التأويل، مقاربة أصولية
عمر بيشو
مقدمة:
لا يخفى على كل باحث في التراث الإنساني، ما لمصطلح التأويل من قيمة وحمولة
دلالية عالية في الثقافة العالمة، ومنها العربية الإسلامية، حيث بوأته أقلامها
الذروة في شتى دروبها المعرفية، شرحا، وتأليفا، وبحثا في توسيع ممارسته وتفعيلها،
كاستكشاف حدوده ولو من خلال النص الديني، الذي احتضنه تصريحا وتلميحا باستعماله
على وجهه الحقيقي، مسجلا –بذلك- صعوبة تجريده، وليس استحالته، إذ لم يسلم التأويل
من آلية التحديد والتعريفات، باعتباره ككل "المسائل الجزئية، أو القواعد
الكلية، أو الملكات الناشئة من مزاولة القواعد"[1]،
وليس يستحيل لكونه "… المسؤول عن كل الأدلة المؤولة لكل الأدلة الحاضرة وفق
صفة ما في كل أشكال الوعي.. كما يشكل التجسيد الشكلي لمضمون الفهم في كل عملية
تواصل…الخ"[2]،
ثم إن علاقة المفسر/المؤول بالنص ليست خاصة بالفكر الغربي وحده، بل عرفها تراثنا
القديم في التعارض بين التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي، التفسير بالمنقول
والتفسير بالمعقول، وهي مشكلة التفسير –سواء كان النص تاريخيا أم دينيا- بين
التفسير الموضوعي، والتأويل الذاتي في التراث الغربي.
ليس من هموم هذه المقاربة –كما يقتضي الحديث عن التأويل أن يكون ذا شجون
(ابن رشد)- البحث أي الفريقين أقرب إلى الصواب في إمكان تحديد التأويل واستحالته،
أو في تلك التفرقة التقليدية بين التفسير والتأويل كما تجعله مقدمات تفاسير وكتب
أهل الصنعة في ديباجاتها، بقدر ما تروم "تأويل" علائقهما التلازمية
والتقاطعية والتباينية في محاولة سبر جذورها المعرفية المتشعبة والمنتظمة معا،
بعبارة أخرى، تحاول هذه المقاربة النظر في بعده الإنساني الحقيقي الأصيل، ذلك
"التأويل" الذي ارتبط بالزيغ حد الفصام، في البحث عن سبب هذا النعت
السلبي له، من المسؤول عنه، وماذا يعني بالنسبة للناعت وممارسته معا، وفي ثنايا
هذا الكشف الدلالي، تبرز تساؤلات مهمة وأساسية في إجلاء بعض الغموض الذي اعترى
وران جانبا أساسيا من مكونات الخطاب العربي الإسلامي نحو: هل الحقيقة الدينية
تتناقض مع العقل؟ وهل التأويل كفعالية ذهنية راقية تنشد التوافق أم التوفيق؟ وهل
التأويل قضية اللغة فحسب؟ وغيرها من التساؤلات التي تتخلل استعراضنا لبعض محطات
التأويل مقارنة (البياني، والسياسي، والعلمي التجريبي)، ومدى انعكاسه بين العهدين
والمجال الإسلامي.
1 ـ التأويل بين العهدين والمجال
الإسلامي:
يكون إعمال التأويل عموما من أجل إجلاء العبث، وإزاحة اللامعنى الثاوي
في الشيء، سواء تمظهر هذا الأخير بيانيا (دينيا أو لغويا) أو طبيعيا محضا، إنه
استكشاف للمعنى أو الحقيقة في نهاية الأمر، وفي هذا الصدد برزت ثلاثة تيارات
أساسية اهتمت وعنيت بتأريخ التأويل واتجاهاته:
أ ـ الاتجاه الحرفي المناهض للمدرسة التأويلية
ب ـ الاتجاه التأويلي[3]
المناهض لعبثية المعاني وحرفيتها
ج ـ الاتجاه "التوفيقي" العامل بمقتضى الاتجاهين عند الضرورة.
