوس ]، الزمن، الدهر. كان الدهر يأتي على
أبنائه الواحد تلو الآخر، وبناته الواحدة بعد الأخرى. كان يلتقمهم
وهم صبية في المهد، خشية أن ينازعوه ملكه وسيطرته. ولم ينج [ زوس
] من ذلك المصير المحتوم إلا برحمة من أمه التي مدت مكانه أحجارا قمطتها تقميطا. كان غذاء الأب بتلك
الأحجار صعب الهضم، مما أجبره على تقيء إخوة وأخوات [زوس
]. وهم يعينون أخاهم الأصغر على إنهاء سلطة أبيهم الدكتاتورية. بهذا تتخلص آلهة
الإغريق من قبضة الزمن وتصبح أبدية لا تعرف الموت. ويترأسها [زوس
] رب الرعد والبرق وتشاركه سلطته آلهة من الجنسين وكذا أنصاف آلهة من بني البشر..
وستنتج المخيلة الإغريقية الخصبة تصورات
"علمية" (مبنية على الطبيعة) متعددة لتفسير ظواهر الأرض والسماء. وتجدر
الإشارة هنا إلى ميل الإغريق لإيجاد سبب طبيعي واحد لتفسير الكل. فهذا طاليس في نهاية القرن السابع قبل الميلاد يقول بأن الأرض تطفو
فوق الماء وبأن الماء أساس كل شيء حي. لا شك أن سفره إلى مصر واطلاعه على صحرائها
وأهمية نيلها كانا مصدرا لتلك النظرة.
وهذا أنكسمندر (حوالي
550 ق م) يؤكد أن النار هي أساس كل شيء، لأن الحياة نابضة بالدفء ولأن الطبيعة
تعود إلى الخصب والنمو مع دفء الربيع المنعش. وهو يؤكد أن الأرض واقفة وسط الكون
كقطعة من عمود، على شكل أسطوانة سميكة (الرسم 6). وهي، حسب رأي أنكسمندر، ليست في حاجة إلى حامل أو سند لأنها متواجهة وسط الكون على مسافة متساوية من كل شيء. فهي بالتالي
لا تنجذب إلى أي جانب دون الآخر. أما النجوم والشمس والكواكب، فهي بمثابة ثقب في
السماء تمر عبرها أشعة النار الحيوية المطوقة للكون. لأول مرة نرى للأرض وجهين
ونقف على "حل" لمشكل ذهني عويص بقي معلقا: ما الذي أو من الذي يحمل
الأرض أو الماء الذي تطفو عليه؟ فالجاذبية المتوازنة هي أساس الاستقرار عند أنكسمندر.
وهذا فيثاغور
وتلامذته (أواسط القرن الخامس ق م) يؤكدون أن سر كل شيء عدد؛ ويبنون على أساس ذلك
عالما عشاريا متناغما كنغمات الموسيقى والألحان. من
المحتمل جدا أن فيثاغور
عاد
مسحورا بالمعارف الرياضية المصرية والبابلية بعد إقامته المطولة بالشرق الأوسط.
وتعود إليه أسبقية القول عند الإغريق بأن نجمة الصباح (الزهرة) هي نفس نجمة
المساء، بعدما كانت تعرف باسمين مختلفين عندهم. أصبح من الموثوق به حاليا أن الفلكيين البابليين كانوا على معرفة بذلك منذ أمد
طويل.
لاحظ
الفيثاغوريون أن النغمات الموسيقية التي نعتبرها
متناغمة تخضع لقوانين حسابية: فمهما كان طول الوتر، ومن أية مادة اتخذته، فإنك لا
تحصل على رنات متناغمة إلا إذا قسمت الوتر إلى نصفين أو ثلثين أو ثلاثة أرباع..
وراء الجمال والتناغم نكتشف إذن أعدادا ونسبا معلومة لا تتغير (نقول اليوم إنها
تخضع لقوانين رياضية). هذا الاكتشاف، وما يشابهه، هو الذي أدى بالفيثاغوريين
إلى الإيمان حقا بسحر العدد. وهكذا نراهم يقومون بمقابلة بين النغمات الموسيقية
ومسارات الأجرام السماوية، وسرعان دورانها. ولقد كان عندهم للعشرة أهمية قصوى:
1+2+3+4 = 10! لذلك يتصورون عالما مكونا من نار مركزية هي وقود الحياة، وتحوم
حولها الأجرام السماوية في تسع دوائر متناغمة. ونحن لا نرى النار المركزية لأن
أرضا أخرى غير مسكونة تطوف على وتيرة أرضنا وتقينا لهب تلك النيران (الرسم 7). كان
الفيثاغوريون يظنون أن المناطق المسكونة متواجدة كلها
بالجزء الشمالي من الأرض؛ لذا لا يمكننا رؤية الأرض الواقية. إن الابتسام قد يرتسم
على شفاهنا عندما نقرأ عن تلك النظرة السحرية للعالم. ولكنه لا يفوتنا أن نلاحظ أن
فهمهم بأن الطبيعة تخضع لقوانين رياضية، فهم صحيح كان أساسا لكل الاكتشافات
العلمية، مع تجريدها طبعا من كل صفة سحرية. بات من اللازم التنبيه إلى الثورة التي
تتضمنها منظومة فيلولاووس الفيثاغوري:
لأول مرة نرى الأرض سابحة في الفضاء على قدم من المساواة مع الأجرام الأخرى والتي
تفقد بذلك ألوهيتها. تتجمع تلكم الألوهية
في نار مركزية هي مبدأ الحياة.
ولما تبين للإغريق مع فيثاغور
–كما سبق ذكر ذلك- أن الزهرة هي نفس النجمة التي تطلع قبل الشمس أو تغرب بعدها
مساء، لاحظوا أنها تحوم حوله ولا تبتعد عن مسارها إلا قدرا معلوما، لتسبقها مرة ثم
تنتظرها حتى تسبقها، ثم تتبعها بعد ذلك في العشي؛ ولقد تأكدوا من تلك الظاهرة ومن
تغير ضيائية (قوة الإنارة) ذلك الكوكب: فالزهرة تظهر
لامعة جدا عندما تكون مدبرة ويتناقص ضوؤها عندما تكون
مسرعة من الغرب إلى الشرق. ولقد لاحظ هيرقليدس
(375–310ق.م). أن لعطارد نفس السلوك. لذا نراه يقدم التفسير التالي (الرسم 8):
الزهرة وعطارد يدوران حول الشمس. لذا لا نراهما يبتعدان عنها. وبما أن عطارد أكثر
ملازمة للنير الأعظم، بات من اللازم الإقرار بأن مداره أقرب إلى الشمس من مدار
الزهرة. والتجديد الآخر الذي قال به هيرقليدس، هو أن دوران النجوم والكواكب إنما هو ناتج عن دوران
الأرض حول نفسها.
بهذا يكون هيرقليدس
قد قدم حلا لمعضلتين من معضلات علم الفلك. ويعرف عنه أنه تجرأ على مخالفة أفلاطون
القائل بسكون الأرض. إلا أن هذا الأخير تركه على رأس الأكاديمية عندما سافر إلى
صقلية[8].
كل هذا يشير إلى الاحترام والتقدير السائد بين الأستاذين مع اختلافاتهما النظرية.
وربما اثرت تلك النظرية على أفلاطون. ففي محاورة طاميسيوس [لسقراط] يقول أفلاطون: إن الزهرة وعطارد يدأبان على
نفس الوتيرة (المعدلة) كالشمس. وتسكنهما قوات مضادة تجذبهما إليها بحيث إن الشمس
والزهرة من جهة، والشمس وعطارد من جهة ثانية، تسبق إحداهما الأخرى على التوالي[9].
في القرن الفاصل بين 450 و350 قبل الميلاد، لم
يبق للإغريق أي شك في كروية الأرض ولا في تماسك ما عليها بسبب الثقل. إن كتاب
السماء لأرسطو يقدم لنا أفضل شرح لتلك الظاهرة[10] يورد أرسطو ثلاثة أدلة
عملية على ذلك ودليلا نظريا إضافيا:
*عندما يقترب البحارة من الشواطئ (ومن أي جهة
أتوا)، فإن أول ما يرونه هو قمم الجبال. وكلما اقتربوا منها انكشف لهم أسفلها قبل
أن يبصروا الشاطئ الذي هو على مستوى البحر. فلو كانت الأرض والبحار منبسطة، لبان
لهم ذلك دفعة واحدة، جملة وتفصيلا.
*عندما نسافر من الجنوب إلى الشمال فإننا نلاحظ
أن النجمة القطبية ترتفع في السماء وتظهر لنا نجوم في الشمال تصبح أبدية الظهور،
في حين أن نجوما جنوبية تغيب عن أنظارنا غيابا نهائيا.
*يرسم ظل الأرض على القمر في كل الأحوال شكلا
مستدير الأطراف عند الخسوف. والكرة هي الشكل الوحيد الذي يلقي ظلا مستديرا من أي
جهة أبصرته.
ويضيف أرسطو دليلا آخر على وجوب كروية الأرض: إن
كل ما هو ثقيل فمكانه الطبيعي الذي يحن إليه (للحصول على الاستقرار والراحة) هو
وسط الأرض والعالم. فأنت إن رفعت بالقوة ترابا إلى الطابق الثاني من دارك أو دلوا
من الماء، ثم أطلقت صراحهما في الهواء، فإنهما سيحاولان
ما استطاعا العودة إلى مكانتهما (مكانهما) الطبيعية في وسط العالم، كما "يعود
الحصان إلى الإسطبل بعد العناء"، حسب تعبير أرسطو[11]. هاته
الظاهرة هي ما يسمى بالثقل. أما النار والهواء –حسب هاته
النظرية- فمقرهما الطبيعي هو ما فوق، وإليه يصعدان كلما استطاعا إلى ذلك سبيلا.
والنار عنده أخف من الهواء وهو أخف من الماء. أما أثقل العناصر فهو التراب.
فالعالم إذن طبقات: طبقة التراب الملتف حول وسط العالم والكون، تليها طبقة الماء، ثم
الهواء تعلوها طبقة النار التي ترتفع إلى حدود السماء الأولى والتي هي كرة الفلك
القمري. فابتداء من تلك القشرة ندخل عالما آخر مليئا بأجرام سماوية إلهية أثيرية.
وبما أن كل العناصر الثقيلة تزدحم حول وسط العالم، فإنه سينتج عن ذلك الازدحام
استقرار تلتف فيه تلك المواد على مسافات متساوية من المركز. وهذا ما من شأنه أن
ينتج شكل الكرة الأرضية. وللبرهنة على كروية المياه البحرية يورد أرسطو الدليل
التالي (الرسم 9).
"إن المياه تسيل دائما إلى المكان المنحدر.
والمكان المنحدر هو ما كان أقرب إلى المركز [مركز الأرض ]. فلنرسم إذن نصفا قطر AB وAC ولنوصل بينهما بوتر BC.
إن المسقط العمودي AD أصغر من الشعاع فهذا
المكان منحدر إذن. لذا نرى المياه تغمره حتى الامتلاء. علما أن AE
يساوي نصف القطر، فإن مستوى المياه سيرتفع إلى
حده.. وبهذا نرى أن سطح المياه BEC
كروي الشكل".
سنفارق أرسطو برهة لنتفحص أعمال هندسي فذ يمكن
ربطه بالمدرسة الفيثاغورية: أرسطرخس.
ازداد أرسطرخس سنة
310 ق.م في نفس السنة التي توفي فيها هيرقليدس (أي 12
سنة قبل وفاة القمر بالنسبة لقطر الأرض، قام أرسطرخس
بقياس المدة التي يجتاز فيها ظل الأرض أثناء الخسوف (الرسم10) فوجد أنه يعادل
الثلث تقريبا[12].
