ص1      الفهرس     21-30

 

 

العولمة وطرق الإعلام والاتصال السيارة:

أية دلالة لدول المغرب العربي؟

 

يحيى اليحياوي

مقدمة:

منذ بداية التسعينات أصبحت مصطلحات "متعدد الأقطاب" والأنترنيت والطرق السيارة للاتصال والعولمة أيضا، رائجة بكثافة بالولايات المتحدة، بأوروبا، باليابان وحتى بدول العالم الثالث، لا بصفة استهلالية فحسب بل وبكرم كبير أيضا من طرف وسائل الإعلام والفاعلين، من طرف الساسة والمثقفين. إعادة الاعتبار هاته للعلاقة بين تكنولوجيا الإعلام والاتصال الجديدة وظاهرة اقتصادية ذات نشأة حديثة نسبيا (ظاهرة العولمة) لم يكن لها أن تثار لولا وجود ساسة وأقطاب اقتصادية في بحث مستمر عن مشاريع موحدة ومبادرات مجندة.

هناك –على الأقل- معطيات مركزية تفرض نفسها وبقوة لمجرد ملاحظة هذا المعطى الجديد ذو المحددات التكنولوجية والاقتصادية العميقة وذو التداعيات الجيوسياسية والاستراتيجية الصارخة:

*المعطى الأول ومفاده أن هذه الرهانات التكنولوجية والاقتصادية لم يكن لها أن تتكرس وتتمأسس إلا حول ومن خلال "قطيعات" تكنولوجية كبيرة كانت تكنولوجيا الإعلام والاتصال هدفها ولنقل مسرحها منذ حوالي عقدين من الزمن أو أكثر (I

*المعطى الثاني ومفاده أن التحولات المؤسساتية والتنظيمية للسنين الأخيرة، والمقدمة على أنها ذات مصادر تكنولوجية محضة كانت في حقيقة أمرها محكومة باعتبارات اقتصادية وجيوستراتيجية غير مسبوقة من ذي قبل (II): التقاء هذين المعطيين هو الذي مهد –في اعتقادنا- وبرر لمشاريع الطرق السيارة للاتصال ولربما حدد لأبعادها ومأسس للخطاب المتمحور حولها؛

*المعطى الثالث ويتعلق "بقوة العدوى" الذي مارسته معطيات التسعينات هاته على خطاب النخب الحاكمة بدول العالم الثالث عموما وبدول المغرب العربي فيما يخص إشكالية ومحاور هذه الدراسة (III).

I – عن "القطائع" التكنولوجية ومعطى التسعينات

أصبح من الشائع اليوم –ولربما من المسلم به- أن الإطار الذي ظهرت في خضمه حركية الطرق السيارة للاتصال لا يمكن فصله عن "القطائع" الكبرى (أو المقدمة على هذا الأساس) التي طالت تكنولوجيا الإعلام والاتصال بصفة خاصة منذ بداية الثمانينات على الأقل: فإطلاق الأولى لم يكن له ليرى النور أو يتجسد لولا قوة الثانية؛ ونجاح الثانية لم يكن له ليظهر وينتشر لولا توفر شروط الأولى.

هناك –في تقديرنا- أربع "قطائع" تكنولوجية تقدم عموما لوصف وتفسير المحددات التكنولوجية لهذه الطرق السيارة: الرقمنة، الألياف البصرية، التحويل العالي السعة وتقنيات التدفق الإعلامي.

1-1-"فضائل" الرقمنة:

إذا كانت فضائل الرقمنة تقدم عموما على أنها ذات طابع ثوري فليس لأنها فرضت كنمط استثنائي لاستغلال ونقل وتخزين جميع أنواع المعلومات المتوفرة، ولكن أيضا وبالخصوص لأنها مكنت التزاوج بين قطاعات الإعلام والاتصال الكبرى (الاتصالات، السمعي-البصري والمعلوميات) والتي كانت –إلى عهد قريب- تعمل في فضاءات مستقلة ووفق منطق صراع خفي، مدار بدهاء، وفي كل الأحوال غير معلن كمواجهة مباشرة: هذا التزاوج والتقارب –وإن لم يكن اليوم إلا في بداياته الأولى- هو الذي سرع التوجه بجهة تداخل الحدود بين التكنولوجيات الثلاث وأعاد توزيع الفضاءات التقليدية لمهن أهم الفاعلين بالميدان. وهذا التزاوج هو الذي مكن أيضا الخدمات السمعية-البصرية اليوم من أن توزع بتفاعلية كبيرة (مفهوم الفيديو عند الطلب) وعبر الشبكة التيليماتيكية؛ وجعل التلفاز والحاسوب يتقاربان، إذ اغتنى الأول بوظائف جديدة وأصبح بإمكانه الوصول إلى خدمات جديدة (وإلى الأنترنيت أيضا) بفضل فارزات متفوقة؛ وأصبح بإمكان الثاني حضور برامج تلفزية سيما وقد عاد تواصليا ومتعدد الأقطاب؛ وعالم الهاتف بدوره أصبح بمستطاعه الوصول إلى الصورة بفضل المحاضرات المرئية التي مكنتها الشبكة الرقمية المتداخلة الخدمات (على الرغم من عدم توفر كفاءات عالية)، وجعل الشبكات المعلوماتية تقترب من الشبكات الهاتفية بفضل المبدلات الإلكترونية


[1].

1-2-"حمولة" الألياف البصرية:

إذا كانت تقنية استخدام الأثير الضوئي في ميدان الإرسال المعلوماتي غير جديدة، فإن التطورات التكنولوجية لهذا الحامل الجديد/القديم (الألياف البصرية) قد وضعت تكنولوجيا للإعلام والاتصال في وضعية غير مسبوقة على الإطلاق.

