ص1       الفهرس   

مرافعة من أجل سوسيولوجيا مداعبة

قراءة في امتداح العقل الحساس لميشيل مافيزولي

 

عبد الله زارو

 

"نعيش في عالم يحتضر ويجهل أنه يحتضر، ويمعن في الكذب على نفسه لأنه يصر على تزيين غروب شمسه بألوان شروق العصر الذهبي"                                                          روني شار

 

I – حكمة من "اسم الوردة":

في اسم الوردة لامبرتو إيكو، يرد حوار ذو دلالة في السياق العام لأطروحات مرافعة هذا الكتاب، بين شخصين هما غيوم وأدسو:

ـ أدسو: "إذا مازلت بعيدا عن الحل…

ـ غيوم: بل أنا أقرب ما أكون إليه، لكن لا أعرف، بالضبط، أي حل.

ـ أدسو: إذا لا تملك إلا جوابا واحدا عن أسئلتك؟

ـ غيوم: أدسو، لو كان ما قلته صحيحا، لدرست اللاهوت بباريس

ـ أدسو: أبباريس، يمتلكون دائما الجواب الصحيح؟

ـ غيوم: أبدا، كل ما هنالك، أنهم واثقون من أخطائهم".

لن نبالغ، إذا قلنا، منذ الآن، إن كل فصول هذا الكتاب الجديد(*) لعالم الاجتماع الفرنسي ميشيل مافيزولي، تستلهم من هذه المحاورة الوجيزة، منطلقاتها النظرية وتبريراتها الإبستمولوجية، من أجل تنسيب رؤية سائدة في حقبة الحداثة إلى العلوم الإنسانية وإلى الإنسان ووجوده في الحياة الاجتماعية وأيضا إلى التاريخ باعتباره تاريخانية والسوسيولوجيا بصفتها مفاهيم مجردة وأنساقا تفسيرية كبرى.

إننا إزاء مرافعة مستميتة من أجل تجاوز هذه الثوابت المنحدرة من مرحلة الحداثة ودعوة إلى التفكير في بدائل لها مقترحة من قبيل العقل الموصول والمنطق الداخلي للأشياء والنزعة الحيوية الاجتماعية وأهمية الأشكال والنزعة الظواهرية والتجربة بنوعيها الخصيبين، المتجددين: الحس المشترك والمعيش. مافيزولي يدعو، هنا، إلى أخلاقيات مهنة جديدة في حقل العلوم الإنسانية، وبالأخص مجال اشتغاله: علم الاجتماع، حيث لا يبخل علينا بابتكارات لغوية طريفة ومثيرة، كالسوسيولوجيا المداعبة، الملامسة والشاخرة، والمقاربة الإيروطيقية للجسم الاجتماعي وبإسطيطيقا اجتماعية للتلقي وغيرها من الاصطلاحات التي يرنو، من خلالها، دعم مرافعته، بدلائل إثبات من السجل الكبير للإبداع البشري، حيث يمارس الانتقاء والاستلهام الحذق، لدعم توجهه السوسيولوجي الذي لا يريده جديدا مدعيا، بل متجددا واصلا بين "ما هو دائم التجدد في قدمه وما هو دائم التقادم حتى في تجدده".

إلا أنه في كل هذا يكرر نفسه شيئا ما، بشكل زائد، منذ ما يربو عن عقد من العطاء النظري في سوسيولوجيا اليومي، لكن هو، نفسه، يبرر ذلك في موضع آخر: لكل باحث مجدد، مذكر ببعض البداهات الأولى "فكرة وسواسية ضرورية"، يثبتها عن طريق التكرار والمعاودة والتعبير عنها بأشكال مختلفة؛ وتلك استراتيجية ضرورية من أجل زعزعة الثوابت التي طالما أخذت بالألباب وبتلك الأفكار التي يتمسك بها أصحابها، لا لوثوقهم في صلاحيتها، بل للثقة الزائدة بأنفسهم…

II – أخلاقيات مهنة:

في فصل بهذا العنوان يقترح الكاتب "أخلاقيات مهنة" جديدة على الباحثين في حقل العلوم الإنسانية، متوقفا عند خلفياتها ومحتوياتها. يقول: "لأننا لم نعد نتوفر على ضمانات، من أي نوع كانت، إيديولوجية، دينية، مؤسساتية، سياسية، يتعين أن نتعلم كيف نعتمد على (هذا الذي أسميه) حكمة شعبية.."(ص12). إنها حكمة "تعرف" بشكل، شيئا ما، عرفاني، غنوصي بألا شيء ثمة مطلق، لا وجود لحقيقة عامة، وأن الحقائق الجزئية تدخل في علاقة مع بعضها البعض، مبرهنة بذلك على استعمال جيد لمفهوم النسبية الاجتماعية.

فعندما تعدم غاية أكيدة وأهداف "بعيدة المدى"، فلن يبقى لنا إلا "منح القيمة التي تستحقها للوضعيات الحاضرة والفرص العابرة" (ص12).

وفي هذا السياق، وحتى إن كانت الدعوات العالمية والوطنية إلى حقوق الإنسان محمودة، إلا أنها، من هذا المنظور حصرا، لا تخلو من "خرافة وسذاجة في أحسن الحالات، وفي أسوئها هي منافقة، إذ إنها لا تأخذ بالحسبان واقع ما هو كائن، ولا تبالي بحالات الوجدان والروح بمختلف تجلياتها..".

والدرس الذي يجب استنتاجه من هذا التحول الكبير الذي نعبر عنه، عادة، بما بعد الحداثة، لن يكون، أبدا، هو اعتزال الفكر، بل التأسيس لأخلاقيات جديدة، تجعل من بنودها الأساسية:

+ الأخذ بالحسبان لكل الوضعيات وما تختزنه من عرضي وعابر وملتبس وغامض.

+ استبدال أخلاقيات الـ "ما يجب" بأخلاقيات الحرص على التعامل مع الوضعيات، جميعها، بحسبانها مزيجا من الأشواق (أو أشكال الشغف) والانفعالات والأحاسيس التي تتشكل من طينتها الظواهر الإنسانية.

+ وأخيرا استبدال النزعة الأخلاقية بحساسية حدبة لا يفاجئها شيء مما يتحقق في الحياة الاجتماعية، ناهيك عن أن يصدمها، وبالمقابل، تكون قادرة على فهم النمو الخاص والحيوية اللصيقة بكل شيء على حدة، وكذا الحس المشترك الذي يعبر عنه والجوانب الحسية التي يحتويها على اعتبار أن ثيمة "الحسي" غدت الخصيصة المائزة لما بعد الحداثة (ص19).

إن هذه الموجهات الكبرى هي التي ستفضي إلى التفكير، جديا، في سوسيولوجيا جديدة بملامح محددة، سوسيولوجيا بنعت آخر تعطي "الحظوة لتفكير المصاحبة أو ميتانويا ¹ بارانويا، أي فكر يفكر في ما يوجد بجانبه، حواليه، بالقرب منه، وليس الفكر الممارس للاستعلاء البارانوي.

ومن هذا المنظور، يقترح مافيزولي اسم سوسيولوجيا مداعبة "ما عاد شيء يربطها بقيود وأصفاد المفاهيم" (ص22) وعلى نفس الخط، يدعو إلى استبدال أداة التمثل بوسيلة التقويم، تقديم "أشياء هذا العالم"، كما هي في الواقع الحال، لا بعد إخضاعها لاستقلاب مفاهيمي مشوه: "إن التقديم يقنع بعرض الأشياء على البساط، يبسطها، بتركها على ما هي عليه والعمل على استخلاص ما تزخر به من غنى ودينامية وحيوية"(ص23)، إذ لا يمكننا التخلص، بشكل نهائي، من ظاهرة، أي من كل ما هو عياني ومعيش، بمجرد تسليط النقد العقلاني عليه، وهو ما سيمكننا من اكتشاف ما هو بديهي فيها والذي حجبه، طويلا، النظر الاصطناعي للمفاهيم والتفاسير والتحنيط النظري، الإسقاطي.

بل قد يكون للحرص على تقديم أشياء هذا العالم بهذه الطريقة نتائج ذات طابع أخلاقي، ليس أقلها التعود على ممارسة زهد فكري، "زهد ما عادت تستهويه الفذلكة المضللة حول الأشياء المعطاة للنظر من أجل تقديمها، لا كما هي في واقع الحال، بل كما يراد تقديمها"(ص24-25).

ضمن هذه الأخلاقيات أيضا هناك أهمية الأسلوب Style مقابل الفكرة المتواضع عليها، "فعلى النقيض من هذه الأخيرة، يتم التشديد على مسألة الأسلوب، سواء كان أسلوب عصر أو أسلوب الملاحظ الذي يستخرجه ويعبر عنه والذي يستلزم، بدل بذل جهد في التفكير، الاكتفاء بوصف الأشكال التي تحتوي محتويات بداخلها، هذه الأشكال هي التي يجب أن تكون موضوع تفكير يمارسه كل واحد منا..".

هناك أيضا أهمية اللغة المجازية في "لغة" هذه الأخلاقيات المقترحة، لغة مجازية قادرة على التعبير عن الحسي الاجتماعي واليومي المعيش: "إن الاستعارة –مثلا- تلعب دورا مميزا لكونها تدمج الحواس في المسعى الفكري العام، أكثر من ذلك، إنها تتموضع في منتصف الطريق، بين المكان الذي يحتله الحسي في الحياة الاجتماعية وفعل دمجه في المعرفة ذاتها" (ص26).

بل لم لا الحديث عن انطباعية فكرية على غرار الانطباعية الفنية؟ فـ"الانطباعي يشتغل في الهواء الطلق, يتخلص من قوقعة الصيغ الجاهزة. أما الانطباعية الفكرية، فإنها تتشبث ببساطة الحياة اليومية وتستشعر أشكالها المتغيرة، وعبرها تبين هذا النزوع إلى الأحلام اللصيقة بسيرورة الساعات والأيام التي تتشكل من طينتها الحياة الجارية…"(ص27).

III – العقل المنفصل ونقيصة التجريد:

ينتقد مافيزولي نقدا لاذعا النزعة العقلانية الحديثة، بمختلف تنويعاتها، من خلال مفهوم العقل المنفصل والإغراق في التجريد، ويقترح بديلا لها عقلانية منفتحة تهتم أكثر بـ"وضع اليد" على المنطق الداخلي للأشياء والنظر إليها من "داخلها".

إن نقد العقلانية الكلاسيكية الضيقة "تقليد" مستمر عبر أسماء همشتها النزعة العقلانية في فورة انتصارها وتمكنها، ومن هذه الأسماء نذكر (غوته، جوهان فالونتان أندرياس، بول فاليري، زيميل وفيبر وغيرهم)، فـ"الشاعر غوته، ورغم صرامته الكلاسيكية ومساهمته في تدشين حقبة الحداثة، لم يفته توقع نهايتها والانتباه إلى حدودها في كل أعماله الشعرية. جان فالنتان، من جهته، يحكي في فوست عن قصة رجل علم خيّب العلم آماله، ووجد خلاصه في ممارسة التأمل..". وقد كان القرن السابع عشر كله شاهدا على مثل هذه النقاط المضيئة الداعية إلى التنسيب لقيم الحداثة من تقدم وعقلانية وتطور خطي وغائية اجتماعية.

إن هذه التنسيبات المنسية أو المهمشة قصدا، في غمرة انتصار وتمكن العقلانية الكلاسيكية، وجيهة تماما إذا اعتبرنا "أن النزعة العقلانية كثيرة الادعاء، لكنها أعجز ما تكون، بخاصة، عن إدراك العوالم الكثيفة والمشبعة بالصورة والرموز التي تسود في التجارب المعيشة(…) وهو ما يستحث تعبئة كل طاقات الفكر الإنساني بما في ذلك (وبالأخص) الحساسية".

وإن كان هناك من تبرير لهذا العمل، فهو أنه طيلة التاريخ الإنساني، تتناوب العقلانية واللاعقلانية على الفكر والحياة الاجتماعية، تماما كثنائي مشاغب كما يقول مافيزولي؛ "يتبادلان التأثير والتأثر، يستدعي أحدهما الآخر بل ويتكاملان. يحدث أن يخطب كلاهما ود الآخر وليس بمكنتهما الاستغناء عن بعضيهما"(ص32).