وتكفي الإشارة إلى أن لهذه الاتجاهات الثلاثة جذورا في نشأة التفكير
الفلسفي اليوناني منذ الطبيعيين (Les
mélisiens) والفيثاغوريين الأوائل والسفسطائيين الذين مثلوا الاتجاه الثالث[4]،
كما أن لهذه الثلاثية الاتجاهاتية وجود في الحقل المعرفي الديني بصفة عامة، حيث
تشترك النصوص الدينية بكونها ذات معنيين؛ معنى حرفي/ظاهر، ومعنى مجازي/باطني،
الأول سطحي وضيق الدلالة، والثاني شاسع، ولا محدود الدلالة.
1-1-في العهدين:
يقول زهر: "في كلمة يلمع ألف ضوء"، ولعل هذه الكلمة خير ملخص
لوجهة القبالة اليهودية التي تجعل النص قابلا لأن يمنح عدة تأويلات غير منتهية
لتحطيم مستواه التعبيري الخطي، بتشتيت أصوات الكلمة وحروفها وإسناد دلالات للحروف
والأصوات، وخلاصة القول فيما يتعلق بنصوص العهدين (القديم والجديد) كونها تشتمل
على معنيين، الأول حرفي يقتل معنى النص، والثاني باطني مجازي يحييه[5].
1-2-في المجال الإسلامي:
كان طبيعيا أن تتسع دائرة التأويل باعتباره النمو الجيولوجي للظاهرة
الدينية على نحو تراكمي، وليس تعويضي كما لاحظ "دودس" في كتابه اليونان
واللامعقول، "إذ من النادر جدا أن تقوم بنية جديدة من المعتقدات بمحو البنية
السابقة لها محوا تاما، فالذي يحدث هو، إما أن يواصل القديم الحياة كعنصر في
الجديد، عنصر قد يظل مخفيا وفي حالة من اللاوعي شبه تامة، وإما أن يعيش الإثنان،
القديم والجديد جنبا إلى جنب متعارضين غير قابلين في نفس العصر من طرف أشخاص
مختلفين، وأحيانا من طرف الشخص الواحد"، وهو الذي يصدق –كما قال الجابري- على
نمو الفكر الديني في الإسلام[6].
وهو المشار إليه في الحديث الشريف "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل
بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له
ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيئين" (متفق
عليه). لذلك اشتمل القرآن الكريم على "علم الأولين والآخرين الذي يراد به
أصول العلم" وأن علومه كما ذكر ابن العربي في كتابه قانون التأويل
"خمسون علما وأربعمائة وسبعة آلاف علم، على عدد كلم القرآن، مضروبة في
أربعة". كما أن "لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر"[7].
وبلغة العصر يقول سيد قطب: "وكل كلمة في الآية ذات رصيد ضخم، وكل عبارة
وراءها عالم من الصور والظلال، والمعاني، والإيحاءات، والقضايا والقيم"[8]،
وهنا تبرز أسئلة تتعلق بطبيعة هذا التشابه التأويلي الديني، هل هو ناتج عن تأثير
التيارات التأويلية الثلاثة –المذكورة سابقا- في مجال التأويل الإسلامي؟ أم يتعلق
الأمر بطبيعة النص الديني وخصوصياته الراجعة إلى نبضاته المتميزة؟ أم أنه قضية
التأويل ذي الطبيعة التأسيسية والتراكمية الجيولوجية، باعتباره عملية ذهنية معرفية
استدعاه تحجب الشيء واختلاف زوايا النظر إليه، مكونا بذلك استراتيجية تأويلية
متميزة طبقية من عصر إلى عصر، ومن مجموعة إلى أخرى، ومن شخص إلى آخر، وبالتالي
دينامية الممارسة التأويلية أو الجيو-ديناميتها؟
من الباحثين من كرس خطاب الانفتاح والتأثير الذي مورس على الثقافة
الإسلامية من قبل التأويل القديم، "ولا عجب في هذا التشابه إذا ما أدركنا
تأثير تلك التيارات في مفسري الإسلام ومؤوليهم ومعبريهم"[9]،
وإن كان لمؤيدي هذا الخطاب مبرراتهم واستدلالهم طبعا، غير أن الذي يثير الجدل هو
مدى الانزلاق في الأحكام القيمية وانسداد أفق المنهج في جعله ثلاثي التأويلي،
وكذلك في الصورية (Fugurisme)، وهذا موضوع لصيق بحديثنا
لكنه يحتاج تأملا آخر.
