ص1      الفهرس   المحور 

 

عربة الإصلاح في المغرب

تبحث عن حصانها

مصطفى حيران

".. إن العلاقة بين الشيخ والمريد تعد في النهاية الجدول الأساس الذي تتركز فيه مكونات السلطة: إن الارتقاء في سلم المشيخة الطرقي يمر عبر محطات من (قهر النفس) ونكران الذات والخضوع والإذلال من جهة، والتعبد من جهة ثانية. فالمريد يحقق ذاته ويحصل على المشيخة عندما يصبح منقطع الجذور، متجردا من ماضيه، فاقدا لـ(رجولته)، لا هم له إلا خدمة شيخه وسيده على اعتبار أن ذلك يعد تماهيا في القدسي المتجسم في الشيخ. ولكن انتقال الشخص الجديد من وضعه كمريد إلى موقع المشيخة أو (الزعامة) يجعله يسترد جبروته ورجولته ويخضع من تحت إمرته لنفس ما سبق أن عايشه.."                     عبد الله حمودي

 

آسر هذا المقتطف النصي من كتاب "الشيخ والمريد" لمؤلفه عبد الله حمودي أستاذ الأنتربولوجيا في جامعة برينستون بالولايات المتحدة الأمريكية.. آسر في وضعه مبضع التشريح على واحدة من أعتق وأفدح آفات التراتبية السلطوية بالمعنى الاجتماعي المشرع للسلطة، وليس السياسي الضيق.

إن جدول علاقة الشيخ والمريد الذي يقترحه الأستاذ حمودي مفتاحا لفهم آليات السلطة والتسلط في نظامينا الاجتماعي والمؤسساتي، يعتبر سفرا ارتجاعيا في موروثنا الثقافي الغائر الذي يحتفظ "بنضارته" وحيويته، ويقف عائقا قويا و"منطقيا" في وجه دعوات و"دعايات" التحديث.

فبالرغم من أن مظاهر الحياة المعاصرة اكتسحت جوانب عديدة تقوم عليها حياة الفرد والجماعة، فإن آليات الاشتغال الاجتماعي والثقافي الموروثة في تجلياتها السلبية –أبرزها جدول علاقة الشيخ والمريد- ظلت العمود الفقري لشل الحياة الذي فرض فيه علينا الأخذ بمظاهر تحديث لا تقوم بدونها الحياة المعاصرة.

هكذا على الرائي ألا ينخدع بقشرة تحديث إسمنتية هي عبارة عن مؤسسات تعددت مسمياتها وأغراضها، وتنوعت يافطاتها ومسؤولياتها.. ذلك لأن القشرة إياها تثوي تحتها "منطق الحاشية" بتعبير الأستاذ حمودي، وهو منطق يتضمن ذلك الموروث السلطوي القائم على جدول الشيخ والمريد حيث "وضع –أي منطق الحاشية- كمعيار أخلاقي تقاس به وعليه أوضاع الناس وأحوالهم. كما أن اعتماده في إدارة الشؤون المختلفة أدى إلى عدم تبلور تقسيم واضح للعمل وتمييز بين دوائر المسؤولية" كما يشرح الأستاذ حمودي.

إن هذا "التشريع" الاجتماعي "الأخلاقي" غير المكتوب عصف بإمكانيات تخصيب قشرة التحديث لشروطها التحديثية الحقيقية وليس المدعاة.. فقد بقيت ذهنية ونفسية الاستتباع والمتابعة وفق الجدول المومأ له تطور أدواتها المعطاة من موروث اجتماعي متجذر، لتكسبها مرونتها "العصرية"، سيما أن اقتصاد الريع "المهيكل" يمنح الأساس المادي أو الدعامة اللوجستيكية لاستثباب ذهنية ونفسية الاستتباع أو منطق الحاشية، ذلك لأن "جدلية الحاشية أو التقرب من السلطة بوجه عام تعني السيطرة من جهة والخضوع وتوزيع الامتيازات والعطاءات" ومن ثم يمكن أن نفهم لم يحرص مسؤولو المؤسسات عندنا على مراكمة أكبر قدر من الصلاحيات والمسؤوليات وفي أثرها سلطات أكبر للتمكن من حشد مزيد من الاتباع والتحكم –بالتالي- في مزيد من الرقاب.. وإذا استحضرنا سلبيات اقتصاد الريع من حيث إنتاجه لدورة تفقير محكمة تبدو وكأنها "أسلوب من أساليب السلطة، على اعتبار أن الفاقة مدخل للتحكم في الأشخاص وفي المجموعات.." أو بتعبيرنا الدارج الماكر (جوع كلبك يتبعك).. إذا استحضرنا ذلك فإننا سنفهم تلك المفارقة المريعة المتمثلة في نكوص وعي التحديث في تزامن مع اتساع وتعدد مظاهره..