لكن جرت العادة، في ذلك الوقت، على التبخيس من كل هذه المحاولات التنسيبية بإدراجها ضمن الظلامية والرجعية والتقليد، لا تستثنى، في ذلك، كل المنظومات الفكرية الكبرى من مفكري عصر الأنوار مرورا بالماركسية وصولا إلى الوظيفية..

لكن ها هو ذا القرن العشرون قبل انقضائه ببضع سنين، يشهد، تحت أشكال قوية أو عنيفة، على استدامة هذه "اللاعقلانيات" المبخسة، وفي المجال السياسي بشكل خاص، "فقد شهد أواخر هذا القرن انفجارات أكثر بربرية وهمجية من تلك التي شهدتها العصور المسماة بربرية حصرا. نحن بصدد الانتقال من البربرية التقليدية للقرون الماضية إلى بربرية متقدمة جدا بفضل التطور التكنولوجي والعلمي الجبار.."(ص33).

أما على المستوى الميكرو-اجتماعي، فهي تتخذ أشكالا مسالمة أكثر من خلال "مجموعة من التجارب المعاصرة التي هي حصيلة مخاوف متوارثة أبا عن جد، وتوحد مع الطبيعة وأشكال من التدين منبعثة هنا وهناك وانجذاب نحو الأبراج دون إغفال شعائر وطقوس الانصهار عبر ممارسات سحرية عديدة تمس كل شرائح المجتمع (…). أضف إلى ذلك كله هذه الانجذابات الجماعية نحو "عوالم الرياضة والموسيقى والموضة التي تبين، بالمكشوف، الغرائز القطيعية الكامنة في الإنسان، والتي تعجز النزعة العقلانية عن مجاراتها واستيعابها واحتضانها"(ص34). إن كل هذه التحولات، أمامنا، تؤكد من جديد تلك القولة الشهيرة لباسكال: "من كان يبتغي أن يصنع من الإنسان ملكا ينتهي بأن يصنع منه وحشا".

لكن لا غرابة في إخفاق النزعة العقلانية في التعبير عما يتجاوز حدود المعقول، فهي تلجأ حسب صيغة لبول فاليري إلى "القوة الخام للمفهوم"، أي إلى طبيعته الجامدة العصية على التفاعل مع الوضعيات الاجتماعية في تشكلاتها وسيولتها. لذلك تفقد صوابها، وتلجأ إلى خشونة لفظية.

لا غرابة في كل ذلك، لأنها –حسب الكاتب- تعبر عن عقل منفصل/مفصول عن الواقع، متعال عليه، وهو ما كان يعبر عنه بكلمات لطيفة، مغرية من قبيل المرور العلمي من الملموس نحو المجرد، من الخاص نحو العام دوم تكليف نفسه الأخذ بالحسبان للحياة في كل تعقداتها وتعددية معانيها ودلالاتها التي لا تتكيف، إطلاقا أو لنقل لماما، مع الأفكار العامة وشتى ضروب التجريد الفضفاضة والعائمة"(ص35).

يسمي مافيزولي هذا العقل بالمنفصل، لأنه، هو نفسه، يتولى عملية الفصل بين ما يراه رديئا، خاطئا من جهة، وما يراه حسنا، صحيحا من جهة أخرى، وهو بذلك يتجاهل أن الوجود عبارة عن مشاركة صوفية مسترسلة، تطابق لا نهاية له، يمتزج فيه الداخل بالخارج، المرئي بالخفي، والمادي بالمجرد في سمفونية متعددة الأصوات، لكن متناغمة وبلا نشاز"(ص35).

من خواص هذه النزعة العقلانية الضيقة أيضا عدم إيمانها بـ"وجود ثالث مرفوع، إنها تقصيه بكل بساطة"، في حين أن المعرفة التقليدية والحكمة الشعبية تعلماننا أن الثالث معطى، وأنه يتعذر إرساء كل الأشياء على محض ثنائيات، وأن مختلف مظاهر الحياة ما هي سوى حركة دائبة "يعبر فيها اتحاد النقائض عن نفسه"(ص36).

من خواص هذه النزعة ونسيخها، ذلك العقل المفصول/المنفصل، ما يسميه مافيزولي بسكيزوفرينيا معرفية "بحسبانها، أصلا، ما يحول دون التواصل، ما يجعل الأشياء والناس في انفصال وتباعد..". وبداخل هذه النزعة تعبر عن نفسها من خلال انغلاق خارق للعادة على الذات، وهي بهذا المعنى "أوتيزم" أي تعبير عن مرض الانطوائية، ونجد لها بصمات في كل المجالات من الفلسفة والسياسة إلى التدبير والمؤسسات، أما نتيجتها فواحدة: "عقلنة مندفعة انتهى بها الأمر إلى إرساء منظومة مكتفية بذاتها، مقطوعة الصلات بالقوى الحية بالمجتمع وبحركية الخلق الفكري والأصالة الوجودية، وبكلمة واحدة، بكل أنواع الإبداع بمختلف تجلياته"(ص38).

إلا أن الواقع "يثأر" لنفسه ولا يسلمها لخطاطات واستيهامات هذا العقل الفصامي، وتبقى الأعمال الروائية أحسن معبر عن هذا "الثأر المقاوم". ففي رواية أورويل 1984، نجد لعبا ساخرا بالنقائض في محاولة لخلخة البديهيات وزحزحة الفواصل التي أرساها العقل الفصامي في كل مجالات المعرفة، نجد "وزير الحب يدبر شؤون الحرب، وغدت كلمة حرية تعني العبودية المطلقة".

إن أحسن تصوير يمكن تقديمه عن مفاهيم العقل المفصول، كونها كائنات بلا أرجل تسمح لها بالوقوف والثبات على الأرض، في حين يدفعها الوله بالتجريد إلى أن تصعد وتصعد إلى سماء دون سقف، وهي لا تعدو أن تمارس هروبا إلى الأمام مع ما تعنيه الصورة المجازية من تجاهل للحقائق الواقعة والوضعيات الماثلة أمام الأعين.

وهي على هذا الوضع من الانفصال عن الأرض والانقطاع عن مصادر الحياة، تنتج "أبنية أكاديمية موغلة في التجريد والتعقيدات النظرية التي تمتهنها إنتلجنسيا مقطوعة الروابط، بدورها، عن محيطها تتوسل لغة تكنوقراطية ركيكة ولغة خشب سياسية"(ص41). فعبر كل هذه التمظهرات، تعود الأهمية الأولى والأخيرة للأنا المفكرة، للفكر، أي للرؤية الوثوقية..

وهنا، بالضبط، تلتقي العقلانية الكلاسيكية ونسيخها العقل المفصول مع الخاصية الأساسية للفكر اللاهوتي إن لم تكن امتدادا لها في الجوهر، "فبعد أن كانت أداة فعالة ضد الولاءات الدينية، أصبحت، بدورها، ضربا من الإيمان والمعتقد وما يلتصق بهما به من ضيق في التفكير المرادف لكل منظومة عقدية..

ضد العقل المنفصل/المفصول، لربما آن الوقت لفسح المجال لعقل مفتوح، كان أول من تطلع إليه هو هيغل نفسه من خلال صيغه "مكر العقل". إن هيغل العقلاني الكبير المهووس بفكرة النسق والنظام والشمول، ما كان بمقدوره الحديث عن "عقل ماكر" لولا التأثير الذي مارسته عليه الفلسفة الألمانية ذات الأصول الرومانسية والصوفية كما بين ذلك بينز. والمكر، في هذا السياق، معناه "دينامية لا تتوقف للعقل في اتجاه التنامي والانتشار"، وهو ما يعني، بالفصيح، "أن كل ما كان عقلانيا طيلة فترة الحداثة انقلب، اليوم، إلى فرملة تعيق انطلاقة حقبة جديدة"(ص43).

ولم لا التذكير بأن هيغل، نفسه، انتبه في مقطع استهلك كثيرا، إلى أن الفلسفة –تماما كالعقلانية- لا تأتي إلا متأخرة بالنسبة للوقائع الاجتماعية، إنها كالبومة التي لا تحلق في السماء إلا بالمساء.

والمثقفون العقلانيون، على غرار تلك البومة، لا يدركون جيدا ما يجري بواقع الحال إلا بعد حين (أو حتى بعد فوات الأوان)، وقدرتهم على الاستباق تشلها خطاطاتهم التحليلية وشبابيكهم المفاهيمية التي يجدون صعوبة في التحرك خارجها..

ولتسهيل فعل الانتقال إلى هذه الحساسية الجديدة، نحو هذا العقل المفتوح والسوسيولوجيا المداعبة، يتعين إنجاز نقلة لا يشوبها أدنى حنين إلى كل الإيديولوجيات التي كانت تحمل بأحشائها بذور عقلانية ضيقة وتنامت لتصبح "هايبتوس" Habitus حقيقي بالمعنى الذي استعمل به توماس الأكويني هذا الاصطلاح، أي ما يغدو جزءا من الإنسان ويغدو الإنسان جزءا منه ويشكل جوهر الفرد والمجتمع.

هذه النقلة تقتضي أيضا الاعتراف بأن الهيمنة الثقافية الغربية آن لها أن تتوقف، فقد استنفذت أغراضها، والعصر عصر تعددية ثقافية بفلسفاتها ودياناتها وطرائق عيشها وطرق تفكيرها، التي صنفت، حتى الآن، ضمن العتيق والرجعي والشاذ، فـ"الزمن عاد للاحتقار، بل للتفتح الفكري"(ص45).

بموازاة ذلك، تعود إلى العلوم الإنسانية ككل، مهمة تنمية فكر جريء قادر على تجاوز الحدود الوهمية التي خلفتها النزعة العقلانية الحديثة والاقتراب، بالمقابل، من سيرورات التفاعل والتلاقح والتبعية المتبادلة الفاعلة فيما يسمى المجتمعات المعقدة بغية فهمها-تفهمها. وأعمال الرائد إدغار موران الأخيرة حول "المنهاج" زاد، أيما زاد، في المهمة، شريطة فهم منهاج هنا كما فهمه هو، في أصله الإيتومولوجي، ما يسمح لنا بأن نأخذ الطريق، ما يمدنا بتوجيهات وعلامات نسترشد بها ولا نتقيد بها.

إن نقد التجريد، على جميع مستوياته، يقتضي التخلص من التمايزات والقطائع التي أرساها الفكر التجريدي الموغل في العقلنة "التمايز، تحت كل أشكاله الفلسفية والسوسيولوجية والسياسية وعمليات الفصل الحاسمة بين كينونات مثل الهويات، الطبقات، الفئات السوسيو-مهنية ومختلف الانتماءات الإيديولوجية والدينية"(ص49).

وبجانب هذه، إعادة النظر في القطيعة المعتادة بين المقدس والمدنس التي فرضت نفسها فرضا منذ ظهور المسيحية "وشكلت الخلفية لقطيعة تالية بين المعرفة والحياة العادية.."(ص49).

وقد يكون السبب في نعت النظرية الفرويدية بالثورية، أنها كانت سباقة إلى هذه الممارسة النقدية إزاء القطائع من كل نوع، فقد لاحظت (بعين غير راضية) هيمنة التعارضات بين الأنا وما ليس بأنا، بين الجسد والروح، الطبيعة والثقافة، وكيف أنها تعبر، كلها، عن تفكير هيمني واحد، بل وتذهب إلى حد القول بأن "سلطة الفصل هي السلاح الأساسي الذي يمتلكه الباحث، الذي يسميه فرويد فارس الكراهية.."(ص50).

على الخط نفسه، كان لو أندرياس سالومي يقترح مسعى فكريا أقل عدوانية وأكثر احتراما للشمولية البشرية والطبيعية(…) والذي كان يعتقد أنه "لن يتحقق إلا بتفعيل معرفة حدسية"(ص51).

لا يمكن أن نتخيل إلى أي حد تكرس هذا الفصل بين التجريدي والملموس، بين الفكري والمعيش حتى أضحى فكرة مقدسة، فقد كان بيك دولاميراندول يعتبره من المسلمات. فالمعرفة المجردة نتجه إليها بأرواحنا، والجمالية نتجه إليها بحواسنا حسب هذا الشخص الذي قال في شكل وصية: "تسربل بالآذان عندما تتجه إلى عازفي الناي والقيثارة، وتخلص من حواسك، والزم ذاتك، وتغلغل في أعماقها وثنايا روحك عندما تتجه إلى الفلاسفة لتسمع إنشاد أبولون السماوي"(ص53).