من منظور هذا الخطاب، يمثل:
ـ الحنابلة والظاهرية: الاتجاه الحرفي.
ـ الشيعة والخوارج والصوفية والفلاسفة والمعتزلة، الاتجاه التأويلي.
ـ الشاطبي والتيار الأصولي السني: الاتجاه التوفيقي المناهض للاتجاهين.
لنسجل في النهاية أن المسؤول عن توسيع مفهوم التأويل هم بعض متطرفي
المتأولة، مثل إخوان الصفاء والباطنية وكثير من الصوفية[10]،
وهنا نطرح السؤال التالي: هل هذا يعني أن مسؤولية تزييغ التأويل كانت من طرف
الاتجاه الصوفي والباطني فحسب؟ أم أن هناك أيادي أخرى ساهمت بشكل أو بآخر في فتح
باب التأويل على مصراعيه إن لم نقل "ابتغاء الفتنة" بالتعبير القرآني
للكلمة؟
إن الإمام الشوكاني يحمل هذه المسؤولية للتيار الأصولي السني كذلك
بقوله: "وهؤلاء الثلاثة –أعني الجويني والغزالي والرازي- هم الذين وسعوا
دائرة التأويل وطولوا ذيوله، وقد رجعوا آخرا إلى مذهب السلف"[11]،
ليتضح ويبرز وجه آخر لقراءة الاعترافات الشهيرة العاجزة في التوفيق بين الحقيقة
والشريعة، بين الفلسفة والدين، والذي كان منشؤه أولا وأخيرا، التأويل، أو سوء
تقدير التأويل كما يرى ابن رشد، وكما سيتضح بعد أنه عجز توافق وليس توفيق، لأن
الحق لا يضاد الحق بل يوافقه..[12].
وسواء أتى التأويل من قبل التيار الصوفي والباطني أو من جهة التيار
الأصولي السني، فلتطرف ما اعترى –بلا شك- أحد أسس ومرتكزات "عقل"
الاتجاهين اتجاه النص الديني، ليشهد التأويل بذلك إحدى تجلياته السلبية المتمثلة
في آفته الزيغية، والتي من جملتها "اللاتاريخانية" بمعنى إهدار سياق
النص واجتثاته من مساقه الخطابي العام الذي تدولت فيه الألفاظ، أعني الأدلة
التاريخية والاجتماعية واللغوية التي تساعد على فهم النص الديني فهما موضوعيا،
أشبه ما يكون بالمساعدات التفاعلية (Catalyseurs) في الحقل الكيميائي، والتي يمكن أن تؤول على
ضوئها الأصلي، وإلا فإن هناك أضواء كثيرة كما يقول المؤولة، كتلك المنبعثة بواسطة
المنشور (Prisme) المعروف في الرياضيات،
هذه الأضواء المنشورية –فيما أعتقد- هي سبب مهم في تأسيس إشكالية التأويل، حتى
أضحى مسألة شائكة وشاسعة وعريقة ذات أبعاد فلسفية وسياسية وميتافيزيقية
وسيميولوجية..الخ. وعلى "ضوء" هذه الأضواء المنشورية يمكن فهم مكونات
مجهول النص، وما ورائياته كتزييف مقاصد الوحي الكلية بالنسبة للنص الديني مثلا،
فحيث الضوء يكمن الظل فيزيائيا، وحيث الوضوح والانفتاح فثمة الغموض والانغلاق
بعبارة شعرية لغويتيصولو، ووجه الشبه بين الأضواء التأويلية والأضواء المنشورية هو
الخداع، فهذا يلحق البصر، وذاك يلحق العقل والبصيرة، وبهذا المعنى فهما ينتميان
إلى الحقل الفيزيائي المهتم بالضوء والرؤية (Optique) ومنه "وجهة نظر" في إحدى معانيه
المجازية. وعلى ضوء هذه الأضواء المنشورية/التأويلية كذلك –يمكن على الأكثر- وعي
وليس إمكان تحديد بشكل قاطع، كل محاولة تأويلية كعنصر فضائي تأويلي بلا
بعد/حجم/قياس (Dimension) كالنقطة (Point) في الفضاء الرياضي، هذا الضوء الفضائي التأويلي
من حيث تعدد زوايا رصده، واختلاف تموقعه بالنسبة للمنشور الأصلي/المصدر التأويلي،
والمنشورات المجانبة له يشكل اختلافا تنوعيا لا تضاديا، فالضوء لا يضاد الضوء كما
لا يضاد الحق نفسه، ولنخرج بالخلاصات التالية:
أ ـ التعدد الضوئي/التأويلي، طبيعي، وتراكمي، وليس تعويضي، بمعنى أن
أحدهما يحجب الآخر حسب قوة الإضاءة، وليس حجبه لدرجة نفيه وإلغائه مطلقا، أي بلغة
صوفية حجب تحلية لا تخلية، هل هذا يعني أن الحقيقة هي لا تحجب الشيء؟
ب ـ نسبية الحقيقة لوجود الخداع، الذي يتقاطع نوعا ما والحقيقة
السوفسطائية.
