رؤية جديدة للنقد التاريخي في الأدب
من دائرة التاريخ إلى دائرة السيميولوجيا
تبدو
الكتابة عن النقد التاريخي في هذه الفترة التي تطورت فيها مناهج النقد وكأنها
تراجع إلى الوراء في مجال البحث النقدي، غير أنه ينبغي التمييز بين الدعوة إلى
استمرار التصورات القديمة، وبين العزم على إعادة النظر في واقع النقد التاريخي
العربي والغربي على السواء.
ومقالنا هذا يضع نفسه
بالتحديد في نطاق هذا التصور الثاني. وينطلق من الاعتقاد بأن الضرورة أصبحت ملحة
لإعادة النظر في ممارستنا للنقد التاريخي في مجال الدراسات الأدبية، في ضوء ما حصل
من تطور هائل في مجال العلوم الإنسانية.
عملنا إذن يندرج في حقل
نقد النقد، ولهذا فهو مجبر على أن يتضمن أيضا بعدا إبستمولوجيا. ويقيم هذا المقال
استراتيجيته على أساس فكرة مفادها أن تجاوز الواقع الحالي للدراسة التاريخية للأدب
قديمه وحديثه، يتطلب أولا فهم حدود وإمكانيات هذا النقد، وثانيا اقتراح وسائل
جديدة لإعادة النظر في منهج تاريخ الأدب في ضوء تطور المناهج المعاصرة وما يسندها
من علوم إنسانية.
يقتضي ذلك أيضا أن
نتأمل في الطبيعة الخاصة التي كانت لنقدنا الأدبي التاريخي القديم. ما هي مميزاته؟
وهل كان يتضمن بعض ملامح المناهج التي شهدنا تطورها في بيئات ثقافية مغايرة، وخاصة
في أوربا؟
الخلاصة الجوهرية التي
ينبغي أن يستنتجها قارئ هذا المقال هي أن النقد التاريخي، هو نقد عام تأخذه النظرة
الشمولية التي يراعي فيها امتزاج الذاتي بالموضوع وبالعالم الخارجي. وهذا طموح
كبير عبر عنه النقاد التاريخيون حين تحدثوا عن تلك المهمة الصعبة التي لا يستطيع
مواجهتها إلا الناقد الموسوعي. ونذكر في هذا الصدد أن لانسون مثلا كان يحس بأن عمر
الناقد الواحد لا يستطيع أن ينجز المشروع الكبير للناقد التاريخي. "ولكن ما
يعجز عنه عمر تستطيع أعمار كثيرة أن تقوم به"[i].
هذه الخاصية الموسوعية
الشمولية التي تميز النقد التاريخي سواء عند الناقد العربي أم الغربي ناتجة في
الواقع عن طموح دائم لمعرفة الجزئي الذي هو النص الأدبي في إطار الكلي الذي هو
مجموع العالم، وهي نظرة تاريخية مدعمة بتصور فلسفي يحضر ضمنيا في النقد العربي
ويأتي معلنا في النقد الغربي، مفاده أن الناقد وإن كان فردا، فهو قادر على أن
يمتلك بنفسه معرفة صحيحة بالواقع، وأن النصوص الأدبية هي بدورها تحمل معرفة قائلها
ومضامين فكره إلى جانب مؤثرات المحيط.
هناك إذن ثقة متبادلة
بين الناقد باعتباره قارئا، وبين النص باعتباره ثابت المضامين لأنه متصل مباشرة
بقصدية المؤلف. وعلى هذا الأساس نشأت وثوقية الممارسة النقدية التاريخية، فحين
يحلل الناقد التاريخي المحيط الخارجي الثقافي والسياسي والاجتماعي فما علينا إلا
أن نسلم بتحليله، وحين يقدم لنا صورة عن حياة المبدع فإنها الصورة المثلى الوحيدة
التي ينبغي اعتبارها صحيحة، وحين يستخرج مضامين الإبداع ويصدر حكمه القيمي، فإن
ذلك لا يكون من جانبه إلا عن تبصر. هناك إذن حقيقة ذاتية، وهي رؤية الناقد، في
مقابل حقيقة موضوعية، وهي المحتوى الثابت للنص ولقيمته الفنية. مثل هذا الوضع أنتج
لنا ممارسة تاريخية مفعمة بالتقرير والإلقاء، لأن الناقد التاريخي لا يطرح في
الغالب أي سؤال عن مصداقية رؤيته الخاصة، سواء بخصوص الواقع الذي يفسر به النصوص
أم بخصوص هذه النصوص نفسها، وعليه، يفترض دائما أن على القراء التسليم بمصداقية
الناقد وأنه من حيث المبدأ قادر على بلوغ الحقيقة، وإذا لم يحالفه الحظ في بلوغها
فإنما يرجع ذلك لعارض طارئ يمكن التغلب عليه في محاولة أخرى، أو على يد ناقد آخر
يستفيد من أخطاء سابقيه. يقتضي ذلك كله النظر إلى النص الأدبي باعتباره يحتوي على
مضمون ثابت ووحيد وأن الناقد بما وهب من مهارة في التحليل قادر على بلوغه، وإن لم
يصل إليه فذلك لا يعني أنه غير موجود ولكن لأن مهارته أخطأت الطريق إليه:
"نحن معرضون للخطأ
في فهم وتقدير آراء الأدباء والشعراء، وأفكارهم وأخيلتهم وطرائق تعبيرهم، ما لم
نلاحظ وضعهم في عصورهم وصلتهم بها، وما لم نلم بالمعارف والمذاهب والمقاييس النقدية
والخلقية التي كانت سائدة في تلك العصور والتي كان الأديب أو الشاعر يجاريها
ويعارضها. فآثاره الأدبية خاضعة لكل ذلك على نحو إيجابي أو سلبي"[2].
