ص1       الفهرس   

 

الاستدلال والبناء بحث في خصائص العقلية العلمية

للدكتور بناصر البعزاتي

 

 

مخوخ عبد النبي

تشكل هذه الورقة محاولة متواضعة لتقديم كتاب الاستدلال والبناء. بحث في خصائص العقلية العلمية للدكتور بناصر البعزاتي الذي صدر في نهاية السنة الماضية عن دار الأمان بالرباط والمركز الثقافي العربي بالدار البيضاء. ويجد هذا الكتاب أصله في أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في الفلسفة (تخصص: المنطق والإبستمولوجيا وتاريخ العلوم) أنجزها المؤلف تحت إشراف الأستاذ سالم يفوت وناقشها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط في شهر نونبر 1997.

يقع هذا الكتاب في 509 صفحة. فبالإضافة إلى مقدمة وخاتمة مركزتين جدا وقائمة للمصطلحات ولائحة للمراجع غنية للغاية، قسم المؤلف كتابه هذا إلى ثلاثة أقسام:

ـ القسم الأول: بداهة المقام،

ـ القسم الثاني: النظرية والتجربة،

ـ القسم الثالث: بنائية الاستدلال العلمي.

كما قسم كلا من القسم الأول والثاني إلى أربعة فصول، وقسم القسم الثالث إلى خمسة فصول.

وكما يتضح من خلال العنوان، يتناول هذا الكتاب موضوع طبيعة البناء العلمي أو "خصائص العقلية العلمية". ومما لا شك فيه، أن هذا الموضوع إذ يكتسي أهمية بالغة جعلته يحتل مكان الصدارة في الأبحاث الإبستمولوجية والمنطقية المعاصرة، فهو موضوع شائك ومتشعب للغاية. ولعل هذا ما جعل الأمور المعروضة في هذا الكتاب تبدو، بإقرار المؤلف نفسه، "مبعثرة ومتشتتة وغير منسجمة" (ص17). غير أن المتتبع المنتبه لمختلف تمفصلات الكتاب يدرك بسهولة وجود خيط قوي ناظم لها.

يصرح المؤلف في مقدمة الكتاب أنه تناول الموضوع تناولا نقديا قريبا من تناول كل من بياجي ولورنتسن، إضافة إلى استفادته من أعمال كل من تولمن وباشلار وهانس وكون. وكما يتضح منذ المقدمة، تروم هذه المقاربة البنائية النقدية إلى بناء تصور للعقلية العلمية من خلال نقد صارم للتصورات التقليدية وخصوصا التصورات الوضعانية في صيغها الأصلية والمنقحة (بوبر مثلا) لكونها، إذ حاولت تحديد خصائص العلم من خلال مفاهيم الاستقراء والاستنباط والتحقق وإذ ركزت على منطقية العلم، أهملت عناصر أخرى تتدخل بالضرورة في بناء المعرفة العلمية كـالخلفيات الثقافية والتداول والاقتباس. ومن جهة أخرى، يرفض المؤلف التصورات اللاوضعانية للعقلية العلمية التي قامت، منذ الستينات، على أنقاض التصورات الوضعانية. فإذا كانت هذه الأخيرة قد ركزت على نقاء وصرامة ومنطقية العلم، فإن الأولى أصبحت تركز على "حضور الخيال والحدس والعناصر الشخصية في العلم"، بل أن بعض التصورات اللاوضعانية المتطرفة (فيرابند مثلا) ذهبت إلى حد نعت العلم باللاعقلية وإغراقه في "مزالق مقامية"، وجعله صادرا عن أهواء ذاتية. ومن ثمة، يستخلص المؤلف أن التصورات اللاوضعانية، نسبانية فوضوية كانت أم نسبانية جذرية إذ قامت كرد فعل على تطرف التصورات الوضعانية، سقطت في تطرف آخر، في "إقرارات جزافية" وأحكام مجانية ومرتجلة حول العقلية العلمية.

وتأسيسا على ذلك، ينتدب المؤلف نفسه لتأسيس تصور جديد للعقلية العلمية أفضل وأقوى من التصورات السابقة، يستند على "فتوحات تاريخ العلم والعلم المعرفي ونظرية الاستدلال". وبذلك، فإن الكتاب يطمح إلى أن يكون مساهمة متميزة وأصيلة في البحث الإبستملوجي المعاصر المنشغل أساسا بمشكل طبيعة النظرية العلمية والآليات المتحكمة في بنائها. ولتقديم المعالم الأساسية لهذا التصور البديل، بالدقة التي يسمح بها التقديم، نقترح التوقف عند بعض المسائل المتناولة في هذا العمل، علما أن غنى الكتاب وتنوع قضاياه لا يسمحان لعمل تقدمي كهذا بمتابعته خطوة خطوة.

1 – القسم الأول: بداهة المقام:

يشتمل هذا القسم على أربعة فصول: 1) معيار المنطق الصوري، 2) المنهج والممارسة، 3) تمييز العلم، 4) من المحلية إلى الكونية. ويتناول فيه المؤلف جملة من التصورات التي هيمنت على التحليل الإبستمولوجي والمنطقي للمعرفة العلمية خلال النصف الأول من هذا القرن. ويهدف هذا التناول بالأساس إلى إبراز حدود التناول المنطقي الخالص وقصور الصياغة الصورية للاستدلال العلمي. إن التناول المنطقي الذي ينظر إلى العلم "كإنجاز عملي لقواعد المنطق الصوري" لم يستوعب جيدا طبيعة النشاط العلمي، ذلك أن الصياغة الصورية لا تستجيب لا للدينامية الدائمة للممارسة العلمية ولا للبلورة المسترسلة للمعرفة العلمية. فلو اعتبر المنطقي دينامية الفاعلية العلمية وتفاعل الآليات العقلية مع عناصر أخرى في بلورة المعرفة العلمية لوجد نفسه في موقف حرج للغاية يفرض عليه تغيير لغته الصورية على الدوام.

ومن هذا المنطلق، ينتقد المؤلف التصور الاستنباطاني للعلم، كما تبلور لدى بعض مناطقة العلم المعاصرين من أمثال بوبر وهمبل وناجل. يؤكد هذا التصور على أن "بناء النظرية العلمية خاضع لبنية استنباطانية" (ص23) وأن الاستنباطية خاصية أساسية بل وضرورية للنظرية العلمية. ومن ثمة، يتأدى هذا التصور إلى إقامة علاقة تواز بل وتلازم بين المنطقي والعلمي بحيث أن "ما استجاب لقواعد المنطق فهو علمي وما لم يستجب لها فليس علما". وبناء عليه، بلور الاستنباطانيون نموذجا استنباطيا للتفسير يعتبر أن القوانين العلمية تتسم أساسا باندماجها في النظرية العلمية بالرغم من كونها نتيجة تعميمات استقرائية. فالقوانين العلمية تفسر بالنظرية من حيث أنها مستنبطة منها.