ما يزيد هذا الاعتقاد قوة كون الألياف البصرية قد نجحت –وإلى حد كبير- في تعويض الألياف النحاسية والكوابل التقليدية فيما يخص عمليات ربط المشتركين؛ ولأنها قادرة أيضا على تمرير السعة الرقمية العالية للمعطيات بما فيها الصور القارة والمتحركة.

ولعل وصول تقنية الـ.أ.ت.م (Asynchronovs Transfer Mode, ATM) سيمكن من تعميق أكبر لهذه الحركية التي أطلقتها الرقمنة والألياف البصرية.

1-3-وصول مبدلات الـ.أ.ت.م (تقنية النقل اللاتزامني):

إن تكنولوجيا الـ.أ.ت.م. هي إحدى الأشكال السهلة والمبسطة للتبديل بالرزم. هذا الطابع السهل والمبسط إنما هو –في الحقيقة- نتيجة لهيكلة المعطيات الرقمية إلى مجموعة خلايا من حجم قار ومصغر مقارنة بتلك التي تتعلق بالرزم (وهو ما يسهل التمرير والتبديل وغيرهما)؛ وكذلك لنقل بعض الوظائف المعقدة على هامش الشبكة كمراقبة المبادلات ومعالجات التوصيل وغيرها.

هذا النقل لا يمكن إلا أن يزداد حركية ومرونة وفعالية (مقارنة والمناهج التزامنية) سيما مع توظيف حافة النطاق (Bande passante) توظيفا مطابقا وتطور الحاجيات: فقد استطاعت تكنولوجيا التحويل هاته أن تجمع ما بين امتيازات التبديل الدائري (شفافية الخبر والإرسال الآني) وبين التبديل بالرزم (تدفق متغير)؛ وهي –على هذا الأساس- تتكيف مع التدفق القار والمتغير، الضعيف والقوي..[2].

 

1-4-"حتمية" السعة العالية:

بقدر ما هو مركزي مفهوم السعة، بقدر ما هو نسبي. فإذا كنا نتكلم اليوم عن السعة العالية فيما يتعلق بالمحاضرات بالفيديو Vidéoconférences أو فيما يخص نقل المعطيات من إثني ميغابتس في الثانية[3] فما ذلك إلا مقارنة ومعاملات الخط الهاتفي العادي الذي لا تتعدى "سعته" 64 كيلوبتس[4] أو الـ140 ميغابتس/الثانية الضرورية للتلفزة العالية الدقة أو الخطوط المعلوماتية المتخصصة.

ومركزية أيضا ظاهرة السعة العالية لأنها تختزل الشبكات المستقبلية المكونة من الجيغات (ملايير البتات) والترابيت (آلاف ملايير البتات)[5]. وإذا كان واقع السعة العالية أمرا حتميا ولا مناص منه، فإنه يصعب تصوره أو تجسيده في غياب الرقمنة والعلاقات بالألياف البصرية والمبدلات من نوع أ.ت.م، فكلاهما مركزي، وكلاهما حتمي لتطور شبكات المستقبل.

1-5- التحدي التكنولوجي ومعطى الطرق السيارة للاتصال:

إن تجسيد الطرق السيارة للاتصال[6] لم يكن –في اعتقادنا- ممكنا لولا التحولات الكبرى التي طالت –منذ عقدين من الزمن وأكثر- تكنولوجيا الإعلام والاتصال الجديدة، ولا سيما تطورات الميكرو إلكترونيات والإلكترونيات الضوئية[7]:

*فقد انعكست هذه التطورات على كفاءة الحواسيب لا فيما يخص سرعة الحساب فحسب، ولكن أيضا فيما يتعلق بقوة الذاكرة وقوة التخزين[8]؛

*وقد مكنت أيضا من تحقيق تقنيات الضغط وإعادة الضغط الرقمي للصور على اعتبار أن هذا الأخير أساسي لتوزيع التلفزة الرقمية ولظهور الطرق السيارة للاتصال على المدى المتوسط والبعيد؛

*وقد مكنت المبدلات الرقمية الجديدة من نوع أ.ت.م من التبديل الفعال للإشارات العالية السعة مع ضمان استمرارية التدفق بدون بطء يذكر وفق تزامنية كبرى للصور والصوت[9].

*ومكنت –فضلا عن كل هذا- من مزج تكنولوجيا الألياف البصرية[10] مع زيادة كفاءتها وتنافسيتها[11] بصورة كبيرة.

وهذا يعني –باختصار- أن الطرق السيارة للاتصال لن يكون لها أن تتحقق إلا عبر ومن خلال الرقمنة الكاملة لكل المعلومات (نصوص، معطيات، صوت، صور قارة ومتحركة، واقعية أو متوهمة) وإرسالها بصورة رقمية شاملة من المصدر حتى المستخدم: "إن طرق الاتصال السيارة المكونة أساسا من الألياف البصرية، بإمكانها حمل كل الإشارات الرقمية في كلا الاتجاهين وبسعة عالية حتى المستعمل".

إلا أنها لا يمكن أن تتجسد أو تتعمم –على الأقل بالنسبة للمتبنين لها- إلا وفق منطق اللاتقنين والخوصصة والتحرير.

 II – عن "القطائع" المؤسساتية ومعطيات التقنين الجديدة

إن فهم الإطار العام الذي برزت ونشأت في خضمه حركية الطرق السيارة للاتصال لا يمكن –في رأينا- أن يتم دون استحضار البعد التكنولوجي الذي نعتبره مركزيا في هذه الحركية.

هناك –إلى جانب هذا- ثلاثة أبعاد أخرى ليس بالإمكان التغاضي عنها لفهم هذا الإطار المتشابك، المشبع بالرهانات: البعد التقنيني، البعد الاقتصادي واختيارات الفاعلين الاستراتيجية.