فبسبب المهمة الصعبة
التي تعترض الناقد وهو يتنقل جيئة وذهابا بين النص والواقع نراه يواجه على الدوام
إمكانية الوقوع في الخطأ، ومع ذلك فلا سبيل إلى الشك في مصداقيته ولا في قدرته
المبدئية على بلوغ الحقيقة الثابتة للنص.
إن تجديد الدراسة
التاريخية في الأدب، أي تغيير النظرة السائدة حتى الآن في أغلب الجامعات العربية
وكذا في أغلب الدراسات المنشورة عن الأدب العربي القديم وكذا بعض الدراسات
التاريخية عن الأدب الحديث، يتطلب إعادة نظر جذرية تطول فكرة وثوقية الناقد،
وفردانية النص الأدبي وثبات حقيقته. فهل يعني هذا إبعاد النقد عن مجال البحث
المعرفي؟
إن السير في طريق معرفي
لا يشترط بالضرورة الانطلاق من مسلمة وهمية وهي أننا قادرون على بلوغ المعرفة
المطلقة أي على الإمساك الفعلي بحقيقة الأشياء.
لقد حاولت بعض المؤلفات
التي عالجت النقد التاريخي العربي خاصة أن تنبه إلى ضرورة تغيير زاوية النظر
القديمة التي تتميز بالنظر الأحادي للعصور الأدبية ودلالات الأعمال وقيمها الفكرية
وقدمت ملاحظات جيدة في هذا المجال تدعو المؤرخ الأدبي إلى أن يدرك مواقف المجتمعات
من النصوص الأدبية اعتمادا على ما يظهر لبعضها من عديد القراءات، فهل الذين يدرسون
النص الأدبي الواحد في عصره يرون فيه ما يراه غيرهم من الذين يدرسونه بعد عصره.
وهل هو عندهم أدبي بموجب فهم واحد ومعايير في تقييم الجمال واحدة. أم يدري فيه أهل
عصره أشياء ويدري فيه أهل غير عصره أشياء"[3].
فهذه فكرة من شأنها
فعلا أن تحدث انقلابا جوهريا في تصورنا للنقد التاريخي، غير أنها قدمت في نطاق
إعادة النظر من الداخل للنقد التاريخي التقليدي نفسه، بمعنى أن الإطار القديم لا
يزال صالحا وأن تجديده قابل لأن يحدث من داخله، هذا ما يجعل محاولة التجديد لا
تفتح الآفاق الكبرى للتحول الذي يحدث الآن فعلا في الممارسات النقدية الحالية التي
تجاوزت الرؤية التاريخية القديمة بالاستفادة من نتائج تطور الأبحاث اللسانية
والسيميائية والإعلاميات الحديثة. وكتاب في تاريخ الأدب، مفاهيم ومناهج، للدكتور
حسين الواد الذي اقتطفنا منه الرأي السابق لا يبدو أنه يحمل على عاتقه اعتبار
المنهج السيميولوجي مثلا بديلا للنقد التاريخي القديم، لأنه يسلم ضمنيا بأن الإطار
القديم صالح، وإنما ينبغي إضافة مهام أخرى لمؤرخ الأدب ومنها دراسة الأعمال
الأدبية في ضوء تغير العصور والقيم. إن إلقاء نظرة على مراجع الكتاب تبين بوضوح
أنه لم يستفد مثلا من أبحاث هانس روبير ياوس وغيره من رواد جمالية التلقي الذين
قدموا بدائل جوهرية عن الممارسة النقدية التاريخية السابقة، وهي بدائل مؤسسة على
معطيات جديدة في المجال المعرفي، لسانية وسوسيولوجية، ونفسية وإعلامية. ولعل الوقت
المبكر الذي نشر فيه حسين الواد عمله في طبعته الأولى (1980) لم يسمح له بالاطلاع
على جميع هذه الآفاق الجديدة. وحسبه أنه تنبه إلى ضرورة التغيير.
إن الإحساس بتقادم
النظرة النقدية التاريخية التي هيمنت في أوربا خاصة خلال القرن التاسع عشر يجد تجسيده
في مؤلفات أخذت على عاتقها محاولة تجديد الرؤية، هكذا اعتبرت النزعة التصورية (Solipsisme) التي ترى أن الأنا وحده هو الموجود وأن الفكر لا يدرك سوى
تصوراته –وهي النزعة التي هيمنت في النقد التاريخي العربي والغربي على السواء- هي
سبب العياء الذي أصاب الدراسات النقدية التاريخية في الوقت الذي أصبحت الحاجة ملحة
إلى مراعاة أطراف "التواصل" الأدبي المختلفة "الكاتب، النص،
القارئ، السياق"[4].
ومن الأفكار التي ينبغي
لكل نقد، يضع نفسه في نطاق التاريخ، أن يتخلص منها: ثنائية الماضي والحاضر،
فالنصوص الأدبية لم تعد حبيسة العصور التي أنتجتها، وعليه فإن استبدال النظرة
التجزئية بالتحليل النسقي (Analyse Systémique) سيعمل على تحيين الأعمال الأدبية في كل عصر حيث تتدخل الخطابات
المختلفة والمؤسسات ومختلف القراء، ووسائل الإعلام في تحديد مقاصد الأعمال الأدبية
في كل زمن. فبالإضافة إلى ضرورة ممارسة التحليل النسقي لا بد من اعتبار الأدب
ظاهرة مميزة بخاصية فرط التعقيد Hyper compléxité[5].