ولتقدير بعد القمر عن الأرض قام بقياس القطر الظاهري لهذا الجرم فوجد أنه يعادل
درجتين. ولرؤية كرة ما على زاوية مفتوحة بقدر درجتين يلزم إبعادها عن العين بمسافة
تعادل 30 مرة قياس قطرها (تقريبا). وبهذا يكون القمر، حسب أرسطرخس،
بعيدا عن الأرض بقدر عشرة أمثال قطرها. أما الطريقة التي استعملها لتقدير بعد
الشمس، فإنها تعتمد على قياس الزاوية التي رأى عليها هذا النير عند التربيع: أي
عندما يكون نصف القمر مضاء ونصفه الآخر مظلما (الرسم 11). فوجد بعد حساب أن الشمس
أبعد من القمر بـ18
إلى 20 مرة. وبما أن "قرص" الشمس
الظاهر بالسماء يعادل تقريبا حجم "قرص" القمر (درجتين) لزم عن ذلك أن
يكون قطر الشمس أعظم من قطر القمر بـ18 إلى 20 مرة. وأخيرا يتأكد أرسطرخس من خلال عملية حسابية أن حجم الشمس يفوق حجم أرضنا
بـ212 إلى 343 مرة! إن الحسابات الحالية المبنية على قياسات أدق تبين أن الشمس
أعظم من الأرض بقدر 10348770 مرة! على أية حال، يستنتج أرسطرخس
من حسابه هذا أنه لا يليق بالشمس أن تدور حول الأرض: من غير المعقول أن تطوف
الأجسام العظيمة حول الأجسام الضئيلة؛ أول تفسير فزيائي
للدوران. وهكذا يقدم أرسطرخس المهندس (كما جاء ذلك في
كتاب لأرخميدس[13])،
نموذجا قوامه أن الأرض والأجرام "المتحيرة" تدور حول الشمس. وبهذا يصبح
تحير الكواكب الظاهري حركة طبيعية لا تعتريها غرابة، في إطار موكب يحوم حول جرم
نير عظيم. ويقدم أرسطرخس في نفس الآن تفسيرا صحيحا
لظاهرة الفصول إذ يؤكد أن قطب الأرض مائل بالنسبة لمستوى مدارها حول الشمس. أما
الاعتراض القائل بأننا لا نلاحظ اقتراب الأرض من جزء بالسماء قبل الابتعاد عنه،
فإنه يفسره بالمسافة الشاسعة التي تفصلنا عن تلك النجوم. وهكذا يكتشف أرسطرخس عبر الحساب (العدد) سر المجموعة الشمسية. وتقدم
منظومته حلا لعدة مشاكل كانت مستعصية على الفهم. لم يأخذ التابعون بهذا
النموذج الهندسي "السهل"، بل اختاروا مكانه –كما سنرى- نموذجا عسيرا
مليئا بالزخرفة الفلكية والدوائرية. ولقد أضافوا إليه
عبر القرون زخارف أخرى ليوافق الظواهر السماوية المحيرة والمتحيرة، دون التقدم بها
إلى نتائج مرضية كل الرضى. وسيشك في تلك النتائج كل من سوسجين وابن الهيثم وابن رشد شكوكا وقف عليها كل علماء الفلك
العرب والمسلمين دون أن يتخلصوا من قبضتها.
ونعود الآن إلى "الشيخين" أرسطو
وأفلاطون لنرى كيف أحكما قفل القيود التي كبلت علماء الفلك والطبيعة (باستثناء أرسطرخس وأتباعه) إلى أن تجرأ كبرنيك
البولوني على فتح نوافذ التفكير المخالف، وكالليو على
تنحية "الفيزياء" الأرسطية وبعث فيزياء تجريبية ورياضية كان قد دشنها أرخميدس في القرن الثالث قبل الميلاد. وبادئ ذي بدء نقدم قصة
الخلق حسب أفلاطون "الحكيم" (428-348 ق.م):
"وصور
الخالق الكون في أحسن صورة طبيعية، منحه هيئة طيبة دائرية كروية؛ كل أطرافها
متزنة، متماثلة من كل الجوانب، لأنه قدر أن المتماثل خير من المنحرف. وألقى على
الكل سقفا مكتملا أملسا لا يشوبه عيب ولا خلل.. وخصه بالحركة التي تليق بتلك
الهيئة، بحركة هي أفضل الحركات السبع وأقربها إلى المثال: على نفسه دون أن يبرحه
مكانه، وأعفاه من الحركات الست الدنيئة (إلى الوراء، إلى الأمام، إلى أسفل، إلى
أعلى، إلى اليسار وإلى اليمين)[14]..
هاته الرؤى
لمتحدث باسم الخالق هي التي ستصبح حقيقة مكبلة لعلماء الفلك، إغريقيين كانوا أم
عربا، مسلمين أم مسيحيين، شرقيين أم من أوروبا. إن سحرها سيخدر أجيالا وأمما من سمرقند بأقاصي آسيا إلى باريس وأنكلترا
مرورا ببغداد وقرطبة (الإمبريالية الثقافية اليونانية!).
ويقلد أفلاطون –وهو رئيس الأكاديمية- الفلكيين
مهمة إيجاد الهيئات المبنية على الكرات والدوائر من أجل "إنقاذ الظواهر"
(حسب تعبيره) التي نراها متحيرة ومتغيرة. لكن الطبيعة لا تمتثل لأحلام البشر ولا
لرؤاهم المثالية.
ويأتي العلامة أرسطو بأسلحته المنطقية العتيدة
ليضفي على ذلك الحلم طابعا "معقولا" لا تشك فيه أغلبية أهل النظر، خاصة
وأنه يبهرها بموسوعية معرفته. بعدما كان الفيثاغوريون
قد وضعوا الأرض بمنزلة الأجرام السماوية، على قدم من المساواة، يقرر أرسطو جذبها
إلى وسط الكون ثم تغطيتها –من جديد- بطبقات السماوات. وهو يميز بينها وبينهن
تمييزا عنصريا (من العناصر): جعل منها جرما دنيئا يشوبه التغير (الكون حسب المفهوم
القديم) والفساد، وجعل منهن أثيرا إلاهيا أبديا لا
يتغير!
فالدنيا في "أسفل" الكون أبعد ما يكون
عن المحرك الأول المتواجد خارج أعلى الكرات والذي يطلق عليه العبريون اسم عليون. وهي في نفس الوقت مركز الكون تسود عليها –حسب أرسطو-
حركات مستقيمة[15]
بينما تعم العالم السماوي حركة دائرية منتظمة (لا تتغير سرعتها الزاوية) لا بداية
لها ولا نهاية، حركة أزلية. فالسماوات إذن لا تعرف فسادا ولا تغيرا. يؤكد أرسطو
ذلك رغم معرفته بالشهب والنيازك والمذنبات وتغير ضيائية
المريخ والزهرة وتحير الكواكب وتغير الحجم الظاهري لكل من الشمس والقمر كما سنبين
ذلك.
إن أول من قام بحمل عبء المهمة التي عبر عنها
أفلاطون ومحاولة إيجاد حلول جدية لها هو تلميذه أودوكس.
كان هذا الأخير رياضيا بارعا إذ يرجع إليه الفضل في تحرير أهم جزء من الكتاب
الخامس لأقليدس[16].
قدم أودوكس نموذجا للعالم مكونا من كرات شفافة متطابقة،
تكون الكواكب مركوزة (عالقة) في قشراتها.
ولفهم المشاكل التي يطرحها هذا النموذج، يمكننا أن نأخذ كرة عادية ونلصق عليها حبة
جلبان. كلما أدرنا الكرة حومت
الجلبانة حول مركز الكرة. وبإمكاننا أن ندير ونحرك
الكرة على أي محور شئنا: لن نحصل أبدا على اقتراب الجلبانة
من المركز. كلما حاولنا التوفيق بين المثال الأفلاطوني-الأرسطي وحقيقة الكرة، وجب
علينا التنكر لكثير من الظواهر. فإن كان من شأن هذا النموذج أن يتفق مع حركة
النجوم الثابتة، فإنه لا يتفق مع حركات الشمس والقمر ولا الكواكب. فهاته الأجرام تقترب منا حينا وتبتعد حينا آخر، تتوهج مدة
وتخفت مدة تليها.. وهي لا تقفز فجأة من التقدم إلى التقهقر، بل تتناقص سرعتها قبل
أن يتغير اتجاهها.
يحاول أودوكس إذن
إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الظواهر. يلجأ إلى تصور أفلاك كروية إضافية يكورها حول
الفلك الحامل لكل كوكب ويدير كل فلك بسرعات وباتجاهات مختلفة ليحصل في نهاية
المطاف على منظومة مكونة من 27 طبقة (الرسم 12).
الرسم 12: هيئة أودوكس
للقمر: تحمل الكرة الأولى كرة ثانية، تحمل بدورها كرة ثالثة مرصعة بكوكب القمر
(رسم أقيم على أساس وصف Pierre Duhem لهاته الهيئة[17]).
1 – تدور الكرة الأولى من الشرق إلى الغرب
دورة كاملة في اليوم على محور مستقيم بالنسبة لخط الاستواء.
|
2 – تدور الكرة الثانية من الشرق إلى الغرب دورة خلال 223 شهرا قمريا (مدة عودة الكسوفات) على محور مستقيم بالنسبة لفلك البروج. |
3 – تدور الكرة الثالثة من الغرب إلى الشرق على محور مائل بخمس درجات بالنسبة لفلك البروج. وتتم دورة كاملة في ظرف شهر عقدي (أقل من شهر قمري) |
وبما أن القمر يحوم حول الأرض، فإن هاته الهيئة الأودوكسية تنقذ
الظواهر إلى حد بعيد، لكنها لا تمكن من حل معضلة اقترابه ثم ابتعاده عنا ولا مشكلة
تغير سرعته كما لاحظ ذلك الإغريق والبابليون من قبلهم. ولقد استعمل أودوكس نفس النموذج تقريبا كهيئة للشمس. أما هيئة الكواكب
الأخرى، التي تسلك مسارات ملتوية، فإنها تتكون من أربع كرات: فالفلكان الأولان
يقومان بنفس المهمة التي وصفناها لشرح هيئة القمر. أما الكرة الثالثة فإنها تدور
على محور مستقيم بالنسبة لمحور الفلك الثالث وهو بهذا يتطابق مع فلك البروج. أما
الفلك الرابع المدور للكوكب، فإن محوره مائل بعض الشيء عن محور الفلك الثالث
الحامل له. هاته الهيئة تمكن أودوكس
من الحصول على حركة لولبية للكوكب حول خط البروج. من المفيد الإشارة إلى أن هذا
النموذج وصفي فحسب فهو لا يقدم أرقاما مضبوطة يمكن بواسطتها حساب منازل الكواكب في
السماء.
لقد تبين للفلكيين، ومن بينهم بوليمارك، صديق أودوكس أن تلك
الهيئات لا تنقذ كل الظواهر. فلقد قاس هذا الخليل تغير قطر الشمس والقمر[18].
ووقف كاليب، تلميذ أودوكس
وصديق أرسطو، على قياسات دقيقة لتسارعهما المتغير. لقد أعاد كاليب
أرصاد سابقيه وقدر مدد الفصول بشكل جيد جدا[19]:
الفصول |
مدة الفصول |
|
حسب كاليب |
الحسابات العصرية |
|
الربيع الصيف الخريف الشتاء |
94
يوما 92 يوما 89 يوما 90 يوما |
15،94
يوما 08،92 يوما 57،88 يوما 44،90 يوما |
ويحاول كاليب تصحيح
هيئات أودوكس فيضيف لكل كوكب فلكا ليحصل على 34 طبقة لا
نعلم كيف كانت مركبة.
عندئذ يدخل أرسطو ميدان علم الفلك ويحور هيئة كاليب إذ يضيف إليها قشرات يبلغ
عددها النهائي ستة وخمسين فلكا. لم تكن مهمة الأفلاك الإضافية مبنية على تخمين
هندسي لإنقاذ الظواهر التي عجزت عن إنقاذها هيئات زملائه بل كان مبعثها الأساسي هو
الرغبة في جعل المحرك الأول متحكما في حركات كل الكواكب السفلة من أقرب إلى أبعد
(على غرار الإمبراطور الإسكندر الذي كان أرسطو متوليا
تربيته).
كانت مجموعات أودوكس وكاليب غير خاضعة لحركات المجموعات الأعلى منها ولا مؤثرة في
الهيئات الأسفل منها. فكل كوكب له كراته الخاصة المستقلة عن أفلاك الكواكب
المجاورة. ينم هذا التركيب عن تصور فراغ بين المجموعات أو عن تمرين هندسي بحت لا
يقر بتواجد فعلي للكرات السماوية. وفضلا عن ذلك كانت تلك الهيئات تتفق مع رأي
أفلاطون القائل بأن قوات السماء (الكواكب) أخوات، لا تتحكم إحداهن في الأخرى.
على عكس ذلك، لا يقر أرسطو بأي فراغ بين
الأفلاك. فهو يتصورها متراصة جنبا إلى جنب (سطح يلمس قعرا). بات من اللازم إذن
إضافة أفلاك بين الكواكب المتتالية لتعويض الحركات التي تقوم بها الأفلاك العليا:
فكلما أدرنا فلكين يحمل أعلاهما الآخر على نفس المحور وبنفس السرعة ولكن في
اتجاهين متعاكسين، حصلنا على السكون بالنسبة للراصد من المركز. ولقد كانت كل
الأفلاك الأرسطية الإضافية مبنية على هذا القانون الهندسي. وقد سميت "الأفلاك
المعاكسة".