إن المؤلف إذ يعترف بأهمية الاستنباط في النظرية العلمية وقابلية جل النظريات العلمية لأن تعرض في شكل بناء استنباطي، فإنه يؤكد على حدود التصور الاستنباطاني للعلم والنموذج الاستنباطي للتفسير. فبالإضافة إلى كون البناء الاستنباطي للنظرية هو "من قبيل التنسيق البعدي" وإلى استحالة رد النظرية العلمية إلى مجرد بناء صوري خال من أي مضمون دلالي، فإن التصور الاستنباطاني لا يراعي دينامية العمل العلمي ولا الملابسات المقامية التي تبلور فيها. بالجملة، إن هذا التصور إذ يحرص على تقديم النظرية العلمية كبناء صوري دقيق جامد ونهائي، لا يقدم فهما سليما لطبيعة النشاط العلمي.

وفي سياق مناقشته للتصور الاستنباطاني، توقف المؤلف عند مشروع التنسيق الأكسيومي من منطلق الرغبة في ضمان الموضوعية وتخليص لغة العلم من كل الشوائب الذاتية، فألح كثيرا على ضرورة صورانية تامة تؤمن بإمكانية إخضاع كل العلوم بما في ذلك العلوم التجريبية للصياغة الصورية دون الانشغال بمضامينها أو أبعادها الدلالية. فكل المناطقة المعاصرين الذين تحمسوا لهذا المشروع انشغلوا بالجانب الصوري على حساب الجانب الدلالي.

وإذا كان المؤلف لا يتردد في الاعتراف بنجاعة الصياغة الأكسيومية فإنه يرفض دعوى "الصورنة التامة" لعدة اعتبارات، منها أنها تفضي إلى "اصطناعية عقيمة" (ص38) ولا تقدم أجوبة شافية على مجموعة من الأسئلة الإبستمولوجية من نوع العلاقة القائمة "بين النظرية والتجربة والسياق وبين الاستدلال والحدس" (ص36) كما أن النقاش الذي دار في مجال الرياضيات، الموطن الأصلي للمشروع، أثبت استحالة الصورنة المنطقية الكاملة. غير أن أهم عيب يسجله المؤلف في هذا المشروع يكمن في رغبته الجامحة في إخضاع أو إلحاق العلوم في هيئة هيكل بدون حركة، مقطوعة الأواصر بالفاعلية التعقلية والبنائية الفعلية"(ص37).

وبالجملة، إن الصياغة الصورية عمل ثانوي في العلم التجريبي يلحق العمل الأساسي المتمثل في "التشييد والاختبار والمراجعة المستمرة". إنها عمل بعدي أو تراجعي لا يعكس البتة دينامية العمل العلمي ولا الملابسات المحيطة به.

وخلاصة القول، إن المؤلف، إذ يقر بأهمية الاستنباط ونجاعة الصياغة الصورية، يؤكد على حدودهما وعجزهما على تقديم تصور ملائم للعقلية العلمية. فعلاوة على كون الصورنة تؤدي بالضرورة إلى "اختزال تفقيري للبناء المفهومي العلمي "فإن البحث المنطقي المعاصر أثبت استحالة قيام صورنة تامة. فلا يمكن للعلوم التجريبية أن تقوم كعلوم صورية محضة خالية من كل دلالة، كما لا يمكن للعلوم الصورية نفسها كالمنطق والرياضيات أن تتخلص كلية من الحدس. فالمسلمات المضمرة، ميتافيزيقية كانت أم عقدية، والعناصر المقامية، تتسلل حتما إلى كل بناء صوري وتلعب دورا مهما في بناء المعرفة العلمية وبالتالي في تشكيل العقلية العلمية.

2 – القسم الثاني: النظرية والتجربة.

يشتمل هذا القسم على أربعة فصول: 1) في حياد التجربة، 2) الاستقراء، 3) التنبؤ والانتظار و4) الالتزام. وإجمالا، يستهدف هذا القسم إبراز تهافت التصور التجرباني للعقلية العلمية من خلال نقد آلية الاستقرار من الوجهتين المنطقية، والإبستمولوجية، وبالتالي دحض التصور الاستقراءاني للمعرفة العلمية. لقد أخضع المؤلف التصورات اللاستقراءانية لتكون المعرفة العلمية التي برزت كبديل للتصور الاستقراءاني أيضا لدراسة نقدية دقيقة أفضت به إلى رفضها لكونها عجزت عن تقديم بديل للاستقراء وأهملت دور التداعي والتمثيل في بلورة المعرفة العلمية. وسنكتفي، من جهتنا، بتقديم بعض الاعتبارات الأساسية التي أدت بالمؤلف إلى رفض التصور التجرباني الاستقراءاني للعقلية العلمية.

ينطلق التصور التجرباني للعلم من منطلقين أساسيين: فمن جهة أولى، يعتبر التجربانيون التجربة مصدرا للمعرفة ومحكا لها. فكل العلوم، بما في ذلك العلوم التي اتخذت شكل بناءات صورية عقلية كالرياضيات تخضع لهذا المبدأ. ومن ثمة إنهم ينظرون إلى الاستقراء باعتباره الآلية الأساسية لبناء العلم. ومن جهة ثانية، يحرص التجربانيون على التمييز بين العلم واللاعلم مؤكدين على فكرة نقاء وصفاء العلم. وبالرغم من كون الوضعانيين المعاصرين وجهوا اهتماماتهم صوب التحليل المنطقي للغة فإنهم ظلوا أوفياء لهذين المنطلقين بحيث ردوا لغة العلم إلى قضايا، وجعلوا من مطابقتها للوقائع الخارجية معيارا لصدقها. فريشنباخ مثلا انتهى إلى القول إن العلم هو مراكمة للقضايا الصادقة المطابقة للوقائع، كما رد كارناب لغة العلم إلى وحدات أو ذرات سماها "عبارات قاعدية" مستمدة من التجربة ومتسمة بدرجة عالية من الدقة والوضوح.

لقد أخضع المؤلف هذا الموقف لنقد صارم ودقيق مستندا على أحدث الدراسات الإبستمولوجية في هذا الباب. فانتهى إلى جملة من الخلاصات الحاسمة أجملها على النحو التالي:

1 – لا وجود لملاحظة مباشرة مجردة من كل "قصدية مؤطرة" أو بدون تأطير نظري في العلم. فالملاحظة تختلف من ملاحظ لآخر باختلاف انشغالاته وتكوينه أو الجهاز المفهومي الذي يستعمله. ويوضح المؤلف هذه الحقيقة التي باتت مؤكدة بالقول إن الذي يجعل من الملاحظة جديرة باسم ملاحظة علمية هو "الانتباه إلى مجرياتها. بيد أن الانتباه عملية تتضمن اختيارا وانتقاءا واختزالا وتأويلا. فلا يلاحظ المرء عادة ما لا يكون بصدد البحث عنه، إلا إذا كانت ملاحظة سطحية لا تثير الذهن. أما الوقوف عند دقائق الظواهر الملاحظة، فإنه يتطلب تركيزا من نوع خاص، أي يتطلب نشاطا عقليا مركزا" (ص164).

2 – لا وجود لتجربة نقية في العلم. إن "التجربة المحايدة" و"العبارات القاعدية" و"مطابقة القول للواقعة" وغيرها من المسلمات الوضعانية ليست إلا أوهاما لا وجود لها في الممارسة العلمية. ويؤسس المؤلف موقفه هذا على جملة من الاعتبارات منها:

أ – إن الدعوة للانطلاق من التجربة تقوم أصلا على نظرية. ولذلك، فإن الوضعانية وإن زعمت الانطلاق من التجربة، فهي تنطلق حتما من نظرية أي من تصور معين للواقع ولأسلوب التعامل معه.