هكذا ينبغي النظر إلى
الأدب باعتباره مجموعة من كل المؤثرات الصادرة عن الأنساق المختلفة حيث يجد كل نسق
الفرصة لأن يسقط نفسه خارج ذاته، لأن الوسيلة الوحيدة الممكنة لتحقيق ذاته هي هذا
الدخول في علاقة مع الخارج. وعليه فكينونته مشروطة بهذه النسقية ذاتها[6].
كان النقد التاريخي
ينطلق من فكرة مفادها أن النصوص الأدبية تتضمن محتوى معرفيا ثابتا وأن ذات الناقد
قادرة على حصره وضبطه بصورة نهائية، في حين أن الأبحاث المعاصرة أشارت منذ منتصف
هذا القرن إلى أن النصوص الأدبية تعبر في الواقع عن حدود معرفة الذات المبدعة في
علاقتها بالأنماط النقيضة للمعرفة لدى الذوات الأخرى، وأن هذه الحدود المعرفية
الذاتية نفسها لا يمكن التعبير عنها أبدا إلا في سياق الحدود المعرفية غير الذاتية
التي يتم إحضارها هي أيضا –بشكل من الأشكال- في النص[7].
ومعنى هذا أن نوعية
تعامل الناقد مع النص هي نفسها معرضة للارتباك بسبب هذه العلاقة التفاعلية التي
يعرضها النص، ذلك أن من طبيعة هذا التفاعل النصي أنه معد، بمعنى أنه ينقل خاصية التفاعل نفسها لكل قارئ
أو ناقد أراد أن يحصر مدلوله، إذ يدخله هو نفسه في خضم ذلك التصادم للقيم ليصبح
طرفا من أطرافه، إذن فهو حين يحدد مدلولا ما للعمل الأدبي إنما ينحاز في نهاية
الأمر إلى أحد عناصر التفاعل التي يعرضها النص أو أنه يخلق وهمه الخاص انطلاقا من
الاندماج الذي يحصل له مع النص، وهذا الاندماج لا يحصل إلا بفعل ثقافته، فهي تحدد
له موقعا خاصا ضمن عالم التفاعلات التي يولدها النص ذاته.
æíãßä
ÇáÞæá ÈÃä
ÇáÏÑÇÓÉ
ÇáÊÇÑíÎíÉ
ÇáÌÏíÏÉ
ÇáãÞÊÑÍÉ
ßÈÏíá áãÇ
ÓÈÞ ÞÏ
ÇÒÏÇÏÊ ÇÞÊÑÇÈÇ
ãä ÇáÈÍË
ÇáãÚÑÝí¡
áÃä ÇáÞæá –Ýí
ÅØÇÑ ÇáäÞÏ
ÇáÊÇÑíÎí
ÇáÓÇÈÞ-
ÈÇáØÇÈÚ ÇáÃÓÇÓí
áãÚÑÝÉ
ÇáäÇÞÏ
æÈËÈÇÊ
ÇáÍÞíÞÉ ÇáÃÏÈíÉ
Ýí ßá äÕ¡ åæ
ÊÕæÑ
"ÅØáÇÞí" áÇ
íÞÊÑÈ ãä
ÇáÈÍË
ÇáãÚÑÝí
ÈÞÏÑ ãÇ
íÈÊÚÏ Úäå¡
Úáì ÎáÇÝ
ÇáÞæá ÈÃä
ÇáÍÞíÞÉ
ÇáÃÏÈíÉ
–ßãÖãæä æßÞíãÉ
ÝäíÉ- íÔÊÑß
Ýí ÕäÚåÇ
ÞÑÇÁ ÇáäÕ ÇáãÊÚÇÞÈæä
Ýí ÓíÇÞ ÌÑíÇä
ÇáÍÑßÉ
ÇáÊÇÑíÎíÉ¡
æÃä ßá ÊÃæíá
Ãæ Íßã ÃÏÈí
ÅäãÇ åæ
ãÍÇæáÉ
äÓÈíÉ áÈáæÛ
ÇáÍÞíÞÉ¡
ãÑåæäÉ
ÈÙÑæÝ
ÇáãßÇä
æÇáÒãÇä
æÇáÔÑæØ
ÇáËÞÇÝíÉ
ááÞÑÇÁ
æÇáäÞÇÏ.
النقد التاريخي الجديد
المقترح هو ذلك الذي شيدت معالمه السيميولوجيا المعاصرة دون أن تصرح بأنها بديل عن
النقد التاريخي القديم، واقترحته جمالية التلقي مباشرة كتصحيح لهذا النقد الذي لم
يعد يساير التطور المعرفي المسند بالمعرفة السيكولوجية واللسانية والاجتماعية
المعاصرة. هذا النقد التاريخي الجديد يتطلب ناقدا لا يرى إمكانية إدراك حقيقة النص
الأدبي في ذاته ولذاته، لأن النصوص الأدبية لا يتم التعرف إليها إلا في جريان
تاريخ تفاعلها مع القراء، وعليه فحقيقتها ليست معطاة سلفا، إنها في طور التأسيس
دائما لأنها متطورة. لم تعد مهمة المؤرخ الأدبي هي أن ينطلق من ذاته لدراسة
الأعمال الأدبية في ارتباطها بالتاريخ ولكن أن يتتبع كملاحظ حذق نتائج التفاعل بين
هذه الأعمال والقراء المتعاقبين في التاريخ، وبإمكانه بعد ذلك أن يقدم قراءته
الخاصة باعتبارها قراءة واحدة من تلك القراءات المتعاقبة لا غير.
