ص1   الفهرس  21-30

الإيديولوجيا على محك

الفكر المعاصر(*)


إعداد: يوسف بن عدي

تعتبر تجربة "دفاتر فلسفية" تجربة رائدة ومهمة في الفكر الفلسفي المغربي. وهي تهدف إلى ترسيخ ضرورة ممارسة الترجمة من خلال نصوص تاريخ الفلسفة. لأن هذه الممارسة هي الشرط الأساسي في نهوض الأمم والشعوب نحو التقدم المنشود.

وهكذا فالتفكير في قضايا الترجمة ومشكلاتها لا يتأتى لنا إلا بمكابدة (Endurance) الفكر في ترجمة المفاهيم المناسبة لمفاهيم الفكر المعاصر. اعتبارا لذلك فإن اختيار وترتيب النصوص الفلسفية في هذا المصنف، إنما يصدر عن هاجس وإرادة في تنبيه المتلقي في حسن استثمار المفاهيم والمصطلحات في المجالات الميتافيزيقية والفكرية.. ولهذا يطالعنا الأستاذان محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي بكتاب جديد في خصوص الإيديولوجيا ويتسم هذا الأخير بنوع من التفكير في كتابة تاريخ الإيديولوجيا، تلك الإيديولوجيات التي أضحت في سنوات خلت نوعا من "الوهم والحلم والعدم" في وقت كان معناها الحقيقي والماهوي لا يوجد إلا خارجا عنها. وهكذا كان الوقوف على ما في الأبنية التحتية شرطا حتى يتسنى لنا التنبؤ بما سيطفو على السطح. ومن هنا فمصنف الإيديولوجيا من "سلسلة دفاتر فلسفية"، هو في الواقع، إعلان عن ضرورة القراءة المضادة للإيديولوجيا، تلك القراءة التي تستدعي الأرضية الفلسفية الحديثة، وفي عصر أضحت فيه الإيديولوجيا والكليانية والكونية المتعالية في خبر كان..

إن العودة إلى الإيديولوجيا، في هذا المصنف، هو أيضا تأكيد لمنطق التعدد والمنظورية الذي يرصد "النقط" التي تفجر المنظومة، والهوامش التي تكون فضيحة لخرق قواعدها[1]، بعدما كانت القراءة الإيديولوجيا تحافظ على البناء وتقهر الفوارق والتمايزات، وتوحد رؤية العالم، فضلا إلى أن تأريخ المفاهيم الإيديولوجية في تاريخ الأفكار، هو ضرورة يفرضها البحث الفلسفي.

إن كان الناس يعتقدون أن الانفلات من منطق الإيديولوجيات، هو فقط ترسيخ لمفاهيم الفكر الإيديولوجي، ومصطلحاته.. فإن ذلك اعتقاد غير صائب، إذ أن منطق الفلسفة إنما ينبهنا إلى قراءة النظم الإيديولوجية وتحولاتهما التاريخية والذهنية قراءة داخلية وفي علاقتهما بالزمان.. حتى يمكن حينذاك نزع آثارها العالقة فينا. إن "هدفنا أن نبين أن شعارات مثل موت الإيديولوجيا" لا تكفي وحدها للقضاء على ذلك المفهوم، وإقصائه كأداة تحليل (صفحة5). ومن هنا كانت الكتابة الفلسفية للأستاذين محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، هي كتابة تنحو نحو ترسيخ ثقافة الحوار والتعدد، ومنطق الاختلاف والذاتية المشتركة أو التذاوت(Intersubjectivité).

لقد احتوى هذا المصنف الثامن من سلسلة "دفاتر فلسفية" على أزيد من ثلاثين نصا ضمن ثلاثة محاور أساسية وهي على الشاكلة التالية:

1 ـ التحديدات:

لقد شكل هذا المحور مداخيل قراءة هذا المصنف، حيث يرصد التحديدات الأساسية للإيديولوجيا عبر أرضية فلسفية مختلفة المقاربة والتحليل، بدءا من هيغل ومرورا بكارل مانهايم وألتوسير وانتهاءا عند فوكو. فرغم اختلاف هؤلاء المفكرين والفلاسفة فإنهم جميعا يشتركون في اسم "الإيديولوجيا" والذي لا يخرج بدوره عن دائرة التمثلات والوعي والوهم والسلب والإيجاب.

