ص1      الفهرس       المحور

 

أسطورة الجسد

في عصر التقنية ومجتمع الاستهلاك

رشيد الحاحي

إن التقنية موقف يمس هوية الكائن وعلاقته بنفسه وبغيره من الكائنات، كما أن التقنيات البيولوجية صارت تحظر اليوم باسم احترام الكينونة البشرية التي لا تتحقق إلا باحترام الجسد البشري، كذلك تقترب اللحظة التي سيكون فيها صراع الإنسان ضد التقنية صراع وجود.

عتبة ميثولوجية:

من الجدير بوضعيات الجسد البشري، ومختلف التحولات والاستعارات التي توالت على مدى تاريخ ذيوعه وانشطاراته، أن تفصح عن جسامة التغيير والتحوير الذي لحق رغباته وتطلعاته، وتحكم في قانون وضعياته وردوده منذ طقوس وشعائر الموتى وسحر وأساطير الثقافات الأولى، حتى آخر تقنيات الصيانة والتدبير الصناعي، وخصوصيات التداول والتبادل القيمي في المجتمع الحديث. فمنذ ازدياد الجسد البشري ومتعاليات الأديان والأساطير تنبذه، وغضب الآلهة وإكراهات التسامي والتضحية تدغمه. فكان موضوعا للقربان والنكران، وحاملا للكبت والحرمان، وهيكلا للدنس وخبث الافتتان؛ واليوم، تحت طائلة التحوير الاستهلاكي والغيب التقني الحديث، تأزم وضعه الميتافيزيقي وأفعمت حساسيته داخل مسار التداول والتبادل القيمي، ورهافة التطلعات والاستعارات التقنية.

تغيرت الأجواء المحيطة بنظام وضعيات الجسد الإنساني عبر تاريخه المتصل بمراحل التغييب الديني، والتقزيم الأسطوري، والانتخاب الطبيعي، والتشريح البيولوجي والنفسي…، وبعد أن هيأت الحداثة لبروزه ككائن حر مستقل، صار يراوح نفسه في دوامة التأسطر النرجسي والاستلاب السيكولوجي، حيث بقي مصير الجسد واحدا: في الماضي التضحية والافتداء في سبيل متعاليات مغرضة، ولاحقا الضياع والذيوع على نغم التطلعات المفتعلة والانذهال في الشكل الفارغ. لكن اليوم، باكتشافه لوجوده العضوي وانتفاضته على إكراهات الكبت التاريخي تحولت المضامين إلى أشكال، والتبرير إلى استلاب، والأسطورة صارت ميثولوجية مصطنعة. ويكفي أن نرى كيف تحولت مهارات التحنيط وشعائر الموتى إلى خطاب التدبير وتقنيات صيانة الأجساد مع الإبقاء دائما على وعد الخلود!

يبدو أن "تأسطر" الجسد في منظومة التبادل والتداول الاجتماعي للعلامة، والحياز الدلالي لتمثلات الوظيفة والاستعارة التقنية لمقوماته البيولوجية، صارت تفصح عن وضع ميثولوجي يستغني عن المادة والمضامين التي كانت تغلف الجسد كموضوع محكي في انكشاف الصراع وتبرير المصير، ليستبقيه بذلك على شعائر الاندهاش والانخطاف في المجتمع الحديث، حيث أصبح وضعه واهما بالظهور الحاد إلى درجة الفجور والاختفاء، والحضور المفرط إلى درجة الغياب والعدم. فهي خاصية التأسطر في الخفاء بفرط الظهور، والعدم بفرط الحضور، والحرمان بفرط الحياة والإشباع؛ ومن حيث هو علامة، فذلك تفريغ للدالة مع الإبقاء على شكلها الصرف، أي بتعبير بارثي براق، موت مع وقف التنفيذ.