ولا بد أن نستحضر في
هذا الصدد بعض المفاهيم التي يجب إدخالها إلى النقد التاريخي العربي، ومنها مفهوم أفق
الانتظار[8]. فإذا
أردنا أن ندرس نصوص شاعر أو روائي عربي فيلزم أن نسعى إلى التعرف كيف تم تلقي هذه
النصوص في مرحلة ظهورها كخطوة أولى، وننظر هل استقبلت كنصوص مستجيبة للتصورات التي
كانت مهيمنة في ذلك العصر على القراء، أم أنها جاءت لتكسر المعيار السائد، بمعنى
هل استجابت لأفق انتظار القراء أم أنها خيبت توقعاتهم، على أن هناك حالة أخرى أكثر
فائدة بالنسبة للواقع الثقافي لكل عصر، وهي أن تكون النصوص قد عملت على
"تغيير أفق انتظار القراء" وسيدلي حتما هذا الصنف من القراء الذين تغير
أفق انتظارهم بما هي العناصر الجديدة التي عملت على حصول التغيير.
وبإمكان الخطوة
الثانية، وهي تعقب ردود أفعال القراء لنصوص محددة خلال عصور متوالية، أن تقدم
للناقد التاريخي "الجديد" صورة متكاملة عما يدعوه "ياوس" بـ: اندماج
الآفاق؛ فهذا المفهوم هو الذي يحدد بصورة أوضح نموذج الدراسة التاريخية التي يراد
منها أن تكون جديدة بالفعل. إنها ستستبدل العرض التراكمي للنصوص في جريان التاريخ
كما يتصوره الناقد بوصف متتاليات تفاعل القراء مع النصوص في جريان التاريخ. ستبين
مثل هذه الدراسة كيف تطورت آفاق انتظار القراء وما هي الأجوبة التي قدمها نص ما عن
أسئلة قراء كل عصر. هذه الرؤية لن تقدم لنا حقيقة النص في ذاته ولذاته إنها ستقدمه
لنا في لحظات تفاعله مع القراء، لأنه يمارس تأثيره عليهم وهم يعيدون في نفس الوقت
إنتاجه لأنهم يؤولونه وفق تصورات عصرهم.
åÐÇ ßáå
íÄßÏ Ãä
ÊÇÑíÎ ÊØæÑ
ÇáÃÏÈ åæ
ÚÈÇÑÉ Úä
"ãäÚØÝÇÊ
ÊÇÑíÎíÉ"
ÊÃÊí
ÈÇáÌÏíÏ Ýí
ÇáÝäæä
ÇáÃÏÈíÉ ããÇ
íÓÊÏÚí
ÈÇáÖÑæÑÉ
ÞÑÇÁÉ ÌÏíÏÉ
ááäÕæÕ ÇáÓÇÈÞÉ
ÈÍßã ÊÛíÑ
ÇáÓää
æÇáãÚÇííÑ.
ÃãÇã
åÐå ÇáÑÄíÉ
ÇáÌÏíÏÉ
íÊÈíä áäÇ Ãä
ãÍÇæáÉ
ÇáäÇÞÏ
ÇáÊÇÑíÎí
"ÇáãÃáæÝ
ÍÊì ÇáÂä" ÅÌåÇÏ
äÝÓå Ýí
ÞÑÇÁÉ äÕ
ÃÏÈí ÍÏíË Ãæ
ÞÏíã¡ æåæ
ÑÇÓÎ
ÇáÇÚÊÞÇÏ
ÈÃäå íÞÏã
áäÇ ãÚäÇå ÇáæÍíÏ
ÇáÐí ßÇä áå
æáÇ íÒÇá¡
ÅäãÇ åí
ãÍÇæáÉ
ÚÈËíÉ¡ ÍÊì
æÅä ÇÓÊÚÇä
Ýí Ðáß
ÈÇáãäÇÓÈÉ
æÈÇáÙÑæÝ
ÇáÊí ÃÍÇØÊ
ÈÇáäÕ. Åäå áÇ
íÚáã Ãä ßá
åÇÊå
ÇáÃÔíÇÁ ÈãÇ
ÝíåÇ ÇáäÕ
æÍíËíÇÊå¡
áÇ ÊÞÑà ãä
ÞÈáå –ÈÍßã
ÊÃÎÑå Ýí
ÇáÒãä- ÅáÇ ãä
ÒÇæíÉ äÙÑå
ÇáÌÏíÏÉ
ÈÇáÖÑæÑÉ.
لا بد أن نميز في وقتنا
الحالي بين قراءة الأدب، أي بين كوننا قراء متخصصين للأدب أو قراء عاديين، وبين
كوننا نريد أن نحتفظ لأنفسنا بمكانة النقاد التاريخيين، فبلوغ مثل هذه الدرجة
اليوم لم يعد في متناول الجميع، ذلك أنه يجب علينا في هذه الحالة أن نتخطى كوننا
مجرد قراء أو نقاد للأدب يعتقدون بأنهم يقرؤون القراءة الوحيدة الممكنة، فمثل هذا
المستوى الآن لم يعد –في نظرنا- خاصا إلا بجمهور القراء أو بالنقاد الهواة
المندمجين(*) أما
المستوى المعرفي للقراءة فيتطلب أن ننتقل إلى حقل القراءة الواعية بخطواتها أي تلك
التي يعرف صاحبها أنه لا يفعل شيئا سوى أنه يقرأ كيف تقرأ النصوص أو كيف قرئت
وتقرأ الآن. وهذا لا يعني أنه ليس من حقه أن يقرأ هو أيضا قراءته الخاصة، فبإمكانه
أن يفعل ذلك، ولكنه سيكون واعيا بأن قراءته ليست إلا نمطا واحدا من القراءات
المتعاقبة للنص، وإنها لا تجسد كل الحقيقة، وإنما تعبر عن لحظة اندماجه الخاص. إن
الفرق الأساسي كامن في الوعي بأننا نعبر عن ردود أفعالنا نتيجة اندماجنا الخاص مع
النص، أما الناقد الهاوي "المبدع" فهو لا يتنازل أبدا عن ادعائه بأنه
يقول "الحقيقة" أو أنه على الأقل يقول ما ينبغي أن يقال عن النص الأدبي
أو ما كان ينبغي أن يقال.