2-1-عناصر "القطيعة" التقنينية:

إن تاريخ معظم الفاعلين في ميدان الاتصالات في العالم إنما هو –في اعتقادنا- تاريخ ما اصطلح الاقتصاديون على تسميته بوضعية "الاحتكار الطبيعي"[12]. وقد مورس هذا الاحتكار لا من طرف مؤسسات عمومية محضة (في إطار وزاري مثلا) كما لاحظنا ذلك في أوروبا، وفي اليابان وغيرهما، ولكن أيضا من لدن مؤسسات وشركات خاصة كما لاحظناه بالولايات المتحدة الأمريكية تحديدا.

هذه الوضعية الاحتكارية كانت –منذ البداية- موضع دفاع وشرعنة عميقين سيما وقد كانت تعكس بامتياز ضرورات التجهيز وسياسات التصنيع التي كانت تتطلب استثمارات ضخمة، ذات مردودية طويلة الأمد.

وإذا كانت هذه الوضعية قد تمكنت من الصمود إلى غاية بداية الثمانينات (مرحلة القرارات اللاتقنينية الكبرى) فلأن المؤسسات المستهدفة (وإن كان عرضها جد محدود) قد أبانت على قدرة ربحية هائلة وإمكانات تمويل داخلية مهمة وحركية قل نظريها.

إلا أن هذا الواقع قد أصبح –ابتداء من بداية الثمانينات- عرضة لإعادات نظر عنيفة لا بسبب ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال فحسب (الرقمنة، انخفاض العلاقة بين أثمان وكفاءة المكونات وتطور البرامج المعلوماتية وتعميم المبدلات بالرزم والانفجار التكنولوجي الذي مس جل مراحل السلسلة الصناعية، من شبكات وأجهزة وبرامجا)، ولكن أيضا وبالخصوص على اعتبار بروز نخب سياسية تكن عداء شديدا للاحتكار وللمرافق العمومية[13].

إلى جانب هذين العنصرين التفسيريين –المركزيين في اعتقادنا- نجد عنصرا ثالثا لا يقل عنهما مركزية، ويتمثل في رفض الفاعلين الصاعدين للوضعيات الاحتكارية المحمية من كل مزاحمة، في ظرف برز خلاله إلى الوجود طلب جديد وظهرت في ظله خدمات وتطلعات جديدة: إن التقويض الذي تعرضت له أ.ت.ت الأمريكية والخوصصة التي كانت بريتش تلكوم البريطانية وإن.ت.ت اليابانية مسرحا لها[14] إنما تمثل قمة المطالبة والمناداة بضرورة خلق إطار للتنافس جديد.

2-2-عناصر التفسير الاقتصادية:

إذا كان من المسلم به اليوم أن التحولات التكنولوجية المذكورة قد نجحت في "تفجير" فضاء الإعلام والاتصال، فإنها تمكنت أيضا وبالخصوص من تسريع المنافسة داخل كل قطاع على حدة مع ظهور منافسين جدد للفاعلين "التاريخيين" من جهة، وأشعلت نار التنافس بين فاعلي كل قطاع (سيما مع ظهور إمكانية عرض فاعلي السمعي-البصري لخدمات الاتصالات والعكس بالعكس) من جهة أخرى.

إلا أن الرهانات الاقتصادية لهذه التحولات لا يمكن –في اعتقادنا- مقاربتها دون استحضار واقع جديد ذو تداعيات محددة سيما مع بلوغ الأسواق الثلاثة (الاتصالات، السمعي-البصري والمعلوميات) مرحلة تخمة وإشباع غير مسبوقين، وبدأ توزيعها يتم على أساس الطلب الجديد المدقق وعلى العمل وفق مستويات عرض السوق.

في خضم هذا المعطى الجديد، أصبحت الإشكالية التقنينية (على الأقل في ذهن المتحمسين للتحرير والخوصصة) غير قادرة وغير مؤهلة لتحمل التطورات المتسارعة سيما المستقبلية منها.

وهذا المعطى يقدم أيضا على أساس كونه واقعيا سيما مع بروز استراتيجيات التدويل والتحالفات الاستراتيجية وضرورات تسريع دورة ميزانيات البحث والتطوير العالية المستويات وبالتالي حتمية تبسيط الإجراءات وتكييف النظام التقنيني وإعادة النظر في الهياكل والتنظيمات وكذا إعادة الاعتبار لقيم السوق والتنافسية وإدانة منطق الحمائية والاحتكار؛ وهي أمور ترى فيها حركية الطرق السيارة للاتصال الشرط والوسيلة.

2-3-طرق سيارة للاتصال على صفيح من الخوصصة والتحرير!

لأنها في قلب رهان صناعي كبير ورهان مجتمعي ضخم، مجتمع القرن الواحد والعشرين، ولأنها محمولة برؤية سياسية "ثاقبة" (الإدارة الديموقراطية الأمريكية[15]؛ اللجنة الأوروبية[16]؛ الحكومات الوطنية[17])، فإن مشاريع طرق الاتصال السيارة تقدم عموما على أساس كونها ستمأسس لقطيعة كاملة مع التنظيم الاقتصادي والاجتماعي السائد إلى حد الآن: "فالأمر يكمن في وضع شبكات ضخمة، ذات سعة عالية وتفاعلية، بإمكانها إيصال –وبدون عقبات- أي منزل أو شركة إو إدارة إلى كل أشكال المعلومات والتربية والإرسال والترفيه"[18].

فلما وضع الكوميسير بانجمان[19] تقريره للجنة بروكسيل سنة 1994، فقد تبنى المصطلحات المركزية الواجب استعمالها وفي مقدمتها تداخلية الشبكات وتحرير الاتصالات.

ولما اجتمعت مجموعة الدول السبعة الأكثر تصنيعا ببروكسيل في 25 و27 فبراير 1995، فقد حددت المبادئ الأساسية لقيام الطرق السيارة للاتصال كان أهمها:

ـ ضرورة تنشيط المنافسة،

ـ ضرورة تشجيع المبادرة الخاصة،

ـ وضرورة تحديد إطار تقنين مرن وتطوري.