الطريق نفسها سلكها تيودور أدورنو الذي اعتبر الفصل بين العلم والفن لا رجعة فيه، ودوركايم بانتقاده اللاذع لزيميل بعد أن كتب هذا الأخير فلسفة المال، فنعت كتابه هذا "بالمزايدة اللقيطة المعبر عنها في لغة موغلة في الذاتية أشبه بلغة الفنون، وموغلة في التجريد كلغة العلوم"، فهو، بنظره "لا يمدنا عن الأشياء لا بالإحساسات الطافحة بالحياة والطرية التي قد توقظ الفنان ولا بالمقولات المتمايزة الواضحة التي يبحث عنها العالم"(ص55).

يقترح مافيزولي أمام هذه الإبستمولوجيا الانفصالية، القطائعية ما يسميه "نظرية إيروطيقية للمعرفة، شعارها "حب الحقيقة وحقيقة الحب"، وهو شعار ساد بالقرن الثامن عشر في أوساط الفلاسفة. ويرى بأنها لم تغب أبدا بأروقة الفكر، ومورست بأنصبة مختلفة من قبل كل المفكرين الأعلام الذين طبعوا مسيرة الفكر البشري منذ أفلاطون والرواقيين إلى توماس الأكويني وديكارت وسبينوزا.

إن المقاربة الإيروطيقية أقرب إلى النزعة الحيوية بمختلف تعابيرها وصيغها، وبخاصة، البرغسونية منها، بل ويجب أن تتكاملا في هذا السياق. فالفلسفة الحيوية لبرغسون وكما قال يونج: "لا تنكر على الطائر بناء عشه وعلى البلبل ممارسة زقزقاته"، عكس عالم الاجتماع العقلاني الذي، وحسب عبارة بيتر برجر: "يغتال الحياة باختزالها إلى تعريف".

إن "المعرفة عندما تغدو غاية في ذاتها تصاب بفقر التجريد ولن تنظمها حينذاك سوى قوانينها الخاصة(…)". هذه الخلفية النظرية هي تجعل غالبية علماء الاجتماع يعتقدون بأن "النتاجات السوسيولوجية والفلسفية تقاس جودتها بمدى تسلسلها الصارم والمنطقي وانتظام شبكة المفاهيم بداخلها وبدرجة التماسك الداخلي الذي تتصف به، لكن، حتى وإن نجحت في استيفاء كل هذه الشروط، فإنها تترك في قارئها طعما خلفيا قوامه الإحساس بالاجتفاف والخواء واللا جدوى"(ص61).

يقول دوبينيز في الثقافات الثلاث:

"من المؤكد أن عدم التحيز والموضوعية يفضيان غالبا إلى إنتاج أكاذيب أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها سطحية"، أجدر استبدالها بما كانت فلسفات العصر الوسيط تسميه بـ"الجهل العالم"، تلك الفضيلة المعرفية التي لازالت تمارس بالمنتوجات الأدبية والإبداعية من خلال فسحها المجال "للحياة ولديناميتها القوية، وإعطائها كامل الحرية للتعبير عما يطبعها من ازدواجية خلاقة، ازدواجية أنثربولوجية"، هذه التي –حسب باستيد- هي أكثر من نفاق بالمعنى الأخلاقي، إنها "آلية دفاعية ضد أولئك الذين يبتغون تجميد الحياة في مفهوم".

IV – الراسيو-سيميناليس أو ضرورة النظر من الداخل:

هاهنا، يمكن الانطلاق من ثنائية هيغل المغمورة، شيئا ما، ثنائية الواقع والعالم الواقعي: الأول يشمل الثاني وليس العكس. وفي محاولة للمقارنة وسحب هذا المقول على الأطروحة المركزية للكتاب، يمكن القول، إن النزعة العقلانية اكتفت بتحليل العالم الواقعي والعقلانية البديلة التي تريد أن تكون مفتوحة ومنفتحة ترنو إلى الأخذ بالحسبان للواقع بأكمله والذي يشمل ما همشه العقل المنغلق أو كان ينظر إليه، على الأقل، بنظرة شزراء من متخيل وتصويري ولعبي وحلمي المختزنون في الذاكرة الجماعية. وبكلمة إن العقل المفتوح يرنو، وحسب عبارة جان دوفينيو، إلى "إعطاء قيمة لكل الأشياء التي كانت بدون قيمة".

"إعطاء القيمة" وإعادة الاعتبار للأشياء المهملة، المبخسة، يقتضي الاستعانة، منهجيا، بمفهوم المنطق الداخلي كما نحته الإغريق وتمثله، جيدا، يونج. أطلق عليه الإغريق على لسان الرواقيين "سْبِيرْ مَاتِيكُوسْ"، واستوحاه الفلاسفة الذين كتبوا باللاتيني في صيغة raison seminalis، ويونج عبر عنه بالمنطق الداخلي ويقول بهذا الصدد: "يجب ألا نحجب المنطق الداخلي القاهر للحدث وهو يحدث".

إلا أن الاهتمام بالمنطق الداخلي للأشياء والظواهر والوضعيات الاجتماعية لن يؤتي ثماره إلا "بالقطع مع المنطق المتجه صوب البعيد، المنطق التاريخي حيث الأسباب والنتائج يتولد بعضها عن البعض الآخر بطريقة حتمية لا تتخلف"، وعلى العكس من ذلك "محورة الاهتمام على ما يمكن تسميته بمنطق اللحظة والارتباط بالمعيش هنا والآن، منطق ما عاد يهتم بالإرادة العقلانية التي تتوهم قدرتها على التأثير في الأشياء والناس"(ص73)، يستغني عن تلك الإرادوية للعقل، ويتشبث أكثر بالصدفة بل وبالصدفة الضرورية التي عمدها السورياليون بالصدفة الموضوعية، وهو، أخيرا، منطق يدين أكثر للقدر منه للتاريخ"(ص73).

يتعين فهم المنطق الداخلي في هذا المنحى بصفته "عقلا حيويا" كما صاغه أورتيكا إيكاسيت، عقل يجمع بين كرفي خيط: من جهة هو نتاج للمعرفة، ومن جهة أخرى، وبشكل متزامن، هو حصيلة معرفة بالغرائز الحيوية، إنه "عقل يعلم كيف نعرف ونقدر على معرفة الوجود"(ص75).

إن مشكلة المفكر بالعقل المجرد وفي العقل المجرد تكمن في هذه المفارقة بالذات: "إنه لا يعيش، وعندما يعيش لا يفكر"، وحسب عبارة باسكالية شهيرة، يمكن القول: "للحياة مبرراتها التي يجهلها العقل أو لا يريد معرفتها".

لهذا الذي عمد بالمنطق الداخلي قرابة أيضا بما يسميه الإغريق "الإيقاع"، أي كل ما يتطور انطلاقا من رسم أصلي أو خطاطة أولى. ما فهم الإغريق الإيقاع بحسبانه دليلا عن انعدام النظام أو عرضا لتفشي الفوضى وتمكن المرض والداء، بل "ما يتشكل انطلاقا من إطار محدد يتيح له أن يكون ما هو عليه الآن.."(ص77)؛ إنه "ما يفرض روابط ووشائج بين حركات الشيء ويحتوي، بداخله، تدفق الأشياء"، وهو ما يقترب مما أسماه واتر بنجامان "بالضرورة الداخلية" ومن النابض المجسم تباعا، لانتفاخ وضمور، ضمور وانتفاخ.

قليلا ما يلتفت بهذا الصدد إلى تدقيق دال للروائي (ولأنه، على الأرجح، روائي وليس فيلسوفا) "ميلان كونديرا" حول مفهوم العقل في روايته الخلود، يقول: "في كل اللغات المشتقة من اللاتينية، لكلمة عقل معنيان: ملكة التفكير والعلة. إن العقل الذي لا ينتسب لعقلانية شفافة عاجز عن تسبيب نتيجة أو تعليل معلول.

أما في اللغة الألمانية فيطلق على العقل/العلة كلمة GRUND، ولا صلة تربطها بـ RATIO اللاتينية، فهي تدل على الأرض ثم على الأس".

ويوضح كونديرا أكثر: "في أعمق أعماق كل واحد منا يوجد GRUND، أي ذلك الأس الذي هو علة خالقة، باستمرار، لكل أفعاله، أرض يتنامى عليها قدره ويترعرع. وفي كل رواياتي أجهد نفسي، من خلال شخوصها، للتعبير عن هذا الكرونت".

وبسحب هذا التدقيق الوجيه لكونديرا على المجال السوسيولوجي، يمكن القول: "توجد رابطة وثيقة بين مفهوم يختصر شعبا، حضارة وجماعة من الناس والحياة الملموسة التي يعبر عنها، وهذا، بالضبط، ما يرتضي مافيزولي تسميته بالعقلانية الحيوية"(ص81).

إن فكرة البحث عن المنطلق الداخلي للأشياء المدروسة والظواهر موضوع البحث السوسيولوجي، تستدعي أيضا التفكير في ثنائية التفكير العضوي واللاعضوي. وعند زيميل، نجد تعريفا ملائما لهما، انطلاقا من تمييزه بين الجسم العضوي واللاعضوي، "الأول يستقي شكله من ذاته ومنها يمتح ديناميته، والثاني يتحدد من الخارج، ومنه يتلقى قوته الدفعية".

ويمكن، إجمالا، تلخيص خصائص الأول باعتباره هو الذي يهمنا في هذا السياق، في:

1 ـ قوته الدفعية ذاتية (أي توجد به).

2 ـ يجمِّع ويعبِّر على طريقته الخاصة.

3 ـ يقوم بتحيين واستحضار عناصر تنتمي إلى الماضي.

4 ـ يتميز بالطابع التعددي للقيم بداخله(ص85).

والكون، بكامله، حسب مافيزولي تجسيد لهذا الملمح عن النظام العضوي؛ فهو "عضوية حية، بفضل حركة الأجرام يقيم تطابقات بين الأشياء، ويستند على المصادفات المحركة، في الوقت نفسه لإرادات وهمم الأفراد والنباتات والحيوانات، بل وحتى المادة التي لا تدركها الحواس"(ص86).

وفي كل أشكال التعبير الغريبة في مجال العلوم الإنسانية، نجد إشارات بليغة إلى هذه "الوحدة العضوية" في تكوين العالم، بودلير، مثلا يقول في بيتين شعريين:

ـ أشبه بأصداء لأصوات سحيقة، تختلط؛

ـ داخل وحدة معتمة عميقة؛

ـ شاسعة هي شساعة الليل والنهار؛

ـ هو ذا وضع الروائح العبقة والألوان والأصوات عندما تتجاوب!

وفي فن المعمار ما بعد-الحداثي المؤسس على "عينات" مقتطفة من سياقات متعددة تنجح في تشكيل جسد متكامل، كما نجد ذلك في النتاج الفني الباروكي، إذ "كلما حدقنا في نحت وتشكيل باروكيين أو أصخينا السمع لموسيقى مثيلة، نندهش كيف أن تنافراتها الأساسية تتحول، عند امتزاجها، إلى تناغمات مذهلة"(ص91)، وهو ما لم يفت نباهة الملاحظة عند دولوز عند تحليله لهذا الجنس الفني قائلا: "يتعلق الأمر، فعلا، بعالم لا نهائي، فاقد لكل مركز". ويردف: "إن مهمة الباروك هي أن يعيد إلى الأشياء وحدتها، ذلك الحضور الروحي الذي يعيد لأجزائها تلك الوحدة الجمعية".

وبشكل لم يكن مثيرا في حينه، كان علماء الاجتماع والإناسة في بداية هذا القرن عند دراستهم للشعوب والثقافات والأمم يبحثون عن نفس الوحدة المتفقدة، لكن المتأكد من وجودها عند بحث حثيث عنها، فـ"عندما كانوا يتحدثون عن "شعب"، "قبيلة"، أو أي جماعة تربط بين أفرادها أواصر عاطفية معينة(…) كانوا يعنون بذلك وحدته العميقة والحميمة، ولربما تلك التي عمدها دوركهايم الخاصية الأساسية"(ص92).

كل هذه المسوغات أعلاه تسمح لنا بالحديث عن تفكير عضوي وما بمكنته الاضطلاع به؛ إنه تفكير يسلم بالوحدة الأصلية للكينونة، ويرفض أن تكون قطائع جازمة بداخلها، ويستحث البحث الاجتماعي أن يحذو حذو مختلف الفنون والإثنولوجيا الرائدة في استكشافها لثقافات الشعوب والأمم، فضلا عن ذلك فإنه "يجعلنا بمستوى فهم الأخلاقيات الاجتماعية في طور النشوء والتشكل، وهي جماع التعاون والأشكال الجديدة من التضامن والمواقف الكاريكاتورية وتجليات أخرى للإنسية التي، رغم أن ملامحها لم تتحدد بعد بكاملها، إلا أننا لا نفتأ نلحظ أهميتها المتزايدة".