ونرى أن تفسيرا ذرائعيا كذلك الذي يوجز التخلف في مكوناته البنيوية (إقطاع – أمية – فقر – فساد – استعمار..الخ)، ليبني تحليله الظاهراتي المعروف عن معوقات التحديث.. نرى أن هذا التفسير في حاجة إلى تهوية نظرية صحية ضرورية، ذلك لأن الموروث الاجتماعي اللصيق بمفهوم السلطة كما رصده الأستاذ حمودي في جدول الشيخ والمريد يمنح إحالاته التاريخية الموضوعية بغية فهم أشمل وأعمق لتورم شروط التحديث عندنا.

فثمة معطيات سخية في حياتنا الخاصة والعامة تفصح عن آليات مأزق التحديث.. وهي آليات تدعو إلى الاعتكاف عند بؤر التورم الاجتماعي والتربوي بمعناهما الأنتربولوجي لتفكيك بنية السلطة واستيعاب ميكانيزماتها..

إننا نقصد بمأزق التحديث ما يمكن أن نطلق عليه ورطة الديمقراطية التي "تتلكأ" رياحها في ولوج الأبهاء المعتمة لحياتنا مجتمعا ومؤسسات، ونرجو ألا يفهم من سياق تحليلنا أننا نستثني أية صفة مجتمعية أو مؤسساتية من العتمة المعممة.. فنحن نقدم نموذجا استثنائيا –ربما- في "تعايش" الموروث السلبي مع معطيات التحديث، حيث عرفنا في بدايات القرن العشرين خلخلة قصوى لمؤسستنا الاجتماعية والسياسية المنسوجة بفضل موروثنا الأنتربولوجي والإتنولوجي، خلخلة مست النسيج الاجتماعي والسياسي برمته ودفعت به إلى واحد من أعمق مآزقه وأكبرها، غير أن الخلخلة السياسية وجدت انفراجا جزئيا حفظ للنسيج برمته تماسكه المرحلي حيث "كانت الثلاثينيات سنوات الارتقاء بأدوات الضبط الاستعماري للمجتمع المغربي في أرقى مستوياتها، وجاءت الحرب العالمية الثانية والمجاعات الناتجة عن الجفاف لتمكن الإدارة الاستعمارية من وضع هياكل السيطرة على جميع مناحي الحياة، وهي هياكل تقوم على مبدأ الدمج الذكي بين قسط من العقلنة واستغلال العادات والطقوس المحلية؛ الأمر الذي سمح بعقلنة الاستبداد والانتقال به إلى مستوى أعلى من الفاعلية".

إن هذا التوظيف الاستعماري لموروثنا الاجتماعي والسياسي هو الذي حفظ للنسيج الاجتماعي والسياسي تماسكا ضروريا كفل له البقاء وبالتالي الاستمرار.

تأسيسا على ذلك فإن مفارقة وجود القديم في الجديد صمدت بفعالية مثيرة للاهتمام.. فقد تحول الإطار السياسي المخزني في المغرب من متلق سلبي لضربات معاول التحديث (هزيمة إسلي 1848 وحرب تطوان 1860 ومشروع دستور 1908 ومعاهدة الحماية الخ) إلى مستفيد ذكي من ضربات مماثلة على مدى العقود التي رحل خلالها الاستعمار المباشر من المغرب.