ومما لا شك فيه أن عمليات تحرير وخوصصة الفاعلين الأوروبيين الراهنة إنما هي امتداد لهذا الخط: فسنة 1996 شهدت قانون الاتصالات الأمريكي (تكريس التنافسية بين شركات الهاتف الجهوية والطويلة المدى ومؤسسات الكابل والموزعين الهرتزيين)؛ وشهدت أيضا قانوني إعادة تقنين فرانس تلكوم وخوصصة جزء من رأسمالها، وكذا خوصصة جزء من رأس مال دوتش تلكوم الألمانية…الخ.

إلى جانب المقاربات الجهوية (حيث لم نقدم هنا إلا بعدها الأوروبي)، هناك مقاربات أخرى، وطنية في فلسفتها لكنها تتبنى نفس التوجهات.

ففي فرنسا مثلا أوصى المهندس جيرار تيري في تقريره عن الطرق السيارة بضرورة تحرير سوق الاتصالات الفرنسي وبضرورة إعادة النظر في هيكلة الفاعل التاريخي العامل بها (فرانس تلكوم).

ومعنى كل هذا أن معظم (أو جل) مشاريع الطرق السيارة راهنت (ولا زالت تراهن) على ثلاثة عناصر ذات قيمة متقاربة:

*لا تقنين القطاعات الخاضعة لاحتكار اعتبر –إلى عهد قريب- طبيعيا؛

*خوصصة الملكية العمومية التي (الملكية) كانت –إلى زمن قريب- مبررة ومشرعنة؛

*وتحرير هياكل السوق التي كانت –حتى وقت متأخر- في مأمن عن كل تهديد تنافسي يذكر.

هذه العناصر الثلاثة هي التي رهنت (ولا زالت ترهن) تحقيق مشاريع الطرق السيارة للاتصال؛ وقد تزامنت وبروز ظاهرة مصاحبة لها، بدأت تلازمها وإن كانت أقدم منها، ظاهرة العولمة.

III – العولمة، طرق الاتصال السيارة و"المجتمع الكوكبي"

3-1-عن مفهوم العولمة:

العولمة مصطلح حديث العهد. لكن محتواه لا زال مبهما كما هي مبهمة تداعياته ومحدداته الحقيقية.

ونعتبر أن من المقاربات الشاملة، الجادة لمفهوم العولمة المقاربة التي اعتمدها ريكاردو بتريلا؛ إذ يحدد المفهوم على أساس مفهومين آخرين متقاربين معه، قريبين منه: مفهومي التدويل وتعدد الجنسية.

يحدد ريكاردو بتريلا التدويل في كونه "مجموعة المسلسلات التي تربط الاقتصاديات الوطنية بعضها ببعض. وهذه المجموعة تحيل إلى مجموعة التيارات التي تربط الوحدات الوطنية المختلفة".

في حين يحدد مفهوم تعدد الجنسية في كونه "الظاهرة التي نرى فيها الفاعلين الاقتصاديين يوسعون قدراتهم الإنتاجية لوحدات وطنية أخرى".

بينما يرى في العولمة مفهوما أكثر حداثة باعتباره "مجموعة العوامل التي تجعل من عدد كبير من السلع والخدمات تصمم وتتطور وتنتج وتوزع وتستهلك وتصلح وتقيم على مستوى عالمي بدون أن يكون للدول التي تدور هذه العمليات في فضائها قيمة في حد ذاتها. بعبارة أخرى، فإن الإطار والمرجعيات الوطنية فقدت مركزها وقوتها في المستقبل.

العولمة هي نتاج منظمات تعولمت هياكلها بفضل استخدام تكنولوجيا الإعلام والاتصال والمواصلات"[20].

ويقول روني فاليت أن العولمة هي "مسلسل تكثيف تيارات الأفراد والسلع والخدمات والرساميل؛ وبموازاة مع ذلك اتساع هذه التيارات إلى كل الكرة الأرضية".

ويعتبر أن "المبادلات الدولية جد قديمة لكن كثافتها وتنوعها وتوسعها قد فرضت –خلال السنين الماضية- استخدام مصطلح جديد لنعتها: مصطلح العولمة"[21].

3-2-عولمة الاختيارات التكنولوجية للمؤسسات الإنتاجية:

دون العودة إلى الأسباب العميقة الكامن وراء صعود وتنامي ظاهرة العولمة[22]، ولا إلى مساهمة العوامل التي كانت وراء شيوعها، فإن هناك –على الأقل- ثلاثة معطيات كبرى تفرض نفسها علينا وبقوة:

*المعطى الأول، أن المؤسسة هي الفاعل الأول والأساسي في العولمة. هذا معطى بديهي، لكنه مركزي: "إن الدول لم تتعولم، والمؤسسات الكونية بدورها أصبحت دولية لا معولمة، وسلطتها مرتبطة بالدول الوطنية التي ترى قوة تأثيرها في الشؤون الاقتصادية العالمية تتدهور".

ويجب القول إن المؤسسات الإنتاجية ليس بمقدورها أن تتعولم إلا إذا توفرت على قدرة فعل كبيرة على المستوى العالمي، وبالتالي فالحجم أمر ضروري ومؤكد. إلا أن المؤسسة الكبرى لا يمكنها –على الرغم من كبر حجمها- أن تتوفر لوحدها على قدرة استراتيجية كافية للتحكم في المعطيات على المستوى الكوكبي. ومن هنا تأتي ظاهرة انفجار عدد التحالفات واتفاقيات التعاون[23] التي نشهدها يوميا: الكل يتحالف مع الكل ضد الكل يقول ريكاردو بتريلا.

*المعطى الثاني، أن المؤسسة المعولمة "لا ترتاح" إلا بتوظيف قواعد عمل الاقتصاد وفق شروط تناسبها وتخدم مصالحها: "وهذا ما يفسر عمليات الخوصصة واللاتقنين والتحرير التي نعرفها منذ عشرين سنة. فعلى هذه الأسس الثلاثة تمكنت المؤسسات من عولمة الاقتصاد".