ولا بد للانتقال إلى هذا النمط من التفكير العضوي من شروط معرفية، في مقدمتها ألا ندع المفهوم (الذي لم يثبت انغراسه الاجتماعي) يشوش على نظام المعرفة ونستعيض عنه بالتلميح والمقولة والنوطة، وبكلمة واحدة بالرمز الذي يجاوز الكلمة المغلقة ويدمج، بداخله، تلك الرابطة التي تعطي الحظوة لمسألة الوعي بأهمية الدخول مع الأشياء من حولنا في علاقة"(ص100).

V – الشكلانية أوعندما تخلق الأشكال الاجتماعية معانيها.

في حقبة الحداثة كان هناك اهتمام أكثر بالمحتوى وبالمضمون، بالخفي والعميق، بالقصد والدلالة على حساب أي اهتمام كيفما كان للأشكال، هذه التي لم تكن إلا تعلة للمرور نحو الخفي والعميق والدلالة الكامنة.

وتضع الفرضية الأساسية في هذا الفصل المسألة بشكل معكوس، في حقبة ما بعد الحداثة، حيث هيمنة الصورة ومرفقاتها، لا بد وأن تعود الأهمية للأشكال باعتبارها حاملة في ذاتها لمعاني قابلة للتشفير والكشف، وهو ما يبرر، إبستمولوجيا، الحديث عن ضرورة إرساء شكلانية اجتماعية تترصد دلالات الأشكال بالمجتمع.

إن القول بتزامن أهمية الشكلانية مع صعود نجم الصورة، بمختلف تلويناتها له ما يبرره واقعيا، إذ "يكفي الانتباه للعلامات المائزة لوقتنا حتى نتبين أن مجتمعاتنا تحركها، بشكل عضوي، ما يمكن تسميته بلعبة الصور تشدد، في الوقت نفسه، على الجمالي واليومي والتواصلي والرمزي"(ص105) المظاهر، كلها، التي كان رجال السياسة والملاحظون الاجتماعيون لا يرون فيها سوى أعراض لانحطاط يصعب دفعه وردؤه".

يجب أن نعترف بأننا إزاء ثورة تتضافر في صنعها عناصر من قبيل: الصورة، التواصل والأسلوب Style، إلا أنها ثورة ليست في عجلة من أمرها، فكما يقول نيتشه: "الثورات الحقيقة تمشي بخطى حمائم".

هذه الثورة توظف عناصر عتيقة وتعيد استعمالها لما فيه فائدتها كما لا تتردد في توظيف أشكال عيش وتفكير وإحساس عتيقة ساد اعتقاد بأنها في ذمة الماضي، "فتبعث بذلك الأمل في العالم (والعالمين)"(ص106).

ولمسايرة هذه "الثورة الماشية بخطى الحمائم"، يقترح مافيزولي مفهوم الشكلانية المستلهم من فكرة الشكل عند زيميل، هذا الشكل القادر، من الوجهتين الإبستمولوجية والظواهرية، على استخراج وبلورة التغيير النوعي الذي تحدثنا عنه للتو..

وترتكز الشكلانية كما تمثلها مافيزولي في هذه المقتضيات الموجزة:

1 ـ إعطاء الأولوية للمظهر، أي للظاهر في الاجتماعي.

2 ـ أخذ مأخذ الجد ما تعتبره "العقول الجادة" تافها.

3 ـ دمج معطى بسيط في آلية التحليل السوسيولوجي، يقول: "ما هو كائن، كائن".

4 ـ الشكل هو مصدر كل الظواهر الجمالية المؤطرة لثقافة ما بعد الحداثة.

إذا كانت تلك هي المقتضيات المعرفية للمنظور الشكلاني السوسيولوجي، فإنه له أيضا مواضعات يعرف من خلالها:

1 ـ يعترف، يعايش ويتعايش مع تعددية المعطى الاجتماعي، مع احتفاظه بالتماسك بين مختلف أجزاء الكل.

2 ـ يجد نفسه مجسدا في شتى الأدوار التي يلعبها الشخص بالمعنى الإغريقي للكلمة داخل أوقات متقاربة وبمختلف أنواع الرتاقات الإيديولوجية التي هي من شيم القبائل الصغيرة المعاصرة (وللتوسع في هذا المفهوم، راجع: زمن القبائل لنفس المؤلف، 1989).

3 ـ يعايش هذه الأدوار ويتقمصها دون حبة خردل من فصام في الشخصية كما يحلو للمحللين النفسانيين التعبير، إنه يصهر كل العناصر المتنافرة في البوتقة الواحدة، انصهار ينطبق عليه شعار بول فايرابند: "الكل على ما يرام".

تحسب الشكلانية أن للأشكال الاجتماعية منطقا خاصا بالمعنى السالف ذكره، "هناك منطق خاص بالأشكال، منطق يثمن الجسد والصور والمظهر-الشكل، بهذا المعنى، هو مشكل (بضم الميم وتشديد الكاف وكسرها)، أي يشكل الجسم الاجتماعي وبصيغة أخرى، إنه صانع هذا الذي نسميه مجتمعا"(ص110).

إن هذه الأشكال، بالضبط، هي ما حاول مفكرون متألقون التعبير عنه بصيغ مختلفة؛ بارك هاردت سماها "البورتريهات"، وماكس فيبر سماها "النماذج"، وفرويد عبر عنها "بالتشخيصات".

ومن الأمثلة الحية عن هذه الأشكال الاجتماعية في سياقاتنا المعاصرة "النجم الموسيقي أو الرياضي، الشيخ الديني أو المثقف الشعبي، أو حتى ذلك المذيع التلفزيوني، أو رجل أخلاق ذائع الصيت بسبب أعماله الخيرية(…). كل هذه الوجوه إن هي إلا أشكال كاريكاتورية سحرية قد يجد فيها هذا الشخص أو ذاك نفسه تبعا لذوقه ومصالحه ورغائبه، ويعبر عن ذلك بإعلان انتمائه إلى واحد منها"(ص111).

ولذلك حذار من أن نرى في مفهوم الشكل نسيخا جديدا لمفهوم الديالكتيك كما صيغ في أواخر القرن الماضي، "هو طريق نحو معرفة ممكنة بالعالم في تعدده سواء على مستوى التجليات الكبرى (المجتمع) أو الصغرى (الفرد)، كل ذلك مع الحفاظ على التماسك الضروري لاستمرار الحياة الاجتماعية..

واضح أن هذا التأول لمفهوم الشكل يختلف اختلافا بائنا عن الديالكتيك على الأقل في صيغته الماركسية المبتذلة، إذ "كان يتطلع ويدعي إمكانية تجاوزه للمتناقض من الظواهر وللضد، ومن ثمة قدرته على سحب معنى على العالم وتوجيهه نحو غاية ووجهة معينة.. في حين الشكلانية تعبير مكثف عن الأشكال الاجتماعية المتعددة، تحتفظ بكل المتناقضات، مجتمعة (ناهيك عن أن تزعم قدرتها على فكها)، ومن ثم تعطي الحظوة للمعاني المتشظية في الممارسات الكثيرة، ولا تسقط نفسها، قسرا، على وضعيات بعينها، وتعايش من خلال لعبة المظاهر وازدهار الصور وتثمين الأجساد.."(ص112).

ويبقى كيف يجب التعامل مع الأشكال المدروسة داخل المجتمع، هنا يقترح مافيزولي بعض الوصايا أكثر مما هي تقنيات، طرق سالكة وليست منهجية بالمعنى الوصفاتي الأكيد:

1 ـ الاكتفاء بدراسة الشيء نفسه، موضوع النظر، دون البحث عما قبله وما بعده.

2 ـ الزهد عن النبش في ما قد تحيل عليه هذه الواقعة أو تلك، هذه الواقعة أو هذه الظاهرة أو أخرى.

3 ـ والاكتفاء بالأشكال يعني القناعة بها ودفعها لتقول ما تريد قوله لا أقل ولا أكثر.

كل ما قلناه أعلاه عن الأشكال الاجتماعية يقربنا مما تسميه الصوفية بالتجوهر وأعطى عنه إرنست بينز تعريفا في معرض حديثه عن التصوف الريناني:

"إن الجوهر لا يتضمن الشكل فحسب، بل وكل قدرات وإمكانات اشتغال وتطور الشيء. لذا، غالبا ما نسمي الإله: المجوهر، أي مانح الأشياء جواهرها..".

ولا تعدم الأمثلة، في هذا المنحى، أيضا. فيبر يتحدث عن الجمال بحسبانه شكلا، "شكلا لمجموعة عناصر هي، في حد ذاتها، غريبة عن الجمال (كما نتصوره). إن انتظام هذه العناصر هو الذي يمنحنا قيمة جمالية. إن هذه الكلمة التافهة وهذا اللون بعينه، وتلك الشذرة بالذات، كلها محايدة ومتمايزة عن بعضها البعض"(ص127)، وهو ما يعني أن "فعل التجميع بين العناصر المتنافرة هو المؤسس والصانع لكل شكل، شكل"، "هذا الذي سيشكل، بدوره، الجمال"(…).

وحتى نقترب من الواقع أكثر، يمكن القول بأن "الجمال الموسيقي وجمال الصور والجمال الرياضي: كل هذه الجمالات ليست كذلك إلا لكونها عناصر متفرقة، سواء تعلق الأمر بالأشياء أو الذوات، ومن حيث هي كذلك، فهي خالقة لأشكال من التوحدات Communions".

في هذا السياق يمكن أن ندرج، أيضا، حديث هوسرل عن "اللحظة الشكلية" figural؛ يتعلق الأمر عنده "بإثارة قوية من نوع خاص يقوم بها نشاط فكري من خلال تفعيله لكل أنواع الأنساق والتشكيلات والأصناف، تربط بينها علاقات مسافة أو محايثة".

وعند الإغريق هناك حديث عن "الأنموذج" Paradigme أو "المثال المحاكى"، بحسبانه مقولة بالغة الأهمية، إن على مستوى المعيش أو التفكير. ويجسد أفلاطون والشعراء، في هذا الاتجاه، مثالا جيدا(…). "إن الإنتاج الفلسفي والشعري ليس، دائما، مجرد ملحقات روحية لا تفيد إلا لتسلية العقل، لا، إنه تعبير، أيضا، على عناصر مهيكلة لمجموع الحياة الاجتماعية، يشارك، بعمق، في تربية الشبيبة وتكوين مواطنين من كل فئات العمر، كما أنه يؤخذ مأخذ الجد إن لم يكن، في حالات معينة، العنصر-الأساس في الحياة بداخل المدينة Cité"(ص123).

بالوسع الاستشهاد هنا بمثال في سياق إبستمي آخر، يتعلق الأمر بأشكال التبني المختلفة لشخصية المسيح. "إن محاكاة المسيح قد نتأولها باعتبارها ثابتا يتخذ أشكالا متعددة في كل اللحظات التاريخية التي تتحقق فيها" (أي تلك المحاكاة)."هذا هو شأن المسيحية الفرانسسكانية والحركات الروحية الأخرى التي انتعشت في القرن الثالث. إن ما تبحث عنه تلك الحركات ليس سوى تجديد صورة (شكل المسيح). هذه الرغبة في تجديد الصورة/الشكل هي التي تحدث رجة بالكنائس وما يصحبها من انشقاقات وتحولات على مستوى المذاهب والمريدين".

أضف إلى هذا "المثال الديني" مسألة الأشكال الأسطورية، هذه التي "تعبر عن خصائص الشخصيات المختلفة وتسمح بتفخيم وتضخيم هذه السمة أو تلك واستخراج عناصر وظواهر ووضعيات، من هذه العملية، ما كانت لتعرف بدونها.."(ص128).

وقد لا نجد غضاضة في سحب هذه الأشكال الأسطورية التليدة على أشكال أسطورية حاضرة في كل المجالات من "الحياة السياسية إلى الإنتاج التلفزي، من أعمال الخيال الأدبي والعلمي إلى الفيديو كليب والمنوعات الغنائية".