إن رغبة أرسطو في توحيد الكون، مع إنزال كل عنصر
منزلته في سلم صاعد من الأرض الخسيسة إلى سقف المحرك الأول، أرغمته على نهج سلوك
لا يتفق مع ما يقتضيه منطقه. سبق أن قلنا إن أرسطو يميز بين العالم العلوي المبتدئ
مع كرة القمر وبين العالم الدنيوي المكون من طبقات التراب ثم الماء ثم الهواء ثم
النار. إن الكواكب وأفلاكها مكونة عنده من عنصر خامس أبدي هو الأثير. فهو لا يأخذ
برأي سابقيه القائلين بأن الكواكب من نار محترقة. فهو يقول: "إن الحرارة
والأنوار التي تشعها الكواكب ناتجة عن احتكاك عنيف للهواء وعن تنقيل
تلك الأجرام. وفعلا نرى الحركة تؤدي إلى احتراق الخشب وتوهج الأحجار والحديد. فهذا
ما من شأنه أن يؤدي إلى احتراق عنصر هو أقرب ما يكون إلى النار. والهواء قريب
بالفعل من عنصر النار"[20].
إن عدم الإقرار بالفراغ أو النار بالسماء يرغم إذن أرسطو على إقحام قشرات الهواء بين السماوات الأثيرية وعلى الاعتراف بمشكل
الاحتكاك المحرق.
وهكذا تختلط السماء النقية بالعناصر الدنيئة
وتصبح غاصة بالأرواح المحركة في الاتجاهات المختلفة تحت إمرة الكرة السامية،
دون إنقاذ الظواهر المعروفة جدا من طرف أرسطو وزملائه وأساتذته. قد يدهشنا هذا
التعنت في الخطإ إذ نعلم أن مهندسين من نفس المدرسة
كانوا قد قدموا حلولا أبسط مبنية على دوران الأرض حول نفسها ودوران الأجرام
السماوية بحرية تامة وسط الفضاء.
نلاحظ أن الإغريق يلجون مع أفلاطون وأرسطو عصر
حيل: جزء من العقل يعي كل التناقضات، وجزء آخر يحاول التحايل عليها لإقامة تصور
مثالي للكون مهما كان الثمن. وسيكون لهذا الثنائي أعظم الأثر على فكر القرون
الوسطى. فسوسجين من القرن السابق للميلاد يؤكد أن
"الآخذين بمنظومة الأفلاك المتراكزة لم ينقذوا
الظواهر التي كانوا يقرون بصحتها بأنفسهم –بصرف النظر طبعا عن تلك التي اكتشفت
بعدهم-... وبعض تلك الظواهر بين للعين "المجردة". وبالفعل نرى الزهرة
والمريخ أعظم عندما يتوسطان مسيرهما المدبر إلى حد أن الزهرة تلقي ظلا بجنب
الأجسام الأرضية في الليالي الحالكة، الخالية من القمر. وفيما يخص القمر، يتبين
للناظرين أنه لا يبقى دائما على نفس البعد منا إذ لا يظهر على نفس العظمة إذا ما
قارناه بنفس الأشياء الثابتة. وبالفعل يتفق كل الراصدين بالآليات على نفس الحقيقة،
لأنه يلزم عرض قرص يبلغ قطره أحد عشر أصبعا في بعض الأحيان بينما يلزم عرض قرص
يبلغ قطره إثنى عشر أصبعا في أحيان أخرى، على نفس البعد
من عين المبصر، لتغطية القمر بأكمله. وهناك دليل آخر على حقيقة ما نقول: إن القمر
يكشف الشمس بأكملها في بعض الأحيان بينما تكون الكسوفات
حلقية في أحيان أخرى.. إلا أن هاته الظواهر كانت عندهم
معروفة [أي عند الآخذين بهيئة أودوكس ] ولم يحاولوا
إنقاذها.. إنه من غير المسموح به القول إنهم كانوا
جاهلين بتغير أبعاد الكواكب"[21].
نود التأكيد هنا على ما قاله سوسجين وإضافة ("حكم
مسبق"): إن ابن رشد والبطروجي خاصة كانا على علم
بهذا وأكثر منه بكثير.
إن الحلول المبنية على الكرات المتراصة انطلاقا
من مركز الأرض لم تلق رواجا عند الفلكيين بعد أرسطو لأن مهندسي الإغريق فهموا أن
ترصيع الكواكب بكرات متطابقة متراكزة يستحيل معه
إبعادها وتقريبها من المركز وأن مشكل الاحتكاك لتلك القوات الهائلة مخالف لقوانين
الطبيعة. ماتت هيئات أرسطو الفلكية في مهدها الإغريقي مباشرة بعد ميلادها. ولم
يحاول أحد إعادة إحيائها غير البطروجي من المدرسة
الأندلسية الموحدية كما سنرى ذلك فيما بعد. فابتداء من أبولونيوس(250 ق.م) وإبرخس خاصة
(150 ق.م) تعم الحلول الهندسية المبنية على أفلاك مراكزها لا توافق مركز الأرض
وتتحرك الكواكب عليها في كل الأبعاد الثلاثة (شمال-جنوب؛ غرب-شرق؛ ابتعاد-اقتراب
من الراصد) بعدما كانت مرغمة على الاكتفاء ببعدين. فهذان الفلكيان يقدمان حلين
مبنيين على ما يسمى الدائرة الخارجة المركز وهيئة فلك التدوير (الرسم 13).
إذا أخرجنا الأرض عن مركز الدائرة التي تدور عليها
الشمس، فسيظهر هذا النير مسرعا عندما يكون قريبا من الأرض وسنحسبه متباطئا عندما
يقترب من أوجه. أما فلك التدوير فهو نفس الحل الذي قدمه هيرقليدس
في إطار نظريته القائلة بدوران عطارد والزهرة حول الشمس، كما سبقت الإشارة إلى
ذلك. إلا أن فلك التدوير عند إبرخس وكل العلماء الذين
سيتبنون هذا الحل من بعده (بطليموس وكل العرب والمسلمين وأوروبيي القرون الوسطى)،
محمول على فلك خيالي لا تعبره الشمس وسط موكبها.
وهذا الحل مرن جدا من الناحية الهندسية، كما
يبين ذلك Otto Neugebauer في كتابه المذكور سابقا[22].
فكما قدمنا ذلك في سياق الحديث عن هيرقليدس، تمكن هاته الهيئة في آن واحد من حل مشكلة التقدم –التقهقر-
الالتواء وكذا مشكل الابتعاد- الاقتراب. ننبه القارئ هنا إلى أنه بإمكان هيئة فلك
التدوير أن تعطي نفس النتيجة التي نحصل عليها باستعمال هيئة الفلك الخارج المركز
(وليس في كل الأحوال).
فالأرض لم تعد إذن مركزا وحيدا للتحرك الفعلي
للكواكب، رغم الإيهام الذي قد نكون ضحيته عند تفحص هيئة فلك التدوير. إنه لمن
الغريب حقا أن نصادف هنا موقفا "تخلص" عمليا من مقولة مركزية الأرض ومن
الكرات الوحيدة المركز ويأخذ بحلقات حاملة يفرغها من الشمس. لم يكن هنالك أي مانع
إيديولوجي أو عقائدي لتحويم كواكب سماوية مثل الزهرة
حول جرم "إلهي" مثل الشمس (أبولون)! وبما أن أبولونيوس (نترجم اسمه عنوة بـ"عبد
شمس") وبطليموس عاشا بالإسكندرية، يمكننا إضافة أهمية راع إله الشمس عند
قدماء المصريين[23].
فأغلب الظن أن أفلاطون وأرسطو كانا قد كسبا
مكانة أشد رقابة على الأذهان من الآلهة خاصة وأن موقفهما يغني عن الخوض في مشكل
الحركة الأرضية الأقرب لمسا مما قد يقال عن السماوات وحركاتها المثالية. ولما لم
تكف الهيئتان السابقتا الذكر على تقديم كل الحلول
الرياضية، نرى بطليموس يضيف إليها هيئة ما يسمى معدل المسير (الرسم 14). وهاته هيئة رياضية بحتة: فبطليموس يدير الفلك الحامل للكوكب
بسرعة منتظمة ليس حول مركزه (b)
وإنما حول (c). لذا يصف
مؤرخ
علم الفلك Jean-Pierre Verdet هاته الهيئة بأنها احتيال عبقري une tricherie géniale[24].
فبعدما عرف الإغريق نقاشا خصبا حول هيئة الكون
من القرن الخامس إلى القرن الثالث قبل الميلاد، نرى علم الفلك عندهم يدخل عهد
تنظير هندسي بعد أبولونيوس، إبرخس.
ويتوج بطليموس (حوالي 150 بعد الميلاد) ذلك بأعماله الهندسية والفلكية الكبرى (كتاب
المجسطي خاصة). وسيقدم السريانيون ثم العرب والمسلمون
من بعدهم على ترجمتها ابتداء من خلافة المامون
(813-833م) وتحليلها ثم نقدها والعمل بها بعد تصحيح وسائطها ومعطياتها بإضافة
أفلاك تدويرية متعددة. وهذا النجاح راجع إلى أن هيئات
بطليموس هي الوحيدة التي تجرأ مبدعها على تدعيمها بأرقام مضبوطة يمكن بالتالي
تقييم موافقتها للأرصاد وربما دحضها والإتيان بأحسن منها. بهذا تكون أعمال بطليموس
أول نظرية علمية (بكل معنى الكلمة) في ميدان الفلك.
3
– شكوك دون انعتاق: العرب والمسلمون.
للتذكير بنظرة القرآن إلى الأرض والسماء، نصدر
فيما يلي بعض السور وكذا شروحا مطولة لفخر الدين الرازي نستخلص منها أنه قدم
منظومة جديدة لفلك النجوم الثابتة.
سورة الرعد الآيتان 2 و3: الله الذي رفع السموات
بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش. وسخر الشمس
والقمر. كل يجري لأجل مسمى. يدبر الأمر. يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون(2)
وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا.- سورة إبراهيم الآيتان 34 و35: الله
الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به
من الثمرات رزقا لكم. وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره. وسخر لكم الأنهار(34)
وسخر لكم الشمس والقمر دائبين. وسخر لكم الليل والنهار(35).-سورة النحل الآيتان 15
و16: وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون(15) وعلامات.
وبالنجم هم يهتدون(16).-سورة الأنبياء آيات 16 ثم 31 إلى 32: وما خلقنا السماء
والأرض وما بينهما لاعبين(16).-وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم. وجعلنا فيها
فجاجا سبلا لعلهم يهتدون(31) وجعلنا السماء سقفا محفوظا. وهم عن آياتنا معرضون(32)
وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر. كل في فلك يسبحون(33).-سورة المومنون آية 17: ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا
عن الخلق غافلين.-سورة الفرقان آية 53: مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج
وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا. -سورة لقمان آية 9: خلق السموات بغير عمد ترونها
وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة. -سورة يس آيات 36-40: وآية
لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون[36] والشمس تجري لمستقر لها. ذلك تقدير
العزيز العليم[37] والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون
القديم[38] لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار. وكل في فلك
يسبحون[39] وآية لهم أنا حملنا ذرياتهم في الفلك
المشحون[40]. -سورة الزمر آية 6: خلق السماوات والأرض بالحق. يكور الليل على
النهار ويكور النهار على الليل. وسخر الشمس والقمر. كل يجري لأجل مسمى..[6]. -سورة
فصلت آيات 8-11: قل أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في
يومين وتجعلون له أندادا. ذلك رب العالمين[8] وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فها
وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين[9] ثم استوى
إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إيتيا طوعا أو
كرها. قالتا أتينا طائعين[10] فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها.
وزينا السماء الدنيا بمصابيح. وحفظا. -سورة ق آيات 6 و38: أفلم ينظروا إلى السماء
فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج[6].. ولقد
خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب[38]. -سورة الرحمان
الآيتان 17 و18: مرج البحرين يلتقيان[7] بينهما برزخ لا يبغيان[18]. -سورة الملك
آيات 1-5: بسم الله الرحمن الرحيم. تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء
قدير[1].. الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت. فارجع البصر
هل ترى من فطور[3] ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير[4] ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين...[5]. -سورة التكوير آيات 1-3: بسم الله
الرحمن الرحيم. إذا الشمس كورت[1] وإذا النجوم انكدرت[2]
وإذا الجبال سيرت.. وإذا السماء كشطت..-سورة الانفطار آية 1: بسم الله الرحمن
الرحيم. إذا السماء انفطرت[1].
إن فهم سور القرآن لم يكن ليطرح أي مشكل خاص على
عرب الجزيرة قبل اتصالهم بالعلوم الإغريقية والهندية عموما، وعلم الهيئة والمنطق
خصوصا. لم يقع ذلك إلا في أواخر القرن الثامن للميلاد تحت حكم العباسيين.
فالمفسرون الأولون لم يكن ليتطرقوا إذن إلى مسائل كتلك التي تطرق إليها فخر الدين
الرازي (مات سنة 1209م) في "تفسيره الكبير أو مفاتيح الغيب"[25]
بعدما أصبح علم الفلك مادة أساسية بالمدارس الإسلامية.