ب – تعتبر كل تجربة علمية تجربة مؤطرة نظريا. ولذلك درج البحث الإبستمولوجي المعاصر على التمييز بين التجربة Expérience والتجريب Expérimentation. فالتجربة العلمية ليست هي التجربة التلقائية المبتذلة ولكنها تجريب بمعنى مساءلة ممنهجة للطبيعة تنطلق حتما من أسئلة محددة وتعتمد جهازا مفاهيميا معينا.

ج – ينطلق كل بناء علمي من جملة من "المسلمات المضمرة". فمن جهة أولى، لا ينطلق العلم من "فراغ ثقافي" بل ينطلق من الرصيد الفكري الذي راكمته الأجيال المتلاحقة وهذا "الخزان العلمي، المكتسب عبر التاريخ، هو الذي يبلور التجربة ويخطط لها ويضعها في العملية البنائية تلك" (ص188). ومن جهة ثانية، ليس العلم شأنا فرديا بل هو شأن جماعي، تباشره جماعات من الباحثين تنتمي إلى مؤسسات علمية ذات تقاليد في البحث العلمي. ولذلك، فإن التجربة التي يقوم بها العالم تقوم على أكتاف الجماعة وتستند لتقاليد المؤسسة. ويزداد هذا الطابع الجماعي وبالتالي النقدي –التداولي للتجربة ترسخا حاليا لكون البحث العلمي أصبح مؤطرا في مؤسسات ذات بنيات مستقلة وأحيانا في شركات صناعية. وبناء على هذه المعطيات، يستخلص المؤلف أن "التجربة، والحكم الذي يقرر نتائجها، مشروطان بالمقام المفهومي التداولي، وفي نفس الوقت مشروطان بالتجهيزات التي تنتج هذه التجربة وتقيس مقاديرها. وبمجرد أن نقر بأن التجربة مشروطة بالمقام المفهومي والأداتي، فإننا نقر حتما بأنها تنتمي إلى إطار نظري محدد، منه تستقي قيمتها الدلالية والمعرفية" (ص190).

3 – إذا تقرر أن الملاحظة والتجربة النقيتين وغير المؤطرتين نظريا لا وجود لهما في العلم، فإن المفاهيم والقوانين العلمية وبالتالي الاكتشافات العلمية ليست حاصل عمليات استقرائية أو تعميما لأحكام فردية كما بدا للوضعانية.

لهذه الاعتبارات ولغيرها التي لا يتسع المجال لذكرها ينتهي المؤلف إلى التأكيد على فشل البرنامج الاستقراءاني وبالتالي التصور التجرباني للعلم. إنه من الممكن، يستخلص المؤلف، "الإقرار بأن الاستقراء، منطقا ومنهجا، كما تتصوره الوضعانية، غير بناء. ولذلك يجب مغادرة التجربانية الوضعانية" (ص210). إن المؤلف، إذ يفند مسلمة المنطلق التجريبي للمعرفة العلمية، يؤكد على تدخل "الخلفيات الثقافية" والملابسات المقامية في بناء العلم، وإذ يرفض أطروحة تميز ونقاء العلم، يعتبره "سيرورة بنائية" تتدخل فيها عناصر متعددة؛ كما يرفض أطروحة موضوعية العلم دون السقوط في الذاتانية والنسبانية الجذريتين.

 

3 – القسم الثالث: بنائية الاستدلال العلمي:

إذا كان المؤلف قد رفض رد التعقل العلمي إلى الاستنباط أو الاستقراء معتبرا إياهما "بمثابة المنتهى الأقصى للعمليات التعقلية التي لا تتحقق في الممارسة العملية" (ص413)، فإنه يرفض أيضا الموقف الفوضوي الذي ارتبط بفيرابند على وجه الخصوص. إن هذا الأخير إذ يرفض بصرامة كلا من الاستقراء والاستنباط يقترح مفهوم "مضاد-الاستقراء" كآلية للإبداع العلمي. فالتجديد العلمي هو، حسب فيرابند، إعادة للنظر في الحقائق السائدة وإبداع بدائل لها بطرق غير معهودة. غير أن مفهوم "مضاد-الاستقراء" عند فيرابند لا يخضع لضوابط علمية محددة بل إنه مجرد غامرة فكرية أو إجراء فوضوي محض. لقد أخضع المؤلف موقف فيرابند هذا لنقد دقيق، فبعد أن كشف على بعض مظاهر اضطرابه وتهافته بل وتناقضه أيضا، خلص إلى القول: "ليس "مضاد-الاستقراء" مفهوما يعبر عن آلية تلقائية أو منطقية للاستدلال، بل هو حد لغوي اصطنعه فيرابند لتبرير مناداته بالفوضى.. وبما أن التجربة تكشف عن انتظام معين في الطبيعة، فلا يمكن أن يكون الفكر العلمي فوضى عشوائية. وبذلك لا مكان لما يسميه فيرابند "مضاد-الاستقراء" في الفاعلية العلمية" (ص411-412).

وفي مقابل ذلك كله، يؤكد المؤلف أن الاستدلال العلمي الفعلي هو استدلال استكشافي-تمثيلي. فالتعقل العلمي لا يشتغل لا بواسطة آلية الاستقراء ولا بواسطة آلية الاستنباط ولا بواسطة مفهوم "مضاد-اللاستقراء"، ولكنه يشتغل بواسطة آلية التمثيل: "إن التعقل يشتغل بمناسبة إدراك ظاهرة أو فكرة أو علاقة ما، فيطبق عليها فكرة سابقة، فهو تعقل يختبر الأمور حالة بحالة، ويقيس الحالة الجديدة على حالات سابقة" (ص413). ويؤسس المؤلف موقفه هذا على جملة من الاعتبارات نذكر منها:

أ – تكشف الممارسة الفعلية للعلم أن التمثيل يلعب دورا بنائيا هاما في العلم. إنه إذ يسمح بتنقل المفاهيم والنماذج والفرضيات من مجال علمي إلى آخر، فإنه يقيم جسورا بين المجالات العلمية المتقاربة تسمح لها بالتلاقح المتبادل،

ب – إذا كان التعقل العلمي لا يشتغل بالآليات الاستدلالية فحسب، وإنما يستلهم أيضا عناصر السياق الثقافي والاجتماعي، فإن الآلية التي تناسبه هي آلية التمثيل، ذلك أن "التعقل التمثيلي آلية منفتحة على خصوصيات المقام، وحصيلة نشاطها تقبل المراجعة وإعادة البلورة بخلاف الأمر في الاستنباط والاستقراء" (ص416)،

ج – إذا كان العلم "سيرورة بنائية" يخضع لتعديلات ومراجعات متتالية فإن الآلية التي تناسبه هي بالتأكيد آلية التمثيل، ذلك أن "كل نتيجة تمثيلية قابلة للمراجعة، لأن التمثيل لا يؤدي إلا إلى نتيجة تقريبية ومقيدة بمجال مخصوص"(ص418)،

د – يعكس التمثيل خاصية أساسية مميزة للفكر العلمي ألا وهي خاصية الانفتاح. وبما أن انفتاح العلم يفترض "جدلا نقديا بناءا" بين المتخصصين، فإن التمثيل هو الآلية التي تتلاءم وهذا الطابع الدينامي للعلم،

هـ – إذا كانت الفرضية تشكل لحظة أساسية في بناء العلم، فإن الاستكشاف التمثيلي يلعب دورا مهما في بلورتها ونقدها. فإبداع الفرضية ليس خلقا من عدم، ولكنه "تعبير عن فكرة مستقاة من معارف سابقة، من خلال إدراك تشابه أو اختلاف المجال السابق والحالة الطارئة.."(ص416

و- وأخيرا، تتخذ التجربة العلمية بدورها صيغة عملية تمثيلية. إنها "تصمم على ضوء تجارب علمية سابقة" و"تنجز في شكل إعادة إنتاج الظاهرة أو وضع مثال حدث (ص 417).