الشيء نفسه يصدق على الذاكرة الجماعية بحسبانها إطارا يعقد صلات قربى بين الذكريات من كل نوع قد لا تكون بالضرورة، كلها، واعية (أو موعى بها)، لكن ما من شك بأنها "شكل مخبر forme informant بكل هذه الطرائق في التفكير والعيش التي تزخر بها حياة الناس.."(ص129).

للأشكال الاجتماعية تجليات من خلال "البقايا العتيقة والصور الأولية التي تتشكل منها الحياة الاجتماعية"، وقد يتجلى الشكل الاجتماعي في ما هو أكبر، "إمبراطورية، أمة، حركة أو حزب أو جمعية، مقاولة، قبيلة أو علاقة غرامية حتى.."؛ يمكن القول، كل "وعلى طريقته، يسهم في صنع هذا الشكل الاجتماعي أو ذاك"(ص133).

ولجيوتو الرسام قولة دالة في هذا الاتجاه: "كل رغائبنا وأحلامنا، كل ما هو إلهي فينا(…)؛ مصدره هو هذا اللقاء مع الشكل(…) والأماكن التي عشنا فيها وقضينا بها بعضا من الوقت..".

الحلم، الأحلام هي أيضا مجال لبروز هذه التجليات للأشكال الاجتماعية، يقول فرويد، وهو أحد الدارسين الكبار للأحلام: "يميط الحلم (الأحلام) اللثام على أشياء لا تنتمي لا للحياة الراشدة لصاحبها ولا لطفولته. تدرج إذا ضمن هذا الإرث الغابر الذي هو خلاصة تجربة الأسلاف والتي يحملها الطفل بين جنبيه منذ ولادته وقبل ولوجه عالم الناس".

ويتابع فرويد قائلا: "في عالم الحكايات الغابرة وفي العوائد التي تقاوم الاندثار وعوامل الفناء، نكتشف عناصر تنتمي إلى هذا الموروث المتناقل أبا عن جد (عناصر تدرج في إطار علم النسالة)"(ص134).

بالوسع القول إذا، تأسيسا على ما سبق، أن الشكل الاجتماعي هو ذاك المتعالي المحايث معا. ويفسر مافيزولي هذه المفارقة قائلا: "أستعمل هذه العبارة المفارقة عن قصد. وأقصد بها أننا، مع الشكل، لم نعد نتموقع بالنسبة للسلطة، أكان من أجل تعضيدها ومؤازرتها أو من أجل منازعتها(…). فقد لاحظ إلياس كانيتي أن المفهوم النظري "ألصق ما يكون بفكرة السلطة". في حين أن استعمال الصور والأشكال يرتبط، أشد ما يكون الارتباط، بفكرة الحشود والقبلية"(ص139).

الفكرة ذاتها عبر عنها مافيزولي في ثنائية السلطة والاقتدار قبل عقدين تقريبا في العنف الكلياني؛ فالاقتدار هو جماع انفعالات وأشواق ومشاعر جماعية، يتخذ في المجتمعات المعاصرة أشكالا منها: العودة إلى الذات، الإكثار من استعمال ضمير المتكلم في الأحاديث اليومية، ينتهي الأول بإعادة تثمين أفراد المجتمع لجسدهم "الجماعي" وينتهي الثاني إلى "نحن" انصهارية، خاووسية لا تبالي إلا بالرغبة في الوجود مع الآخرين هنا والآن".

المعادلة بسيطة. أي انحسار في مد المفاهيم معناه فورة في عالم الأشكال والصور، "فعندما يستنفذ المفهوم، أكان فلسفيا أو اقتصاديا أو سوسيولوجيا، أغراضه، يحدث تضخيم وتبجيل للأشكال..".

ومقولة كالوس كاكاتوس تعبر، أحسن تعبير، عن هذا المآل، ومعناها أن الجيد والجميل والأخلاقي والجمالي تجمعهم أواصر حميمة، كما أن نيتشه يذهب ذات المذهب من خلال مقولته حول "تأكيد وإثبات الوجود"، و"التشبث بالحياة"؛ و"أن تقول: نعم للحياة معناه أن تهب الحاضر ما يستحق من قيمة، والحاضر يشمل كل الوضعيات والعلائق التي تتولد عنه"(ص143).

مافيزولي يساهم في السياق نفسه بمقولة مثيرة هي: "أسططقة العالم"، أي إضفاء الطابع الإسطيطيقي على العالم،ويتحدث، أيضا، عن إتيقا لإسطيطيقا العصر، معرفا إياها بـ"فعل التركيز على الحاضر، الاستمتاع مع الآخرين باللحظات الجميلة التي تمر، وبالجمال بما فيه من ذبول، وبالجسد الذي نشتم نهايته القادمة الوشيكة.."(ص143).

كما ساهم بمقولة "تراجيديا الشكل"، قاصدا بها "ما يميزه من عرضية وقبوله بكل الأشياء كما هي في وقاع الحال، بله يجد لها (أو فيها) مذاقا رائقا"(ص144). صاحب نقد العقل الكلبي بيترسلوتردجيك يكتب قائلا: "يزخر عالمنا بالأشكال ويطفح بأشكال من المحاكاة، ويمور بالوجوه. من كل فج، تصل حتى حواسنا علامات، أشكالا وألوان وأجواء"(ص183).

VI – تحيين الظواهرية كمنهجية بحث:

يلجأ مافيزولي إلى الظواهرية الفلسفية ليستلهم منها بعض الوسائل الكشفية التي يراها أكثر ملاءمة مع منظور البحث السوسيولوجي في كل هذه الأشياء التي تشكل حساسية العصر: الأشكال الاجتماعية، المعيش، اليومي، أشكال المتخيل الاجتماعي والاهتمامات المتعددة بالذات والجسد ونزوع الوجود مع الآخرين (الإنسيات المتعددة..).

ويحدد هذه الوسائل في ثلاث: الوصف، الحدس والاستعارة. لكن يبرر، إبستمولوجيا، قبل هذا وذاك، لماذا يجب، الآن، تجاوز المنهجيات السائدة في عصر الحداثة، وماذا يجب، بالضبط، تجاوزه فيها؟

1 ـ التفكير في الأشياء وفق ما يجب أن يكون أو كما نحب أن تكون.

2 ـ الممارسة المنتظمة للتشكيك والارتياب، إذ إن واحدا من أهم ثوابت المنهجية الباشلارية الذي غذى حقبة طويلة من البحوث الإنسانية كان يقول: لا علم إلا بما هو خفي، مستتر، وما عداه ينتمي إلى ما قبل تشكل المفاهيم، إلى الأحكام المسبقة، إلى الإيديولوجيا، بعبارة واحدة، كل ما كانت الإبستمولوجيا الباشلارية تدرجه ضمن أعراض الشيء، وتعتبره من أسوإ المعيقات الإبستمولوجية أمام تقدم العلم..

3 ـ مفهوم القطيعة الإبستمولوجية البارانوياوي "الذي يرسي تمايزات وتصنيفات، يسمي، يمفهم الأشياء والعلاقات، تماما كما تفعل الآلهة"(ص164).

4 ـ مفهوم أو بالأحرى طريقة المقدمة والخاتمة في بحوثنا الاجتماعية، وعلى رأي فلوبير الذي كان سباقا إلى الاحتجاج ضد مفهوم الخاتمة والخلاصة، وعمده في أسلوب أدبي "بسعار إرادة الختم بأي ثمن".

ومقابل هذه التجاوزات هناك دعوة إلى تفعيل عقل تأملي الذي لا يعني سوى "الاستعانة بتفكير مداعب قلما يكون مهووسا بوهم الحقيقة ولا يقترح معنى نهائيا للأشياء والناس، لكن يجتهد، دائما، لكي يظل على الطريق..، يتعلق الأمر بمنهجية إيروطيقية، في جوهرها، عاشقة للحياة، تجهد لبيان خصوبتها(…)"(ص150).

ويعني العقل إياه، في مقام ثان، البحث عن المعاني في الأشياء والناس وليس عن المعنى الأوحد، إذ "ليس ثمة معنى واحد قائم إلى ما لا نهاية، بل ومعاني لصيقة بالوضعيات المترددة الحدوث، ومن شأنها أن تتغير من لحظة لأخرى(…) تماما كالرموز لا مجال لاستنقاذ معانيها(…)"(ص152).

إن فعل تأمل العالم يستقر على الضفة الأخرى من مفهوم عدواني، هو اختراق العالم، "بل ولم لا الدعوة إلى تأنيث العالم، أي العمل على عودة طريقة أخرى للدخول مع العالم في علاقة ولفهم فكرة الخلق..؟"(ص153).

الوسائل المنهجية:

1 ـ الوصف: ومن خصائصه:

أ ـ يحترم المعطى الواقعي،

ب ـ يكتفي بمداعبته، بمرافقته في حركيته دونما إرادة لإخضاعه، وقد يبدو غريبا، شيئا ما، أن يعترف شخص كباشلار، الشغوف بالخفي والمستتر والعميق، بأهمية الشكل/السطح للوصول إلى المعنى، يقول بهذا الصدد: "قد يسمح التوقف أمام السطح ذي الألوان القزحية بفهم أكبر لقيمة العمق".

يحيل الوصف أيضا على قيمة أخلاقية يتسم بها من يقنع به، إنه الزهد في ممارسة التجريد المتعالي والتنظير المبخس لما لا نهاية له من الوقائع اليومية، فـ"الاكتفاء بملامسة الوقائع يقتضي زهدا حقيقيا، زهدا يرفض سهولة التحليق بسماء الأفكار أو المفاهيم المجردة، ويتجذر، بالمقابل، هنا والآن، وما من شك أنه المسعى المفضل عند كل المتواضعين "لأنه لا يدعي استنفاذ لغز الكائن والحياة، بل يكتفي بالإشارة بأصبع اليد إلى المشكلات والتناقضات.."(ص158).

كما أن الوصف يقتضي استبدال التفاسير العلية بالدلالات الممكنة للظاهرة، ويدعم يونج هذا الاتجاه في البحث قائلا: "عوض التساؤل لماذا حدث الشيء، يجب بالأحرى التساؤل: ما هي الغاية من حدوثه؟ كثيرون هم علماء الفيزياء الذين شرعوا في البحث عن علاقات دلالية في الطبيعة وليس عن "علاقات علية" مساوقة لمفهوم الحتمية"(ص159).

ولممارسة الوصف على مستوى العينات المبحوثة، قد يكون أنسب اللجوء إلى قصص الحياة والذاكرة الجماعية لأفرادها، فالحياة الاجتماعية تتضمن "بلاغتها الخاصة، من الضروري تعلم الإنصات إليها ومعرفة بيانها (أو تبيانها)، وأخذها بالحسبان(…). ومن هنا، فكل ما له علاقة بقصص الحياة، ومختلف البحوث حول الذاكرة الجماعية لها أهمية خاصة في هذا المنحى. إن الحياة الاجتماعية شبيهة –حسب شابيرو- بلوحة نستكشف، بأناة ودقة، سطحها ومكوناتها وأضواءها وظلالها وانعكاساتها.. وبفضل كل ذلك يحصل تحيين الطابع المعقد للظواهر والتأويل السديد لما هو حسي وموارب".

لنقل: قد يتعلق الأمر هنا: بوصف شاعري "مستنسخ من أشكال الخلق الاجتماعي- كما يعبر عن نفسه في هم الذات وغليان عالم الموضة والتكالب على الجودة في أسلوب العيش واللقاءات التي يغلب عليها الطابع الوجداني دون ذكر أشكال أخرى من الممارسات الباحثة والمتهافتة على المتعة"(ص160).

بل إن الباحث الاجتماعي مطالب اليوم بأن يحذو حذو الشاعر في مهامه الثلاث، وهي:

ـ التفكير أو التأمل.

ـ بيان الأشياء موضوع التأمل.

ـ وتدوينها.

نعم، تدوينها، لأن الأشياء تولد بعد تسميتها. يقول إيموند أبيليو في هذا الصدد: "سموا الأشياء وستعرفونها، سموها وستملكونها. بالصين القديمة، يعتقد الحكماء أن "علم التسمية هو العلم الأسمى"، والوصف في البحث الاجتماعي لن يعدو أن يكون تسمية للظواهر المدروسة".

لكن، حذار أن يفهم هذا الكلام على غير قصده الأول، فهو ليس، إطلاقا دعوة إلى "التخلي عن ممارسة التفكير، فالتفكير غير ممكن إلا من خلال توصيفات ومقارنات دقيقة(…) تؤهل الباحث ليدرك، بأكبر قدر من السداد، أساليب العيش الطابعة للعصر…"(ص170).