ج ـ التأويل "الحقيقي" عقل توافق وليس توفيق من حيث الدلالة
الوظيفية، وذلك لتسريع عملية التأويل بين العناصر والمكونات التفاعلية (النص
والواقع، مثلا)، يجب الأخذ بالمساعدات التفاعلية (اللغة، التاريخ…) باعتبارها
وسائل لا غايات، من هنا تبدو علاقة التأويل بالمجال التفاعلي أكثر منه بالمجال
التفعيلي رغم انتمائه الدلالي البنيوي (الصرفي) لحقل هذا الأخير.
2 – بين التأويل السياسي والتأويل البياني:
2-1-السياسة لغة واللغة سياسة:
نتحدث في إطار هذا الكشف الدلالي عن التاريخانية بوصفها إحدى مكونات التأويلية
الفلسفية التفكيكية المعاصرة، كمعول إبستمولوجي يراهن عليه تأويل التأويل، بعبارة
أخرى لم يكن تزييغ التأويل في المجال الإسلامي والوصول به حد التيه والفصام، إلا
صورة للاتاريخانية ممارسيه، وأن اعترافات المؤولة الأصولية –بعد الوحشة التي أصابت
جسومهم –بتعبيرهم- الناتجة على ضوء ما أشرنا إليه سابقا من سوء تقدير التأويل
ووضعه في غير موقعه، نقصد الحقل الدلالي الوظيفي/التفاعلي- ورجوعهم إلى
السلف/الجمهور/العوام –بعبارة الغزالي- الذي ألجمه من قبل عن الجدل وعلم الكلام،
لم يكن هذا الرجوع كله إلا نوعيا بمعنى من معاني الأضواء المنشورية التي سبق
ذكرها، أي إلى النظام الدلالي/التداولي للغة النصوص، والتي تمثل الدلالة اللغوية
إحدى أضوائها وأصولها الكبرى، يقول الرازي: "تأملت الطرق الكلامية والمناهج
الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق، طريقة القرآن،
أقرأ في الإثبات "الرحمان على العرش استوى" (طه: 5)، وفي النفي
"ليس كمثله شيء" (الشورى: 11)، "ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل
معرفتي"[13]،
هذه التجربة المعرفية لم تكن إلا تجربة تأويلية معكوسة، استدركت حدود التأويل
الجدلي وزيغه في حق التأويل الجمهوري/الحرفي، وعلى حساب الشق الثاني من التأويل ذي
الدلالة الباطنية (في مقابل الظاهر) والمتمثل في التأويل البرهاني/الخاص. رجوع
المؤولة –إذا- من الدراية إلى الرواية، لم يكن إلا رجوعا/تأويلا معكوسا على مستوى الدلالة اللغوية، أليس في كل تأويل
معنى الرجوع؟ أليست النصوص حمالة أوجه؟ ثم إن الانتقال والتنقل من حقل تداولي إلى
آخر، من "المعقول السخيف" إلى "المنقول الضعيف" أو العكس، كما
ينعت البعض الآخر، كان من أسبابه، جعل الدين غرضا للخصومات، فما ذا لو قلبنا
الفرضية ولو جدلا: "من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل" بحيث تصير:
"من أكثر التنقل جعل دينه غرضا للخصومات"، في شكل مختزل: "من أول
زاغ"، كنتيجة حتمية وحاسمة في تصنيف طريقة التأويل ضمن الطرق الضالة إلى جانب
طريقة التخييل/الفلسفية والباطنية، وطريقة التجهيل/الحشوية[14]
مما يجعلنا نتساءل عن مصير التأويل وهويته، واضطراب فضائه التداولي المعرفي العام،
ومنه الأصولي –كذلك- حيث جعله آخر دليل استكشافي لأنماط البيان، بعد النص والظاهر
والمفسر قديما وحديثا[15]،
كما أنكر على الجويني إدخاله في أصول الفقه[16].