هذه بعض الاعتبارات الأساسية التي جعلت المؤلف يقرر، خلافا لكل التصورات الوضعانية واللاوضعانية، أن الآلية التي تعكس فعلا حقيقة النشاط العلمي هي آلية الاستكشاف التمثيلي. ومن ثمة، إذا جاز لنا أن نتحدث عن منهج علمي فإنه ليس بالمنهج الفرضي الاستنباطي الذي ساد لدى جل العقلانيين ولا بالمنهج الاستقرائي الذي اعتمده جل التجريبانيين ولا بالمنهج المتكامل الذي يجمع بين آليتي الاستنباط والاستقراء وإن بدرجات متفاوتة حسب قناعات العلماء المذهبية وطبيعة المجالات العلمية كما ساد الاعتقاد لدى مجموعة من المفكرين من أمثال جيفونس وهويل وك.برنار وبلانشي وباشلار. إن المنهج العلمي – باعتباره جملة من الإجراءات المندمجة المتسمة بدرجة عالية من المرونة لا باعتباره مبادئ نظرية محددة وخطوات إجرائية مضبوطة وصارمة – هو منهج استكشافي – تمثيلي – استنباطي يلعب فيه كل من برهان الخلف ونظرية النسب والمرور إلى المنتهى أدوارا أساسية. فهذه الآليات الأخيرة هي آليات "ذات نواة استنباطية لكنها منفتحة على خصوصيات المجال"(ص297).

 

خاتمة:

ومرة أخرى، نجدد التأكيد على أن هذا التقديم لا يزعم الإلمام بمختلف جوانب الكتاب بل إنه مجرد محاولة متواضعة لتقديم فكرة عامة عن هذا العمل العلمي بكل المقاييس. إن غنى الكتاب وتنوع مضامينه وعمق ودقة تحليلاته تجعله يقاوم كل عرض مختزل. فلا شيء يعفي المهتم من قراءته. والحال، لا يمكنني أن أختتم هذه الورقة إلا على شكل ذيل سمكة كما يقول المثل الفرنسي. فإذا جاز اعتبار هذا العمل عملا فلسفيا، على الأقل من حيث أنه نشدانا للحكمة، يمكنني أن أختتم بالتذكير بقولة مشهورة لفرنسيس بيكون، صاحب مشروع الإحياء العظيم وكتاب الأورغانون الجديد: "إن الذين تناولوا العلوم كانوا إما تجربيين وإما اعتقاديين: الفئة الأولى كالنمل تكدس خزينها وتستعمله. والثانية كالعناكب تغزل من إفرازها نسيجها. أما النحلة، وهي وسط بين الاثنين، فهي تستخرج المادة من أزهار الحديقة والحقل، ولكنها تعمل فيها وتشكلها بجهودها الخاصة.

والعمل الحقيقي للفلسفة يماثل عمل النحلة..". وإذا علمنا أن النحلة تنتقي طعامها بدقة الفطرة لتحوله إلى ألذ طعام، أمكننا القول إن هذا العمل يشبه، إلى حد كبير، عمل النحلة.. إن الأمر لا يتعلق، في نظرنا، بمجرد مساهمة أصيلة ومتميزة في مجال البحث الإبستمولوجي المعاصر عموما والبحث الإبستمولوجي العربي خصوصا، بل يتعلق بمشروع أو برنامج عمل يستدعي دراسات قطاعية تضعه على المحك، وهي مهمة ملقاة على عاتق المنشغلين بتاريخ وفلسفة العلوم على وجه الخصوصg

ـــــــــــــ

 

الكتابة ضد الواقع

قراءة في رواية "أفراح القبة" لنجيب محفوظ

 

حسن المودن

 

" أجل أصبح الفن هو الأمل الباقي للرغبة الملتهبة وللحياة الواقعية معا" (أفراح القبة، ص 162)

1 - لقد صارت الكتابة في رواية "أفراح القبة" ساحة صراع بين الواقع والحلم، بين الواقع والخيال: يتساءل مؤلف المسرحية (الشخصية الرئيسية في الرواية) عن أيهما الأقوى، ويأتي جوابه انتصارا للطرف الثاني: "هو الحلم بلا شك" (ص 169)، كما ستعلن شخصية أخرى أن "الجديد المتخيل أكثر من الواقع بكثير" (ص 115).

ولا شك أن هذا الانتصار للطرف الثاني (الحلم-الخيال) علامة على التحول المهم الذي عرفته الرواية العربية بعد هزيمة 1967م، بعد أن كانت (أي الرواية العربية) في المراحل السابقة تكاد تكون خاضعة في معظمها لخطابات نقدية وإيديولوجية تنتصر للطرف الأول من هذه الثنائية (أي "الواقع" بالمفهوم الانعكاسي والتبسيطي والأحادي البعد: فهو يكاد يعني العالم الاجتماعي الخارجي..)

لكن وإن كانت هذه الرواية تنحاز للخيال والحلم والإبداع، فإن ذلك لا يعني أنها تسعى إلى كتابة خالصة مثالية، بل إن ذلك لا يعني إلا تمكينها من كل قوتها وتفجير كل طاقاتها لتكون أكثر قدرة على مواجهة الواقع: واقع الانهزام والاستسلام والفساد والشر: يقول المؤلف المسرحي (الشخصية الرئيسية):

"الفشل في الفن موت للحياة نفسها… والفن بالنسبة لي ليس فنا فحسب ولكنه البديل عن العمل الذي يطمح إليه المثالي العاجز. ما ذا فعلت لمقاومة الشر من حولي؟ وما العمل إذا عجزت أيضا عن الجهاد في الميدان الوحيد المتاح وهو المسرح؟" (ص 163).