اللافت للانتباه أن الجدلية الصراعية بين العتاقة والحداثة لم تفرز متوالياتها التراكمية في المجال السياسي، وبالتالي إنتاج ذلك الاضطراد الذي يكرس ميزان قوة يتسربل بالشرعية المجتمعية في أحد الاتجاهين: تزكية العتاقة أو ركوب مغامرة الحداثة. فمن المثير حقا أن نوجد في عصب جغرافي على مرمى البصر من قلب التحديث (غرب أوروبا) ونتلقى تلك التحديات الحضارية العنيفة دون أن نقترف استجابات حادة تستدير بنا بغتة من وجهة اللاتحضر السلبية إلى أخرى إيجابية..

ثمة في إعاقات هذا العجز مؤشرات تستدعي أنساق بحث وتشريح دقيقة تسافر في أرومة نظمنا الاجتماعية والسياسية والثقافية والتربوية.. لحصر درجات الإعاقة في شتى مستوياتها وتجلياتها أمام الضمير الجمعي لاقتراف نقد ذاتي مجتمعي وسياسي.. وذلك عملا بالقاعدة الطبية الذهبية: تبين المرض نصف العلاج.

إن التشخيص الذي يقترحه علينا الأستاذ عبد الله حمودي ضمن النسق الأنتربولوجي، وبالأخص في جدول علاقة الشيخ والمريد، يمنحنا وعيا مرآويا استعجاليا مناسبا، حيث تندلق أمامنا واحدة من أخبث دمامل مرضنا المزمن، ونعني بها تلك التراتبية السلطوية القهرية التي تجعل منافي مختلف المواقع الاجتماعية والسياسية شيوخا ومريدين مثيرين للسخرية والرثاء في ذات الآن..

فرجل السياسة المغربي من مختلف المواقع ليس مدعوا فقط إلى تنمية ثقافته وتوسيع مداركه بل إنه مدعو إلى سرير التحليل النفسي لفك عقده السيكولوجية المتصلة بتنشئته التربوية والاجتماعية والسياسية، وليتخلص من دهور وجذور الدروشة والتبعية والانكفاء وما تحدثه من دمار للذات في انفصامها المريع بين المأمول والمفروض في واقعنا الاجتماعي والسياسي المنحط.

والواقع أن المؤتثات إياها التي تجعل ذلك الشد والجذب بين المكتسب والمعطى (الموروث والمحدث)، ينتج علاقات اجتماعية وعملية رثة تحبل بمفارقات مسرحية صارخة.. فلم يعد مستغربا –لدى عامة الناس- أن يتسنم إطار مؤسساتي ما أعلى مراتب المسؤولية محصنا بشهادات الدراسات العليا، وأن يتدرج في خانات العمل السياسي، حتى يصبح قياديا، ويتصرف في حياته اليومية بلا عقلانية مثيرة للاستغراب.. حيث تجد مثلا أستاذا جامعيا يهدد طلبته المشاغبين ويتوعدهم بقبضة يده، ويأتي حركات بهلوانية من وراء مكتبه كأنه سينزل صفوف المدرج لينكل بطلبته مثل أحد أبطال أفلام "الكاراطي" الرخيصة!.. أو تجد رئيس تحرير صحيفة يعامل مرؤوسيه الصحفيين أنهم أجراء يعملون في حديقة منزله، أو أيضا مثقفا ينتج خطابا معرفيا ثقيلا في أحد مجالات العلم والمعرفة يذهب سرا لزيارة إحدى العرافات للاستفسار عن مستقبله المهني!.. أو مسؤولا كبيرا يستجيب مرغما لطلبات مرؤوسيه بشراء بعض المعدات الإدارية الضرورية، بالنزول إلى السوق ومناقشة الأثمنة مع الباعة إلى حد الملاججة مثل العوام، كل ذلك لأنه لا يثق في الوثائق أو الفواتير التي يدلي بها الفراشون والممونون المضطلعون عادة بهذه المهام!

لا يتعلق الأمر هنا بأمثلة ونماذج استثنائية تعفي سير الحياة العامة من هذا الشذوذ الذميم، بل إن ثمة تعميما لذهنية الاستخفاف بالعقل وترجيح الظنون والشكوك.. وتفضيل الركون إلى علاقات القرابة أو المنافع السرية المتبادلة أو المشايعة الدائرة حول شخصية الكاريزما المستحوذة على إدارة سير العمل وتوزيع ثروات اقتصاد الريع، مما جعل "ظاهرة اللامبالاة تتسع –كما يقول الأستاذ حمودي- وهي علامة على تأثير الثقافة الزبونية المستشرية في صفوف النخب والأعيان المنتقاة ضمن منطق يقوم على القبول بالخضوع والمهانة بهدف التمكن من السلطة والاقتراب من المنظومة المخزنية..".