ودون الذهاب بعيدا، فإن ثقافتنا القديمة جسدت جملة من الصدامات التأويلية
الناشئة من جيو-دينامية النص والواقع معا، ومن العلاقة العضوية بين الصراع
الإيديولوجي والصدام الإبستيمولوجي[17]،
كما لا ننسى دور المعجمة في تسييس مصطلح التأويل واستشكاله باعتباره "مأخوذ
من الإيالة، وهي السياسة، يقال لفلان علينا إيالة، وفلان أيل علينا، أي سائس، فكان
المؤول بالتأويل كالمتحكم على الكلام المتصرف فيه"[18].
ولتتجذر السياسة فيه لغة واستعمالا بامتياز، هل يمكن للتأويل كآلية معرفية أن
يستقل بذاته، وأن يدرس بمعزل عن السلطة –بكل تجلياتها -دراسة تأويلية موضوعية؟–
بعبارة أخرى، ألا يمكن للتأويل أن يتخلص من السلطة اللغوية أولا، والتي جعلت
السياسة تتجذر فيه قبل أن يتجذر فيها، ويصبح بالتالي ضرورة منطقية إيديولوجية
تبعده من إمكان جعله موضوعا (Argument) وليس ضربا من الملحقات
الظرفية غير المتصلة ببيئة الفعل التأويلي من الجهة المحورية/الدلالية؟ وهذا يجرنا
نحو تساؤل آخر كيف يمكن أن نعيد للتأويل تلقائيته وذاتيته الدلالية (Autonymie) الحالية من كل رمزية زائدة حتى تمكنه من أخذ
وظيفته الفيزيولوجية (في الجسم ككل)، في معزل عن الوعي به ودون المساس أو التدخل
من بعيد أو قريب في أيضيته القاعدية والأساسية (métabolisme basal) باعتبار خصوصيته التطورية، التحولية،
الميتافيزيقية؟
2-2-كشف إرجاعي وإرجاع كشفي:
لنرجع إلى الحقل التأويلي الإسلامي في محاولة تفكيك العلائق الدلالية
للتأويل بالتفسير، ومن منطلق كون الأحداث والأوضاع صورة إسقاطية للأفعال (دفدسن)
والتي من جملتها الأفعال التأويلية/التفسيرية ذات الطابع الرمزي التجريدي، سنجد
هذه العلائق تتخذ أحيانا صيغة الترادف والتطابق، والمتمثلة في عصر النبوة وفجر
الإسلام حيث استراتيجية التأويل اقتضت آنذاك الانسجام، والوحدة في أفق تأسيس
النمذجة الدولية المعززة بالوحي، والذي بعد ذهاب هذا الأخير شهدت العلاقة/الصيغة
انشطارا إبستيمولوجيا، بانشطار المجتمع إيديولوجيا، جسد هذا كله، الانشطار
التاريخي المبكر للثقافة الإسلامية حيث ارتدت العلاقة نحو التقابل والتجافي من نوع
الأنا والآخر، كان للصراع الإيديولوجي أهمية إبراز أو إضمار أحد طرفي العلاقة في
الهيمنة والسيادة المنهجية. "بعد سيادة المذهب الأشعري كمذهب رسمي للدولة،
والقضاء على الاعتزال، أصبح التفسير المذهبي الرسمي، والتأويل زيغا وضلالا، وهو ما
تبنته الظاهرية أيضا"[19].