صحيح أن رواية "أفراح القبة" لم تجعل من الهزيمة موضوعها بطريقة مباشرة، لكنها لا تخفي تركيزها على ما آل إليه وضع الإنسان العربي بعد الهزيمة، فهي في أكثر من موقع تفصل بين ذلك الزمان الماضي (ما قبل الهزيمة) والزمان الحاضر (ما بعد الهزيمة)، كما تركز كل فصولها على شخصيات مهزومة مغلوبة على أمرها، تشكو الحزن والقلق، العجز والاستسلام، اليأس والإحساس بالعار، مؤسسة خطابا استفهاميا اتهاميا: من المسؤول عن هذا الوضع؟ ما الذي حدث؟ ما هذا الغامض الخفي الذي تسلل بيننا؟؟ أين ذلك الإنسان القديم؟

ونعتقد أن دراسة هذه الرواية -والروايات التي ظهرت بعد هزيمة 1967- لن تكون إلا ضرورة في الوقت الراهن لسببين أساسيين يمكن صياغتهما في صيغة استفهامية: أولا، ما هي الإضافات الأدبية الأساسية التي ساهمت بها هذه الرواية -وتلك الروايات- في تطوير الكتابة الروائية العربية؛ كيف عالجت هذه الرواية -الروايات- إشكالية الهزيمة، وإلى أي حد ساهمت في تحرير الإنسان العربي من الاستسلام والإحباط والإحساس بالعار؟

لا يكفي في نظرنا أن نقف عندما تقدمه هذه الرواية -الروايات- من جديد ومن إضافات إبداعية للكتابة الروائية خاصة والأدبية عامة، ذلك عمل ضروري، لكن لا بد من الوقوف أيضا على ما تقدمه للقارئ العربي، للإنسان العربي.

2 - سرد القذارة:

سيتساءل كل قارئ لهذه الرواية: لماذا سماها المؤلف "أفراح القبة"؟

نشير أولا إلى أنه اسم لمسميين: فهو عنوان الرواية لكنه أيضا عنوان المسرحية التي هي موضوع الرواية. وقد سأل أحد قراء المسرحية (مدير المسرح) مؤلفها لماذا سماها كذلك، فتلقى منه جوابا سلبيا، لكن رد هذا القارئ قد يكون جوابا كافيا إذ يقول: "… مكر المؤلفين لا يجوز علي، لعلك تشير إلى الأفراح التي تبارك الصراع الأخلاقي رغم انتشار الحشرات، أو لعله من أسماء الأضواء كما نسمي الجارية السوداء صباح أو نورا".

المسألة أننا أمام عنوان فرح لسرد قذر: تفتتح الرواية في فصلها الأول بحديث عن مسرحية جديدة ومثيرة، يفضح فيها مؤلفها عباس كرم يونس حياة عائلته ومحيطه الفاسدين. والمثير أن الشخوص الذين تحكي عنهم منهم أنفسهم سيكون كاتبها (عباس كرم يونس) وممثلها (طارق رمضان…) والمشرف على إخراجها وتقديمها للجمهور (مدير المسرح) وجمهورها (أب عباس وأمه وفرقة المسرح وموظفوه…)

يفضح مؤلف المسرحية جانب العهارة في أمه، وجانب الفساد والقوادة في أبيه، وجانب الاستعباد والاستسلام والانحلال في باقي أفراد الفرقة المسرحية التي ينتمي إليها أبواه، لينتهي في مسرحيته إلى محاكمة أبويه والحكم عليهما بالقتل وعلى الابن -أي المؤلف نفسه- بالانتحار، لكن الرواية لم تحكم على الأبوين بالقتل قدر ما سمحت لكل شخصية بالتعبير عن رأيه وإبداء موقفه (من المسرحية، من وقائعها، من الآخرين..) وتقديم أعذاره وتبريراته، كما أن الابن (بطل الرواية ومؤلف المسرحية) سيتراجع عن الانتحار.

إنها مسرحية-رواية تشخص الواقع القذر وتؤسس، أو على الأصح ترسخ اتجاها سرديا سميناه: سرد القذارة. وهي تسمية استوحيناها من الرواية نفسها: يواجه أحدهم مؤلف المسرحية قائلا: "إن البطل قذر جدا وبغيض جدا ولن يتعاطف الجمهور معه…" (ص 173). وقد كان نجيب محفوظ يركز في أغلب رواياته، بهذا القدر أو ذاك على الجانب القذر في حياة شخوصه (نمثل برائعته "الثلاثية")، إلا أنه في "أفراح القبة" يجعل من حياة القذارة الموضوع المركزي: حياة عائلة تقوم على الاغتصاب والعهارة والخيانة والقوادة والقمار…

صحيح أننا نفهم من الرواية أن العائلة قبل الهزيمة كانت، بالرغم من كل شيء، متماسكة، لكن المسرحية، وبالتالي الرواية، تركز أساسا على ما آل إليه وضع هذه العائلة بعد الهزيمة: بعد أن اكتشف الابن أن أبويه قد حولا البيت العائلي إلى وكر للقمار والفساد -فاتسمت علاقته بأمه بالأسى (ص 132) وتلاشى الأب القديم في عينيه (ص 134)، وتدهور الحال بين الأب والأم (ص 134), وساد الشر والفساد (ص 139)، وصارت كل الشخصيات يأكلها الفراغ والوحدة والحزن والجفاف والإفلاس (ص 175-176)- وصار الموت بطل الحياة (ص 175).

ليس قصدنا أن يشمئز القارئ من هذا الاتجاه السردي، بل هدفنا أن نبين أننا أمام اتجاه لا يذهب إلى الاستكانة والمهادنة والصمت، ذلك لأنه يركب الفضح وتعرية المسكوت عنه والجهر بالحقيقة ولو كانت قذرة مرعبة وهو بهذا يبتكر أساليب جديدة تمكنه من تشخيص هذه الجوانب القذرة المرعبة في الشخصية الإنسانية.

يكون نجيب محفوظ، على الأقل بهذه الرواية، أقرب من الروائي الروسي دوستويفسكي، من حيث التركيز على هذه الجوانب القذرة المرعبة في الشخصية الإنسانية -وإن كانت أقل حدة عند الروائي العربي-، ومن حيث معالجة الشر المتجذر في الإنسان في علاقة بإشكالية الأخلاق.

لكن ما يبدو أساسيا هو أن نجيب محفوظ يقيم، من خلال هذه الرواية، تعارضا بين المسرح (الفن) والواقع: إذا نحا المسرح نحو المأساة (القتل والانتحار)، فإن الواقع لا ينبغي أن ينحو ذلك النحو. وهو بهذا يخلق تعارضا بين الفن المأساوي (المسرح) والفن الواقعي (الرواية): الرواية وإن كانت تركب الشك والسؤال والفضح، فهي تدعو إلى الحلم وإلى تحرر الإنسان وإلى الإيمان بالمستقبل. وتنتهي الرواية، على نقيض من المسرحية، بهذه الجملة: "ذروة النشوة تتألق على جسد عراه الإفلاس والجفاف ولكن تنطلق إرادته بالبهجة المتحدية" (ص 178).

أمن الممكن أن يكون سرد القذارة، بهذا المعنى، هو المؤهل لمواجهة الشر والموت اللذين سادا المجتمع العربي بعد الهزيمة؟ نقرأ في الرواية: "على المؤلف أن يعرف كل شيء، والشر خاصة…" (ص 131).