áã íßä
ãÄÑÎ ÇáÃÏÈ
ÓÇÈÞÇ
íÊÓÇÁá ÃíÖÇ
Úä ãÏì ÕÍÉ
ÇáãÚáæãÇÊ
ÇáÊí íÞÏãåÇ
Ýí ãÇ ßÇä íÏÚæå
ÚÇÏÉ "ÇáÝÑÔ
ÇáÊãåíÏí
ÇáÊÇÑíÎí"¡
æßÇä íÌãÚ
Ýíå Èíä ÇáãÚØíÇÊ
ÇáÓíÇÓíÉ
æÇáÇÌÊãÇÚíÉ
æÇáËÞÇÝíÉ¡
æÐáß
áÇÚÊÞÇÏå
ÇáÑÇÓÎ ÈÃäå
íÚíÏ ÈäÇÁ
ÇáÕæÑÉ
ÇáÍÞíÞíÉ
ááæÇÞÚ.
æßÇäÊ ËÞÊå ÇáßÈíÑÉ
ÝíãÇ íÔíÏå
ÊÌÚáå íäÊÞá
ãÈÇÔÑÉ Åáì
ÊÝÓíÑ
ÇáÙæÇåÑ
ÇáÃÏÈíÉ Ýí
ÖæÁ Êáß ÇáãÚØíÇÊ
ÈØÑíÞÉ
ÂáíÉ:
المنهج التاريخي هو
الذي يتخذ من حوادث التاريخ السياسي والاجتماعي وسيلة لتفسير الأدب وتحليل ظواهره
وضوابطه…"[9].
النقد التاريخي المألوف
لدينا الآن في العالم العربي، هو من هذا النمط بالذات، فهو لا يكتفي بادعاء
استخراج المعنى الوحيد للنص الأدبي بل يعطينا أيضا صورة الإطار الذي ينبغي أن ننظر
من خلاله إلى هذا النص، وهو بذلك يهيئ لنا مجموع الحقيقة، حقيقة التاريخ وحقيقة
النصوص الأدبية دفعة واحدة، وما علينا إلا أن ننصت إليه ونسلم بأحكامه.
ولا يعني هذا أن كل ذلك
الركام من الدراسات التاريخية للأدب في العالم العربي لم يكن له طائل، بل على
العكس من ذلك، فقد كانت هذه المرحلة ضرورية في النقد، وهي مرحلة اعتداد بالذات
الناقدة في وقت لم تكن قد تطورت فيه مختلف الجوانب الأساسية للممارسة النقدية التي
احتضنها النقد التاريخي نفسه، ونقصد بذلك المعالجة النفسية للأدب وقد تطورت –فيما
بعد- مع ظهور التحليل النفسي وجنحت إلى الاستقلال، والتحليل البلاغي الذي استقل هو
أيضا لاحقا في شكل منهج آخر بفضل اللسانيات وهو المنهج البنيوي، وأخيرا المعالجة
الاجتماعية التي تطورت بفضل تقدم الأبحاث السوسيولوجية الحديثة.
هكذا وجد المنهج
التاريخي نفسه في لحظة من اللحظات وقد فقد رعاياه ولم تعد له قدرة على الاستمرار
بالصورة السابقة.
والعودة الآن إلى
التاريخ بصيغة جديدة هي في الواقع تقدم إلى الأمام وليست رجوعا إلى الخلف. فعالم
النقد التاريخي قد استفاد من انفصال تخصصاته الداخلية الثلاثة، وحينما استكملت هذه
نضجها بعيدا عن وصايته عادت لتلتئم من جديد في أشكال مختلفة من النقد يدعوها
بعضهم:
سوسيولوجيا النص
الأدبي، والبعض الآخر يسميها التداولية وآخرون يدعونها سيميولوجيا، أو جمالية
التلقي. وليست هذه جميعا سوى تحولات في النقد التاريخي القديم.
إن تاريخ النقد العربي
يؤيد هذا المسار الذي رسمناه ويعزز مصداقيته. ذلك أن النقد التاريخي العربي القديم
كان في نظرنا شبيها بوضع الفلسفة الإغريقية التي كانت تقوم بدور حاضن العلوم، وهذا
يعني أن الفلسفة كانت بمثابة علم للمعرفة الكلية. إن التاريخ هو الذي قام بهذا
الدور عندنا وإن كانت هذه الصورة لم تظهر بشكل أوضح إلا في وقت متأخر، ويكفي إلقاء
نظرة على مقدمة ابن خلدون التاريخية لكي نتأكد من هذه الحقيقة، فالتاريخ بمفهومه
العام هو حاضن الحقيقة الكلية، حقيقة المجتمع ونشاط الناس وكذا جميع أشكال
المعتقدات والعلوم التي آمنوا بها وأنتجوها.