لذلك فإنه من الصعب جدا صمود الكفاءة في مثل هذه الشروط الملتبسة المخيمة على سير أمور الحياة العامة في أعلى مستوياتها وأدناها بل إن الانكفاءة (لنلاحظ هذا الإيقاع اللغوي المنسجم بين كلمتي الكفاءة والانكفاءة) أمام شخصية الكاريزما في أبعادها المحلية وبصفاتها الموروثة، هي مفتاح أبواب الفلاح والنجاح بل أيضا النجاة.

ويبدو مهما هنا إجراء جرد بما تحقق من تراكم في مجالات الإنتاج المرتبطة بالتنظيم المؤسساتي: إدارات – شركات – مقاولات – وكالات…الخ، سواء في القطاع العام أو الخاص… سنجد للأسف ثلاث وأربعين سنة من الاستقلال لم تنجب اضطرادا في الخبرة المؤسساتية وبالتالي انتشار التنمية؛ بل إعلان ساقم بفشل الدولة وعرضها مؤسساتها الاقتصادية للبيع في مزادات مهنية، والأخطر من ذلك أن الدولة ذات العمود الفقري القائم على الكاريزما لم تجد قطاعا خاصا راكم الخبرة والثروة ليحمل عنها عبء التسيير الثقيل للشأن الاقتصادي حيث يكسب ملايين البشر قوتهم بصعوبة متزايدة، فالقطاع الخاص بدوره ربيب الدولة وتعود دائما إقامة عثراته والبقاء على قيد الحياة بفضل تبعيته اللامشروطة للدولة.

هكذا أطبقت الدائرة الضيقة لعلاقة الشيخ والمريد على الخاص والعام في شتى مناحي الحياة: اجتماعية ومؤسساتية، وأطرت مدى زمنيا يقرب من نصف قرن لتكرس صمود البنية الاجتماعية والسياسية العتيقة.

إن المراهنة دائما على أسبقية الدولة على الإنسان، ووجوب تأطير الأولى –حسب قناعاتها السلطوية- لمجالات حياة الثاني –أي الإنسان- أحدث ذلك التضخم الهيكلي في بنية الدولة إداريا واقتصاديا وقزم الإنسان وأغرقه في تخلفه الموروث.. حيث كان منطقيا أن تنتفي شروط التقدم والتطور بمعناهما الحضاري على مدى عقود طويلة أعقبت رحيل الاستعمار المباشر عن بلادنا، وذلك لأن الغائب الأكبر عن الاختيارات السياسية والاقتصادية هو الإنسان صاحب المصلحة الأولى والأخيرة في الرفع من مستوى الحياة، حيث اضطلعت الدولة بتأثيث مناحي الحياة حسب التصور الكلاسيكي لكل سلطة في الاستئثار بالمبادرة في الحياة العامة والخاصة للناس.

ويبدو طريفا ومحزنا في ذات الآن أن نلقي نظرة على بعض المطالب الدستورية التي عرفها المغرب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حين عاشت بلادنا أفقها العصيب الذي تلا هزيمة إيسلي (1848) وتكاثف الأطماع الأروروبية (فرنسا وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا وإنجلترا) قبل أن تتم التسوية بين هذه القوى الأوروبية حول مناطق النفوذ في إفريقيا ويخلو الجو في المغرب لفرنسا وإيطاليا عقب مؤتمر الجزيرة الخضراء (1906) ففي هذه الأجواء المضطربة داخليا جراء ما كان يحاك من طرف القوى الاستعمارية طمعا في الموقع الاستراتيجي للمغرب (قربه من الجزائر المستعمرة من قبل فرنسا آنذاك، وإطلاله المحايث على الواجهة الأوروبية المتوسطية) فضلا عن ثرواته الفلاحية والتجارية، المغرية للأسواق العالمية.. في هذه الأجواء انبرى بعض المثقفين المشفقين من تكالب النفوذ الأوروبي (النصراني) إلى رفع مذكرات دستورية كجماعة لسان المغرب ودستور 1908 المرفوع إلى السلطان عبد الحفيظ، غير أن هناك وثيقة دستورية مقترحة في نفس الإطار سابقة على مقترح جماعة لسان المغرب، لا يعرف على وجه التحديد مدبجها أو مدبجوها كما يذهب إلى ذلك الأستاذ علال الفاسي الذي انتشل الوثيقة الدستورية المجهولة ونشرها في كتيب صغير يحمل عنوان: حفريات عن الحركة الدستورية في المغرب قبل الحماية (مذكرة مرفوعة من كاتب مجهول إلى جلالة مولاي عبد العزيز).. ويرجح بعض الباحثين أن مدبج هذه الوثيقة شخص ليبي استوطن المغرب يدعى عبد الكريم مراد..