إن موضوع الرواية الجوهري هو: الإنسان وقد صار ممثلا فاقدا إنسانيته بعد الهزيمة (ص 142)، ومهمة الأدب الروائي هي تشخيص هذا النوع من الإنسان ونقده ودعوته إلى استعادة إنسانيته بتطهيره من الشر والفساد وبترسيخ قيم الخير والروح والحلم. فالفن ينبع من الشر (ص 131) لكنه ضده، وهو يقوم من الإثم لكنه يصمم بقوة على الثورة (ص 170) جاعلا سؤاله الأساسي الإنسان الذي صار مفقودا والفن الذي استحال ضائعا والحرية التي أضحت منعدمة (ص 164).

والفن إذ ينطلق من قذارة الإنسان، فهو يطرح كل الأسئلة الكبرى والآنية: سؤال الحقيقة والحب والحياة والموت والخيانة والعبودية والدين والخطيئة… وكل هذا أساسي، لكني أتساءل: ألم يحن الوقت بعد لأن تقدم لنا الرواية العربية شخصية المستقبل، شخصية الحب والحلم والحياة والتحدي بدلا من هذه الشخصية المهزومة الميتة؟ أساسي أن نتناول الشخصية المهزومة بالدرس والتحليل، لكننا أيضا أحوج ما نكون إلى شخصيات قوية مقبلة على الحياة: أستحضر شخصية "الزين" من رواية "عرس الزين" شخصية الحب والحياة والفرح والضحك المتجذرة في التربة المحلية… أليس ضروريا دراسة كل الروايات المؤسسة للمستقبل والاحتفاء بها؟

3 - السرد العائلي:

تتكون الرواية من أربعة فصول أساسية، كل فصل يحمل اسم فرد من أفراد عائلة كرم يونس، إلا فصلا واحدا نجده يحمل اسم شخصية وإن لم تكن من العائلة، فقد كانت لها علاقة بالكثير من الوقائع في حياة هذه العائلة.

على أي، نحن أمام سرد عائلي. وهذا النوع من السرد يأتي وليد صدمة: لم يلجأ عباس إلى الكتابة إلا عندما وقع في أزمة خطيرة: "إني أرفض أبوي، القواد والذاعرة" (ص 146). لقد كان من قبل يرى في أبويه قوتين لهما قدرة كبيرة على الحب والكمال ويضعهما في دائرة بعيدة عن العالم الإنساني، لكن بعد أن اكتشف أمه عاهرة وأباه قوادا وصارت حقيقة أبويه عارية (ص 145)، صارا بذلك غير معروفين لديه ولم يعد بوسعه أن يتعرف عليهما أنهما أبواه. لقد سقط القناع عنهما وصار بوسعه البحث عن امرأة أخرى ملاك (تزوج تحية وأرادها ملاكا، لكن تاريخها كان فاسدا، وكان لا بد أن تموت-) وعن رجل آخر طاهر (ابنه طاهر من تحية أراده طاهرا، لكنه من تحية ومآله مآلها).

وهذا الابن نفسه، وهو الكاتب والمثقف و "البطل"، وإن كان يسعى إلى أن يكون "بطل" الخير، فهو منقسم بين واقعه وحلمه- قال عنه أبوه: "لم يكن يوافق على حياتنا، كان مثاليا كأنه ابن حرام" (ص 45).

يبدو أن السرد العائلي يقوم، على الأقل في هذه الرواية، على المفارقة. لكن بناءه يأتي فضائحيا اتهاميا: فالابن الكاتب المسرحي يواجه الحقيقة القاسية متهما أبويه: "أبي مجنون مدمن أما أمي فهي المدبرة لما يجري في الكون من الشر" (ص 146)، وتقوم كل شخصية بتسليط الضوء على حياتها وبالأخص على المرحلة التي تناولتها المسرحية، كما تقوم بتبرير سلوكاتها وإبعاد التهمة عن نفسها، فيظل السؤال عالقا: من المسؤول عن الفساد والاستغلال والاستعباد؟ من المسؤول عن الوضع الذي صارت إليه العائلة (العهارة - القوادة - الإدمان)؟ من قتل تحية وطاهر…؟!

يتموضع السرد العائلي بين المفقود (عائلة ما قبل الهزيمة) والموعود (البحث المتواصل عن الملاك والطاهر)؛ كما يتميز بالرغبة في التحرر (لم يؤلف عباس المسرحية إلا ليتحرر من الشعور بالعار الذي لازمه دوما - ص139) وبالرغبة في التغيير: يكون صانع هذا النوع من السرد مولعا بالحرية، مصمما على ألا ينحني أمام الواقع، متمردا على الأوضاع- وهو بهذا يتصف بأنه جدير بتأمين هذا التواصل بين الرغبة والواقع.

وهنا أسمح لنفسي بملاحظة: الرغبة في التغيير والتحرر قائمة هنا، لكنها ليست مجسدة: فصانع الرواية العائلية هنا لم تتضح لديه بعد معالم العائلة التي يحلم بها: لقد حاول ذلك عندما تزوج الابن عباس من تحية ورزق منها بطاهر، لكن تاريخها الفاسد لا يسمح بأن تكون المرأة الملاك التي يحلم بها وابنه منها لن يكون الرجل الطاهر الذي يريده. ومن هنا يظهر أنه عاجز عن بناء مثاله - وأعتقد أننا اليوم في أمس الحاجة إلى بناء مثالاتنا على مستوى الشخصيات وعلى مستوى العائلة، ولدينا نماذج في الرواية العربية تستحق الاحتفاء والدرس من هذه الناحية: تتقدم "لعبة النسيان" رواية عائلية استطاعت بقوة وثراء كبيرين أن تصنع "الأم-الملاك": امرأة الحب والخير والحياة، وأن تصنع الأب المرغوب فيه (سيدي الطيب ليس هو الأب الحقيقي لكنه أخ الأم ويقوم مقام الأب بالصورة التي تريح الابن)…

تطرح هذه الرواية مسألة أساسية: المذنب والأخلاقي عند نجيب محفوظ. ويمكن التساؤل في إطار هذه المسألة إلى أي حد استطاع هذا الروائي أن يكون مربيا ومحررا لشخوصه وبالتالي لقرائه، خصوصا وأن عباس المثقف والبطل لم يتمكن من بناء نماذجه المثالية التي يحتاج إليها القارئ إلى مواجهة واقعه، في قذراته وابتذاله، وإلى الرفض والتمرد والتحدي، إلا أنه لا يقدم البدائل المستقبلية التي يحتاجها القارئ. ولهذا يمكن السؤال: ماذا يقدم نجيب محفوظ لمستقبل الإنسان العربي، على الأقل من الناحية الأخلاقية والثقافية؟

لا نبتغي تنقيصا من قيمة هذا العمل، فالرواية العائلية تؤسس هنا أدب النقد والنقد الذاتي، أدب الشك والرفض والسؤال. ومن جهة أخرى، نرى ضروريا ومفيدا دراسة الرواية العائلية في كل أعمال نجيب محفوظ، فحضورها فيها قوي بشكل ملفت للنظر…

4 - السرد المذوت:

التذويت شكل تحييلي فرض نفسه في الحقل السردي العربي منذ نهاية الستينات على الخصوص، مع نصوص استطاعت أن تؤسس وضعا اعتباريا جديدا للشخصية الروائية التي صارت مذوتة تنزاح عن نسقها الاجتماعي وتؤسس لنفسها تذويتا ورؤية وممارسة. والتذويت ليس مجرد نسبة خطاب إلى ذات متلفظة بل هو تخصيص يطال جميع المستويات الخطابية والنفسية والاجتماعية. فهو خطاب من خلاله تقول الذات كلامها واستيهاماتها وشكوكها وأحلامها وتمزقاتها…

وإن كان نجيب محفوظ قد شرع في تأسيس هذا الشكل التخييلي منذ أوائل العقد السادس (في "اللص والكلاب"، وفي "ثرثرة فوق النيل")، إلا أنني أعتقد أن هذا الشكل قد أصبح ناضجا وخصبا في أعماله التي أنتجها بعد ذلك العقد، ومنها رواية "أفراح القبة". تتكون هذه الرواية من أربعة فصول، يتعلق كل فصل بإحدى الشخصيات الأربع المحورية، ويعرض فيه السرد بواسطة ضمير المتكلم عن طريق سرد جواني/داخلي، تأتي معه الشخصية مركز التبئير، وهو تبئير داخلي حتما.