أليست الصيغة الشكلية لنهاية الجسد البشري التي لا تهوى تصفيته العضوية ولا تحوير نزواته وتطلعه القيمي أكثر مما افتعل، هي تحصيل لوضعيته "الميتية" كعلامة تستنفذ المعنى داخل منظومة التبادل ومسار تبدل الرغبات وتمثلها كما يجري تأكيدا في عصر التقنية ومجتمع الاستهلاك؟ إن حدة تساؤل من هذا القبيل تقودنا إلى مراجعة سيرورة التأويلات والاستعارات التي تحكمت في وضعيات الجسد، وحورت مقوماته البيولوجية وتطلعاته اللذية والروحانية، وكأننا بصدد تقييم على حدو العود الأبدي منذ ابتداع الأسطورة لآلهاتها، وتقديم الأديان لهداياها وقرابينها، وتضحية الأرواح بأجسادها، حتى اليوم، حيث تلوح في الأفق حاجة الإنسان إلى إيروس يعيد الرغبة والحياة إلى حرفيتها، وبرموتيوس يبعث المعنى والدلالة برمزيته الثقافية، ويعيد مسلك تكشف الغايات العليا التي نبذها النمط الإيروتيكي وافتتان الجسد في منظومة التبادل وحياة الاستهلاك.

الجسد الإيروتيكي ودغمائية الاتصال والاستهلاك:

ما فتئ الجسم البشري يقاوم وضعه التاريخي وينتفض على إكراه القمع والكبت، وعلى سياج التغييب والإرجاء، وعلى خدشات الخبث والانتخاب الطبيعي. وبعد أن انتهى عهد الكبت أصبح في غير حاجة إلى التسامي للتعبير عن رغباته الدفينة، حيث عاد إشباع كل الرغبات البشرية متيسرا بسبب غزارة المنتوجات الصناعية المتجددة؛ وبهذا التداني الذي عوض التسامي الفرويدي استطاع النظام الصناعي المتقدم أن يخمد القوة التفجيرية الكامنة في غرائز الإنسان.

وضح هـ.ماركوز كيف تم تحوير دوافع الجسد الإنساني وغرائزه، وباسم الحضارة الصناعية المتقدمة استبدل مبدأ اللذة بمبدإ الواقع، وحولت الرغبة إلى عامل من عوامل الإنتاج، وصار الإنسان أداة حورت رغبات جسده في شكل نكران يحدده منطق الإنتاج والمردودية. واليوم، والحضارة الصناعية تبلغ منتهاها، أو كما أرادت دوغمائية التقنية والاستهلاك أن تقدمها على الأقل، يلاحظ كيف تحول مبدأ الواقع ذاته إلى وضع إيروتيكي جديد، حلت قيمه مكان الإنتاجية والمردودية والجنسانية حتى، حيث تأسطرت اللذة وتفعمت حساسية الجسد الذي لم يعد ينتج ولا يرتوي، إنما يستهلك ويتيه تحت طائلة الانتفاضة والفجور المبتذل.

إنه من الأولي مراجعة مفهوم الإيروتيك نفسه، والتساؤل عن وضعية الجسد وحركيته داخل منظومة القيم والعلامات الإيروتيكية في العصر الراهن، حيث إنه من المؤكد ضرورة فصل هذه التطلعات والرغبات الجديدة عن مقومات الجسد وخاصيته البيولوجية، واعتبار حساسيته الجديدة ناتجة عن الإغراء والافتتان والتبادل داخل أنظمة التواصل وقيم الاستهلاك، وليس عن الجسد ذاته ولا عن رغباته ودوافعه ذاتها. فالجسد دخل مفتعلا في أنظمة العلامات ومسارات التداول، وصار إيروتيكيا في العلامة لا بالرغبة، وفي الموضة لا بالعضوية، وفي التمثل والتبادل لا باللذة والإرواء.

كما أوضح ج.بودريار، يجب أن نفرق بين الجسد حامل الرغبة كدافع بيولوجي، وبين الجسد الإيروتيكي حامل الرغبة كعلامة تبادلية. فبينما تحكم الأول بنية فردية للذة، فإن الأخير يحكمه الاستعمال والتبادل الاجتماعي من خلال استعارته الأداتية وإكراهه الوظيفي.

خرج الجسد عن التسامي الفرويدي ودخل حيا في معبد الاستهلاك والموضة والتجدد، ومن خلال التحوير والاستعارة المحرضة لمقوماته البيولوجية، أفعمت حساسيته بحضور متدني داخل منظومة التبادل القيمي ومسار تداول الرغبات وتطلعات الاستهلاك. فانتهى عهد الكبت والتسامي، وشاع الإشباع والتداني، وحلت العلامة الإيروتيكية على رأس منظومة القيم في المجتمع الحديث، فصار الجسد تائها وسط زخم من المنتوجات والبضاعة التجارية وإرساليات الدعاية ولغة وتحريفات الوسائط، ولم يعد يمارس سوى العناد الذي افتعلته وضعية الافتتان لا الارتواء.