وجه الطرافة والحزن في المقترح الدستوري المرفوع إلى السلطان عبد العزيز أنه تضمن –على قدمه- جوانب حثت على ضرورة العمل بالنظام النيابي والرفع من مستوى مساهمة المواطن المغربي في الخيارات السياسية والإنتاج الاقتصادي.. "تشرح المذكرة –يقول علال الفاسي في تقديمه لكتاب حفريات…- وسائل النهوض التي سلكتها أمة اليابان (للتدليل والتحفيز على العمل بالنظام الدستوري الملكي) وهي: 1) استبدال الاستبداد بالشورى، 2) تنظيم قوانين الدولة، 3) الاهتمام بالتعليم وإرسال بعثات إلى أوروبا، 4) إلغاء الامتيازات الأجنبية وإجلاء المحتلين عن أراضي الوطن. وتعطي المذكرة –يتابع علال الفاسي- مثلا آخر بدولة إيران المسلمة التي اقتفت أثر اليابان فأسست حياة نيابية وعملت على تنظيم قوانينها طبقا لمقتضيات الشريعة الغراء وحسنت ميزانيتها فاستوجبت إعجاب الدول الأجنبية بها..".

ورأى مدبج المذكرة الدستورية أن ".. الشعب كله يرغب في إدخال الإصلاح ولكن بطريق شرعي، فالعودة إلى الشعب ليقرر مصيره بنفسه خير علاج للمشكل وأنجع طريق للنهوض. وسبيل ذلك ثلاثة أمور: الأول: تشكيل مجلس الأمة الثاني: الشروع في تشكيل عسكر جرار على وجه منتظم، الثالث: تمويل داخلي يتيسر معه تحقيق ما تطلبه أوروبا من الإصلاح دون حاجة إلى مساعدتها".

وتضرب المذكرة الأمثلة بنماذج ديمقراطية أوروبية حيث يعتبر العمل النيابي مقدسا يعلو ولا يعلى عليه في الأمور الدنيوية.

وإنه بغض النظر عن الأخطار الخارجية والموران الداخلي (تمرد بوحمارة) التي أملت اقتراح العمل بنظام الدستور فإن الجوهر الديمقراطي لهذا الاقتراح يقتضي وقفة تأمل خاصة ضمن نسق بحثي أكثر تساؤلا، وذلك بالنظر إلى السياق السياسي الذي سيأتي فيما بعد ليجب أشياء كثيرة إيجابية تضمنها روح الدستور المقترح على السلطان عبد العزيز منذ نحو قرن من الزمن.

لن نبرح نفس الفترة السياسية والزمنية لنسائل متنا آخر من نوع مختلف غير أنه لصيق بوجه الطرافة والمفارقة الذي ألمحنا إليه في هذا السياق.

يتعلق الأمر بالترجمة الحميمية التي رسمها كاتب فرنسي بالهواية يدعى غابرييل فيير ألف كتابا حمل هذا العنوان المثير: (في المغرب – من داخل الحياة الخاصة للسلطان (Au Maroc dans l'intimité du Sultan) وهو كتاب ضمنه مؤلفه خلاصة تجربته الخاصة بالعمل في القصر الملكي على عهد السلطان مولاي عبد العزيز، حيث قضى بضع سنوات كأحد خلصاء السلطان بعدما كان قد جاء لاطلاعه على فن التصوير الفوتغرافي وتلقينه تقنياته..