بعبارة أخرى "نظرا لسيطرة الدولة واستتباب الأمن أرادت أن يعطى الأولوية
للنقل على العقل، فالنقل سلطة، والعقل معارضة، النقل أخذ وقبول، والعقل رفض وتمرد،
النقل يحتاج إلى سلطة تفسره، والعقل يرفض كل سلطة…الخ"[20]،
ولسنا نتفق مع شكل هذا الانشطار بقدرما نتفق مع جوهره، لكونه يساهم في اضطراب
الفضاء التأويلي وعلائقه الدلالية كما أشرنا قبل. ولكونه يقصي العقل كفعل تأويلي
أصلا، من الحقيقة الدينية منظورا إليها ظاهراتيا، حيث من منطلق هذا الأخير كما
يسجل (K.Jaspers) "إن تأويل الأعراض
يمكن اعتباره كوسيلة للفهم، وليس كتفسير سببي (explication causaliste)"[21]
، (بمعنى تشخيص سطحي يفسر العرض بسبب العضو الذي يظهر عليه)، ولا عجب من نتيجة ذلك
إن تم في نهاية المطاف محاولة استبعاد التأويل من الحقل التحليلي المعرفي
باستبداله بـ"القراءة"[22].
من منظور إبستيمولوجي للعلاقة التأويل/التفسير ضمن العلاقة العضوية للثقافة عموما،
يمكن القول إن ترادف المفهومين يمثل الوحدة والانسجام على المستوى الإيديولوجي
والواقع السياسي والاجتماعي… في حين يمثل تباينهما استمرارية اضطرابية، وزوجية
مفهومية لأسباب دينية، وتاريخية وفلسفية…الخ، ولعل في عبارة أمين الخولي ما يشير
إلى ذلك: "وأحسب أن منشأ الخلاف كله، هو استعمال القرآن لكلمة التأويل ثم
ذهاب الأصوليين إلى اصطلاح خاص فيها، مع شيوع الكلمة على ألسنة المتكلمين من أصحاب
المقالات والمذاهب"[23].
وهو ما يمثل جزءا من الأشكال، ومن هذا المنطلق أيضا الذي يكشف عن تاريخ الزوج
المفهومي والذي من شأنه أن يضيف وعيا نمطيا للسيرورة التاريخية للثقافة، هل نفهم
من هذا أن مقومات البناء والوحدة رهين بتفعيل هذه العلاقة؟ وهل كانت المنعطفات
الفكرية، والمحطات البارزة في تاريخ الفكر الإسلامي (الشافعي، ابن رشد…،) ترمي إلى
خلق جسور من التفاهم والانسجام بين التأويل، والتفسير، ليست كآليات للفهم وسبر
جذور المعنى المستلزم فحسب، وإنما للتخفيف على الأقل من درجة التوتر بين الثنائيات
الطارئة في الحقل الثقافي العربي الإسلامي (العقل والنقل، الحقيقة والشريعة،
الباطن والظاهر…)[24]،
بعبارة أخرى كيف يمكن النظر إلى العلاقة بين الاثنين خارج التراكم الحاصل في بنية
العلائق القائمة بينهما، وبما يسمح بتجاوز المخلفات المترسبة في قعر كل مفهوم؟
وعلى مستوى واقعنا المعاصر، هل محاولة الصابوني في "صفوته" باعتباره كما
يقول: "جامعا لعيون ما في التفاسير الكبيرة المفصلة"[25]،
تندرج في إطار التواصل والحوار بما يسمح به التأويل الحقيقي، من تقابل شخصاني، بين
ابن كثير والزمخشري، بين ابن تيمية والفخر الرازي، بين… والقائمة طويلة، في أفق
سكلجة خطاب التهويل، وبالتالي يعكس هدنة إيديولوجية على مستوى الواقع ليست في
الأخير سوى هدنة تأويلية على مستوى الرؤى والتصورات الشارحة للنص الديني؟ لا يمكن
للتأويل أن يعاد اعتباره بهذه الطريقة التلفيقية، التي تضيق من حدوده تنظيرا
وممارسة، كما ضيقت دائرته في ثراتنا القديم مع ما تبع ذلك من تأسيس خطاب التأويل
التهويلي، حيث مجرد التصرف في النص تأويل يجب اجتنابه من باب سد الدرائع، تشبتا
بالحديث والأثر: "من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ" أو "فقد
كفر". غير أن هذا النمط من الخطاب لم يكن ليحسم الموقف، إذ سرعان ما يبدأ
تأويل هذه المأثورات بالشكل الذي يخدم قضية المؤول[26].