2 ـ الإيديولوجيا والماركسية:

لقد ارتبطت الماركسية بالإيديولوجية كارتباط النفس بالجسم، فأضحت الإيديولوجيا تحيل إلى الماركسية والعكس صحيح. كما ارتبطت الإيديولوجيا بوظائف مختلفة ومتباينة، لهذا رصد هذا المحور علاقة الإيديولوجيا بالانعكاس والدولة والقلب..الخ. بخصوبة نظرية قوية، ويتجلى لنا ذلك من خلال النصوص المثارة لمحور الإيديولوجيا والماركسية.

3 ـ الإيديولوجيا السياسية:

فلما كانت الإيديولوجيا تطمح إلى التوحيد المتعدد ولم شتات من الأفراد والجماعات على أساس فكرة أو مذهب أو حلم غير متحقق. فإن الإيديولوجيا هي مجال التنازع والصراع حول الاستيلاء على كميات من الواقع، وظيفتيها هي سيادة إيديولوجية معينة على باقي الإيديولوجيات السياسية. واعتبارا لذلك، جاءت مواد هذا المحور في إبراز ذلك الاستيلاء والتنافس انطلاقا من علاقة الإيديولوجيا بالقهر والاستبداد وعلاقتها بالوطنية من خلال أسماء: بنيوتون وبخلر ودوبي وشاشلي وغيرهم..

إن هذا المصنف الخاص بـ"الإيديولوجيا" هو إعلان عن كتابة فلسفية تقويضية لتاريخ الإيديولوجيات على محك الفكر المعاصر وتطوراته العلمية والثقافية. فضلا عن أنه يرنو إلى إشارة عميقة وهي ممارسة الترجمة في الفكر الفلسفي المغربي والعربي، عبر تاريخ الفلسفة، فضلا عن الهاجس التربوي المرسوم منذ بداية هذه التجربة الرائدة والواعدة.

إن مستقبل الفكر الفلسفي لا يكمن إلا في ماضيه، والحنين إلى البدايات (ليس بالمعنى التاريخي) وقراءتها وتأويلها وفق مستجدات الفكر المعاصر. ولعل ذلك يستلزم التسلح بمرجعية فلسفية متفتحة التي تتسم بها تجربة "دفاتر فلسفية" والتي هي أيضا سمة الفكر الفلسفي المعاصر، تلك التجربة التي تقارب الهوية في تعددها، والإنسان في أبعاده، والديمقراطية في إنجازها n

 

 

استحالات...

قراءة في ديوان: على حافة الليل(*)

 

عبد الصمد الكباص

 

إن الإقامة على الحافة هي الإقامة المتاخمة للحد الأقصى، المشدودة إلى إمكانية الانزلاق إلى الخارج. إقامة قلقة مغمورة بالمخاطرة والمجازفة حيث يتحدد الأفق كسقطة، كانقذاف، كحركة مرعبة نحو ما لا يتيح إمكانية التراجع أو العودة[2]. إن الحافة هي نذير بهجر وشيك لألفة بات الالتحام بها مهددا بزوال حتمي نحو غرابة الخارج وعدميته. في الحافة كل شيء يتحدد "بالهناك" الذي سنجرف إليه حتما، مثلما تتحدد آنيتنا بالآتي الذي سيبتلعها. كل شيء موقوف على حركة لا يمكن إيقافها، وخطوة لا يمكن تفاديها. مما يحيل وجودنا إلى عبور دائم من حافة إلى حافة. ويحدد الكائن الإنساني ككائن تشكل كينونته الخاصة عمق حوافه. وهذا ما يعرضه ديوان على حافة الليل للشاعرة منى ع.العظيم، حيث تتكاثف الحواف داخل كائن تفتحه كينونته، على حافة ذاته ومشارفة انفلات الغير، على حافة اللحظة ومشارفة العدم الذي ينخرها كمنبع ومصب لمجرى الزمن، وعلى حافة العمر حيث الموت يكتب سقطة الجسد[3].