2 ـ الحدس:

أول ما يبادر إليه مافيزولي هو إعادة قراءة لهذا المفهوم بإخراجه من شرنقته الفردية، إذ "لا يقصد بالحدس مجرد صفة نفسية، بل قد يكون كل شيء إلا شخصيا، فرديا(…). إنه يساهم في اللاشعور الجمعي ويتولد عن ترسبات التجربة العريقة، ويعبر عما يمكن تسميته بالمعرفة المستدخلة والتي تتشكل، تدريجيا، بداخل كل فرد وجماعة، دون انتباه إليها حتى"(ص173).

قد يلتقي إذا الحدس المافيزولي مع ما كناه يونج، قبله، باللاشعور الأولي، ذاك الذي "يحدد طرائق الناس في الوجود والتفكير وكل الأوضاع الوجودية الأخرى الطابعة لوجودهم اليومي"(ص173).

يفهم مافيزولي الحدس بصفته استباقا، معرفة استباقية لما هو قائم وجار، معرفة عانت، طويلا، من تبخيسية العلم الحديث الذي سيطرت عليه خلفية "المسافة الموضوعية والنقدية الضرورية"، سيطرة وسواسية، وكان من نتائجها، حسب بيتر سلوردجيك إقصاء كلي للحدس وللمعرفة الحدسية ككل بما فيها من تعاطف مع موضوع الدرس والارتباط به بروح من الرهافة والحساسية، بعبارة واحدة، حسب مافيزولي، بإقصاء المعرفة الحدسية من المنظومة العلمية، تم إقصاء أي معرفة إيروطيقية ممكنة بالجسم الاجتماعي.

تسمح المقاربة الحدسية/الإيروطيقية للموضوعات الاجتماعية ببيان علامات التواطؤ الحدسي وأيضا بتفعيل معرفة بما هو حميمي والإقرار من ثمة بوجود تقارب ليبيدي مع العالم، تقارب بين الوقائع الملاحظة والملاحظة بين الأشياء والذوات"(ص176).

ولا عيب من الاستفادة هنا من بعض ما قاله أقطاب اللاهوت الرومانطيقي الألماني كـشلير ماتشر، هذا الذي كان يرى في الواقعة الدينية "حدسا مندهشا بالكون"، وجاكوب بوهيم الذي كان يتصور علاقة "صوفية" بين "روح البرق" (روح المتصوفة) والحياة الأكبر القادرة، المقتدرة، بل وحتى الفيلسوف ألكساندر كوجيف الذي كان يوازي بين العبقرية والنظر المباشر إلى الأشياء: "إن العبقرية الحق هي النظر المباشر إلى الأشياء والنجاح في العودة إلى المقاربة المباشرة (وهي حدسية، في جوهرها) للأشياء التي هي امتياز الطفل".

والفيلسوف الشاب المعاصر ميشيل أونفراي يذهب إلى حد إقامة تقابل بين "النموذج الرياضي، هاجس المفكرين منذ أفلاطون من جهة، وكل ما هو شاعري، حدسي وحماسي من جهة أخرى"(ص180). أبيليو في لغة مباشرة يقول: "إن الشعر والحب هما التوابل الأساسية للمعرفة".

نستنتج من كل ما سبق أن مفهوم الحدس ما عاد مجرد تمرين مدرسي في درس فلسفة، بل "متجذر، بعمق وبشكل عضوي، في الممارسات الاجتماعية، وبالأخص في النزعة القبلية الجديدة السائدة. إنه يتمحور، في سياقه الاجتماعي، في هذا السؤال: "ما هي هذه الغريزة التي تدفع الفرد إلى أن يسلك كالآخر وتجعله يلاحق لحاقا محموما آخر التقليعات والصرخات في عالم الموضة؟ وما هي تلك الغريزة العجيبة المتمثلة في الميم (الاجتماعي)؟"

لا بد أن هناك حدوسات اجتماعية، أي معرفة غير قابلة للبرهنة العقلية والحجاج المنطقي، تسند كل هذه الغرائز في ديمومتها واستدامتها‍!

إن العلم السوسيولوجي اليوم لم يعد، فقط، بحاجة إلى خيال سوسيولوجي كما عرفه رايت ميلز، بل إلى خيال شعري كما تحدث عنه جان دوفينيو: "خيال شعري يأخذ بزمامه الباحث، هو أقرب ما يكون إلى الواقع، لأنه يبدع وفق ما هو صحيح".

وقبل دوفينيو هناك حساسية، بكاملها، تقر بالأهمية التي لا تعوض للمعرفة الحدسية بالأشياء وبالناس. هيراقليطس، مبدع اللوغوس الشهير أسس العقل أي اللوغوس نفسه على الحدس"الذي يمد الأول بصور ويؤهله، من ثمة، للاشتغال.."؛ شيلينغ، بدوره، يتحدث عن "الحدس الجمالي" باعتباره حدسا معرفيا متموضعا، يسمح للباحث "بفهم غير القابل للفهم"، أي ذلك الوجه الآخر المعقد لواقع حساس لا مجال لاختزاله في عقل خالص.

فيبر، من جهته، يتحدث عن الضرورة القصوى لحدس مراقب في البحث الاجتماعي، ويذهب شوبنهاور إلى حد تمييز فلسفته عن فلسفة كانط انطلاقا من المعطى الحدسي الذي يعتمده هو ويغيبه كانط؛ يقول: "ثمة فرق أساسي بين منهجيتينا، فكانط ينطلق من المعرفة غير المباشرة والمفكر فيها سلفا، في حين أنطلق أنا من المعرفة المباشرة والحدسية(…)". ويردف، في نبرة تعجبية: "كل هذا العالم الحسي المحيط بنا، المتعدد الأشكال، الغني والطافح بالدلالات يقفز عليه كانط ويتشبث فقط، بأشكال التفكير المجرد(!)".

كويو يقيم تناظرا مثيرا بين الفرضية في العلم والحدس الضروري لهذا الأخير من أجل التقدم: "إن الفرضية ضرب من الرواية السامية؛ إنها قصيدة العالم". فعندما نتبع المسارات العلمية لعلماء كبار، دائما حسب كويو، من أمثال كيبلر وباسكال ونيوطن، نجد أنفسنا أمام أمزجة حقيقية لشعراء ومتبصرين Visionnaires.

أما المهمش زيميل لمجرد أنه كاتب محاولات وليس بحوث نظرية أو أنساق فلسفية، فقد عبر عن موقفه بهذا الصدد من خلال استعارة المرض والمريض: "سنتسرع، كثيرا، إن نحن عرفنا، بصفة نهائية، طرق العلاج السريري بكونها طرقا موضوعية دون تتميمها بمعرفة ذاتية خاصة بحالة كل مريض على حدة (أي معرفة متورطة، تحدس الحالة من خلال علاقة مباشرة معها دون وسائط)".

ويتابع زيميل قائلا: "مستحيل، طبيا، أن تكون لنا معرفة دقيقة بحالات مرضية عصبية، إذا لم نعايش ما عايشته هذه الحالات نفسها، وهي على ما هي عليه".

3 ـ الاستعارة:

التوجس من الاستعارة قديم قدم الفكر، "فأرسطو، كان يرى فيها مجرد لعب بالكلمات ومؤشر على تدهور في الملكات الذهنية لا مؤشرا على سلامتها وصحتها".

لكن مافيزولي شاء أن يقلب رأسا على عقب التصور الأرسطي إزاء الاستعارة انطلاقا من أن البحوث اللسانية الحديثة أجمعت تقريبا على أن اللغة هي المجتمع، بحيث أمست حقيقة لا مراء فيها اليوم، ولذلك "يتعين استخلاص النتائج الضرورية من هذا التفاعل بينهما، وفي مقدمتها الاعتراف بأهمية اللغة المجازية ككل والاستعارة في القلب منها"، "إنها –حسب مافيزولي- متجذرة في لغة الحياة اليومية، ومن ثمة، مما لا شك فيه، إنها ستمد الفكر التأملي بنفس جديد ودفعة قوية إن هو اعتزم أخذها بالحسبان".

إن الاستعارة، عكس المفهوم، لا تزعم أن لها طابعا علميا، ومن ثم، فهي محايدة "تقنع بالوصف وتساعد على الفهم دون ادعاء قدرتها على التفسير"(ص198).

حري بالسوسيولوجيا المداعبة، الملامسة برفق التي يقترحها امتداح العقل الحساس، أن تستفيد، بهذا الصدد، من توظيف الصوفية لها من خلال صيغ التورية، فقد سادت عند المتصوفة طريقة في التعبير والتواصل تسمى: "الفهم من خلال صيغ التورية"، وهي طريقة في التعبير، لا تغلق، نهائيا، دائرة المقول والموصوف، بل تتركها مفتوحة كنقاط الحذف تماما في نظام الكتابة أو الأشياء الموضوعة داخل الإبوخيه الهوسرلي.

إن الحديث عن الإله لدى المتصوفة يكون بالإشارة عندما تضيق العبارة وهي ضيقة، لا محالة، كما قال النفري، فمهما "حاولنا التعبير الدقيق عن صفاته"، فإننا، لا محالة، عاجزون، لأنها "غير قابلة للمعرفة" العقلية أصلا، وتستعصي عليها"(ص198).

لا ضير من إقامة تناظر بين الإلهي الصوفي والاجتماعي الما-بعد حداثي، إذ لا مجال للحديث عنه إلا تلميحا من خلال آلية التفادي وبطريقة غير مباشرة. ففي زمن كانت فيه الهيمنة لشبح الصرامة العلمية، تجرأ عالم اجتماع اسمه غابرييل تارد على اقتراح "معرفة قائمة على المماثلات، وهي الطريقة المفضلة، حسب تعبيره، عند كل أنواع التفكير الحدسية"(ص199).

يصح استلهام ما قاله بول فاليري حول الإخراج إلى حيز الوجود لفن تشكيل اجتماعي يستلهم، بدوره، كل مقومات الفن التشكيلي، وفي مقدمتها الحرص على "تقييم العمل التشكيلي، في مرحلة أولى، وذلك بألا نتبين فيه شيئا مما نبتغيه نحن، ثم القيام، تدريجيا، بجملة استقراءات يفرضها حضور متزامن لنقاط كثيرة وملونة داخل حقل محدود والارتقاء، بعد ذلك، من استعارات إلى أخرى، ومن افتراضات إلى أخرى حتى يحصل لنا فهم معين للموضوع (أي موضوع التشكيل)"(ص201).

وفي كتاب بنجامان عن فن الباروك نجده يقوم بجهد حثيث من أجل بلورة المقاصد الاستعاراتية/المجازية بحسبانها الأقدر على فهم ذلك "المخطوط" الباهت والمتآكل الذي هو "الواقع"، واقع الناس، وكما يقول أدورنو في السياق نفسه: "إن أنواع الخلق، كلها، هي بمثابة كتابة يتعين تفكيك رموزها. والحال أننا على غير علم بالشفرة".

في سياق التحليل النفسي، نصادف، أيضا، صورة عن فرويد المولع باستعمال الاستعارات رغم كل نزوعاتها الوضعية المتمثلة في طموحه نحو تأسيس علم جديد دقيق في معطياته ونتائجه (التحليل النفسي). بالوسع القول بأن الجاذبية التي تمارسها أعمال فرويد تعود، أساسا، إلى توظيفه للأساطير الإغريقية. فمأساة سوفوكل أوحت له بعقدة أوديب وموضوعة النرجسية ذات الأهمية الكبرى، مستقاة، بدورها من التراث الأسطوري الإغريقي، وكذلك ثنائية: إيروس/تاناتوس، وفرويد نفسه قال في مدخل إلى التحليل النفسي: "ثمة طريق عودة، تنطلق من النزوة لتصل إلى الواقع، وهذه الطريق هي الفن".

كويو، صاحب الفن من منظور سوسيولوجي يتحدث، من أجل دعم نفس الأطروحة، عن الاستعارة الجمالية، تلك التي تضاعف القدرة على الإحساس والتعايش الاجتماعي وكيف أن "الاستعارات إما أن تكون لا عقلانية، في جوهرها، أو لا تكون، ورموزا للتحول الكوني للأشياء"(ص106-107).