هذه العمليات تقدم على أنها ضرورية ولا محيد عنها لتوسيع فضاء عمل المؤسسات على المستوى الكوني؛

*المعطى الثالث، أن المؤسسات العامة بقطاع تكنولوجيا الإعلام والاتصال (مستغلين وصناعيين) لم تكن فاعلة نشيطة في العولمة فحسب (عبر خلق شبكات كونية[24]) بل كانت أيضا هدفها ومسرحها، والدليل على ذلك عدد الاتفاقيات والتحالفات الاستراتيجية التي أبرمتها هذه المؤسسات[25].

3-3-عن علاقة العولمة بالطرق السيارة للاتصال و"القرية الكوكبية".

طرق الاتصال السيارة هي شبكة للاتصالات مرقمنة، عالية السعة وذات قدرة كبيرة وسرعة فائقة لنقل الخدمات التفاعلية، المهنية والترفيهية وغيرها. لو اعتمدنا هذا التحديد على المستوى العالمي، نقول إن هذه الطرق هي عبارة عن شبكة للشبكات تمكن من نقل المعطيات والصوت والصور على نطاق كوني وبطريقة إلكترونية. وإذا كان وزراء اتصالات الدول السبعة قد اجتمعوا ببروكسيل في فبراير 1995، فما ذلك إلا من أجل وضع الأسس المفاهيمية والتكنولوجية لهذه الطرق في أفق خلق مجتمع إعلامي عالمي وكوكبي: المطلوب هو إقامة بنية تحتية عالمية للإعلام مبنية على ترابط وتداخل وتجاوب الشبكات الوطنية، لأنه بفضل الإمكانات التي توفرها تكنولوجي الإعلام والاتصال، فبإمكان "شبكة الشبكات أن تحقق… إشباع الرغبات العالمية من الاتصالات الهاتفية والمعلوماتية والسمعية-البصرية".

إن نبوءة ماك لوهان[26] تكرست وبعمق، ووعوده تحققت، وعود سوق شمولي للشبكات والخدمات والتطبيقات.

ومعنى هذا أن العلاقة بين "القرية الكوكبية" والطرق السيارة والعولمة هي، على الأقل، من ثلاثة مستويات:

*المستوى الأول: بقدر ما يفرض منطق العولمة ضرورة إقامة هذه الطرق، بقدر ما يعمل نفس المنطق على دفع حدود السوق العالمي؛ وبالتالي فالمجموعات الكبرى ذات الإمكانات التكنولوجية والاقتصادية الضخمة هي المستهدف الأول والمركزي؛

*المستوى الثاني: بقدر ما للبعد التكنولوجي لهذه الطرق من أهمية، بقدر ما للطابع الاقتصادي والجيوستراتيجي لظاهرة العولمة من قوة وتأثير: فالتحكم التكنولوجي في هذه الطرق أساسي في استراتيجيات تحالفات المؤسسات وتكثيف العلاقات فيما بينها على المستوى العالمي؛

*المستوى الثالث: بقدر كفاءة هذه البنية العالمية والشمولية، بقدر كفاءة المؤسسات المعولمة والمهووسة بالآنية والسرعة و"الوقت الواقعي".

لو طبقنا كل العناصر السابقة على دول المغرب العربي، فإن تكريسها يحيلنا إلى الخطاب الرائج والمروج أكثر ما يحيلنا إلى حقيقة الفعل والممارسة.

IV – العولمة وطرق الاتصال السيارة: أي علاقة بالمغرب العربي؟

هناك –على الأقل- ثلاث ملاحظات مركزية تفرض نفسها علينا لمجرد التساؤل عن تكنولوجيا للإعلام والاتصال في دول العالم الثالث (ودول المغرب العربي) في عصر العولمة والطرق السيارة للاتصال:

*الملاحظة الأولى وترتبط أساسا لا بالواقع المتخلف الذي ما زال يكون "الميزة" الكبيرة لشبكات الإعلام والاتصال على مستوى كل دولة من دول المغرب العربي فحسب، ولكن أيضا إلى غياب بنية مغاربية جهوية وشاملة بإمكانها نقل وتوزيع المعطيات (إن كانت هناك معطيات!)؛

*الملاحظة الثانية وتتعلق بـ"الطابع الوطني المحض" للاختيارات التكنولوجية المعتمدة في ميدان الإعلام والاتصال والتي لا تكرس إلا توجيهات المؤسسات الدولية والشركات المتعددة الجنسيات والنخب الحاكمة عوض خضوعها (الاختيارات) لمنطق العمل المشترك والتكامل التكنولوجي المغاربي؛

*الملاحظة الثالثة وتتمثل في غياب "عزيمة سياسية مغاربية" موحدة مبنية على رؤية مستقبلية، إحدى أهدافها إقامة بنيات (وصياغة برامج) إعلامية واتصالية تكون العماد الأساسي لبناء المغرب العربي خلال القرن الواحد والعشرين.

4-1-أية بنيات تحتية لأية طرق سيارة للاتصال في المغرب العربي؟

بالرجوع إلى كل المقاييس المعتمدة دوليا لتقييم مستوى تنمية البنيات التحتية للإعلام والاتصال، فإننا نرى أن المغرب العربي هو أقرب –في وضعيته- لوضعية دول العالم الثالث أكثر منه لوضعية الدول المتقدمة أو الدول الحديثة التصنيع.

4-1-1-ففي ميدان الاتصالات مثلا (وهي العمود الفقري لطرق الاتصال السيارة) نجد أن الكثافة الهاتفية بالمغرب العربي غالبا ما لا تتعدى 4% (1،4% في الجزائر، 7،3% في المغرب) في الوقت الذي تتعدى فيه هذه النسبة 40% في أوروبا الجنوبية وفي إسرائيل (20% في تركيا) وتقارب الـ 60% في الدول الصناعية الكبرى.