وتمكنت هذه الرواية لارتكازها على مبدإ التذويت من الخروج من مأزق الاحتوائية الذي تمثل في الرواية التقليدية التي كان نجيب محفوظ من مؤسسيها. ففي "أفراح القبة" يتم الاستغناء عن السارد (بضمير الغائب)، من جهة لأن محكيات الرواية مسرودة بضمير المتكلم (أوتوبيوغرافيات متخيلة)، ومن جهة ثانية لأن المونولوج الداخلي يهيمن على هذه المحكيات التي وإن كانت أوتوبيوغرافية، إلا أنها ليست مرتبة ومصوغة من خلال البنى المألوفة في الأتوبيوغرافيات التقليدية. وذلك للاعتماد على طرائق وصيغ السرد النفسي، بحيث تقدم لنا الشخصية حياتها من خلال نفسيتها، الأمر الذي يجعل هذا التقديم مكسوا بحمولات وآثار نفسية لها أثر كبير على إيقاع السرد وأسلوبه.

ينمحي السارد بأقصى درجة تاركا المكان لوعي شخصيته المكشوف، وبذلك أضحت مكانتها قوية، فهي لم تعد تؤدي فقط وظيفة "الفعل" بل أضحت تأخذ مبادرة الكلام مبرزة موقفها وشكوكها واستفهاماتها…

سنحاول الآن أن نبين بعض المستويات التي يشملها التذويت. نجد أولا أن الذات أضحت شكلا-وسيلة لتذويت المادة الروائية، بحيث صارت لها القدرة على امتلاك الواقع والنظر إليه من منظورها الذاتي. فلم نعد أمام ذلك السارد المهيمن العالم بكل شيء والمالك وحده لكل الواقع ولكل الحقيقة، بل أصبح كل كائن تخييلي يملك حقيقته ومنظوره الخاص. وهكذا لم يعد الخطاب الروائي، بفضل التذويت، يعتقد بالحقيقة الواحدة الكاملة والمطلقة قدر ما يعمل على تنسيب الحقيقة والنظر إليها في تعددها. ونقدم هنا مثالا على ذلك موقف الأب وموقف الأم من المسرحية ومن الواقع الذي تقدمه والذي هو واقعهما:

يقول الأب وهو يستعد لمشاهدة المسرحية (واقعه وواقع عائلته من منظور ابنه الكاتب المسرحي) صحبة زوجته.

"رغم استهتاري توترت أعصابي. فيم تهمني مسرحية وأنا لا تهمني الحياة! آه هاهو الستار يرفع عن بيتنا. بيتنا دون غيره. هل أراده العجر وردي كذلك أو أنه عباس؟! الأب والأم والابن. إنه ببساطة ماخور ونادي قمار. يوجد أكثر من الجريمة والخيانة. الأم تبدو عاهرة بلا ضابط. علاقتها تتتابع مع المدير والمخرج والناقد وطارق رمضان! ذهلت. أنفاسها تتردد في ثقل وخشونة. إنه الجحيم. استمتعي برأي ابنك فيك. رؤيته تتجلى بوحشية عن أبيه وأمه. من يتصور أن رأسه المتزمت يحوي هذه الخرائب كلها؟ إني سعيد برأيه في أمه. سعيد بإطلاعها على رأيه فيها. المسرحية تنكل بي وتنتقم لي… ثم إنه لم يفهمني. إنه يقدمني كرجل منحل. كرجل واجه تحديات الواقع بالانحراف. لست كذلك يا غبي. لم أستو مركبا لكي أنحل. نشأت بسيطا بدائيا حرا. نشأت شاهدا ومدينا للنفاق. ذاك ما لا يمكن أن تفهمه…" (ص 74-75).

وتقول الأم:

"سرعان ما رأيت البيت القديم ترفع عنه الستار. تتابعت الأحداث. تجسدت أمام عيني عذابات حياتي… وجدتني مرة أخرى في الجحيم. وأدنت نفسي كما لم أدنها من قبل. قلت هنا كان علي أن أهجره. هنا كان علي أن أرفض. لم أعد كما كنت في ظني الضحية. ولكن ما هذا الطوفان من الجرائم التي لم يدر بها أحد؟ وما هذه الصورة الغريبة التي يصورني فيها؟ أهذا حقا هو رأيه في؟ ما هذا يا بني؟ إنك تجهل أمك أكثر مما يجهلها أبوك وتظلمها أكثر منه… لا… لا… إنه الجحيم نفسه… تراني عاهرة محترفة وقوادة؟…أهو الخيال أم هو الجحيم؟ إنك تقتلني يا عباس. لقد جعلت مني شيطان مسرحيتك…" (ص 113-114).

يظهر الاهتمام كبيرا في هذه الرواية بسيكولوجية الشخصيات، وهو كبير بالمقارنة مع الروايات التي ألفها نجيب محفوظ وخاصة قبل "اللص والكلاب". فالملاحظ أن ظهور المسرحية لعب دورا كبيرا في حدوث أزمة فرضت استحضار الماضي ومناقشة ما حدث وإعادة النظر في الأشخاص والآراء والقناعات… ويحدث هذا النقاش جهرا في المسرح وفي البيت،لكنه في جزء كبير يحدث سرا في الداخل كما في النموذجين أعلاه. وهذا ما يفسر هيمنة طرائق ومناهج سردية مذوتة تندرج ضمن ما نسميه بـ" السرد النفسي": لم نعد أمام طرائق سردية تتقصد نسخ الواقع الخارجي وتجسيد الحضور، بل نحن أمام مناهج سردية تنحو إلى المرجعية الذاتية وتشخص الغياب والحياة الداخلية.