أما الشاعر البرتغالي الشهير فرناندو بيسوا، فيقول: "ثمة استعارات أكثر واقعية من الناس أنفسهم الذين يمشون على الشارع العام، ثمة صور في ثنايا بعض الكتب أكثر صدقا من الكثير من الرجال والنسوان".

نفهم من كل هذه الشهادات أن الاستعارة أداة ممتازة لمقاربة أصدق للأشياء، وأنه انتقص من شأنها وتستحق رد اعتبار راهن، بل إن مقاربة الاستعارات الاجتماعية باستعارات مشابهة لها على صعيد الفكر ستسمح بوصف للكائن واكتشاف منطقه الداخلي المحرك له، وأخيرا "الاعتراف بنصيب المتخيل الذي صنعت منه أشياء هذا العالم صنعا، والأخذ بالحسبان للمعطى الاجتماعي كما هو في واقع الحال وتفهم الإكراهات التي تحكمه"(ص203).

إن توظيف عالم الاجتماع للاستعارات، سواء في اتجاه مقاربتها أو توظيفها في لغته ومقولاته، سيمكنه من استخلاص القدر الأعظم من الحيوية والدينامية اللتين يختزنهما الكائن الاجتماعي، وبالأخص إذا أخذنا بالاعتبار أن أغلب الظواهر الاجتماعية المعاصرة لنا والقريبة منا تتوسل الصورة والخيال والحلم. فالأحلام لم تعد مسألة فردية، محصورة في إطار مقاربة التحليل النفسي والطب السريري، إنها امتدت لتشمل الدائرة الاجتماعية بكل مظاهرها "من خلال الصورة الإشهارية والأغاني المصورة والإنتاج السينماتوغرافي والهوايات من كل نوع وتعدد أشكال الاحتفاء والاحتفال…".

أكثر من ذلك "إن الموضة والألعاب التلفزية وحتى البرامج السياسية تقاس قيمتها، جميعها، بمدى قدرتها على تغذية الجمهور بأحلام اليقظة وهو المتعطش إلى كل الانفعالات الجماعية"(ص208).

إذا كان لنا أن نعترف للاستعارات بمزية، من خلال كل هذه الأمثلة والاقتباسات، فهي قدرتها على الاستباق. إن تسمية الأشياء ليست بالأمر السهل والهين، إنها ملكة، موهبة تتطلب خيالا ثرا واستعمالا للحدس هائل، وهو ما تحقق فيه الاستعارات الاجتماعية والشعبية منها سبقا بالنسبة للغة العلم وأجهزته المفاهيمية المصابة بالاجتفاف.

وكل معارف الحس المشترك تعبر عن نفسها بلغة مجازية، تلميحية، ولأن الحس المشترك هو الموضوع الأثير للمقاربة السوسيولوجية المعاصرة –كما يقترحها مافيزولي-، فلا مناص من إعادة الاعتبار إليه وأخذه بالحسبان داخل هذه المقاربة حتى تكون قادرة، مرة أخرى، على الممارسة الحدسية.

VII – التجربة بالنسبة لعالم الاجتماع:

ينطلق مافيزولي في فصل بعنوان (التجربة) من فكرة ترى بألا وجود لمقاربة سوسيولوجية ليس لها امتداد على المستوى الواقعي، فالسوسيولوجيا المداعبة المقترحة هنا هي، قبل كل شيء، مداعبة للظواهر الاجتماعية الناشئة والمعاودة للظهور تحت أشكال جديدة وتلك التي تبرهن على استدامة مدهشة تدل على سداد أطروحة الثوابت الأنثربولوجية كما نظر لها في أواخر الستينات جيلبر ديران.

والتجربة، في تصور مافيزولي تقف على قدمين هما: الحس المشترك والمعيش.

كالاستعارة المبخسة أرسطيا، فإن الحس المشترك تعرض، بدوره، لتبخيس علموي لا يقل شراسة عن الأول. لم يتردد إنجلز مثلا في القول: "إن الحس المشترك هو أسوأ أنواع الميتافيزيقا"، وفي العلوم الاجتماعية حصل اختزاله، طيلة حقبة الحداثة، في العائق الإبستمولوجي الذي يستحث قطيعة إبستمولوجية تتجاوزه وتنفيه وثلة وازنة من الكتاب المعاصرين صنفوه، ببساطة، في خردة إيديولوجية.

مافيزولي يختار التموقف ضد كل هذا التراث السلبي إزاء الحس المشترك أو الرأي أو الدوكسا حسب الصيغة الإغريقية، معيدا صياغة تعريف للحس المشترك بحسبانه "معرفة لها صلاحيتها في ذاتها، هي طريقة في التفكير والعيش، مكتفية بذاتها وليست بحاجة إلى أي عالم خلفي ما عدا عالمها الخاص حتى يكون لها معنى وتحظى بمحترمية"(ص216).

يعبر الحس المشترك عن نفسه من خلال المعرفة الحدسية واللجوء إلى التعابير المجازية وتوظيف الاستعارة، وكلها أشكال من المعرفة تتجاوز الوسائط من أجل النفاذ إلى قلب الأشياء وتتشبث بالطابع الملموس للظواهر، وتشارك في هذه "الدفعة الحيوية" كما صاغها برغسون في المجال الفلسفي حصرا.

إن الإغفال المنهجي "العلموي" و"الوضعاني" لقيمة الحس المشترك، بمختلف تعابيره، أدى إلى نتيجة خطيرة ألا وهي "حجب الجزء الأعظم من الحياة اليومية الذي قلما تربطه صلات بالأنساق النظرية المستندة، أساسا، على كيانات موغلة في التجريد"(ص222).

نجاح البحث السوسيولوجيالمعاصر في دمج الحس المشترك في عدته النظرية معناه "تحويله إلى موضوع للتفكير، وهو إنجاز إبستمولوجي تولد، بدوره، من تجاوز النزعة الفردية والدائرة الفردية للاهتمامات الإنسانية".

ولم يعد ثمة ما يبرر هذا التجاهل للحس المشترك راهنا، وبالأخص عندما يعاين الملاحظ الاجتماعي، بعين رضى أو استياء لا فرق، "هذه العودة الأقوى للطرق المشتركة في التفكير والعصبيات من كل نوع وأيضا النزوعات الامتثالية حتى في أوساط الأنتلجنسيا، والتي تميل، كلها، إلى أن تكون لها الغلبة والسيطرة"(ص207).

سبق ليونج في إبداع مفاهيمي وجيه أن تحدث عن "اللاشعور الجمعي" معبرا بذلك عن طموح معقول متمثل في نقل اللاشعور الفرويدي من شرنقته الفردية إلى الميدان الفسيح للحياة الاجتماعية. وللاشعور الجمعي اليونجي قرابة بهذا الذي يسميه مافيزولي بالحس المشترك الجماعي أو الاجتماعي إن لم نقل هو "جوهره وماهيته"(ص228).

في السياق المعاصر، كل عوالم الصورة هي جزء أساسي من هذا الحس المطلوب إعادة دمجه في المقاربة السوسيولوجية، "إن تلك العوالم تعبر عنه أحسن ما يكون التعبير، فهي خالقة لفن جديد في العيش يرتكز، أساسا، على القدرة على التلقي أكثر من القدرة على الإنتاج".

وإذا كان تقليد فلسفي راسخ قد دأب على تبخيس الحس المشترك، تحت مختلف النعوت الهجائية، فإن ثلة من الفلاسفة مثلت الاستثناء بهذا الصدد، إذ نجد هوسرل يعبر عنه بالماقبل إسنادي الضروري لأي بناء معرفي ومالبرانش يعمده "بالحكم الطبيعي" أو "التفكير في الجسد الذاتي (أو الخاص)"، كما توسع فيه كل من مين دوبيران وبرغسون.

إذا كان الحس المشترك هو الناقل اللغوي لأشكال المعيش الإنساني، فإن المعيش هو التعبير العملي عن محتويات هذا الحس المشترك، وكلاهما كانا عرضة للتهميش في الأبحاث السوسيولوجية ذات النزوع الوضعاني، الإحصائي والعلموي. المعيش هو كل ما يعيشه ويعايشه الناس داخل المجتمع، سواء كأفراد أو جماعات، يعيشونه ويعايشونه هنا والآن: من أشكال الشغف الصغرى (علاقة حب، الاهتمام بالجسد، الهوس بالموضة) إلى كل أنواع التمسرحات التي يزاولونها من العلاقة مع الزوجة في البيت والظهور بالأماكن العمومية حتى تقمص "الألوان" السياسية المختلفة.

وقد يجوز أن تكون البحوث السوسيولوجية الحداثية اهتمت بهذه الموضوعات، جميعها، التي تندرج ضمن المعيش، بمعناه العام، لكن طريقة بحثها فيها ومقاربتها، غالبا، ما تفضي إلى نقل مشوه للمعيش بعد تمريره من مصفاة المفاهيم المجردة أو إخضاعه لشتى الإسقاطات الإيديولوجية والتوظيفات الغائية اللصيقة بها.

مافيزولي، وفي الوقت الذي يلح فيه على توسيع مجال المعيش الإنساني ليشمل الظواهر المتناهية في الصغر بالحياة اليومية التي كانت تدرج ضمن "المبتذل" و"غير الدال" و"التافه"، فإنه يقترح، بموازاة ذلك أيضا التعامل معه بمنهجية ألطف ترنو نقله كما هو دون تعنيف ولا ترويض أو تطويع مسبق، مقتنعا في ذلك بأن المعيش يحمل في ذاته دلالته التي على البحث السوسيولوجي الشروع في استكشافها والتعلم منها.

قد تذكرنا دعوة مافيزولي هذه إلى إعادة الاعتبار للمعيش وإعطائه منزلة إبستمولوجية بدعوة مماثلة لفلسفات الحياة بألمانيا في أواخر القرن الماضي، بما أسمته بـ Leben philosophie، أي فلسفة المعيش، التي تأخذ في اعتبارها، قبل كل شيء، نقل التجارب الإنسانية والذاتية، بله الوجودية للفيلسوف إلى "منتوجه الفلسفي"، ليكون مرآة عاكسة له، ومن ثم الارتقاء، عن طريق الكتابة الفلسفية، بالمعيش الفردي إلى مستوى معيش كوني، ولا يجب أن يغرب عن البال أن تلك الدعوة كانت نتيجة لتبرم ثلة من الفلاسفة من التجريدية والنسقية المفرطتين للفلسفة الألمانية، في ذلك الوقت، وكان من أبرزهم شوبنهاور ونيتشه  وكيركغارد الدانماركي وغيرهم.

إن الارتباط بالمعيش سوسيولوجيا يعني "إغناء المعرفة وبيان كيف أن المعرفة الجديرة بهذا الاسم، لا تستغني عن الارتباط العضوي بموضوعها (أي بالواقع الإنساني) ونبذ الفصل والقطيعة الإبستمولوجية الأثيرة التي كان يعتقد (في المنهجية السوسيولوجية الحداثية)، أن ممارستها لدليل قاطع على علمية ممارسها"، وأخيرا، يعني الارتباط بالمعيش "أن كل أشكال الشغف الفاعلة في الحياة الاجتماعية، ما دام لها مكانها بالمجتمع فيجب أن يكون لها مكان، أيضا، في المقاربات التحليلية التي تنشد فهم هذا المجتمع"(ص237)، وعلى  رأي الشاعر البرتغالي، مرة أخرى: "البعض يحكم العالم، أما الآخرون فهم العالم".

عندما تضع السوسيولوجيا المداعبة المعيش، بهذا المعنى، على رأس سلم اهتماماتهم، فإنما تبتغي، من وراء ذلك، "معرفة كل هذه الأشياء التي تنبعث من أسفل"، هذا الذي نسميه إنسية ناشئة دوما وأبدا بين أفراد المجتمع في إطار النزوع الإنساني إلى وجود مع آخرين، "إنسية بكل محمولاتها الوجدانية مقابل تلك الأشكال السوسيو-اقتصادية التي لا زال الاعتقاد السائد يرى بأنها المحددة للظواهر الاجتماعية في نهاية التحليل"(ص238).

ولانتقال سليم وموفق إلى هذا الذي نسميه معيشا، ينبغي على ممارسي هذه السوسيولوجيا المداعبة أن يفهموا المعيش كنفي لفكرة وفلسفة النقد التاريخانية المنزع والوضعانية المرمى. "فالنقد يرنو إنجاز نقلات (تجاوزات)، وهو سلاح استعملته، دائما، الأنتلجنسيا، بجانب التفسير التاريخي. أما المعيش فضده، إذ لا يدين لهذه النزعة التاريخانية بشيء لكونه يدمج طرائق في العيش عتيقة تعاود الظهور باستمرار على الواجهة رغم أنف الوضعانيين والتقدميين من كل نوع".