3-أ-نظرية
الرازي في النجوم الثابتة:
إننا نقتصر هنا على ثلاثة مسائل قدم الرازي لها
حلولا يمكن اعتبارها اجتهادا شخصيا أصيلا: مسألة الرواسي، مسألة الرجوم وأخيرا مسألة السماء الدنيا.
أ – مسألة الرواسي:
في سياق تطرقه إلى شرح الآية الخامسة عشر من
سورة النحل يقول الرازي:
"والميد الحركة
والاضطراب يمينا وشمالا، يقال ماد يميد ميدا. المشهور عن الجمهور في تفسير هذه
الآية أن قالوا: إن السفينة إذا ألقيت على وجه الماء، فإنها تميد من جانب إلى
جانب، وتضطرب، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة في تلك السفينة استقرت على وجه الماء
فاستوت قالوا: لما خلق الله تعالى الأرض على وجه الماء اضطربت ومادت، فخلق الله
تعالى عليها هذه الجبال الثقال فاستقرت بسبب ثقل هذه الجبال..".
وهذا التفسير يشكل على الرازي لأنه، كما يورد
ذلك في تفسيره، بات واضحا للعموم أن تراب الأرض أثقل من الماء ويغوص
تحته كلما ألقي على وجهه. وبعد إيراد إشكالات أخرى ينتهي الرازي إلى حله:
"...والذي عندي في هذا الموضع المشكل أن
يقال: ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كرة، وثبت أن هذه الجبل على سطح الكرة جارية
مجرى خشونات تحصل على وجه هذه الكرة. إذا ثبت هذا
فنقول: لو فرضنا أن هذه الخشونات ما كانت حاصلة بل كانت
[ الأرض ] كرة حقيقية خالية من الخشونات والتضريسات، لسارت بحيث تتحرك بالاستدارة بأدنى سبب، لأن
الجرم البسيط المستدير إما أن يجب كونه متحركا بالاستدارة على نفسه وإن لم يجب ذلك
عقلا إلا أنه بأدنى سبب يتحرك على هذا الوجه. أما لما حصل على ظاهر سطح كرة الأرض
هذه الجبال وكانت كالخشونات الواقعة على وجه الكرة فكل
واحد من هذه الجبال إنما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم. وتوجه ذلك الجبل نحو مركز العالم
بثقله العظيم وقوته الشديدة يكون جاريا مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من
الاستدارة، فكان تخليق هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتاد المغروزة في الكرة
المانعة لها عن الحركة المستديرة، فكانت مانعة للأرض من الميد
والميل والاضطراب بمعنى أنها منعت الأرض من الحركة المستديرة، فهذا ما وصل إليه
بحثي في هذا الباب، والله أعلم بمراده"[26].
من هذت نخلص إلى القول إن كروية الأرض وفيزياء
أرسطو كانتا قد هضمتا كل الهضم من طرف علماء العرب والمسلمين من أمثال فخر الدين
الرازي. ونلاحظ كذلك أن الأرض كادت تدور.
ب – مسألة الرجوم:
إن عرض الرازي لكل المشاكل والتطرق إليها
الواحدة تلو الأخرى يرغمنا على التقدير والاحترام لاجتهاداته (بكل معاني الكلمة).
فالمباحث التي يوردها فيموضوع الرجم عديدة لا تخطر على
بالنا اليوم ونحن لا نذكر هنا إلا واحدا منها:
"...أما قوله تعالى (وجعلناها رجوما للشياطين) فاعلم أن الرجوم
جمع رجم، وهو مصدر سمي به ما يرجم به،
وذكروا في معرض هذه الآية وجهين: الوجه الأول: أن الشياطين إذا أرادوا استراق
السمع رجموا بها، فإن قيل: جعل الكواكب زينة للسماء يقتضي بقاءها واستمرارها،
وجعلها رجوما للشياطين يقتضي زوالها، والجمع بينهما
متناقض، قلنا: ليس معنى رجم الشياطين هو أنهم يرمون بأجرام الكواكب، بل يجوز أن
ينفصل من الكواكب شعل ترمى الشياطين بها، وتلك الشعل هي الشهب، وما ذاك إلا قبس
يؤخذ من نار والنار باقية".
نستنتج من هذا أن الرازي يقر، كأرسطو، بعدم تغير
كواكب السماء. ونقف على منطقه المتين الذي لا يحاول الجمع بين نقيضين. هذا المنطق
الذي سنراه قيد الإنتاج في المسألة الثالثة والتي قدم الرازي في إطارها نظاما
جديدا لطبقات السماوات. ولنترك له الكلمة.
ج – مسألة السماء الدنيا:
"...السماء الدنيا: السماء القربى، وذلك
لأنها أقرب السموات إلى الناس ومعناها السماء الدنيا من الناس، والمصابيح السرج،
سميت بها الكواكب..".
"...إعلم أن
ظاهر هاته الآية يدل على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا، وذلك لأن السموات إذا كانت شفافة
فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا أو كانت في سموات أخرى فوقها، فهي ولا بد أن
تظهر في السماء الدنيا وتلوح منها. فعلى التقديرين تكون السماء الدنيا مزينة بهذه
المصابيح". غير أن الرازي كان على معرفة بظواهر الكسوف المتعددة. كان يعلم أن
القمر يستر ضوء النجوم التي تكون في ممره (الرسم 15). فلا يعقل إذن أن تكون تلك
النجوم أدنى من فلك القمر. وهاته الظاهرة معروفة منذ
القديم. فأرسطو مثلا يورد في كتابه "في السماء" السابق الذكر، رصدا
للقمر قام به حيث رأى كيف يكسف جزؤه المظلم المريخ
ويقول "إن المراقبين لأحوال السماء قد لاحظوا كسوف الكواكب الأخرى، وهذا ما
تؤكده الأرصاد الطويلة الأمد والموثوق بها عند البابليين والمصريين"[27].
ورجعا بنا إلى الرازي الذي يتابع تحليله على شكل محاورة لعلماء الهيئة وينتهي إلى
حله لهذه المسألة:
"واعلم أن أصحاب الهيئة اتفقوا على أن هذه
الثوابت مركوزة في الفلك الثامن الذي هو فوق أكر
السيارات [ الكواكب المتحيرة]، واحتجوا عليه بأن بعض هذه الثوابت في الفلك الثامن،
فيجب أن تكون كلها هناك. وإنما قلنا: إن بعضها في الفلك الثامن، وذلك لأن الثوابت
التي تكون قريبة من المنطقة [منطقة البروج ] تنكسف بهذه
السيارات، فوجب أن تكون كلها هناك، لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل
مائة سنة درجة واحدة، فلا بد وأن تكون مركوزة في كرة
واحدة. واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف: فإنه لا يلزم من كون بعض الثوابت فوق
السيارات كون كلها هناك، لأنه لا يبعد وجود كرتين مختلفيتين
بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة. وعلى هذا التقدير لا يمتنع أن
تكون هذه المصابيح مركوزة في السماء الدنيا. فثبت أن
مذهب الفلاسفة في هذا الباب ضعيف".
إن الرازي يورد كما نرى حلا أصيلا يوافق به عقيدته وما يعاينه من أحوال السماء. هذا النص الواضح
يمكننا من إضافة منظومة الرازي إلى منظومات العالم كما تصوره القدماء(الرسم 16).
بعد
هذا نود إلقاء نظرة محلقة على تطور علم الفلك عند العرب والمسلمين والقيام بوقفتين
مع بن الهيثم والبطروجي.
لقد
استوعب العرب علم الفلك الموروث عن الإغريق في ظرف وجيز كما بين ذلك ريجيس مورلون[28].
وهم لم يكتفوا بترجمة كتب بطليموس وإنما أضافوا إلى مكتبتهم أعمال علماء مثل أرخميدس وأرسطرخس وغيرهما. كانت
تلك الكتب مساعدة على فهم العلوم الفلكية. ولا حاجة إلى التذكير بعدد علماء الفلك
الذين أنتجتهم الثقافة العربية والإسلامية. فمباشرة بعد
تلقي ذلك التراث قام علماء بغداد ودمشق بالتحقق من نتائجه بواسطة الأرصاد
والقياسات. وسرعان ما تبين لهم وجوب تصحيحه وإعادة حساب الوسائط التي استعملها
بطليموس.
ففيما بين سنة 770م حيث يستقبل الخليفة المنصور
وفدا هنديا يتضمن فلكيا يحكى أنه كان أول من قام الفزاري
بنقل معارفه إلى العربية. وعصر البيروني(884-1048)، نرى علم الفلك قد قطع أشواطا
مهمة. ويقوم هذا العالم الموسوعي بجمع نتائج ذلك التقدم في كتبه العديدة وخاصة
منها "القانون المسعودي". لقد قام علماء الفلك العرب والمستعربون في تلك
المدة بترييض الاستدلالات الهندسية وعمموا استعمال
الحساب المثلثي في ذلك الميدان. ومن المفيد أن نشير إلى
الجمع بين النظرية والرصد عندهم. بهذا أمكنهم، على سبيل المثال، تصحيح أوج الشمس،
وثابتة مبادرة الاعتدالين وكذا زاوية الرؤية لكل من
الشمس والقمر..[29].
وهاته النتائج
المختلفة والمخالفة لنتائج بطليموس، تسمح بإرساء نقد –حاد في بعض الأحيان-
لنظرياته. غير أن ذلك النقد لم يؤد إلى نقض تلك النظريات ولا التحرر من الأسس التي
كانت مرتكزة عليها. وكأنما قد ألقى بطليموس حبال شركه على علماء ذلك العصر. وهم لم
يتخلصوا منه بل –على عكس ذلك- أصلحوا وعقدوا عقده المتلاشية. إن كلامنا هذا ليس من
قبيل غطرسة تحمل زمانهم ما لا يحتمله وإنما نعتقد أنه بات من واجبنا أن نقرر ذلك
–رغبة في الاعتبار- عندما نقرأ أنهم كانوا على علم بحلول بديلة لكنهم لم يتفحصوها
بالرزانة الكافية. فلقد عالج البيروني مثلا "موقف السماوات إلى الأرض، فخلص
إلى بحث افتراض دوران الأرض حول نفسها لتفسير الحركة اليومية. وقال إن أرياباتا وتلامذته دافعوا، في الهند، عن هذه الفرضية، ولكنها
متعارضة مع إحدى حجج بطليموس التي تقول بأن دوران الأرض حول نفسها يمنع الأجسام في
سقوطها الحر من الوقوع عموديا على الأرض. أكد البيروني أن عالما كبيرا (لم يذكر
اسمه) ادعى أن حجة بطليموس لا أساس لها من الصحة، لأن كل جسم أرضي يتحرك بحركة
الدوران، على طول العمود الذي هو مساره خلال سقوطه. عرض البيروني هاته الحجة التي وجدها غير متماسكة على ما يظهر..."[30].
يمكننا هذا الموقف من لمس أحد أسباب فشل علماء
القرون الوسطى: لم يهتموا بإقامة التجارب. فعبارة "على ما يظهر" هي أساس
فيزياء أرسطو التي تختلف عن فيزياء أرخميدس المؤسسة على
صنع الآليات وتجربتها لتبيان أخطاء المعلم الأول كما سنبين ذلك في سياق الحديث عن
نظرية الحركة بالذات.
فالبيروني وعلماء العرب والمسلمين وأوروبيي
القرون الوسطى لم يكن ينقصهم العلم بما وصل إلهي سابقوهم من النظريات المتعددة ولا
الأدوات الرياضية والهندسية بل –وهذا ما يؤسف له حقا- نراهم مع كل ذلك الزاد
يأخذون بما تبين لهم أنه مشكوك فيه، دون البحث الجدي في الحلول المخالفة. وكأنما
غابت عن مجالاتهم تلكم الحرية الخلاقة المميزة لقدماء الإغريق!
3-ب-هيئة ابن الهيثم:
إن الشكوك في صحة هيئات بطليموس كانت عملة رائجة
عند علماء الفلك العرب والمستعمرين. ولقد ألف ابن الهيثم كتابا يحمل عنوانا واضح
الأغراض: الشكوك على بطليموس. ويحوي هذا الكتاب على نقد حاد واعتراضات عديدة. وأهم
اتهاماته أنه لا يمكن إيجاد أجسام تتحرك بمثل حركة الدوائر التي تخيلها بطليموس
وأن هذا الأخير لجأ إلى هيئات نظرية لا مقابل لها في عالم الملموسات
"لأنه لم يقدر على غيرها"[31].
وهكذا ينتج علماء الفلك الشرقيون بعد البيروني
هيئات "منقذة" لهيئات بطليموس. فلقد قام ابن الهيثم بتركيب كرات مقتبسة
من كتاب الاقتصاص لبطليموس مع تعديلها. ولقد وصف ذلك التركيب في "كتاب في
هيئة العالم" لم نحصل على أصله العربي ولجأنا إلى الوصف الذي ذكره Duhem في موسوعته المذكورة
بلائحة المراجع.