روى غابرييل فيير أشياء كثيرة عن تجربته داخل القصر الملكي من منظوره كمواطن فرنسي يقف على خصوصيات السياسة والمجتمع المغربيين آنئذ (1894-1908) مثلما أدلى بآراء وتوصيفات (يسيل لها لعاب فضول الباحثين المهتمين بتاريخنا السياسي الحديث) عن تلك المرحلة الحرجة من تاريخ المغرب..

نسوق هنا ترجمة لإحدى الفقرات الدالة في السياق الذي نحن بصدده من كتاب (في المغرب – من داخل الحياة الخاصة للسلطان): "..العمال أنفسهم في باحة اللهو يهربون مثل سرب قساوسة حينما يظهر السلطان، ولا يعودون سوى حينما ينصرف. بدا له ذلك (يقصد السلطان عبد العزيز) عبثيا، لذا فحينما وصلنا إلى فاس أمر في مبادرة خاصة منه بأن يستمر كل واحد في حضرته منشغلا بما يكون أمامه من عمل دون قلق بمقدمه، أو حتى توجيه التحية إليه.. وكان في ذلك أيضا واحدا من الأسباب التي دفعت العلماء والمؤمنين المسنين إلى الوقوف ضده (أي السلطان) وبما أنه طوال بضعة أشهر تحمس لوسائل النقل المتحركة حيث كانت له مناسبات متواترة للخروج أكثر من السابق، فقد أخذ عليه بغير قليل من المرارة ظهوره الكثير، وعدم الاهتمام كثيرا بدوره كمعبود Idole إن ذلك هو القدر الأبدي للإمبراطور المسكين"!.

تبدو قراءة المتن التاريخي من زواياه الاجتماعية والثقافية ضرورية لفهم مآزق كثيرة اعترضت وتعترض نوايا ومطامح التحديث في المغرب؛ حيث سيوفر تفكيك منهجي لميكانيزمات ثقافية واجتماعية الكثير من أوليات العمل في إطار الإعداد وتهيئة بنياتنا المجتمعية للإصلاح المنشود.

ولا جدال الآن في أن المغرب عاش القرن العشرين كزمن مديد مهدور بالنظر إلى كل تلك الفرص الضائعة التي تم تفويتها، حيث توفر –عقب مخاضات إجلاء الاستعمار- ذلك الأساس الاجتماعي والسياسي لتربية المجتمع في كنف النظام الديمقراطي، والقطع مع الأسلوب المخزني المدعوم من قوى المحافظة والمصالح البرجوازية المشبوهة، وتحقيق ذلك الكيان الوطني الذي يتخلله نموذج في التنمية المستديمة بناء على خصوصيات اقتصادنا المحلي ومتوجا بالجهد والاجتهاد المحليين للإنسان المغربي.

لذلك فإن أكبر مفارقة نعيشها الآن في المغرب تتمثل في حاجة الدولة –حسب النواي المعلنة- إلى ذلك المواطن الحديث الذي يرتقي إلى مستوى تحديات العصر، والمقاولة المواطنة الخائضة غمار مجاهل الاستثمار والأسرة المحفزة على إبراز المواهب والمؤسسة التعليمية المنتجة والحزب الحداثي و..سائر بنية المجتمع المدني الحديث.. إن المفارقة الكبرى تتمثل في افتقاد الدولة –في طبعتها الجديدة المنقحة- إلى هذا الأساس الذي بدونه يبقى كل خطاب تحديثي مجرد كلام معلق بين السماء والأرض تدروه الرياح!

إن الدولة المخزنية في المغرب عملت كل ما في وسعها لتسطير ملامحها السلطوية.. ملامح حددها الأستاذ عبد الله حمودي في:

"ـ احتكار اتخاذ القرارات الأساسية من جانب عدد قليل من الناس، ولا يبرز في الحياة العامة إلا شخص واحد منهم.

ـ خضوع المجتمع لمراقبة وسيطرة شبكة من أجهزة القمع الواسعة الانتشار والتي لا تضبط سلوكها أية مراقبة حكومية أو مؤسساتية.