من الملاحظ أن السرد والحوار يهيمنان على هذه الرواية كما هو الأمر في أغلب روايات نجيب محفوظ، إلا أنهما في هذه الرواية غالبا ما يقدمان ويسترجعان من خلال داخلية الشخصية. وبمعنى آخر، يكاد يقل السرد الوقائعي الذي يتتبع الشخصية وهي "تفعل وتتحرك" في العالم الخارجي، ليتم التركيز على ما "ينفعل" في داخلية الشخصية عند حوارها لذاتها، لتاريخها، للآخرين…

يستثمر السرد النفسي في هذه الرواية أهم طرائق تشخيص الحياة الداخلية كما حددتها وصنفتها د.كوهن (1978) (المحكي النفسي، المونولوج الداخلي بكل أشكاله -). إلا أن الأهم هو هيمنة المونولوج التذكري، وهو أمر يفسره أن المسرحية فرضت على الشخوص المحورية استعادة تجربتها ومناقشتها داخليا. وقد منح هذا المونولوج للمحكي إيقاعا حادا ومسلكا ذا فعالية درامية كبيرة في إبراز التشكك والحيرة والتردد والاضطراب، بشكل يبدو معه المحكي كأنه ينحكي وحده. كما نجح هذا  المونولوج في تكسير الحدود الفاصلة بين العالم الداخلي والعالم الخارجي، بحيث يتردد الوعي بين الداخل والخارج، ماحيا الخط الفاصل بين المونولوج والسياق السردي، وفاسحا المجال للانفعالات والاستفهامات والتعجبات.. كما أن هذا المونولوج التذكري أكسب الرواية خاصية بنيوية أساسية تتجلى في الوظيفة المتميزة الممنوحة داخل خطاب التذكر لتلك الحلقة من الماضي العائدة إلى الذاكرة. فهذه الحلقة تلعب دور نوع من المفجر الذي يسمح بسيل من الذكريات لماض بعيد بالبروز في الذهن، مقدما إياه من خلال شخصية مطبوعة جوهريا بكل ثقل ماضيها.

إن الشخصية في "أفراح القبة" شخصية مأزومة ومتوترة، وبذلك يصبح المحكي فيها نوعا من الانخراط ضمن متاهات الزمان (الماضي --< الحاضر --< المستقبل): فيتقدم الفعل الماضي كأنه حاضر خفي، ويتقدم الماضي موحيا بالحضور، أما الحاضر فيكون حاضرا في علاقته بالماضي، لكن إذا اتخذ الماضي صفة الحضور فهو يتصف بصفة المستقبل، وكل هذا يكسب الرواية فورة دراماتيكية مفتقدة في الغالب في الرواية التقليدية.

وتجدر الإشارة إلى أن التذويت إذا كان يتمثل في تحول وجهة النظر من السارد إلى الشخصية، فإن ذلك لا يعني أن الذات هي الشخصية بوعيها الشخصي فحسب، بل ثمة ذات أو ذوات أخرى وراء الذات الظاهرة. وبهذا لا يمكن فصل التذويت عن الحوارية، فمحكي كل شخصية هو حوار مع المسرحية، مع مواقف كاتبها، هو حوار بين الشخصية ونفسها وبينها وبين الآخرين…

تتميز رواية "أفراح القبة" بالتدعيم الجمالي للمبدإ الحواري، وهي بهذا رواية بوليفونية، بحيث تتقابل وتتعارض الملفوظات، ويترجم كلام الشخصية العلاقات المتوترة والنزاعات القائمة بين هذه الشخصية والشخصيات الأخرى وبينها وبين نفسها… وهناك تقابل الأصوات وتداخلها وتعارضها (الصوت الداخلي/الصوت الفني/ الصوت الاجتماعي/الصوت الفردي/الصوت السيكولوجي/ الصوت المتزن/ الصوت المضطرب…). فصوت الشخصية يتقدم ردا على صوت آخر (كما في النموذجين أعلاه) بهذا القدر أو ذاك من التكرار الجزئي والتصحيح والاستفهام والتعجب؛ وغالبا ما يكون الصوت إعادة إنتاج تنحو نحو التباعد والتنازع والتعارض (بالسخرية، والسجال، والإهانة، والاستفهام والتعجب…)

وقد يكفي أن نقف عند جانب المعجم، فنكتشف أن استعمال المعجم يظهر أصواتا مختلفة ومتعارضة: إذا أخذنا عبارة "المسرحية"، فسنلاحظ أنها تستعمل في سياقات مختلفة ومن منظورات متعددة، فهي تظهر في صوت طارق بتشككات أخلاقية، وفي صوت مدير المسرح بتأبيدات جمالية، كما تظهر بمظاهر مختلفة في الأصوات الأخرى، وهذه الترسيمة تبرز ذلك:

 

طارق رمضان :  "ما هي بمسرحية، إنها اعتراف..(ص8)… إنه مجرم لا مؤلف(ص9)

  مدير المسرح : "المسرحية خيال (ص48)، المسرحية مسرحية لا أكثر من ذلك(ص49)

المخرج      :  "المسرحية مرعبة" (ص6)

 الأب  :  "المسرحية تنكل بي وتنتقم لي" (ص 75)

الأم :   "لقد جعلت مني شيطان مسرحيتك" (ص 113)

الابن المؤلف :  "إنها مسرحية ولا يجوز إلقاء نظرة خارج نطاقها" (ص171)

 

لكن وإن اعتبرنا هذه الرواية بوليفونية، متعددة الأصوات، يتراجع فيها السارد التقليدي وتتقدم فيها الشخصية كاسحة على ما يبدو ميدانه، فإن هذا لايعني أن هذا السارد قد اختفى تماما. فبالرغم من أننا لا نسمع له صوتا في هذه الرواية، إلا أن هذا لا يمنع أن هناك يدا خفية تقف وراء السرد وتنظم الفصول وتمنح الكلمة للشخصيات وتختار الخيار الحاسم أن تقدم أصواتا متعددة مختلفة ووجهات نظر متماثلة أو متعارضة… فهل من حقنا القول إن البوليفونية، على الأقل هنا، ليست إلا متغيرا -وإن كان الأخصب- من متغيرات السرد التقليدي عند نجيب محفوظ، حيث يوجد دوما سارد إله منظم، قوة عليا تسير وتنظم وتختار…

ومع كل ذلك يبقى أن الكتابة الروائية لما بعد الهزيمة صارت مذوتة بوليفونية مكنت الذات من استعادة صوتها الذي كان مغيبا وراء الخطابات القاهرة الآمرة وصار بإمكانها الشك والسؤال والنقد والسخرية، بل وتفعيل كل إنسانيتها. ونعتقد هذا الأمر من الإنجازات الكبيرة التي ينبغي استثمارها في حاضرنا ومستقبلنا، ذلك لأن الإنسان في مجتمعنا لا يقول إلا ما قاله عباس في هذه الرواية: "أشعر بحنين جارف إلى الحرية… إلى الإنسانية المفقودة…" (ص 164). إن تحرير أصواتنا من الخطابات القاهرة الآمرة شرط أساسي لتجاوز إشكالية الهزيمة ولبناء المستقبل - تتساءل الرواية في استنكار: "وحتى الهزيمة لم تزعزع أركاننا، ومادامت الأناشيد لم تتغير ولا تغير الزعيم، فماذا تعني الهزيمة؟" (ص 129).

وبهذا يمكن أن نستمد الحياة من هذا النوع من الأدب، بما أنه الخطاب الذي يقول ما لا تقول الخطابات الأخرى ويواجه الشر والموت والاستعباد والإكراه… على النقيض تماما من الخطابات المستكينة والمهادنة والمتحايلة.