كان بطليموس (مثل أودوكس)
قد خصص لكل كوكب كرة تديره من الشرق إلى الغرب في ظرف يوم. على خلاف ذلك، يكلف ابن
الهيثم الكرة الأسمى والتي مركزها الأرض بحمل الكون كله وتدويره دورته اليومية.
(الهاجس الأرسطي لإخضاع الكل للمحرك الأول). والكرة الأسمى عند ابن الهيثم فارغة
من الكواكب (الرسم 17). وتلي تلك الكرة "المحركة الأولى" كرة النجوم
الثابتة.
وهاته الكرة تدور
ببطء إلى خلاف اتجاه الكرة الأولى. هذا ما من شأنه أن ينتج عنه ظاهرة مبادرة الاعتدالين. أما أفلاك الأجرام السيارة فإنها مكونة من عدة كويرات محمولة في قشرة الكرة السميكة والتي مركزها الأرض.
ومهمة الكويرات هو تمكين الكواكب من الاقتراب والابتعاد
والالتواء –إذا اقتضى الحال- بالنسبة للراصد الأرضي. ونموذجه الوصفي هذا غير معزز
بأعداد يمكن بواسطتها التيقن من موافقته للظواهر. والكون كما يتصوره ابن الهيثم لا
يحتوي على أي فراغ. وهو –بخلاف أرسطو- يغض النظر عن مشكل الاحتكاك، هو الضليع في
علم النظر والبصريات. وهيئة بن الهيثم تشبه إلى حد بعيد تلك الهيئة التي اعتمدها
إخوان الصفا والتي تلائم نظرية الفيض عندهم. هاته النظرية نفسها هي التي تستلهم البطروجي
بالأندلس، مع "تغييره" لاتجاه الحركات الطويلة الأمد.
3-ج-هيئة البطروجي
وتعديه لحدود أرسطو:
"...كان ابن رشد يشتكي من أن علم الفلك في
زمانه لم يكن علما برهانيا لأن ما فيه، إذا كان يتفق مع
الحسابات الفلكية، فإنه لا يتفق مع صورة العالم السماوي في كليته وطبيعته".
ومعنى ذلك أنه لا يتفق مع فيزياء أرسطو. ويهفوابن رشد،
كابن طفيل قبله، إلى تفحص الهيئات الوحيدة المركز (الأرض) لأنه ربما لم يكن عالما
بإفلاسها عند الإغريق وعند كل عارف، كابن رشد، باقتراب وابتعاد الشمس والقمر عن
المركز الأرسطي. يعلم ابن رشد أن الهيئات البطلمية تقدم نتائج لا بأس بها وأنها
تخلت عمليا عن مركزية الأرض لكنه لا يستنتج من ذلك أنه لو أخذنا مركزا غير الأرض
وغير ذلك الذي أخذ به البطلميون، لوجدنا ربما حلا
مكتملا لمعضلةعلم الفلك. وكأنما يدور علماء العرب في
قفص ضيق ذي اختيارات محدودة (إما بطليموس وإما أرسطو لا غير!). من الممكن أن تكون
لذعات قضيب المعلم قد رسخت بسلوكنا ذلك التقليد الذي يخشى تعدي حدود الأولين على
العموم والمعلم الأول (الحكيم كما يسميه البطروجي) على
الخصوص. هاته هي إحدى القسمات التي لم نعثر عليها بنفس
القدر عند الإغريق. فعدم احترام طفولتنا والعنف السائد في العلاقة بين "لمعلم
والمتعلم"، "لمتعلمة ولمعلمة" قد يكونا أساس عبوديتنا وخنوعنا وعدم
إنتاجنا لسلعة نادرة بأوطاننا تدعى الحرية. قد يكون هذا أساس توفرنا على المعرفة
مع ندرة الفكر الخلاق، المخالف للرواد، السالك لسبل لم يسلكها السابقون.
فخلافا لما يقوله الدكتور محمد عابد الجابري،
ربما محاولة منه لتبرير عبودية ابن رشد لأرسطو، فإن الفيزياء التجريبية لم تبدأ مع
كالليو بل مع أرخميدس[32]،
مباشرة بعد أرسطو، أي قبل أن يدخل العرب معمعة العلم وتحت تصرفهم تلك التركة. إن
التخوف من الوقوع في زلة التجاوز يجب ألا يؤدي بنا إلى التسامح والتغاضي عن زلل
السابقين وإن كانوا لنا أجدادا محترمين. ويكفي هنا التذكير بإحدى مقولات أرخميدس الشهيرة: "أعطوني نقطة اعتماد أرفع لكم
العالم!". إننا قد لا نفهم معنى هاته القولة حق فهمها إذا لم نقدمها في إطارها مع التذكير بالمناخ
الذي كان يعمل فيه أرخميدس. إن فيزياء أرسطو كانت زاحفة
(كعساكر الإسكندر لتهيمن على العقول. ومن بين مقولات
تلك الفيزياء حول القوة والحركة: إن لأي قوة حد أدنى من الفاعلية. ويعطي أرسطو
كعادته مثالا ليعتبر أولوا الأبصار. لجر سفينة نحو الشاطئ أو رصيف المرسى يجب أن
تتوفر على عدد معلوم من العمال. وإذا ما نقصت من عدد الجاذبين، وصلت إلى حد أدنى
لا يبقى معه لقوة الجذب أية فاعلية. بديهي!
يحكى أن أرخميدس دعا
ملك سيراكوز وحاشيته إلى المرسى لتتبع تجربة عجيبة:
كانت إحدى سفن الملك محملة بالسلع وعليها طاقمها. ولقد طلب أرخميدس
من جماعة من عمال المرسى أن يجروا السفينة. فلما جذبوها بعض الشيء، طلب منهم
الابتعاد عن حبال الجر. ولقد وصلها بآلة من صنعه، مكونة من مجموعة بكرات. وأخيرا
يقدم بمفرده على الجر ويبين للجمع أن مقولة أرسطو ليست على صواب. ويحكى أن هاته التجربة لإعادة النظر في فيزياء البداهة إنما جاءت بعد
نقاش دار بين هذا العالم وهيرون الثاني ملك سيراكوز في موضوع الميكانيك
العقلانية (rationnelle) التي كان قد أسسها والقائلة بأنه يمكن تحريك أي وزن عظيم بواسطة
أية قوة مهما كانت ضئيلة. ولقد قال قولته المشهورة خلال تلك المقابلة[33].
إننا كلنا ندين لأرخميدس بتخفيفه لعنائنا بواسطة
البكرات واللوالب الحلزونية لرفع الأثقال وحفر الآبار..
من المهم جدا أن نفهم أن أرخميدس
كان رياضيا مخترعا وصانعا بيديه لعدة آليات بجانب اهتمامه النظري. وكذلك الأمر
بالنسبة لكالليو، كان صانعا لآليات يبيعها من أجل الكسب
بجانب تكلفه بالتدريس الذي لم يكن يذر عليه دخلا كافيا. فليس غريبا إذن أن يحيي كالليو تجارب أرخميدس. إن الجمع
بين الصناعة والتدريس هو أساس البحث العلمي الحديث. فالذكاء ذكاآن:
في الذهن وفي اليدين، وما أحوج تراثنا إلى الثاني. وربما يكون النحت المتطور إلى
حد البراعة عند الإغريق هو المنشط لخلايا هذا الذكاء بينما ظل ذلك النشاط وبعده
الجمالي مكبوتا بأوطاننا. وكما سنرى فيما بعد، تتزامن الثورة الأوروبية مع نهضة في
ميادين الرسم والنحت، وفي إيطاليا بالذات وطن كالليو.
ما انفك العرب والمسلمون وأوروبيو القرون الوسطى
مقيدين بـ"خيزياء"
أرسطو (على وزن خيمياء) التي يقول عنها Koestler: إنها الفيزياء التي لم
تنتج للبشرية خلال ألفي سنة أي شيء ذا فائدة[34].
في الميدان الفلكي، ربما أصبح لازما تعديل
الجغرافيا الفكرية التي رسم معالمها الأستاذ الجابري: فيض أفلاطوني متواجد بالمشرق
وتبني للمنطق بالأندلس[35]:
فأهم تجديد فلكي بالأندلس تم على يد البطروجي الذي طور
هيئة يمكن تلخيصها بأنها هيئة أرسطية يحركها فيض أفلاطوني؛ بينما طورت مدرسة مراغة بالشرق حلولا هندسية لا تتقيد بمركزية أرسطو. وبالطبع
بقيت المدرستان مطوقتين بدائرة أفلاطون السحرية في انتظار "تبطيخها" على يد كبلر.
فالهيئة البطروجية
تعود إلى مركز وحيد للكون (عصر الموحدين) هو وسط الأرض وتضيق من حرية حركاته
(بعدين عوض الثلاثة). فالكرة التاسعة (المثال) خالية من الكواكب وهي تكمل دورة في
اليوم من الشرق نحو الغرب. أما الكرات السفلى فكلها متشوقة للحاق بالكرة المثلى
ولكنها لا تبلغ ذلك لنقص يشوبها أو بسبب تناقص تأثير المحرك الأول مع المسافة[36].
يقول البطروجي:
"...فإنه لما كانت الحركة إنما تصدر عن
المحرك الأول وقوتها ومنبعثها من هناك والقوة بالضرورة
هناك أشد والدليل على ذلك سرعة الحركة فإن سرعة الحركة إنما يكون عن شدة القوة
ودون شك أن الحركة اليومية أسرع الحركات فهي للفلك الذي هو أشد الأفلاك قوة..
وسائر الباقية إنما هو تابع في الحركة وتستفيدها منه وهي فإنما تقصد قصده وغايتها نحو حركته للتشبه به إذ هو غايتها"[37].
فكرة النجوم الثابتة الموالية للمثالية لا تتأخر
في دورانها إلا قليلا (مبادرة الاعتدالين). وكلما ابتعد
الفلك عن المحرك الأول، تزايد تأخره إلى الوراء. وهذا ما ينتج عنه حركة القمر
الظاهرية نحو الشرق مثلا. هذا تجديد مهم في سبب الحركة واتجاهها. أما التجديد
الأهم الذي أتى به البطروجي
فهو أن ذلك التأثير يتعدى حدود الفلك القمري ليعم طبقة النار ثم الهواء ثم الماء
ويصل إلى الأرض نفسها! وهذا مهم جدا لأنه متعد لحدود أرسطو التي تفصل ما تحت القمر
عما فوق كرة النار. يقول البطروجي:
"إن من الدليل أيضا على ما قلناه… أنا
نشاهد لعنصر النار حركة دايرة شبيهة بالحركة السماوية
بما يظهر من أشباه الكواكب التي ترى في بعض الأوقات من الشهاب تكون في الموضع
العالي بالعشايا حتى تخيل للرائي أنها كوكب وترى تتحرك
مع حركة الكواكب.. وحركة الماء إلى من جهة المشرق هي حركته التي منبعها ما فوقه
وحركته في الرجوع هي ثقله وميله إلى الأسفل لكثرته وحركة الماء أقل سرعة من الهواء
ولذلك يظن به أنه تابع في الحركة لنقلة القمر.."[38].
إن المذنبات –بالنسبة للبطروجي-
نار تدور كذلك مع النجوم والكواكب ومياه البحار تعرف مدا وجزرا حيث تنجذب إلى جهة
ثم يردها عن ذلك انجذابها إلى مكانتها الطبيعية بوسط الأرض. والأرض نفسها (وإن بدت
مستقرة) تشارك في الحركة: فهناك أراض عامرة تتحول إلى قفار، ومناخات
فاسدة تصبح نقية الهواء. فهاته النظرية متماسكة لولا
تشويش الهواء والرياح التي تهب في كل الاتجاهات وبسرعات تتحدى المثال. لا شك أنكم
لاحظتم قفزا غير منطقي، في إطار النظرية المعروضة، من الماء إلى القمر. ومن الغريب
والمفيد أن نصادف أخطاء (تلعثما) في الجزء المتطرق لطبقة الهواء بالذات بالنسخة
المصورة لكتاب البطروجي التي نشرها وترجمها B.R.Goldstein. ونحاول هنا سردها
مع عسر المهمة، إذ ننقل المخطوط باليد إلى المرصوص في المطبعة.
"..وأما عنصر الهواء فإن في حركته بعض
الخفاف على أنه وإن كانت مضطرة به غير حافظة للنظام لما
في طبيعة الهواء من قبول الاندفاع وسرعة الانخراق
والتشذب فإنا ما نشاهده على الأكثر يتحرك بحركة السماء ولا سيما
عند طلوع الشمس وعند ميلها بعد الزوال وعند الغروب مما نراه من تحرك الهواء الجبال
والأكام وفيه غلط من البحارات
المرتفعة من الأرض"[39].