المعيش، قد يكون عبر عنه هايدغر بصغة "نحن" التي تنسب الأفعال الاجتماعية إلى هوية غفل، وحتى الإغريق، وبالأخص، حلقة الفلاسفة الأوائل، كانوا يربطون ربطا وثيقا بين حماسة الفكر ودراسة الوجود ذاته، وهو ما يلخصونه في بيوس تيوريتكوس Bios Théorithicos أو بيو-نظرية، وكم سيفاجئ إلياس كانيتي الأرواح القلقة للمثقفين بدفاعه في كتابه الأخير: الإحراق، عن نار محررة من صنمية وفيتيشية الكتاب ورديفه النسق، يعبر عن طموحه في هذا الكتاب قائلا:

"طرح لباس العالم الجهبذ شرط بلوغ طيبوبة الحكيم الصيني"، حكمة تعلم، حسب مافيزولي، لا شك "المحاذرة من جفاف المفاهيم"، ونجدها "منغرسة في ديمومة وسرمدية الحياة"(ص243).

إن تمركز السوسيولوجيا المداعبة حول المعيش وتعودها عليه ومصاحبتها له سيمحي وهم الفصل بين الذات والموضوع، وسيجعل من حضور الأولى في الثاني لا شيئا معيبا يجب الخجل منه، بل إضافة ضرورية تعطي للموضع ملحا ومذاقا، وعلى رأي ستيرنير، في واحدة من استعاراته الخصيبة: "ماء الموضوعية جيد شريطة مزجه بخمرة الحماسة. فالمزج ببينهما هو الذي يعطي الرأي الصائب".

VIII – ومضات الحواس:

إن "السوسيولوجيا المداعبة" ليست بدعة أو اتجاها سوسيولوجيا جديدا جدة مطلقة بحيث يكون مجبرا لتبرير نفسه، سواء بتقعيده في ماضي المعرفة أو تجذيره في حاضرها. لا، إنه "حساسية فكرية" تظهر في تاريخ الفكر الإنساني، على شكل ومضات قوية قوة الحواس البشرية.

حساسية تفوق أهميتها، حسب ديران، كل هذه المناقشات المدرسية حول موضوعات ممعنة في التجريد لا تكف تكشف، بنفسها، عن بطلانها وفراغها.

إلا أن ما بعد الحداثة يفرض، دونما تعسف، ظهورا أجرأ لهذه الحساسية، بل هي موجودة أصلا بالمعطى الاجتماعي، المعاصر، بمقادير متفاوتة، إلا أنه وجود لا يواكبه البحث الإنساني إن لم نقل هو متخلف بالنسبة إليه.

إن "الحسي ما عاد لحظة تتعين مجاوزتها داخل سيرورة معرفية لا تفتأ تتقي ذاتها عبر المراحل التي تقطعها. إنه عنصر مركزي في سيرورة المعرفة، عنصر يسمح لنا، بخاصة، بالتناغم التام مع إيقاع الحساسية الاجتماعية المنتشرة".

مافيزولي يذهب أبعد هنا، ويعلن تعاطفاته "الجنوبية" من خلال حديثه عن المعرفة الحسية بحسبانها معرفة من "النمط الجنوبي"، معرفة لا تمارس الإكراه على العالم الاجتماعي والطبيعي ولا تمفهم، دونما تحفظ، ما هو ملاحظ، بل تقنع بالأخذ بالحسبان وبكامل الرفق للمعطى الواقعي كما هو في واقع الحال.

معرفة ليست غريبة أيضا في أروقة الفكر وردهاته، "فمنذ الفيلسوف الإغريقي حتى الحكيم الطاوي، يتخذ الاهتمام بالحياة أشكالا متناظرة يمكن اختزالها بمصطلح سوسيو-صوفيا كمال قال به تاكوسيل، وتلتقي عند اعتبار الوجود الاجتماعي أو الفردي، بمجمله، كمعطى للنظر بصفته مظهرا قبل أن يكون قابلا للتفكير بصفته ماهية".

وعند نيتشه، المدافع الشرس عن فلسفة حيوية لصيقة بالمعيش الإنساني، نجد استعارة قدحية رامزة إلى كل أشكال الدوغمائيات الفلسفية "التي لا تفهم نقيرا في ما يتمرد على توتولوجيات دائرية منغلقة على ذاتها"، وهي استعارة "الجسد الشحوب والصقيعي".

معرفة، عندما تشدد على المعيش، فلأنها ترى فيه "طريقة مثلى للاعتراف بالعناصر الذاتية بصفتها جزءا لا يتجزأ من التواريخ الإنسانية(…) وهو أيضا انفتاح على الغير، تنسيب للذات ومداهمة الآخر لها".

وهو في آخر التحليل، ليس شيئا آخر غير الحياة وهي مركزة، كثيفة ومتكاثفة. إنه هذه الوضعيات جميعها: حب/كره، انجذاب/نفور، صراع/تناغم، تجربة/ معيش، وكلها نسيان "مؤقت" للأنا، وتنسيب لها، نجدها في التجارب الدينية القصية كالتجربة الشعرية، أشكال الانخطاف أو الحالات القصية للوعي، لكن حذار من أن نطبق عليها مقولة الاستلاب الحداثية كما رسختها في الأذهان الأدبيات السوسيولوجية الماركسية، إذ "لا علاقة لها بالاستلاب، على الأقل كما فهم في القرن الماضي، فهي تتيح، بالأحرى، للفرد إثباتا باذخا للحياة. إنها تعبير عن طاقة ليبيدية تكون استثارة الجسد الفردي، من خلالها، مقوية ومعضدة للجسم الاجتماعي ككل". وهذا الانصهار المستمر لجسد الذوات في جسد الجماعة، من خلال هذه الوضعيات المعيشية هو الذي يبرر، في سياق آخر، حديثا عن الحظوظ الوافرة لمقاربة إيروطيقية للمجتمعات المعاصرة".

كانطية جديدة؟

على امتداد فصول هذا الكتاب، لم يرد اسم كانط إلا مرة أو مرتين وفي معرض إعلان مافيزولي تميزا ما لأطروحاته عن فلسفته.

ونفهم هذا التحفظ على أنه، قبل كل شيء، تحفظ من فلسفته النقدية، والنقد انتهى زمانه وأصبح في ذمة الماضي بالنسبة للعقل الحساس الذي يكيل له مافيزولي المديح والثناء.

لكن، يمكن تشبيه غياب كانط عن "العقل الحساس" لمافيزولي بالشيء الذي يتلألأ من فرط غيابه. فنقدية كانط لا تتماشى مع "امتثالية" مافيزولي وتصوراته حول الحس المشترك، بله المعيش الذي يجعله وجها لوجه أمام مقولة النقد، "السلاح الوحيد للإنتلجنسيا المستنيرة ذات الروح القلقة الملأى بالشجن".

إلا أن نقدية كانط لا يمكن أن تحجب توفيقيته في مجال نظريات المعرفة للقرن الماضي، إذ عمد إلى التوفيق بين تجريدية المثاليين وحسانية التجربيين، وانتهى به الأمر إلى الصيغة المعروفة: المقولات دون حواس جوفاء والحواس دون مقولات عمياء. إن توفيقية كانط تختار الذهاب والإياب بين فعل المعرفة (الفهم) وفعل الحواس (الحساسية) في أفق الوصول إلى توليفة العقل الترانسندنتالي، كتعبير عن الواقع بعد تمريره من مصفاة الفكر وإخضاعه للنظام والترتيب، أي لما نسميه بالوضع داخل نظرية (تنظير).

والسوسيولوجيا المداعبة لمافيزولي لا تخلو إن لم نقل هي، فعلا، متخمة بهذه الروح الفلسفية الكانطية في شقها التوفيقي.

دأب مؤلف الكتاب، نفسه، على الإحالة على قولة مغمورة، شيئا ما، لماكس فيبر تقول: "إن السوسيولوجيا التفهمية توجد، بمنتصف الطريق، بين الفيلسوف ورجل الشارع"، أي تحرص على فعل ذهاب وإياب بين نظام المعرفة ونظام الواقع بمعناه الهيغلي، كما أشار الكتاب نفسه ضمن ثنائية: الواقع والعالم الواقعي التي لا تزال بحاجة إلى تعميق في ما يكتب عن هيغل بالعربية طالما أن الفرصة سانحة.

يهيم مافيزولي حبا بالحكمة الشعبية وبالحس المشترك وبالمعيش وبأشكال الإنسية التي لازال عالم الاجتماع (أو الشاخر الاجتماعي) مطالبا بكثير من التواضع من أجل النهل والتتلمذ عليها، لكن بقدر هيامه هذا، فهو يحذر من أن يفهم كلامه على أنه دعوة لاستقالة الفكر وعدم إعمال آلياته، إذ "لا شيء موجود إلا بعد تسميته" أي مفهمته وإدخاله إلى نظام المعرفة.

ومافيزولي، وقد يكون ذلك من سخريات القدر ومفارقاته، لا ينقل الوقائع اليومية إلا في سياقاتها العامة (الموضة، التدين، الإنسية…)، وتشكو مرافعاته "المشروعة"، على أية حال، من أجل سوسيولوجيا مختلفة منذ ما يربو عن عقدين، من هذه القاعدة الخلفية المعضدة للقول السوسيولوجي، أي الأعمال الميدانية، فهي بمثابة "الحلقة المفقودة" في كتبه المتلاحقة.

بل أكثر من ذلك، إن مافيزولي يبدو، فعلا، كعالم اجتماع جديد يمارس التنظير، والتنظير الأنيق، أكثر من غيره من جيل علماء الاجتماع الجدد، حتى لكأنه، يبدو لمن لم يستأنس، كفاية، بكتاباته، كعالم اجتماع يفلسف، بإصرار، السوسيولوجيا، منذ الصور المجازية التي يعنون بها كتبه (ظل ديونيزوس، زمن القبائل، المعرفة المعتادة، مديح العقل الحساس)، إلى "نزعة الترحال ولغز الأوامر.."، إلى المفاهيم الإجرائية التي يقترحها لتغطية المجال الاجتماعي والوسائل المنهجية للإحاطة به.

قد يصح أن يكون ذلك تعبيرا عما نسميه اليوم في الأوساط الفرنسية بتيار سوسيولوجي يهدف إلى ابتلاع الفلسفة لصالحه. وقد يكون ذلك عرضا لكساد في المتاع السوسيولوجي، لكنه، على أية حال، يثير غرابة نسبية، لانطباقه على عالم اجتماع جديد كمافيزولي.

قد يكون كاتب الكتاب محاميا ومرافعا متألقا عن أسس سوسيولوجيا جديدة، تعطي الحظوة للقريب والمحايث، واليومي والمهمش والتافه، لكن قد تظهر مرافعات مافيزولي على أناقتها وطابعها الأكاديمي الرفيع المستوى، كما لو بدأ يتسلل إليها تعب المعاودة ورغبة التثبيت الوسواسية، ولربما كانت ستنجو من هذين المحذورين، وصارت إلى ممارسة تناوب بين المرافعة الشيقة التي نستفيد دائما من ألقها الأكاديمي، وننهل من حرارتها الفلسفية، وسلاستها في العرض والطرح من جهة، وتقديم أعمال سوسيولوجية عن اليومي والراهن، كما يزخر بها المركز الذي يشرف عليه الأستاذ نفسه في جامعة باريز، أعمال من الممكن أن يخرجها على شكل "تيمات"، وبالأخص ما تعلق منها بالسوسيولوجيا ذات "النمط الجنوبي" حتى نتأكد من أن سوسيولوجيته هي مداعبة فعلا، نظريا وممتعة ومفيدة عمليا.

 



(*)الكتاب بعنوان: Michel MAFFESOLO : Eloge de la raison sensible, (Essai), Editions  Bernard Grasset, Paris, 1996.

ونثير انتباه القارئ إلى أن الفصل الأخير، بكامله، سبق وأن ترجمناه، تحت عنوان (النزعة الحيوية كروحانية جسدية) عندما نشر كمقالة في مجلة بلجيكية، وعنونه الكاتب مجددا بـ: (ومضات الحواس) في الكتاب الحالي. انظر: جريدة المنظمة، عدد 633، تاريخ 2 يونيو 1999.