لقد سلبت وسائط الاتصال والأنظمة الآلية والتكنولوجية من الجسد مقوماته العضوية، وأخضعتها لإيقاع الاتصال وتقنيات المعالجة والتغيير والتفخيم. فلم تعد الحواس معطى فيزيولوجيا، ولا اللذة والانفعال مقوما وجدانيا من طبيعة الجسد، بينما أصبحت مادة للاتصال والتبادل وملكا للوسيط.

ومن خلال افتعالات الإرساليات الإعلامية وتحريضات الوسائط والدعاية والصورة، وكما أتاحت ذلك شبكات التواصل وقفازات نقل وتبادل الإشارات، فإن الجسد الحديث سلم أمر حساسيته وانفعالاته لآليات الاتصال ووسائطها التقنية؛ وغدا مجردا من خاصيته العضوية والبيولوجية التي حولتها الاستعارة التقنية ودغمائية الاتصال والصورة إلى مادة تبادلية، تخضع لمنطق التحوير والوساطية وفق وثيرة الانذهال والعطالة. ألا يمكن القول إذن، أن الجسد صار يعيش الزمن الإيقوني الذي ألغى بإيقاعه التكنولوجي وسلطته التواصلية كل مرجعيات الرصد والقياس الطبيعي؟ فقد تلاشى الزمن البيولوجي، واندغم الزمن الخطي، وصار الوجود الجسدي يتحدد بحضور تداولي عبر آليات الاتصال ومنظومة التبادل القيمي التي تتوسط بين الجسد والعالم.

لا تكتفي الوسائط التقنية وأنظمة التواصل القائمة بالتحكم في مقومات الجسد الحسية والانفعالية، فهي تملك أيضا سلطة تقييم الأعمار وصيانتها وتجديد فتراتها، وذلك وفق منطق الرعاية والتدبير الصناعي، وقابلية الجسد للانصهار والدخول في فلكية الرغبات والقيم التبادلية. فالجسد يحوم في أجواء الانذهال وطقوس الاستهلاك، حيث لا تزكى وظيفته وحجة وجوده إلا بانذهاله وقابليته هذه.

ترادف وسائط التواصل ومنطق الاستهلاك بين الحياة ومنظومة القيم في المجتمع الحديث، وبين المقومات البيولوجية والرغبات العضوية للجسد المشروط بدخول مسار التداول. فأصبحت شيخوخة الجسد مؤشر عطالته، تحمل ترميزا لشكله المنبوذ وما يفضي إليه تصدعه بعد استنفاد قيمته التبادلية وطاقة انذهاله، ونبذه إلى هامش الكونية خارج مدارات الرغبة والإشباع بالاستهلاك. وبانخطاف تمثلات اللذة والعيش، يتحول الجسد إلى علامة تجدد طاقتها وتصان شرعية تداولها وفق نظام العلاقات ومنطق التبادل القائم، وإذا وظفنا عبارة لعبد السلام بنعبد العالي في بعد الخطاب الأسطوري، وفق "كيفية من كيفيات استخدام الدلالة".

هذه دلالة التبادل في مجتمع الاستهلاك، إذ يمكن الجسد تجديد طاقته باستمرار، وصيانة وظيفيته بالخضوع لهالة الدعاية واستهلاك ما تقدمه المختبرات وشركات التصنيع من عروض تغري بأزلية الصلاحية واستحالة الفتور. فقد صار الجسد يمتلك العالم بامتلاكه لمصدره البيولوجي وموضوع نزوانه المحرضة، وأمكنه استهلاك وصفة من علبة عقاقير مركزة تحمل من لعاب إيروس كل ما يكفي لتحيين الحلم واللذة والحياة في اللحظة، حيث غدت القدرة العاطفية والجنسية والرشاقة واللياقة الجسمانية… قيما استهلاكية معلبة، لا تنهل من طبيعة وعضوية الجسد البيولوجية، بينما تصدر عن انذهاله وعن نظام الوساطة والتواصل الذي يحكم علاقته مع ذاته ومع العالم.