ربما يدل هذا التلعثم على وعي بهشوشة النظرية. أضف إلى ذلك تشويش الكوكبين اللذين يدوران
فيما بيننا وبين الشمس: فرغم تواجد الشمس وعطارد والزهرة بطبقات مختلفة عند البطروجي فإن سرعتهما المتوسطة متساوية. لكن البطروجي لا يعير للأرصاد، حتى البسيطة منها، ما يكفي من
الانتباه: يضع الزهرة فوق كرة الشمس ظنا منه أنها أقل سرعة من هذا النير، بينما
ينزل عطارد –وإن كان في سلوكه أشبه ما يكون بالزهرة- منزلة أدنى من الشمس.
ومن الناحية الهندسية لم يسع البطروجي إلى تغيير أي شيء بما درسه في كتاب المجسطي. فهو يصارح القارئ بذلك ويتبنى وسائط بطليموس مع
جبرها في بعض الأحيان. وهيئته غير مكتملة وغالطة هندسيا
كما بين ذلك Goldstein. فهي تتلخص عمليا في محاولة تقريص (قرص
عوض كرة) الحركات البطلمية على سطوح كرات متماسة. فمن مطالعة كتابه في الهيئة
نتأكد أن عصر البطروجي عصر تنظير تقريبي لا يحترم
الظواهر ولا يخشى التناقضات. وهاته إحدى خواص القرون
الوسطى التي سيتخلص منها كبلر كما سنبين ذلك.
رغم هاته النقائص،
لاقت هيئة البطروجي رواجا مهما بأوروبا إذ كانت تجند من
طرف المعارضين للهيئات البطلمية. فالبطروجي يدلنا على
العيوب الفلسفية التي تشوب تلك الهيئة، وعلى بعض نواقص نظرية أرسطو (فالمذنبات
"النارية" تدور والماء محاول لذلك..). وهو بهذا يعمم قوانين الفيزياء
(لا يهم في تلك المرحلة صوابها أم لا) على الكون دون فرز ما تحت القمر
عما فوق النار. كانت هاته
المعارضة للأستاذين، بطليموس وأرسطو، منشطة للبحث عن هيئات بديلة. فهي بالتالي،
كما يقول Pierre Duhem،
تهيء بطريقتها الخاصة التغيير الكبرنيكي
لعلم الفلك.
أما بالمشرق العربي الإسلامي، فلقد طورت مدرسة مراغة (كما يسميها جورج صليبا) حلولا هندسية ابتكرها كل من
الطوسي والعرضي وابن الشاطر الدمشقي[40].
وبفضلهم تتخلص هيئات بطليموس من أهم الانتقادات التي كانت توجه إليها. وبكتابه A History of Arabic Astronomy
يبين جورج صليبا كيف أن مزدوجة الطوسي تمثل ثورة هندسية على الفصل
الأفلاطوني-الأرسطي للحركة الدائرية عن الحركة المستقيمة. فالطوسي يبين كيف يمكن
الحصول على حركة مستقيمة بإدارة كرة صغيرة داخل كرة كبيرة (الرسم 18). فهذا الحل
الميكانيكي يساعد على تركيب هيئات دائرية تمكن من تقريب وإبعاد الكواكب بشكل أجدى.
فهذان التجديدان، الأندلسي النظري والمشرقي الهندسي،
يمثلان خطوة في الاتجاه المعيد للنظر في أسس علم الفلك التي سيتجرأ كبرنيك على تعريتها وتأسيس بناء جديد سيكون كبلر الضامن الحقيقي لمتانته و"سيكتمل" ذلك البناء
على يد نيوتن.
4 – فك القيود: العصر الحديث.
"في سنة 1500 بعد الميلاد كان مستوى
المعارف بأوروبا من مستوى علوم أرخميدس المتوفي سنة 212 قبل الميلاد"[41] هاته
الجملة المنقولة عن وايتهاد تلخص بشكل قاس تردي أوروبا
خلال القرون الوسطى. لقد عاشت أوروبا في الميادين الفكرية عصرا جليديا امتد من
نهاية الإمبراطورية الرومانية إلى بداية الألفية الثانية. فلقد أصبح من جديد تصور
الأرض مسطحة هو السائد خلال تلك القرون.
ويلي تلك الفترة الجامدة ذوبان نسبي بدأ مع
البابا سلفستر الثاني، ذلك العالم الجامع لمعرفة
بالآداب والموسيقى والهندسة وعلوم فلك عصره. كان قد تلقى تلك العلوم بالمؤسسات
الدينية الإسبانية التي كانت على اتصال واحتكاك بالثقافة العربية بالأندلس (ينتج
الدفء عن احتكاك الثقافات، قديما وحديثا). ولقد عثر على مخطوطات ترجع إلى تلك
الفترة تدل على رواج لمنظومة هيرقليدس التي تحدثنا عنها
سابقا. إننا نجد بعد سنة 1000م عودة بطيئة إلى كروية الأرض. فإن كان اليونان قد
تطلبوا 250 سنة من فيلولاووس إلى أرسطرخس
القائل بدوران الأرض والكواكب حول الشمس، فإن الأوروبيين "الغربيين"
سيقضون ضعف تلك المدة لاجتياز المراحل التي تؤدي من كروية الأرض إلى دورانها حول
الشمس مع كبرنيك البولوني.. بمجرد اكتشافهم لكروية
الأرض لجأ الإغريق إلى قذفها عبر الفضاء في حين أن أهل القرون الوسطى يحافظون على
سكينتها وسط الكون مع غلافاتها البلورية. و"التجديدان" اللذان يأتي بهما
المسيحيون، بعد العبريين، هو إضافة طبقة ساكنة تحمل عرش الخالق وكذا تكليف
الملائكة بتحريك الأفلاك.
فابتداء من القرن الحادي عشر تقريبا يدخل
الأوروبيون عصر ازدواجية فكرية لا يتردد أرثور كستلر في وصفها بأنها "انفصام عقلي"[42]
لأن أغلبية علماء الفلك الذين وصلتنا كتبهم من تلك الحقبة قد تطرقوا إلى هيئة هيرقليدس التي تصور دوران الزهرة وعطارد حول الشمس[43]
في حين أن التصور الرسمي الجاري به العمل يقتضي الرجوع
إلى تصور بدائي لأرض مسطحة هي المركز الوحيد للكون.
ومن الغريب أن نصادف خرائط مستعملة من طرف
البحارة نرى الأرض عليها كروية كما صورها جغرافيو الإسكندرية والعرب والمسلمين، في
حين أن الخرائط المتداولة "بالداخل" تصور الأرض على شكل مستطيل يتفق مع
وصف الكتب المقدسة.
ولقد توغل ذلك الانفصام –حسب أرثور كستلر- إلى أخلاق وسلوك ذلك
العصر: فتحقير هاته الدنيا الدنيئة، عالم الكون
والفساد، يجر معه بغضا للذات. يصبح الجسد عورة والحب أفلاطونيا بينما نصادف في نفس
الوقت أعراسا صاخبة هي أقرب إلى ذبح الضحية(الزوجة) علنا منها إلى عقد قران[44].
[ قد تكون هاته المرآة الأوروبية عاكسة لعصور عسيرة
نعاصرها].
ولقد تردت فلسفة تلك العصور إلى تفاهة أبرز
مسائلها جنس الملائكة، ذكر هي أم أنثى، وهل كان لآدم سرة
ولماذا أكل تفاحة ولم يأكل إجاصة؟[45].
أما الانتعاش الفكري النسبي فإنه يصادف اكتشاف
كتب كل من أرسطو وأقليدس وأرخميدس
والخوارزمي وابن الهيثم وابن رشد والبطروجي.. عبر
ترجمات لاتينية لكتب عربية أو عبرية. وهكذا تنفتح أوروبا على منطق وعلوم لم تكن
لتحظى بها تحت هيمنة الأفلاطونية الجديدة الممتزجة بالعقائد المسيحية. غير أن تلك
الحركة سرعان ما توقفت وأصبحت هي الأخرى دغمائية مكبلة.
لم يكتف العلماء بالاستجابة لنداء أرسطو الداعي إلى الاهتمام بالطبيعة ودراستها بل
تورطوا في خطإ فادح: لقد استمعوا لمحتوى نظرياته
وتلقموها وكأنها أنا جيل. وكل ما قاله في ميدان الفيزياء ما هو إلا لغو وهدر. كان
أرسطو قد تخلى عن طريقة الفيثاغوريين الذين فهموا خضوع
الهندسة والنغمات لقوانين رياضية. فكل فيزيائه لا تحتوي على أي عدد أو قياس
للأوزان أو المساحات والأطوال وإنما هي مبنية على أحكام مسبقة. فدائما في موضوع
الحركة، الأساسي بالنسبة لعلم الفلك، يعتبر أرسطو أن كل متحرك لا بد له من محرك
يلازمه على طول المسافة التي يجتازها. وهذا بالطبع يتناقض مع عبور السهم لمسافة
عظيمة دون أن يرافقه الوتر الذي عبأه بالدفعة المحركة. ويجيب الأرسطيون على ذلك
الاعتراض: إن السهم ينتج تيارا دافعا يرافقه في مساره. وهذا السهم لا يسقط إلا
لأنه متشوق إلى مكانته الطبيعية السفلة. فهاته النظرية
لا تعرف للاحتكاك معنى مع معرفتها له كما سبق وأن بينا ذلك التناقض عند أرسطو،
تناقض أفسد عليه نقاء سماواته. إنه هاته النظرة ترفض
تصور متحرك يتابع سيره طالما لم يحوله عن مساره ريح أو يعيقه عائق. هذا التصور هو
الذي يلزم عنه تركيز الكواكب بلحمات الأفلاك الشفافة
القشور لتنقيلها.
ظل هذا التصور يقيد كل حركة علمية إلى أن يتساءل
ويتعجب أهل القرن الرابع عشر: إذا كان الحال على ما ذكره أرسطو بات من الممكن
إرسال الزوارق عبر البحر الأبيض بدفعة من يد أو رجل!
فبعدما تلقت الجامعات الأوروبية كتب أرسطو
وشروحها عن ابن رشد، قامت بدراستها قبل تحليل تناقضاتها وسلك طرق للبحث تهتم
بالتجارب. فروجي بيكون من القرن الثالث عشر لم يكتف مثلا بدراسة أعمال ابن الهيثم
القيمة، بل تعداها ليخترع على أساسها العدسة المكبرة.
عندما تخلى الأوروبيون عن تأليه أرسطو وعندما
بدأت جامعاتهم تسخر من مقولات المعلم الأول أصبح استئناف البحث الأرخميدي الجدي ممكنا. فإيرسموس
الهولندي مثلا( 1469-1536، معاصر لكبرنيك) يصف العلم
الأرسطي بأنه "تحذلق عقيم يبحث في الظلمات عما لا وجود له"! فمن المرجح
أن يكون الأوكسجين قد نشط خلايا أدمغة بعد قهقهة صريحة تعالت بمدرجات جامعات لا
تحترم التراث.
ونرى اليوم أننا لا نضحك من تراثنا وما زلنا في
تماطلنا نتصافح احتفالا بابن رشد ولا نطيق تصوره ساجدا لصنم أرسطو ونهفوا إلى العودة لمقاصد الشاطبي.
لم نفهم بعد أن الشاطبي لا يتصور أن العهد الجديد مركزه
الحرية الفردية التي تناهضها الكنيسة الثلاثية المهيمنة على أوطاننا أقطابها يميني
متزمت واشتراكي متعصب ووطني يشكل الزاوية والركن المشترك لرهط غفير. فتراثنا ما
زلنا "نتفاخم" به تفاخما يتفرقع وينفجر لأدنى وخزة. ولا ينتج عن تلك الطاقة أية حرية بل هوة عميقة تبعدنا
كل يوم عن الحرية التي ننتظرها بعد "التحرير".
ومن المفيد كذلك أن نورد هنا رواية مشهورة عن ألفونز العاشر ملك قشتالة كمثال
آخر على وقاحة الأوروبيين وحرية فكرهم: كان هذا الملك مهتما بعلم الفلك. فبعدما
قدمت له شروح عن هيئات بطليموس المعقدة يحكى أنه قال: "لو كان الخالق قد
استشارني قبل تصوير الكون لنصحته بهيئات أسهل من هاته!".
صراحة من هذا القبيل غير مفكر فيها بثقافتنا.
4-أ-"الثورة" الكبرنيكية:
بعدما وقفنا على الثورة التي قال بها أرسطرخس الساموسي مباشرة بعد عهد
أرسطو، تلك الثورة المؤسسة على قياس أبعاد القمر والشمس وتقدير حجميهما، ثم
الاستنتاج بأن الأرض الضئيلة هي التي تدور حول الشمس الهائلة الحجم، أصبح من
الممكن تقدير الثورة الكبرنيكية حق قدرها، لا أكثر.
في كتابه De revolutionibus orbium coelestium:
دورات الأفلاك السماوية، يقتصر كبرنيك على التذكير
بهيئات فيلولاووس وهيرقليدس
القائلة بدوران الأرض. إلا أنه تبين من خلال تفحص مخطوطاته أنه شطب على اسم أرسطرخس في سياق ذكره لسابقيه إلى هاته
النظرية.