إن النقد التاريخي
العربي القديم كان يحتضن في ذاته: معطيات اجتماعية لها علاقة بحياة الجماعة أو
القبيلة أو الدولة وكذا حياة المبدع نفسه، ومعطيات ذاتية لها علاقة بنفسية الشاعر
أو الخطيب أو السامعين أو ذوق الناقد، ومعطيات نصية تتجلى في احتضان النقد
التاريخي لمقاييس الضبط النحوية، والعروضية والبلاغية. كان الناقد العربي حينما
ينظر إلى الأدب لا ينظر إليه أبدا منفصلا عن العالم الواسع الذي يوجد فيه. ونظرته
التاريخية للأدب تعكس طموحه لاستيعاب ما هو كوني من خلال ما هو جزئي. وهذا الموقف
بقدر ما يعبر عن طموح معرفي يعبر في نفس الوقت عن إحساس لا شعوري بفقر الأدوات
الكافية للمعرفة التي هي في متناوله، وحينما لا تسعف الظواهر الأدبية في علاقتها
بالواقع في أن تقدم حقيقتها من خلال بنياتها الخاصة، فإن الذات تعمل على تولي
الأمر وتجميع مكونات هذا العالم وتسليط الضوء عليها من الذات، ذات الناقد نفسه،
فهو الذي يقدم صورة الواقع، وهو الذي يقدم صورة الأدب من خلال ذوقه وانطباعاته
الخاصة.
هذا لا يعني مع ذلك أن
الممارسة النقدية التاريخية العربية لم تكن سائرة في طريق التطور أي في طريق منح
الاستقلال لمكوناتها الأساسية كي تحصل على هويتها بعيدا عن هيمنة النظرة الذاتية
الكلية؛ غير أن هذه المكونات بدأت في الاستقلال والتطور بشكل غير متكافئ. فقد
استطاعت البلاغة مثلا أن تفرض نفسها في الساحة النقدية العربية القديمة، بينما لم
يتطور كثيرا الجانب التاريخي الخالص ضمن الممارسة النقدية التاريخية نفسها بسبب غياب
نظريات تاريخية في مراحل نهضة الأدب وفي ذات الوقت غياب نظريات اجتماعية فهذا لم
يظهر إلا في وقت متأخر مع ابن خلدون كما ألمحنا سابقا.
إذن كان من المفروض أن
ينفصل النقد الاجتماعي مثلا ويستقل بعالمه الخاص ولكن ذلك لم يحدث بسبب ما ذكرنا.
وكان من المفروض أن يستقل التأمل السيكولوجي، وهذا لم يحدث أيضا بسبب عدم قيام
معرفة نفسية منهجية، فقيام هذه المعرفة حتى في أوربا تأخر إلى بداية القرن العشرين
مع التحليل النفسي بشكل خاص. ولكن ما الذي دعا إلى تطور البلاغة العربية باعتبارها
علما منهجيا لمعالجة النص الأدبي، لا شك أن العلم بالشعر لعب دورا كبيرا في هذا
المجال فبسبب التطور الحضاري الذي حصل في البيئة العربية وبسبب الاستفادة أيضا من
الأرسطية ونظرا لوجود ظواهر شعرية قابلة للوصف والتنظيم عرفها الشاعر والناقد على
السواء منذ وقت مبكر، حتى من خلال الشعر الجاهلي، فقد توفرت الظروف الملائمة لظهور
وتطور البلاغة وبالتالي حصول استقلالها عن النقد التاريخي العام. ويمكن تمثل واقع
النقد العربي من خلال الخطاطة التالية:
النقد
النفسي
النقد التاريخي . . . . . . . . .
هناك إذن تقدم واضح
للبلاغة على النقد النفسي والاجتماعي في تاريخ النقد العربي، وهذا يعني بكل وضوح
أن المعرفة البنائية بالنصوص الشعرية والخطابية وبالرسائل كانت أنضج من المعرفة
بالدوافع النفسية وتمظهراتها في الأدب، وكذلك أنضج من المعرفة بالخلفية الاجتماعية
والتاريخية، وقد قلنا سابقا أن نظرية ابن خلدون التاريخية (الاجتماعية) جاءت
متأخرة ولذلك لم يستفد منها النقد الأدبي. ولو كانت موجودة قبل هذا التاريخ (وهذا
لم يكن ممكنا على أية حال) فإن النقد الأدبي سيتمكن من تطوير فرعه الاجتماعي بشكل
أنضج.
ما الذي حصل في عصر
النهضة. فبغض النظر عن إحياء النقد البلاغي واللغوي من قبل بعض النقاد الذين لم
يكن لهم حظ كبير من المعرفة الحديثة، فإننا وجدنا المنفتحين على الثقافة الأجنبية
يتأثرون بالنظريات النفسية والاجتماعية والتاريخية على السواء. وبذلك بدأ تطوير
الرصيد النقدي العربي في جميع الاتجاهات، ما نلاحظه فقط هو أنه كان هناك تطوير
متسارع في جانبي النقد الاجتماعي/التاريخي، والنقد النفسي بينما تباطأ أو على
الأصح وقف تحرك النقد البلاغي عند مسألة الأحياء لأنه لم يكن من الممكن إضافة شيء
جديد بعد أن كان العرب قد قدموا أقصى النتائج في هذا العلم الذي كان متطورا عندهم.
كان لا بد من انتظار الثورة التي أحدثتها اللسانيات في البلاغة الغربية والتي ظهر
على إثرها الاتجاه البنيوي لكي تبدأ التأثيرات المعاصرة في التسرب إلى النقد العربي،
ولتبدأ أيضا إعادة النظر في البلاغة نفسها في اتجاه الأسلوبية.