هذا التضييق التكبيسي لم يكن إلا تقلصا سيكو-حركيا من أجل الاستعداد والأهبة
للتنقل من حقل دلالي إلى آخر، من المصدر إلى الهدف في حركة بندولية، تتأرجح بين
النص والواقع في انتظار تأسيس سكلجة جديدة على حساب قديمة تم كبتها وإضمارها إلى
حين في اللاوعي التأويلي. من هنا ونحن نتساءل من موقع متأرجح بين الكشف والإرجاع
الدلاليين، عن سبب هذه الأعراض الطارئة التي جسدت تزييغ التأويل كظاهرة إنسانية
مرتبطة بالعقل، نبحث في آن واحد عن التشخيص الشامل والذي يجعله يقترب من تقاطع
الحقلين السيميولوجي والطب-نفساني، في إمكان تشخيص الأعراض انطلاقا من الفهم
النفسي الإكلينيكي الذي يعتبرها مترابطة بدل إقصاء بعضها، وفي إمكان تأويلها كل
مرة في بعدها الوظيفي والاقتصادي والدلالي[27].
ليس التأويل عرضا يجب إقصاؤه والتخلص منه لأسباب كثيرة، والتي تبدو أنها
طارئة عليه –أفرزتها بركانية النص والواقع معا- وإنما هو أداة للبحث والأصل والجذر
والأساس، شريطة العود به إلى حالته الطبيعية الأصلية ككل جهاز فيزيولوجي في الجسم
يتمتع بأرضية قاعدية أساسية "شبه معزولة" عن مكوناته ومساعداته
التفاعلية التي لم تتصل بعد بلحظة الفعل التأويلي التي تمثل منعطف الإسقاطات
الرمزية في أشكال لا واعية. وباعتبار الوعي تجسيد للحياة العقلية في لحظة معطاة (Jaspers) نتحدث –إذا- في إطار سيميولوجيا تحيين التفعيل
العقلي القاعدي الذي يفترض الاحتراس من كل التشخيصات في غياب دراسة سيميولوجية
معمقة[28]،
وهنا يكمن إشكال التأويل سيميولوجيا، هل ترتبط لحظة الإبداع والحداثة بالأطروحة
الأيضية القاعدية وعلاقتها بالحياة العقلية؟ لقد اعتيد البحث –كذلك ونحن بصدد هذا
الكشف الدلالي- فيما يتعلق بقانون التأويل المهتم بعالم الألفاظ، أن ينظر إليه
عرضيا وتجليا (نصوص تؤول أو لا تؤول) فتؤسس على ضوئه مبادئ وشروط قد تخدم قضية
المؤول أكثر من التأويل ذاته –نقصد- ذي الوظيفة التفاعلية التي تجعل ذاتيته
الدلالية إحدى مكوناته الأساسية والأصلية في النسيج التأويلي العام، وهذا لا يمنع،
ومن منطلق الإمكانيات المتاحة للعصر "سيما إذا تسلح بمكتسباته الخاصة به،
وبحساسيته الخاصة به، أن يفتح من جديد النصوص الكبرى التي فهمتها الأجيال السابقة
بطريقتها الخاصة"[29]،
والتي من شأنها بلورة قضية التأويل إيجابيا ترتفع به من مستوى التوفيق إلى التوافق،
وإذا شئنا في التأويل الديني، من درجة الصفر في التصديق المنوط بالجمهور إلى
البرهاني المشار إليه من طرف ابن رشد، وكذلك بما فهمه الفحول من المؤولة للاشياء
سواء كانت ظواهر فيزيقية أو ميتافيزيقية أو فيما يتصل بالمعنيين معا، الذي يحتاج
أعمال التأويل فيه إلى مراعاة الجانبين توافقيا –كما أشرنا- وكل خلل يتم على حساب
الآخر من شأنه أن يزيغ التأويل الحقيقي، ويغتاله في مهده، وقد كان من صور هذا
الاغتيال أن تم تأويل البعد الدنيوي للأشياء الطبيعية المحضة، في البعد الأخروي أي
في الكتاب الصامت ذي الطبيعة الإحيائية، كامتداد للكتاب الناطق/الوحي، فتضخم الأمر
وفاض معنويا، أكثر من اللازم، ساهم فيه بشكل من الأشكال التأويل الجدلي/الأصوليn
[1] - بدر الدين الزركشي، البرهان في
علوم القرآن، بيروت، دار الجيل، 1988، ج1، ص15.