مقدمات كبرنيك:
*ليس لكل الكواكب مركز واحد مشترك
*مركز الأرض هو مركز الأشياء الثقيلة ومدار
القمر
*كل الكواكب الأخرى تدور حول الشمس، وهذا النير
هو مركز الكون
*حركة الشمس السنوية (من الغرب إلى الشرق، درجة
في اليوم تقريبا) حركة ظاهرية فحسب ناتجة عن دوران الأرض حول الشمس
*التراجع القهقري
والالتواء في مسار الكواكب ناتج عن حركة الأرض والكواكب في نفس الوقت بسرعات
مختلفة، وتكفي تلك الحركات لتفسير التحير
*حركة السماء العليا ونجومها ناتجة عن دوران
الأرض حول نفسها دورة في اليوم
*المسافة الفاصلة بين النجوم الثابتة وأرضنا
مسافة هائلة للمسافة التي تفصلنا عن الشمس.
ويبدأ كتاب كبرنيك
بمقدمة غير موقعة تحذر القارئ كي لا يفهم تلك النظريات فهما "خاطئا".
فهي، حسب صاحب المقدمة، نظريات وتخمينات فلكية همها الوحيد هو القيام بحسابات
مبنية على هيئات هندسية لا تسعى إلى تمثيل حقيقة الكون. فنظرية كبرنيك مجرد تقدير إذن! بين المحققون أن تلك المقدمة ليست
بقلم كبرنيك وإنما كتبها أزيندر
المكلف من طرفه بالإشراف على الطبع. من المحتمل أن أزيندر
أضاف تلك المقدمة علما منه بأن الكنيسة الألمانية اللوثرية
(طبع الكتاب بمدينة نورمبيرك بألمانيا سنة 1543) قد
أدانت نظرية كبرنيك، في حين أن الكنيسة الكاثوليكية
بروما كانت تساندها. فالبابا بولس الثالث ألح على وجوب نشر تلك النظرية الجديدة.
أما لوثر فلقد ناهض أفكارها منذ سماعه بمحتوى "التعليقات الصغيرة" التي
كانت متداولة منذ سنة 1514[46].
اتهم كبرنيك بأنه "أحمق يدعي إحداث انقلاب بعلم
الفلك" وأنه "أبله يعارض الكتب المقدسة".
من هذا يتبين جليا أن الكنيسة ليست كتلة واحدة.
فهي منظمة إنسانية تتغير مواقفها عبر التاريخ تبعا لمصالح القائمين على شؤونها.
فالكنيسة الكاثوليكية، التي ستصبح فيما بعد مناهضة لنظرية كبرنيك،
كانت مصدر النهضة الفنية بإيطاليا إذ كانت تمولها.
ويرجع الفضل إلى تلك النهضة في إحياء الفن الكلاسيكي الموروث عن الإغريق والرومان،
والتخلي عن الفن القروسطي المنمق. كانت تلك النهضة
الفنية تضع الإنسان وسط اهتمامها وتتوق إلى نحته وتصويره أحسن تصوير. ولقد أنتجت
المدرسة الإيطالية عباقرة من أمثال رفائيل وليونار دوفانسي الفنان والمهندس،
وأوجدت الحل الهندسي لتصوير ثلاثة أبعاد على لوحات ذات بعدين فحسب (peerspective). لقد كان لهاته النظرة الجديدة للفضاء تأثير على كبرنيك: عايش تلك الثورة الفنية أثناء دراسته بإيطاليا في
بداية القرن السادس عشر. ويجب التذكير هنا بأن ثورات أخرى كانت قد اجتاحت أوروبا
بعد اختراع المطبعة ذات الحروف المعدنية المرصوصة على يد كوتنبرك
الألماني وكذا اكتشاف أمريكا بعدما قرر كريسطوف كولومب "الأحمق" سلوك طريق بحرية لم يجرؤ أحد قبله
على ركوب أهوالها عنوة، ذهابا ثم إيابا!
فإن كانت مقدمات كبريك ثورية بحيث تتجرأ على
إرساء أسس أخرى لعلم الفلك وتتخلى عما شيده السابقون، إلا أنها بقيت مقيدة بدغمائية الحركة الدوائرية
المنتظمة التي صورها مبدعها أفلاطون كمثال للكون (باسم الخالق). فرغم زعم كبرنيك بأننظامه يحتاج لأقل من
دوائر بطليموس –من خارجة المركز أو حاملة أو مدورة- والتي يبلغ عددها حسب كبرنيك إلى 80 دائرة، فرغم هذا الزعم يبني كبرنيك هيئته على 48 دائرة بينما تتكون هيئة بطليموس من اربعين دائرة فحسب[47].
ربما قصد كبرنيك بذلك ما آلت إليه الهيئات البطلمية
النزعة المصححة له والتي أصبحت معقدة كل التعقيد. وربما يكون هذا العدد دالنا على
الهيئات المشرقية التي اطلع عليها كبرنيك. على أية حال
أزاح كبرنيك الغل الأول وفتح أبواب الفكر المخالف الذي
لم يفتحه صراحة سابقوه من غير الإغريق. وبهذا تخرج البشرية من جديد إلى الهواء
الطلق وتمتلئ صدورها بما ينعش الفكر ويفتح البصيرة.
إن كتاب كبرنيك
الرئيسي لم يلق ذلك الرواج الذي قد يتصوره المرء. إنه بقي ذلك "الكتاب الذي
لم يقرأ" كما يقول كستلر[48]. لم تتعد طبعته الأولى
ألف نسخة ولم يعد طبعه سوى أربع مرات خلال أربعة قرون! لماذا يا ترى؟ إن الأخذ
بفكرته المركزية تكفي لمسانديه من أجل البحث عن حلول جديدة للفيزياء والحركة،
بينما لا يجد علماء الفلك أي جديد يذكر في هندسته: فهيئاته لا تختلف عن تلك التي
عمل بها بطليموس والطوسي وابن الشاطر.. مكبلين بقيود دوائرها وحركاتها المعقدة.
إذا ما تفحصنا هيئات كبرنيك وجدنا أن الأرض والكواكب لا
تدور في حقيقة الأمر حول الشمس وإنما حول نقط متوسطية بعيدة عن الشمس بعض الشيء.
هذا ما من شأنه أن يتفق مع ظاهرة اقترابنا من ذلك النير وابتعادنا عنه.
4-ب-محاولة التوفيق: تيكو
براهي
وقبل
أن نتحدث عن حل القيد الثاني، نود التطرق إلى ذكر صاحب حل وسط: تيكو براهي. يرجع الفضل إلى هذا
الفلكي الدانماركي في القيام بأفضل الأرصاد التي يمكن
إقامتها بالعين المجردة. فالموارد المادية التي حصل عليها بجزيرة هفين قرب كوبنهاك ثم بضواحي براك
بعد هجرته إليها، من بناء مراصد خاصة مجهزة بآليات عظيمة وتكريس لياليه لأرصاد
طويلة الأمد. لم يقبل تيكو براهي
بنظرية كبرنيك مع اعترافه بفوائدها في حل مشكلة التحير
والالتواء. لذا نراه يقترح هيئة تدور فيها كل الكواكب حول الشمس في نفس الوقت الذي
تدور فيه الشمس والقمر والنجوم الثابتة حول الأرض الراسية. (الرسم19).
وكان براهي لا يرتاح
بالتالي إلى هيئات كبرنيك الهندسية. فلقد كلف صهره
بإيجاد هيئة جديدة لكوكب المريخ الذي يظهر متحيرا ومحيرا إلى حد بعيد. لم ينجح هذا
الأخير في إبداع حل يتفق مع الأرصاد المدققة التي قام بها براهي.
ولحسن الحظ تقلد كبلر تلك المهمة كرياضي حي الضمير قبل
وفاة براهي بثمانية عشر شهرا.
4-ج-"تفلطح" الدائرة وتحرير السرعة: كبلر
كان كبلر قد فقد عمله
كأستاذ للرياضيات وعلم الفلك بمدينة كراتس النمساوية
وأرغم على مغادرتها لأنه لوثيري بينما أهل الحل والعقد وإهراق الدماء بتلك البقاع من الكاثوليك. فقصة كبلر من أروع وأفظع القصص الإنسانية. إنها قصة طفل معوج البصر
سيصحح نظرتنا إلى الكون! لقد عرف الفقر وعايش محنات
الأمراض التي لا تحصى وعانى من غياب أبيه عن بيت أهله وإحراق الكنيسة لخالته بتهمة
أنها ساحرة مسكونة بالشيطان واتهام أمه بنفس التهمة وهي عجوز هرمة؛ وهو رغم كل ذلك
ورغم كل الحروب الدينية بين فئات المسيحيين وبين المسيحيين والترك المسلمين الذين
وصلوا إلى عتبات فيينا، رغم تلك الفتن، يكرس كبلر حياته لكشف النقاب عن "تناغم الكون وسر
كماله!"، ليكتشف في آخر المطاف أن مداره إهليلجي
"مفلطح"، منحرف. وهو يصف اكتشافه الرياضي الثمين هذا بأنه "عربة
أزبال يضيفها إلى عرمة الدمال
التي أنتجتها أعماله".
كان كبلر يحلم بالسطو
على كنز براهي الذي تجمعت لديه أكثر من 35 سنة من
الأرصاد المضبوطة والمتواصلة. كان واثقا من مقدراته الرياضية لحل معضلة المريخ في
ظرف بضعة أشهر. لكن ذلك العمل سيتطلب منه ست سنوات من الصراع المستميت المتقيد
بالأرصاد لا غير! ولا بد هنا من التذكير بأن كبلر كان،
على خلاف براهي، يؤمن بأن نظرية كبرنيك
في دوران الأرض حول الشمس هي الصحيحة وذلك لاعتبارات مادية وعقائدية في نفس الآن.
كان يرى في توسط الشمس لمجموعته حلا أنيقا لأن ذلك النير يضع بضيائه على العالم
وهو ولا بد يشع عليه بالقوة المحركة كذلك. لن نتحدث هنا عن كل الآراء والمراحل
الخاطئة التي مر بها كبلر (فهي كثيرة كما ذكرها هو بكل
نزاهة في كتابه Astronomia nova: علم الفلك الجديد) قبل
أن يلتحق بخدمة براهي ويهتم بإيجاد هيئة مبنية على
أرصاد رصينة.
بما أن كبلر لم يكن
مسبقا عالما بإهليلجية المدارات، فإنه يختار استعمال
دائرة خارجة المركز. ولقد عزل أربعة منازل متفرقة للمريخ من أرصاد براهي. وبعد حسابات على مدى 900 صفحة بالخط الدقيق، أعادها
مرات لا تحصى، يحصل كبلر على هيئة تتفق مع أرصاد براهي ولا تختلف عنها إلا بزاوية قدرها دقيقتان. كان بإمكانه
أن يقف عند ذلك الحد ويعلن عن نجاحه لو لم يكن ضميره حيا إلى درجة فائقة. فهو
يقارن نتائج هيئته ببقية الأرصاد المسجلة بدفاتر براهي
ويحصل على اختلافات تبلغ ثمانية دقائق في بعض الأحيان. يصارح كبلر
قراءه بأن هيئته خاطئة.
إننا نقف هنا على أهم الأسس للعلم الحديث: الدقة
والصرامة. كان القدماء لا يكترثون باختلافات من هذا القدر الضئيل ويكتفون بتعديل
نتائج الأرصاد عنوة لتتفق مع النتائج (هذا ما بينه كبلر
عند سابقه الأعظم كبرنيك مثلا وما وقفنا عليه عند البطروجي). بخلاف ذلك نرى كبلر
يرمي جانبا بسنوات من عنائه ويحترم ما سجلته الأرصاد البراهية
التي يصفها بأنها مما أفاء الله به على البشرية. يقول كبلر:
إنه لمن الغريب حقا أن نلاحظ أن نظرتنا الحالية
إلى العالم ناتجة عن تساؤلات حمقاء كما يبدو لأول وهلة: "لماذا تسقط
التفاحة من الشجرة إلى الأرض ولا يسقط القمر من عليائه؟!". إن هذا
السؤال هو الذي راود ذهن نيوتن في حديقته بشمال لندن. وهكذا يتصور أنه يرمي تفاحته
بقوة متزايدة الرسم 20). إذا كانت قوة الرمي ضئيلة فإن التفاحة تسقط على مسافة غير
بعيدة، أما إذا كانت قوة الدفع هائلة فإنه بات بإمكان التفاحة أن تحوم حول الأرض
وترجع إلى يدي نيوتن! (مع تناسينا للاحتكاك). وبما أن كالليو
قد أقام الدليل على أن كل الأجسام تسقط بقدر 9،4 أمتار خلال الدقيقة الأولى من
سقوطها الحر وعلما أن سطح الأرض الكروي "يهبط" بخمسة أمتار كلما قطعنا
مسافة خطية تناهز ثمانية كيلمترات، أمكن تقدير السرعة
التي يجب تعبئة التفاحة بها كي تقوم بجولتها حول الأرض دون أن تمسها في تساقطها
المتواصل. بناء على هذا التخمين وعلى قوانين كبلر،
يتوصل نيوتن عبر الحساب إلى قانون الثقالة التي يعممها
على الكون بعدما كان أرسطو قد خص الأرض بتلك الظاهرة التي تنتج الأشكال الكروية
كما أوردنا ذلك. وهو لم يقر بها للقمر مثلا رغم كرويته وخشوناته
التي كان يراها القدماء كصورة وجه إنساني. وهكذا، ابتداء من نيوتن تصبح الكواكب
"متساقطة" نحو الشمس في دورانها حولها وترقى فيزياؤنا الأرضية لتعم
السماء بعدما كان فيضها طامسا لكل إبداع.