جميع الاتجاهات النقدية
تطورت منفصلة عن بعضها البعض من جهة وعن جذعها الأساسي الذي كان هو النقد التاريخي
من جهة ثانية. وحينما نضج المنهج النفسي ليصل إلى مستوى نضج البلاغة –سواء في
العالم العربي أم في الغرب- وجد نفسه هو كذلك أمام اللسانيات، فبدأ تغيير أطروحاته
من جديد. وكذلك الشأن بالنسبة للنقد الاجتماعي فحين تطور مع النظريات السوسيولوجية
وخاصة المادية الجدلية وجد نفسه أيضا أمام اللسانيات ليعيد النظر في برامجه
الأساسية. هذه القاعدة اللسانية المشتركة هي التي جعلت كل المناهج تعود أدراجها
لتلتقي من جديد بعد أن اكتمل نضجها ولتلتئم في إطار السميولوجيا التي هي في الواقع
البديل الطبيعي للنقد التاريخي القديم، فالسيميولوجيا باعتبارها علما للدلائل في
الحقلين الاجتماعي والنفسي تتخذ طابع العلم "الشمولي". لكنه ذلك العلم
الذي لا يدعى أبدا أنه قد وصل بالفعل إلى هذه الشمولية ولكنه يؤكد أنه سائر نحوها
على الدوام، وهذا ما يعني تغييرا دائما في النتائج على ضوء المعطيات الجديدة،
وهكذا دواليك. كل الأشكال النظرية والنقدية التي ظهرت بعد السبعينات من هذا القرن
أو قبلها بقليل، مثل التداولية، سوسيولوجيا النص، جمالية التلقي، السميائيات
الدلالية… الخ لها هذا النزوع للاستفادة المشتركة من المعطيات البنائية التي هي
وريث البلاغة والمعطيات النفسية والتحليلية النفسية، والمعطيات السوسيولوجية على
قاعدة واحدة أساسية هي اللسانيات. هكذا بعد ظهور هذه القاعدة اتجهت جميع المناهج
نحو الالتقاء من جديد في دائرة واحدة أساسية ندعوها السميولوجيا. ونتصور واقع هذا
التطور الذي حصل منذ هيمنة الدائرة التاريخية إلى هيمنة الدائرة السميولوجية كما
يلي:
هل سيعاد فتح الدائرة
السيميولوجية من جديد. نظن أن هذا سيكون أمرا أكيدا، ولعل الخط التطوري المرشح
لإعطاء انطلاقة هذا الفتح هو الخط الأوسط لأن الدراسات النفسية أخذت تبتعد عن
الفرضيات المتعلقة بالتحليل النفسي وعلم النفس العام عندما اقتحمتها اللسانيات
وبعد ذلك الإعلاميات وما اتصل بها من أبحاث في نطاق الذكاء الاصطناعي، ثم ما يحصل
في موازاة ذلك من أبحاث في البيولوجيا وخاصة طبيعة اشتغال الجهاز العصبي المركزي
(= الدماغ) لدى الإنسان. كل هذا التطور الهائل في الإعلاميات والبيولوجيا سيقدم
كشفا لأسرار جديدة متعلقة بطبيعة تفكير الإنسان وكذلك كيفية بنائه للإنساق الرمزية
ومنها الأدب. وعليه فإن الدائرة السميولوجية ستفتح من جديد على الشكل التالي أو
أنها قد انفتحت فعلا هكذا:
البنى الخطاطية للنصوص
السيميولوجيا الذكاء الاصطناعي (الخطاطات الذهنية)
جمالية التلقي (خطاطات
القراء)
سيكون بديل البنيوية في
هذا الانفتاح الجديد هو الاهتمام بالبنى الخطاطية للنصوص الأدبية المدروسة
باعتبارها بنى دينامية مهيأة على الدوام للتفاعل مع بنى أخرى تدخل معها في علاقة
جدلية كبنى القراء الذهنية، وبنى النصوص القديمة والمعاصرة بانتماءاتها المختلفة
لشتى الحقول الفكرية.
أما بديل سوسيولوجيا
النص فهو الاهتمام بخطاطات القراء في إطار ما يدعى بجمالية التلقي، وإن كنا نلاحظ
هنا أن التقارب قد بدأ يحصل بين ما هو سوسيولوجي وما هو سيكولوجي. ذلك أن بديل
النقد النفسي اللساني سيكون مهتما بالخطاطات الذهنية للمؤلفين من خلال تجسدها في
النص. وعلى العموم يمكننا أن نلاحظ بأن القاعدة الأساسية الكبرى التي سيتطور عبرها
هذا الانفتاح الجديد هي قاعدة الإعلاميات، وهو ما ينبئ باقتحام عالم النقد عصرا
جديدا يرتكز على نتائج العلوم الجديدة واكتشافاتها المذهلة وخاصة ما يتعلق منها
بدراسات الذكاء والعلاقات المعقدة القائمة بين ما هو نفسي وذهني، بما هو بيولوجي
وفيزيولوجي.
ويمكننا أن نلاحظ منذ
الآن أن بعض التوجهات النقدية التي لها علاقة واضحة مع الحقل السميولوجي مثل
جمالية التلقي –وخاصة عند الباحث الألماني: فولفغانغ إيزر -تستفيد بشكل مباشر من
أبحاث علم النفس المهتمة بعمليات الذهن التي تجري أثناء القراءة والفهم والتفاعل
مع النصوص. ورغم أن السيكولوجيا التي اعتمدتها كانت لا تزال لها علاقة واضحة مع
التحليل النفسي إلا أنها في الواقع اتجهت بشكل واضح نحو علم النفس التجريبي لتركيز
الاهتمام على عملية استيعاب المعلومات عند المتلقي والمبدع على السواء. هكذا رأينا
استفادة إيزر من نورمان هولاند الذي يرى ضرورة الانطلاق من فكرة أن الأدب هو أولا
وقبل كل شيء تجربة، وأن النصوص أيضا هي تجارب مبرمجة[10]. وصحيح أن
إيزر ينتقد هولاند في كثير من تفاصيل نظريته ذات الصلة أيضا بالأفلاطونية
وبالنظرية العاطفية عند: أ.أ.ريتشاردز، إلا أنه يعتقد في نهاية المطاف أنها كانت
أول نظرية أولت اهتماما كبيرا بدراسة التجاوبات الأدبية[11]. وكذلك
الشأن كان في تعامله مع نظرية سيمون ليسر.