فتحت وقع لغة الوسائط الإلكترونية وافتعالات الصورة الإعلامية، وفي مناخ التحريض والاستهلاك الذي أقر سلطته في المجتمع الحديث، لا مجال للانتظار والإرجاء، ولا داعي للتسامي والحرمان، حيث أن الجسد الإيروتيكي مدعو للتماهي والذوبان في مدارية الرغبات والتطلعات التي تبعد كل نقائض اللذة والعيش، ويكيفه أن يرغب ويحلم ويستهلك ليصير لذويا عصرانيا.

بتماهي الجسد في الملكية والاستهلاك كحجة وجود، وبإقباعه في مخبرات النحت والتجميل، ودور الرياضة والصيانة كمنتوج دائم التجدد والاستعمال، وبتنسكه في المجامع التجارية والجنسانية المبتذلة، صار أكثر "ميتية" من تاريخه، وأشد حساسية من نزواته. إنه جسم مبتذل يسكنه حيوان أولي ممتاز "دخل حيا في النماذج، ودخل حيا في الموضة، ودخل حيا في التظاهر… فالانذهال هو خاصية كل جسد يحوم حول ذاته إلى درجة فقدان المعنى، والذي يتألق بالتالي في شكله الخالص والفارغ".

إنها صورة الجسد في وضعيته المعلقة بين حافة "ميتية" المتعة وحافة فظاعة الموت، أي متعة الموت؛ حيث لم تعد الحياة في مجتمع الاستهلاك تسمح بإدراك الذات لموضوعها خارج دارة التداول القيمي، بقدر ما تتوقف على حدود الإغراء والتمثل في صورة تلك الغبطة التي تنتاب كل جسد عندما ينساب في إغراء الانتشاء، وهو يمنع نفسه من تذكر كل شيء خارج تلك اللحظة التي تصنع وميضها من إغواء بالأزلية! فحياة الاستهلاك والتبادل الإيروتيكي لا تدرك ولا يحوم حولها، بينما يتاه ويذاب فيها، إذ إن إمكانية الوجود التي تتيحها تستمد طقسها من الانذهال والدفع بالجسد إلى أقصى التماهي في المتعة والاندغام في سحرها، حيث استنفاذ المعنى وحلول الفراغ. هكذا يتشظى الخلاف وتتلبى الرغبة، فيتحقق الحلم وتتحرر اللذة من عصاب الإشراط وهوة المستحيل!

الجسد بين سحر الرعاية والموت السري:

لقد اقترنت الحياة بالصحة، ليس كضرورة بيولوجية لحياة الجسد، بل كضرورة اجتماعية تحدد نظامه وتمثله القيمي، حيث لا يزال استهلاك التطبيب من خلال استعارات الخطاب الصحي في المجتمع الحديث، يقترن بقدسية العلاج ووظيفته السحرية. ولم تعد الصحة قيمة في ذاتها، بقدر ما أصبحت تمثلا اجتماعيا ونفسيا يضفي على الجسد قيما يحتمها وضعه في منظومة الرغبات، وسحر الرعاية وطقوس المظهر والتجدد.

وإذ حلت صحة القيم محل صحة الجسد، كما حلت النظافة والبسترة محل الدنس والمرض، والعلامة والتعليب محل العضو والتحنيط، والتداول في فضاء القيم التبادلية بدل الإقباع في أضرحة التخليد والتنسك؛ فإن سلسلة الاستبدالات الاستعارية التي طالت تاريخ الجسد البشري قد أسطرت وضعه الحديث، فغدا وعاؤه تنقيلا "ميتيا" لصور الشعائر والطلاسيم والأساطير التي قوامها الدائم هو إكراه الإدغار أو سحر الخلود.

سبق أن وضح هـ.ماركوز كيف أن جريان الزمن ومحاولة إيقافه تشكل الخصم اللدود لايروس، وهذا يوصلنا إلى طرح التعارض العتيق بين الحياة والموت. فإن كانت قد حددت تمثلات هذا التقابل بآلهة الأساطير الأولى –إيروس،تاناتوس-، فإنه اليوم، يطفو في شكلانية ميتولوجية ينبذ الجسد الإيروتيكي في طقسها كل صور النهايات التي قد تحد من مسار النزوات والتطلعات اللذية، وبالأحرى تلك التي تهوى تصفيته ونهايته في ذاته، حيث يصير سحر الرعاية والصحة إغواء بالحياة واللافتور.