. ومن المفيد الإشارة إلى أن نيوتن بدأ أعماله
الفيزيائية بإعادة النظر في نظرية أرسطو القائلة بأن ألوان الطيف التي ينتج عنها
قوس قزح عندما يخترق الضوء قطرات ماء أو موشورا، إنما
هي ناتجة عن تضاعف قوة الضوء. يبين نيوتن أن ذلك الضوء لا تنقص قوته إذ يمكن
الحصول على أشعته البيضاء من جديد إذا ما جمعت ألوان الطيف بواسطة موشور ثاني. ولقد اخترع نيوتن المنظار المكبر المجمع للضوء
ببؤرته (الراصدة الفلكية téléscope) والذي يعطي صورا أفضل مما نحصل عليه بواسطة نظارة مقربة يجتاز
الضوء عدساتها قبل وصوله إلى أنظارنا (lunette). ولقد كان كالليو أول من استعمل هاته المقربة في أرصاده ليكتشف أن الزهرة تتغير صورتها كصورة
القمر في السماء: يتحول هلالها إلى بدر مكتمل؛ وأن للمشتري أقمارا تدور حوله وأن
في الشمس كلفات كما كان الأقدمون (ابن رشد مثلا) قد لاحظوا ذلك. لكن أهم ما قام به كالليو من أعمال هو دراسته
الدقيقة لتسارع كرات ذات أحجام مختلفة على خشبات منحنية
ليتبين له –على خلاف ما قال به أرسطو- أن الأجسام
الثقيلة تتساقط بنفس السرعة التي تتساقط بها الأجسام الخفيفة. وأن ما نلاحظه من
اختلاف إنما هو ناتج عن الهواء المعيق للورقة في سقوطها أكثر من إعاقته لكرة
نكورها من نفس الورقة. ويفهم كالليو أن القوة الفاعلة
هي نفس القوة التي ترفع البواخر لتطفو فوق الماء كما كان أرخميدس
قد اكتشف ذلك.
وهكذا يمكننا القول إن العصر الحديث مبني على
تحرر متواصل من قيود أفلاطون ومثاليته وأرسطو و"خيزيائه"
ومن التقول، باسم الخالق، على الطبيعة وكمالها المزعوم.
خاتمة
يظهر مما قدمناه في هذا المقال أن علماء الفلك
العرب والمسلمين لم يتخلصوا من قبضة أفلاطون وأرسطو ولا بطليموس لأنهم اختاروا
استقرار الأرض وسط الكون ولم يقبلوا بدورانها، مع عدم اطمئنانهم لحقيقة ذلك
التفسير وتشكيكهم ليس فقط في وسائطه بل حتى في بعض أسسه. ومع ذلك فإن علماء الفلك
العرب قد حللوا بجد ميراث الهند والإغريق ولم يكتفوا بالتعليق عليه بل أضافوا إليه
فائضا وافيا وهيئوا الأرضية الرياضية والهندسية التي سيبني عليها كبرنيك وكالليو صرح العلوم
العصرية..
عسى أن تقوم كلياتنا بإحياء علوم الفلك
وولوج علوم الفضاء الرحب وتتطرق بحرية إلى مشاكل نظرية في هذا الميدان مازالت
تنتظر من يجرؤ على تقديم حلول لها قد تكون معيدة للنظر في فيزياء وكيمياء نهاية
قرننا الخامس أو السادس والعشرين بعد فيثاغور
g
[1] - الأنواء جمع نوء: مجموعات النجوم التي "تطلع" من
الشرق مباشرة قبل اختفاءها مع أنوار الشمس. ويوما بعد يوم يظهر للراصد وكأنما
الشمس تتأخر عن النجوم التي أعلنت شروقها في الأيام السابقة. وهكذا يتبين أن الشمس
"تعبر" السماء رويدا رويدا من الغرب نحو
الشرق في مدة سنة كاملة. وقياس هاته الحركة اليومية هو
تقريبا جزء من 25،365. كان هذا هو أساس تقسيم الدائرة إلى 360 درجة الموروث عن
البابليين. من أجل معرفة أفضل للأنواء: علم الفلك، تاريخه عند العرب في القرون
الوسطى، السنيور كرلو نلينو، الطبعة الثانية، مكتبة الدار العربية للكتاب، بيروت
1993.
[2] - Histoire générale des sciences, publié sous la
direction de Roger Taton, Tome I, page 127, PUF,
Paris 1966.
[3] – نفس المرجع، ص 193.
[4]
- أطلق البابليون اسم "بحر أمورو العظيم" على
البحر الأبيض المتوسط: راجع شرح كلمة أمورو بمعجم
الحضارات السامية، تأليف هنري س عبودي وجورج برس، طرابلس لبنان 1991، ص128.
[5] - Otto Neugebauer, Les Sciences Exactes dans
l’Antiquité, Essai traduit de l’américain par Pierre Souffin
Actes Sud, Arles 1990.
[6] - نفس المرجع، ص134.
[7]
- Alexandre Koyré, Du monde clos à
l’univers infini, Traduit de l’anglais par Raissa
Tarr, Gallimard, Paris 1988.
[8] - نود هنا التنويه بكتاب كستلر القيم
في موضوع تاريخ علم الفلك والذي نقلنا عنه ما جاء به عن
أوروبا في القرون الوسطى:
Arthur
Koestler, Les Somnanbules, Calman-Lévy,
Paris 1960, p43 et note 6 p533.
[9] - محاورة طامسيوس
Platon, Oeuvres complètes, Tome X, Timée-Critias. Texte établi et traduit par Albert Rivaud, Paris,
Les Belles Lettres 1963, page 152.
[10] - Aristote, Du Ciel, texte établi et traduit par Paul
Moraux, Sociétés d’Edition «Les Belles Lettres », Paris, 1965, Livre 2,
pages 98-100.
[11] - كان
الإغريق في هذا قريبين جدا من الإنسان البدائي الذي يجري على الأشياء سلوك الأحياء
وعلى الكواكب سلوك الآلهة ويرى كل شيء مسكونا بأرواح: Animisme
[12]
- قد يبهرنا عن حق هذا الذكاء والتفنن في التلقين عند أرسطو وربما ينسينا
–كما أنسى أجيالا عدة- أن فيزياءه خاطئة ومتناقضة.
Aristote,
Du Ciel, Livre II, 4 page 66.
[13] - جاء وصف نظرية أرسطرخس بكتاب لأرخميدس (L’(Arénaire) يبين فيه إمكانية تقدير عدد حبات الرمل والتعبير عنها بأعداد
سهلة الفهم حتى في حالة ما إذا كان الكون كله مليئا بالرمل (يا للخيال!). ويغالي أرخميدس في التحدي إذ يعتبر كونا هائلا كالذي قال بعظمته أرسطرخس. انظر في هذا الصدد كتاب:
Archimède :
Des Spirales, De l’Equilibre des Figures Planes, L’Arénaire, La Quatrature de la Parabole. Texte établi et traduit par Charles
Mugler, Société d’Edition « Les Belles
Lettres », Paris 1971, pages 127-157.
[14] - أفلاطون: محاورة كامسيوس. المرجع
السابق الذكر: Timée-Critias
33 B 34B.
[15] - ربما يدل ذلك على ندرة العربات وعجلاتها والنواعير وطاحوناتها في تلك الأزمان.
[16] - نقلا عن: Arthur Koestler,
Les Somananbules, p59.
[17] - ألف Pierre Duhem موسوعة قيمة لا يمكن الاستغناء عن مراجعتها لكل مهتم بتاريخ علم
الفلك. وإن كانت بكل صراحة معادية للساميين (ابن ميمون وعلماء الفلك العرب)؛ وهو
بهذا يكون ابن عصره المضطهد للساميين بأوروبا.
Pierre
Duhem : Le Système du Monde, Paris, Hermann, 1913-1959.
[18]– المرجع السابق الذكر Pierre Duhem المجلد الأول،
ص124.
[19] - المرجع السابق الذكر Pierre Duhem المجلد الأول،
ص125.
[20] - أرسطو Du Ciel, Livre
2, 7, page 72.
[21] - المرجع السابق الذكر، Pierre Duhem، المجلد الرابع،
ص51.
[22] - المرجع السابق الذكر، Les sciences Exactes dans l'Antiquité ابتداء من الفصل الرابع والخمسين.
[23] - نفس المرجع. الملحق الأول مخصص لدراسة هيئة بطليموس.
[24] - يقدم كتاب Verdet عرضا سريعا لعلم الفلك القديم والحديث:
Jean-Pierre
Verdet, Une Histoire de l’Astronomie, Editions du Seuil, Paris, 1990,
page 66.
[25] - التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب للإمام فخر الدين
الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الأولى 1990.
[26] - نفس المرجع. المجلد العشرون، ص7 إلى 9.
[27] - نفس المرجع. المجلد الثاني، ص81.
[28] - موسوعة تاريخ العلوم العربية. بأشراف رشدي راشد. مركز
دراسات الوحدة العربية، بيروت 1997، الجزء الأول/علم الفلك النظري والتطبيقي،
مقدمة في علم الفلك، ريجيس مورلون،
ص32.
[29] - موسوعة تاريخ العلوم العربية. ريجيس
مورلون، نفس المصدر، ص81.
[30] - موسوعة تاريخ العلوم العربية. ريجيس
مورلون، نفس المصدر، ص92.
[31] - الدكتور محمد عابد الجابري. ابن رشد.. سيرة وفكر. مركز
دراسات الوحدة العربية. بيروت 1998، ص222.
[32] - الدكتور محمد عابد الجابري. ابن رشد.. سيرة وفكر، ص175.
[33] - راجع مقدمة كتاب أرخميدس
المذكور أعلاه، صVII-XIII.
[34] - المرجع المذكور سابقا، ص104. Arthur Koestler, Les Somnanbules
[35] – الدكتور محمد عابد الجابري. ابن رشد.. سيرة وفكر، ص221.
[36] - يقدم Samso Hulio
تحليلا موجزا لكتاب الهيئة للبطروجي الذي يحدد تاريخ
كتابته فيما بين 1185 و1192 على الأرجح وذلك في مقاله On Al-Bitruji and the Hay'a Tradition in Al-Andalous، المنشور مع مجموعة من مقالات أخرى لهذا المؤرخ بكتاب Islamic Astronomy and Medieval Spain. Variorum.
[37] - ترجمة لنسخة عربية (محفوظة بالإسكوريال)
وعبرية لـ"كتاب في الهيئة" للبطروجي. المجلد
الثاني، ص57.
B.R.Goldstein. Al Bitruji : On the principles of astronomy. An edition
of the arabic and hebrew
version. New Haven
and London, Yale University Press.
Second edition 1977.
[38] - نفس المرجع، ص69.
[39] - نفس المرجع، ص63.
[40] - موسوعة تاريخ العلوم العربية المذكورة أعلاه. نظريتان
حركات الكواكب في علم الفلك العربي بعد القرن الحادي عشر. ص95-172.
[41] - المرجع المذكور سابقا، ص106. Arthur Koestler, Les Somnanbules
[42] - نفس المرجع، ص94. Arthur Koestler, Les Somnanbules
[43] - المرجع السابق الذكر لـ Pierre Duhem المجلد الثالث،
ص110.
[44] - المرجع المذكور سابقا، ص95. Arthur Koestler, Les Somnanbules
[45] - نفس المرجع، ص96. Arthur Koestler, Les Somnanbules
[46] - نسخ خطية مروجة لأفكار كبرنيك
تناقلتها أيدي العلماء. ولقد ذاع صيتها حتى وصولها إلى الفاتيكان مقر البابا. ولقد
كاتب الكاردينال شونبرك مؤلفها كبرنيك،
الذي كان رجل دين، ليحثه على نشر تلك النظرية. وكتاب De revolutionibus يحتوي تلك الرسالة كضمانة كنيسية.
[47] - المرجع المذكور سابقا، ص182 Arthur Koestler, Les Somnanbules
[48] - نفس المرجع، ص181. Arthur Koestler, Les Somnanbules