ونفس الحالة تسري على الخطوط الهاتفية المستخدمة: فحاجز المليون مشترك بالنسبة للجزائر والمغرب لم يتجاوز إلا خلال السنتين أو الثلاث سنوات الأخيرة؛ في حين تتعدى لائحة الانتظارات المليون طلب بالنسبة للدول الخمسة مجتمعة.

4-1-2-وإذا كان سكان المغرب العربي قد بلغ 60 مليون نسمة سنة 1987، فإنه لم يكن في هذه السنة أكثر من مليون ونصف المليون من الخطوط الهاتفية المستخدمة.

وإذا كان عدد السكان قد بلغ –سنة 1992- حوالي 70 مليون نسمة، فإنها لم تكن تتوفر إلا على مليونين ونصف مليون من الخطوط الهاتفية.

وفي سنة 2007 حيث سيبلغ عدد سكان المغرب العربي حوالي 100 مليون، فلن يكون لديها إلا حوالي 12 إلى 14 مليون خط هاتفي (حوالي 7 ملايين في أفق سنة 2000)[27].

4-1-3-في نفس الوقت، فإن البعد المغاربي لإقامة هذه البنية التحتية للاتصالات لا يؤخذ مأخذ الجد "وهو ما يفسر صغر وضعف حجم المقاولات الموجودة، ومحدودية قدراتها، ونموها الهزيل وغياب فرص بقائها، وتكيفها والتطورات التكنولوجية للأنظمة والأجهزة"[28].

هذه الأنظمة والأجهزة[29] صعبة التجاوب والتداخل –على الرغم من كون 50% منها مرقمنة- كونها اختيرت على أساس فرداني، قطري ودون تنسيق تكنولوجي يذكر.

4-1-4-والنتيجة أن "بناء" شبكة الاتصالات المغاربية (كمقدمة لطرق الاتصال السيارة) لا يمكن تصوره في الوقت الحالي (أو المستقبلي) للشبكات الوطنية وفي إطار "الاختيارات التكنولوجية" السائدة؛ وهو ما يضر بفكرة إقامة البنية المادية للمغرب العربي أيما ضرر، سيما وأن هذه الدول خاضعة كليا لتوصيات المؤسسات الأجنبية والشركات المتعددة الجنسيات.

4-2- أية "اختيارات مؤسساتية" لأية طرق اتصال سيارة؟

4-2-1منذ "تبني" دول المغرب العربي لبرامج إعادة الهيكلة (بداية الثمانينات)، فإن فهم إشكاليات النخب الحاكمة لا يمكن تصوره إلا بالرجوع إلى قرارات تقضيم الاحتكارات والخوصصة والليبرالية: كل القطاعات المنظمة على قاعدة شبكية أصبحت مستهدفة بطريقة أو بأخرى.

فإذا كانت شبكات الإعلام والاتصال بالمغرب العربي قد ولدت ونشأت –كغيرها من شبكات العالم- في إطار احتكاري ممركز ومراقب من طرف الدولة[30]، فإنها لم تسلم من موجة اللاتقنين والتحرير الممرر لها باستمرار في الدول الصناعية الكبرى.

كل سياسات التحرير –المنطلقة منذ النصف الأول من الثمانينات- في الاتصالات مثلا[31] لم يكن يرد من ورائها إلا تبيان "الوعي العميق" (البئيس يقول البعض) بالرهانات التكنولوجية والصناعية التي بدأت تطال العالم:

ـ ضرورة تحرير هياكل السوق لرفع تحدي العولمة والتنافسية واتفاقيات الشراكة مع السوق الأوروبية؛

ـ ضرورة "تحرير قوى القطاع الخاص" لينوب عن دول في أزمة من تمويل الاستثمارات التحتية الكبرى كالتي يحتاجها "بناء" الطرق السيارة. بالتالي فكل عمليات الخوصصة التي من المحتمل أن تطال فاعلي الاتصالات لا يمكن تفسيرها إلا في كونها تكملة لسياسات النخب الحاكمة "المتشتتة" بين الأزمة المالية وتوصيات المؤسسات العالمية والشركات المتعددة الجنسيات الباحثة عن أسواق جديدة وربحية أكبر.

4-2-2-إن مشروع خوصصة الاتصالات بالمغرب يسائلنا –على هذا الأساس- أكثر ما تسائلنا "نوايا الإصلاح والهيكلة" التي يمرر لها فيما يخص هذا القطاع الاستراتيجي الضخم.

ويسائلنا أكثر لو علمنا أن هذا المشروع:

ـ إنما هو نتيجة مباشرة لتوصيات المؤسسات الدولية أكثر منه نتيجة لبلوغ الشبكة سن الرشد التقني والاقتصادي؛

ـ وإنما هو نتيجة فكرة رائجة ومروجة باستمرار بكون الطرق السيارة إنما يجب أن تمر (وفي أي مكان) من خلال القطاع الخاص، "الوحيد القادر" على تمويلها وتسييرها.

4-2-3-إذا كانت عملية تحرير الاتصالات[32] تقدم عموما على أنها الحل الأمثل، فإنها لا تمر حتما عبر عملية خوصصة الملكية وإلا لتحولت "اللَّبْرَلَة" إلى إشكالية خوصصة محضة، وهو ما لا تثبته الوقائع الملاحظة: إذ التحرير يحيل على هياكل السوق بينما تحيل الخوصصة على طبيعة الملكية.

4-3-عن تجارب الطرق السيارة الأجنبية: أية دروس للمغرب العربي؟

هناك –على الأقل- أربعة دروس للمغرب العربي يمكن استنتاجها عند ملاحظتنا للتجارب الأجنبية فيما يخص بناء الطرق السيارة في علاقتها بالعولمة:

*الدرس الأول: إن الطرق السيارة للاتصال المرجوة باستمرار –هذه الأيام الأخيرة- من لدن النخب الحاكمة في دول المغرب العربي، لا يمكن تصورها بدون فضاء موسع وسوق شاسعة وطلب وافر.