الحس الإيروتيكي وضع "ميتي" يغلف موقف الإنسان ويتحكم في علاقته بجسده، ويفعم حساسيته التي تتوهم بإفراغها الشكلي للواقع جريان الزمن، وترجئ وتغض الطرف عن نهايته الوشيكة. وتبدو ردود التحاشي والإرجاء من خلال سحر الصيانة وطقوس الموت الجديدة، حيث يصير الجسد في لحظات الاحتضار والتطبيب والرعاية التقنية علامة تلفظ قيمتها وشرعية تداولها، فيسلم منبوذا لشاشات ترقب مؤشر التبادل ونبضات الإنعاش القيمي.

في سياق سيادة الحس الإيروتيكي أصبح الموت، حسب فليب أرييز، من أكبر محرمات عصر التقنية والاستهلاك. وعلى غرار الجنسانية وبنفس درجة منعها ونبذها في الماضي، أصبح الجسد في لحظات الموت، وبعد طول الانهمام والعناية به في الحياة، شيئا مرفوضا ومعزولا في نهايته الفردية. فموتى مجتمع الاستهلاك هم أناس مهمشين Marginal men، وأجساد منبوذة تلفظ أنفاسها الأخيرة في عزلة وسرية دون أدنى المواساة الحميمية والعزاء الإنساني، فيسلم أمرها للرعاية التقنية كجثت استنفدت قيمتها، وينتظر التخلص من إزعاجها بالتخلص منها.

إن الحساسية الإيروتيكية تلقى نقيضها في النهاية المرفوضة لجسد طالما أغوته تكنولوجيا التجديد والصيانة باستحالة الفتور والزوال، حينها يلقى حذفه في استعارته التقنية، بعد أن سكنته روحانية رهيفة افتعلتها حساسية الاستهلاك والاستعارة التقنية لخصوصياته الوظيفية والبيولوجية.

فالموت نبذ للعلامة الإيروتيكية، وصورة فاسدة ومرفوضة في حياة الاستهلاك، وهوس يزعج الرغبة والتداول. وبما أنه، وبكل اختصار، موضوع أسطورة وميتافيزيقا أولى على أنقاضها قام تاريخ الجنس البشري، فإن في إرجائه إقرار بخيار "السبات" محل إكراه الاحتضار، إذ يبقى الجسد، على غرار كل علامات منظومة التبادل في مجتمع الاستهلاك، منتوجا سريع الفساد Produit Jetable. كذلك اضطرت الطبيعة في البدء، حسب كليان Galien، للتغلب على التعارض بين مشروعها في صنع الجسد البشري ومقتضيات موادها أن تضع فيه قوة خارقة. أليس السبب في ذلك تعذر خلقه من مادة غير قابلة للفساد؟! فالقابل للتأكيد أن نزوات الجسد وحسه الإيروتيكي هي على أبعد ما يكون من تلك القوة الحاذقة والخلاقة Dunamis, sophisma التي تحدث عنها فوكو.

التقنية وصناعة الحياة:

إذا كان الهدف الذي في حفظه للجسد كله باعتباره ذاتا وموضوعا للذة، حسب ماركوز، إنما يستدعي تصفية دائمة للعضوية، وشذرة رهافة في قابلية التأثيرية وتنمية في حساسيته، وهذا ما حققته الحضارة الصناعية المتقدمة –أي الحضارة التقنية- بتحوير دوافع الجسد البيولوجية وتخميد قوتها التفجيرية تحت مبدإ الواقع والمردودية، وما تحقق في مجتمع الاستهلاك من خلال حساسية التبادل والإيروتيك. فإنه اليوم، تأسطر الجسد وصار علامة محض فارغة، حيث من الجدير التساؤل إن كان لا يزال الجسد ذاتا وموضوعا للذة، أم أنها صارت سحرية ولا موقعية Atopique يروج لها بشكل "ميتي" بعد أن ضاعت ويجهل مصيرها.