تقول منى:

"كان فاتنا

وهو يرقص على حافة السماء

وكلما حاولت الإمساك به

انفلت منتشيا بجنونه

راح يعدو.. ويتعثر بالغيوم

وهي على الكورنيش

تدعوه إلى النزول

قال أنه لا يستحق كل هذا الحنان

وألقى بنفسه

في السماء!"

فالغير يبدو في الديوان كلحظة تنتشي بانفلاتها إزاء حسرة الذات. انفلات يتحقق في الموت أو الحلم أو الذاكرة.. حيث الخارج يرتسم كفراغ خانق يحول دون كل لقاء.

جاء في الديوان:

"يدان

تبزغان من غيوم

أوقن أنني أعرف صاحبتهما

وأنتظره أن يقفز فجأة

من ذاكرتي

ولا يحدث

أتأمل اليدين

رحيمتين

أقفز،

أحاول الوصول إليهما

وتحاولان،

بلا جدوى"

إن الإقامة على مشارف الحافة التي تضع الذات بمحاذاة انفلات الغير، تحول كل اقتراب إلى ابتعاد، وتجعل كل توغل في الظهور توغلا في الاحتجاب والتواري.

تقول قصيدة (وصول):

"كلما قطع مسافة

بهتت صورتها قليلا

ظل يتقدم وظلت تختفي

الغريب..

أنه كان يحث الخطى

متعجلا

الوصول إليها!"

إنه البعد المغري في الوجود، والذي يعمق التباسه، والذي يفرض ألا يتم أي تقدم إلا على قاعدة من التراجع والتقهقر، ولا توغل في الحياة إلا على أساس استنفاذها والانخراط في الموت، ولا يتيح للحظة أن تبني نفسها إلا من خلال دمارها وتآكلها، ولا يسمح للرغبة في الامتلاك أن تتحقق إلا عبر تجربة فقدان أكثر صميمية.

تقول الشاعرة:

"أسير

على حافة الألم

رأسي في السماء

وقدماي على سحابة مبللة

أنتزع الأشواك الصغيرة

من أصابعي

ولا ألتفت إلى الخنجر المرشوق

في خصري!!

أسير

وراحت تتجول في قبو الذاكرة

هالها أن تجد نعوشا

وأنها كلما تنهدت

تحركت عيونهم

إليها

وبدا أنهم يحاولون الخروج".

في الذاكرة، إذن، يتم هذا الانزلاق الحزين في الزمن نحو الموت، الذي هو في نفس الوقت موت الآخر الذي يحايث الذات، وموت هذه الذات الذي يستقر فيها. إنها [أي الذاكرة]، وقوف على الحافة.. حافة تنطوي على باقي الحواف التي لا ندرك وجودنا إلا من خلالها. والتي عبرها يتأسس العالم الذي يقدمه ديوان على حافة الليل، والذي فيه وعبره تتولد ذات لا تتوقف عن الاصطدام بما يشكل حدها، وما ينخرها من الداخل، وما يفتحها على الخارج. وربما كانت الحافة التي قد تلقي بنا في ظلمة الليل هي نفسها التي بإمكانها أن تلقينا خارجه.

في نهاية المطاف تقول مع أحدهم: "إن جدارة الإنسان هي أن يستحق موته بين الموتى[4]"  n

 



(*) قراءة في كتاب للأستاذين محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، الإيديولوجيا، مجموعة نصوص فلسفية صادرة عن دار توبقال، سلسلة الدفاتر الفلسفية، العدد8، 1999.

[1] - بنعبد العالي، عبد السلام، ميتولوجيا الواقع، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 1999، صفحة68.

(*) للشاعرة المصرية منى عبد العظيم، صدر عن دار قباء القاهرة، 1998.

[2] - جيل دولوز: المعرفة والسلطة، مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، ط. أولى 1987، المركز الثقافي العربي، ص113.

[3] - نفسه، ص116.

[4] - وردت القولة في كتاب النقد المزدوج، لعبد الكبير الخطيبي.