هذه الشروط –على واقعيتها وصدقها- فهي غالبا ما تهمش لاعتبارات حزازات سياسية ضيقة وحسابات زعامات غير مبررة ومتجاوزة: إن البعد المغاربي في "اختيارات" السياسات الاقتصادية غالبا ما لا يعطاه الاعتبار بسبب هيمنة المصالح الوطنية الضيقة الغير متطابقة وطبيعة العلاقات الاقتصادية والتكنولوجية الدولية ومنطق التكتلات الناشئة.

وبعبارة أخرى، فإن ظاهرة العولمة (إن كانت هناك عولمة حقا) تجر دول المغرب العربي باتجاه ضفة المتوسط الشمالية أكثر ما تجرها باتجاه الفضاء المغاربي حيث الاندماج مبرر اقتصاديا ولا سبيل للعمل خارجه جيوستراتيجيا؛

*الدرس الثاني: إن مسلسل العولمة محكوم –في عمقه- من لدن الشركات الكبرى (بما فيها شركات الإعلام والاتصال) ذات السلطة التكنولوجية والجيوستراتيجية والاقتصادية الكوكبية المؤكدة؛ وأن البعد المغاربي لا يمكن وضعه إلا في إطار بناء مشترك وهادف يفرضه الواقع أكثر ما تفرضه القرارات الفوق وطنية كيف ما كانت درجة رسميتها: إن حركية المعطى الدولي الجديد تفرض فاعلين أقوياء ذوي سلط جهوية وعالمية حقيقية؛ ولا يمكننا –في الوقت الحاضر- تصور ذلك في المغرب العربي حتى وإن كانت لديه القاعدة والامتيازات؛

*الدرس الثالث: إذا كانت مشاريع طرق الاتصال السيارة في الدول المتقدمة هي نتيجة حتمية لتطور اقتصادي وتكنولوجي متميز كان (ولا يزال) "ينشط" هذه الحركية؛ فإن هذه الأخيرة لا تتوفر بالمغرب العربي، فحتى وإن توفرت على مستوى البنيات مثلا (وهو أمر مستبعد) فإن مستوى تنقل التيارات والمعطيات والمبادلات سيكون هزيلا إذا لم نقل معدوما.

ما يزيد هذه الحركية تعثرا بدول المغرب العربي كون شبكاته الإعلامية والاتصالية لم تعرف تطورات تكنولوجية في مستوى الطرق السيارة المزمع "بناؤها" من رقمنة وسعة عالية ومبدلات دقيقة وشبكات من ألياف بصرية وغير ذلك؛

*الدرس الرابع: ما هو رائج في خطاب النخب الحاكمة بدول المغرب العربي هو القول بأن الطرق السيارة ليست إلا مدخلا للعولمة وللتكيف مع قواعد لعبة نهاية هذا القرن.

إلا أنه في غياب تحديد مدقق وواضح لمشروع مجتمعي بإمكانه إقحام هذه المعطيات وهضمها، فإن هذا الخطاب يبقى –في اعتقادنا- تبسيطيا، غير ذي معنى وضربا من ضروب "التفكير" العقيم الجدوى.

ما يزيد هذا الخطاب تبسيطية وهذا "التفكير" عقما كون عناصر البحث والتنمية، وعزيمة العمل المشترك والإيمان بالمستقبل المشترك مهمشة وغير مقدرة: إن تكريس هذه العناصر يمر بالضرورة –في رأينا- من خلال وجود عزيمة سياسية مشتركة ورؤية واضحة لما يجب أن يكون عليه المغرب العربي.

ونرى أن لا الأولى ولا الثانية هي المحددة حاليا "لاختيارات" النخب الحاكمة السياسية، فبالأخرى… "اختياراتها التكنولوجية".

خلاصة مؤقتة:

معظم الخطابات المروجة في دول المغرب العربي تربط "تحدي" العولمة بضرورات تكيف الأجهزة الإنتاجية والميكانيزمات السوسيوتربوية السائدة على المستويات القطرية.

وتربطها أيضا بضرورات تكيف دول المغرب العربي مع السوق العالمي المقدم على أنه المخرج الوحيد والذي بإمكانه ضمان "بقاء" هذه الدول في مرحلة العولمة وفترة "مجتمع الاتصال".

إذا كانت هذه التحديات تعتبر عناصر مجندة بالنسبة للدول المتقدمة التي حققت مستويات تكنولوجية عالية، فإنها لا تعدو كونها خطابات لاستهلاك في إطار "سياسات" تنمية الشبكات الإعلامية والاتصالية بدول المغرب العربي.

إن الخطابات الواعدة والمتمحورة حول الطرق السيارة ومجتمع الاتصال لا تخفي وراءها إلا نهج اللاتقنين والخوصصة والليبرالية التي بدأت تنهجها هذه الدول، ولا يمكن لهذه الخطابات إلا أن تكون موضع الخطأ والخطيئة: إذ الوضع الحالي لشبكات الإعلام والاتصال وغياب العزيمة السياسية الواضحة وكذا غياب الرؤية المشتركة لا يمكنها إلا أن تجعل مما يسمى بـ"بمغرب الإعلام والاتصال" عبارة عن فكرة، إحدى ميزاتها انسلاخ الخطاب عن الممارسة والواقع n

 



[1]  - Laffite P., La France et la société de l’information, Rapport de l’office parlementaire des choix scientifiques et technologiques, SENAT, France, 7 février 1997.

[2]  - SENAT, Panorama sommaire des nouvelles technologies de l’information et de la communication; Document de synthèse, SENAT, France, 12 novembre 1996.