[2] - فكر ونقد، عدد 16، ص63، 1999.
[3] - نستعمله مؤقتا بمعناه الباطني المحض،
في مقابل الحرفي/الظاهر، وإلا فإن لكل الاتجاهات منطلق تأويلي خاص كما سنرى.
[4] - (Sur les traces des philosophes), in Science
et vie, 1997, n°957, p110.
[5] - محمد مفتاح، مجهول البيان،
دار توبقال، 1990، ص91.
[6] - محمد عابد الجابري، تكوين العقل
العربي، المركز الثقافي العربي، 1991، ص142-143.
[7] - البرهان، ج1، ص8.
[8] - سيد قطب، في ظلال القرآن، دار
الشروق، القاهرة، ج6، ص3275.
[9] - مجهول البيان، ص92.
[10] - نفس المصدر، ص93.
[11] - محمد بن علي الشوكاني، إرشاد
الفحول في تحقيق الحق من علم الأصول، دار الفكر، ص177.
[12] - انظر بصدد هذه الإشارة في: ابن رشد، فصل
المقال، مركز دراسات الوحدة العربية، ص96.
[13] - ابن أبي العز الحنفي، شرح العقيدة
الطحاوية، المكتب الإسلامي، ط.1988، ص208-209.
تجد هذه الاعترافات كذلك في: اعلام
الموقعين لابن القيم، ج4، ص212-213-214 وكذلك إرشاد الفحول للشوكاني،
ص176-177.
[14] - ابن تيمية، نقض المنطق،
المكتبة العلمية بيروت، لبنان، ص42، 56.
[15] - انظر على سيبل المثال: المستصفى
للغزالي، وأصول الفقه لأبي زهرة.
[16] - إرشاد الفحول، ص175.
[17] - تكوين العقل العربي، ص7.
[18] - الزمخشري، أساس البلاغة،
الأميرية، 1327هـ، ج1، ص15.
[19] - (علوم التأويل بين الخاصة والعامة)،
مجلة القاهرة، 1997، ص13. وكذلك إشكاليات القراءة، وآليات التأويل، نصر
حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، ص193.
[20] - حسن حنفي، (مقومات الحداثة في
الإسلام)، نقلا عن الحداثة، دفاتر فلسفية، إعداد عبد السلام بنعبد العالي
ومحمد سبيلا.
[21] - (Sémiologie psychiatrique), in Psychiatrie
de l’adulte (ABREGES), Th., Lemperière et A.Feline, Masson, 1984, p8.
[22] - علوم التأويل، القاهرة، ص29.
[23] - أمين الخولي، التفسير، معالم
حياته، منهجه اليوم، دار المعلمين للطبع والنشر، 1944، ص6.
[24] - انظر محاولة ابن القيم في النص
الثراتي المتعلق بالسياسة والشريعة، فكر ونقد، 1999، ع13، ص146.
[25] - محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير،
دار القرآن الكريم، بيروت، 1981، ج1، ص30.
[26] - البرهان، ج2، ص161 وما بعدها.
[27] - Th, Lemperière et A.Feline, op.cit, p9.
[28] - (Sémiologie de l’activité psychique basale
actuelle), in Manuel de psychaitrie, Henry Ey, P.Bernard, CH. Brisset,
Masson, p133.
[29] - جاك بيرك، (قراءة جديدة للقرآن
الكريم)، ترجمة مصطفى النحال، جريدة الاتحاد الاشتراكي، ملحق رمضان 1420،
ع.5964.