فسحر الرغبة ودرجة تحوير الغرائز على هذا الأساس، يطرح حدود التغيير البيولوجي أكثر ما يريق منطق العلامة الإيروتيكية وتداولها الاجتماعي؛ إذ أن حساسية الجسد وتأزمه في عصر التقنية ومجتمع الاستهلاك، وبما يوافق نتائج سيادة الوضع التقني وماهيته الميتافيزيقية، إنما تطرح أفق التحول الاطرادي للجسد البشري واستعاريته Métaphorisation التقنية، وذلك من أساسه البيو-فيزيولوجي حتى آخر ملابسات أسطورة الاستهلاك والغيب التكنولوجي الحديث.

كما تحدث عن ذلك م.م لوهان ورواد مدرسة تورونتو، وقبلهم ماركس، فإن التقدم التقني يسير طردا مع بروز وظائف بيولوجية جديدة للجسد الإنساني، حيث أن كل مرحلة من التطور التكنولوجي ينتج عنها تخصيص في الاستعارية التقنية لمقومات الجسد البيولوجية.

فتغير وتخصيص الوظائف البيولوجية للجسد يعكس التطور الحاصل في استجابته وخضوعه للاستعارية التقنية. فقد كان عضليا في عصر الميكانيك وصار نورولوجيا مع تكنولوجيا الإلكترونيك، وهو الآن يهيئ عصر الوراثية والبيو-تقنيات Bio-Technologie بشكل قد يجعل التقنية تتطابق مع تطبيقاتها العلمية. فإذا كانت التقنية في الفكر الهيدغري أكثر من مجرد تطبيقات للعلوم، إذ أنها تحويل يتطابق فيه جوهر التقنية بماهية الميتافيزيقا الحديثة، فإن الهندسة الوراثية توشك أن تتيح إمكانية تطابق مهول بين التقنية وتطبيقاتها في هندسة الجينات والصناعة البيولوجية، فيما قد يمثل نهاية استعاراتها الجسدية وتحققها الكامل.

لقد أصبح الإنسان في عالمه المفبرك أكثر بعدا عن مصدر جسده البيولوجي، وبدخوله عصر الوراثية يوشك أن يصنع الحياة، ويهندس أجساد لن تعود وظائفها البيولوجية نتيجة استعارات تقنية فحسب، بل ستصير نفسها إنتاجا تقنو/علمي يتجاوز الاستعارة واشتغال وتخصيص التقنية خارج الجسد، ليخضع بذلك لتطبيقات هندسة الجينات التي ستنحت البنية الفردية للجسد البيولوجي متحكمة في الرغبة واللذة من مصدرها، بعد أن كانت تشكل بنيتها القيمية في مسارات التبادل الاجتماعي، وفي الوضع التقني وطقسه الميتافيزيقي.

إنها عودة كارثية إلى الذات والجسد بعد استنفاد الخارج وحدود العلامة والتبادل، حيث لن يكون ثمة جسد خالص، ولن تعارض المادة بين الجسد والروح، بقدر ما سيغيبا معا، وهذا نعتقد هو غياب المعنى الذي أنذرنا إياه هيدغر، بتحول الإنسان إلى ذاتية وقابلية الكائن لأن يكون مصنوعا.

لقد كبر الجسد، أفلا يزال وعد برغسون للجسد هو انتظار علاوة من الروح؟

وألا يزال الوعد النتشوي هو الجسد الخارق، خالق الروح كدراع إرادته؟

إن التقنية موقف يمس هوية الكائن وعلاقته بنفسه وبغيره من الكائنات، كما أن التقنيات البيولوجية صارت تحظر اليوم باسم احترام الكينونة البشرية التي لا تتحقق إلا باحترام الجسد البشري، كذلك تقترب اللحظة التي سيكون فيها صراع الإنسان ضد التقنية صراع وجود.

لقد كان الأزتيكيون Aztèques يقررون أحيانا التخلي عن هيكل لم تعد آلهته ترضي رغباتهم، كما كان الملك اليوناني سيروس Cyrus يتخلى عن أمجاد وانتصارات تشغله عن ذاته وحياته الأشد قيمة وحميمية. فهل يجرؤ إنسان التقنية على التخلي عن آلهته وانتصارات عقله، أو أن يكرر قول سيروس: "لا يسعنا أن نلوم الآلهة لأنها لم تحقق لنا كل أمانينا، فهذه سعادة أودعها بطيبة خاطر"؟

حقا، عندما يصير الجسد في ورطة، نكتشف الرغبة في الخلاصn