ـ وجوب مطابقة سلوك الناس لما اعتبر أعرافا شعبية ولزومية الولاء لإيديولوجية الحكم التي تتأسس على اعتبارات إثنية أو دينية أو على الإثنين معا.

ـ تردد الحكم في الاعتراف بالتعدد اللغوي والديني والجهوي، وبأي شكل آخر من أشكال التعددية. وإشادته في نفس الوقت بفكرة المجتمع المتجانس الذي يحرك الأفراد فيه وازع الواجب الوطني، وعندما تكون السلطة أمام مظاهر التعددية فإنها تعتمد أسلوبا مزدوجا: التجاهل الرسمي من جهة والمناورة حتى تبدو وكأنها الوسيط الوحيد المقبول.

ـ قياس الامتثال للتوجيهات والكفاءة في العمل بالتفاخر بالخضوع للرئيس، وهذه قاعدة تؤسس لمجمل سلوك الناس في البنيات البيروقراطية: السلبية والخضوع للرؤساء والفاعلية والسلطوية في العلاقة مع المرؤوسين.. ازدواجية تخترق جميع مستويات الحياة الإدارية كأسلوب للسيطرة".

ويطرح الأستاذ عبد الله حمودي هذا السؤال الإشكالي المدين بخطورة: "ما السر في إعادة إنتاج الممارسات السلطوية على الرغم مما قدمه جيلان على الأقل من تضحيات لإقرار حرية الأفراد ودخول المغرب الحداثة والليبرالية السياسية؟".

تكمن خطورة هذا السؤال في إشارته ضمنا بأصابع الاتهام إلى بنيات تكوينية في المجتمع تتجاوز الواجهة السياسية المستفيدة، حيث تربض في خلفية الصورة الداكنة البنى الاجتماعية والثقافية بكل حمولاتها التاريخية؛ ذلك أن المجتمع المغربي لم يعرف –أو بالأحرى لم تتوفر له الشروط كاملة- للتخلص من النظام الاقتصادي القائم على الإقطاع، مثلما أن التحالف "المقدس" الذي استقام بين ظهراني المجتمع، والذي جمع أعيان اقتصاد الريع بالنظام المخزني وأقطاب الثقافة التقليدية السكونية.. إن هذا التحالف المنتهز للفرص جثم على كل نوايا الإصلاح.. وإلى هذا البيت من القصيد يجب إرجاع الكثير من أسباب ومسببات الفرص الضائعة وكذلك ذهاب تضحيات وكثير من جهود الإصلاح على مر الأجيال في المغرب الحديث أدراج الرياح.

إننا نرى أنه من الملح النظر إلى جعجعة الراهن السياسي بكثير من الحذر طالما لم يشرع بعد في تقعيد نوايا الإصلاح "من فوق" بتهوية صحية لعتمات النصوص الدستورية والقانونية المنظمة لأمور البلاد، مثلما أن الوقت ملحاح في تسرب إيجابيات الخطاب الإصلاحي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.. الخ إلى تلك القاعدة المديدة من الناس التي أنتجت باسمها كل الخطابات السابقة صالحها وطالحها –كان هذا النوع الأخير هو الغالب- ففي مثل هذا التسرب استعادة لثقة المواطنين في نخبه السياسية سواء تحت يافطة الدولة أو التنظيمات السياسية، مثلما سيلتقي ذلك مع المبادرات الحرة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية… الخ الطامحة لتقعيد دولة الحق في كل تلك المجالات التي يرتبط بها نشاطها؛ وذلك بعيدا عن الزوائد الخطابية والدوغمائية والغوغائية والانتفاعية.. وسائر سلبيات قرن الفرص الضائعة؛ وعندئذ ستتوفر الدولة –وهذه مفارقة- على ذلك المجتمع الذي يعيد صناعتها وفق الوجهة السليمة للتاريخ، وليس العكس، كما حصل طيلة السنوات الرصاصية التي عاشها المغرب في تاريخه الحديثn

كل التضمينات بين مزدوجتين والغفل من أية إشارة نصية هي مقتطفات من كتاب عبد الله حمودي الشيخ والمريد، دار توبقال للنشر، 1999.