[3] - حوالي مليوني بتة (bits) فصورة من نوع "سيكام" تتطلب 5 إلى 6 ميغابيتس.

[4] - حوالي 64.000 بتة.

[5] - للمزيد من التفاصيل التقنية، انظر:

Théry G., Les autoroutes de l’information ; Rapport au Premier Ministre (français) ; la Documentation française, 1994.

[6] - عبارة استخدمها نائب الرئيس الأمريكي لأول مرة سنة 1991 لوصف البنيات التحتية للشبكة العالمية للاتصالات والتي بإمكانها أن ترسل المعطيات وفق سعة عالية، وكذا الشأن بالنسبة للخدمات المتعددة الأقطاب.

[7]  - Cartes P., Les autoroutes de l’information ; Université de Coen, Document interne, 1995.

[8] - هكذا سيصبح بالإمكان تحقيق برامج قوية تمكن من استغلال الخدمات المتعددة الأقطاب بفضل برامجيات دقيقة وتمنح إمكانية الغوص الذكي في قواعد المعطيات.

[9] - من امتيازات المبدلات من نوع أ.ت.م. أنها تمكن من ربط خطوط ذات قوة تدفق متغيرة وفق الطلب.

[10] - إن نوعيتها العالية في الإرسال وشفافيتها فيما يخص المسافة، ومناعتها إزاء التقلبات الكهرومغناطيسية وقوتها على إرسال معطيات ضخمة يجعل من الألياف البصرية الحامل المفضل لطرق الاتصال السيارة.

[11] - زوج من الألياف البصرية بإمكانه تمرير ما يناهز 50.000 مكالمة هاتفية.

[12] - للمزيد من التفاصيل، انظر:

El Yahyaoui Y., Les télécommunications à l’épreuve des mutations : Etat, Monopole, déréglementation et concurrence, Ed. Okad, Rabat, 1995.

El Yahyaoui Y., Mouvance libérale et logique de privatisation : les télécommunications, un service public, Ed. Okad, Rabat, 1996.

[13] - ونقصد وصول تاتشر وريغان إلى الحكم.

[14] - هذه التجارب الثلاث تمثل مرجعا تاريخيا لا مناص منه لكل الأدبيات المتمحورة حول اللاتقنين والتحرير والخوصصة التي طالت قطاع الاتصالات.

[15] - Gore A., Agenda for action on the national infrastructure, NII; Washington DC, September 1993.

[16] - وضع مارتن بانجمان –نائب رئيس اللجنة الأوروبية- تقريره عن بنية الاتصالات التحتية وفق منطق ليبرالي محض. وقد صيغ هذا التقرير تحت إشرافه، وضم بالخصوص أرباب المقاولات الكبرى.

[17]  - Théry G., Les autoroutes de l’information, Rapport précité.

[18]  - Busson A., (Audiovisel et autoroutes : les objectifs des expérimentations), in Revue de l’Electricité et de l’Electronique, n°2, Févier 1997, p45.

[19] - كانت الولايات المتحدة أكبر متحمس لجعل مشاريع الطرق السيارة من اختصاصات القطاع الخاص.

[20]  - Petrella R., (Mondialisation et stratégies d’entreprises), in Revue de l’institut du management d’EDF et de GDF, Paris, 1996.

[21]  - Vallette R., Mondialisation : Sept Clefs pour entrer dans le G7, Documentation de l’institut d’études politiques de Lyon, 1996.

للمزيد من التفاصيل:

El Yahyaoui Y., La mondialisation : Communication-monde, Ultra-libéralisme planétaire et pensée unique, Ed. Boukili, Kénitra, 1998.

يحيى اليحياوي، العولمة الموعودة: قضايا إشكالية في العولمة والسوق والتكنولوجيا، منشورات عكاظ، الرباط، 1999.

[22] - العوامل التقنية بالأساس (انخفاض تكلفة النقل والاتصالات) وكذا السياسية (تحرير المبادلات)، والقطيعات الجيو-سياسية (انكسار القطب السوفياتي) وكذا التطور الماكرو اقتصادي (نمو الدول الحديثة التصنيع).

[23] - 80% من الاستثمارات المباشرة كان هدفها شراء المقاولات، والنتيجة أنه في سنة 1973 لم يكن يوجد إلا 7000 شركة متعددة الجنسيات، في حين تعدى عددها سنة 1995 الـ37000 شركة.

[24] - الأنترنيت لا يمثل حاليا إلا مظهرها الصارخ.

[25] - وفق دراسة لمؤسسة "أبريديا"، 15 اتفاقا من هذا النوع أبرمت سنة 1993؛ 56 سنة 1994 و141 خلال الثمان أشهر الأولى من سنة 1995.

[26] - للمزيد من التفاصيل، انظر:

Mac Luhan M., Comprendre les médias, Ed. De Poche, Signet, 1964.

[27] - هذه المستويات لا يمكن تحقيقها إلا مقابل مستويات استثمار عالية: حوالي 700 إلى 900 مليون دولار خلال الفترة 1988-1997، وحوالي 3،2 مليار دولار في السنة خلال الفترة 1997-2007.

[28]  - Ghannouchi S., (Le Maghreb des télécommunications), in Communication et transports, n°59, Mai 1995, p190.

[29] - ليس لأنظمة التبديل المعتمدة بدول المغرب العربي نفس الوظائف:

للجزائر E10 – AXE 10

لليبيا    EWSD-NEAX61

لموريطانيا      E10

للمغرب E10 B-AXE10-DMS100

لتونس  E10 B-AXE10-EWSD

[30] - لقد كانت تمثل رمز "الاستقلال" والسيادة المسترجعين.

[31] - تحرير أجهزة الاتصالات، منح القطاع الخاص رخص استغلال بعض جوانب المرفق العام كالهاتف العمومي مثلا.

[32] - للمزيد من التفصيل، انظر:

El Yahyaoui Y., Mouvance libérale…, Ouv. Précité.