ويبدو لنا أن نقد الأدب
سيكون قدره مرتبطا على الدوام بهذا التراوح بين محاولة استيعاب الظاهرة الأدبية في
جميع جوانبها: النصية (اللسانية) والسيكولوجية والاجتماعية دفعة واحدة، والانتقال
أحيانا إلى الاهتمام بحقل واحد من هذه الحقول، لكشف أسرار جديدة، لأن مثل هذا
التركيز المستقل على حقل واحد هو الذي مكن النقد من تطوير أدواته. ولكن الحنين
يعاود النقاد على الدوام إلى إعادة النظر في كل شيء وتجميع الحقول المختلفة من أجل
تفسير شمولي لمختلف عناصر الظاهرة الأدبية، وهكذا دواليك.
ولعل السبب الأساسي في
هذا التراوح بين الشمول والتجزيء راجع إلى أن طبيعة الأدب الرمزية تجعله في موقع
توسطي بين الذات المبدعة والعالم. وأن التفاعل معه أو تأويله يقتضي بالضرورة
تراوحا بين الاهتمام ببنيته ومنتجه والواقع الذي ظهر فيه.
وقد تبين من الخطاطة
الأخيرة أن دائرة السيميولوجيا أخذت هي نفسها تشهد انفتاحا جديدا على غرار انفتاح
دائرة التاريخ، وأنه رغم احتفاظ جميع هذه المحاولات الانفتاحية بمعطيات القاعدة
اللسانية فإن هذه القاعدة نفسها توسعت بمعطيات جديدة أحدثت ثورة في عالم المعرفة
الحديث، ونقصد بذلك الإعلاميات. هكذا تحول المفهوم البنيوي المؤسس على قاعدة
اللسانيات إلى مفهوم بنيوي خطاطي بتأثير الإعلاميات، وتحول التحليل النفسي اللساني
عند لاكان على سبيل المثال، وذلك في إطار علم النفس التجريبي، إلى دراسة الخطاطات
الذهنية للمبدع، واستفادت الدراسات السوسيولوجية من نفس الخلفية الإعلامية للبحث
في تفاعل القراء بخطاطاتهم الخاصة مع خطاطات النصوص، وذلك في نطاق جمالية التلقي
(نموذج فولفغانغ إيزر على الخصوص).
ما ألاحظه شخصيا من هذا
التطور الحاصل منذ الدائرة التاريخية إلى الدائرة السيميولوجية هو أن النقد الأدبي
يتطور دائما –ولعله سيبقى كذلك ما بقي الإنسان على وجه الأرض باحثا ومبدعا في
ثلاثة اتجاهات: اتجاه البحث في البنى الأدبية واتجاه البحث في البنى الخاصة
بالمبدع، واتجاه البحث في الخلفيات الاجتماعية والتاريخية، وأن هذه الاتجاهات
الثلاثة خرجت من دائرة واحدة كانت هي دائرة التاريخ لتنتقل إلى دائرة أخرى هي
دائرة السيميولوجيا وستعيد هذا الخروج والالتقاء في دوائر أخرى مستقبلا لا نعلم
الآن إلا ملامح الدائرة القادمة منها. وعندما تتم الكشوفات الإعلامية بناء أنساقها
الخاصة على غرار ما حصل في الأنساق اللسانية، سيتبين التطور أكثر.
إن ذلك الانفتاح
المروحي الذي ينطلق متحررا من الدوائر المذكورة لا يحدث إلا بفضل تطور العلوم
الإنسانية. ولذلك لا نتصور أبدا أية إمكانية لتقدم النقد الأدبي بدون هذا التطور
الحاصل في العلوم الإنسانية وما يصاحبهمن تطور في العلوم البحتة، هذا ما يفسر كيف
أن العالم العربي عاجز عن تطوير النقد تلقائيا من الإمكانيات الذاتية الثقافية
بسبب تخلف البحث في العلوم الإنسانية والعلوم البحتة، لذلك نجد جميع المحاولات
السائرة في سبيل هذا التطوير، لا تستغني أبدا عما هو موجود خارج العالم العربي من
نظريات وأبحاث متقدمة. ونعود الآن إلى مسألة أساسية أخرى لا بد من توسيع مجال
مناقشتها، وهي أنه إضافة إلى أن السيميولوجيا حدت من غلواء النزعة الإطلاقية التي
كان النقد التاريخي يدعيها، فإنها أيضا جعلت المعرفة الشمولية طموحا وليس واقعا
معاشا، فضلا عن أن الفرد ليس له إلا دور تقديم تصور ما من التصورات الممكنة
للظاهرة الأدبية المدروسة، بمعنى أن هذه المعرفة التي تبنى لها طابع تذاوتي، فمهما
تسلح السميائي بالمؤهلات اللسانية والسيكولوجية والسوسيولوجية فإنه في نهاية
المطاف سيقدم في تحليله، نتيجة تفاعله مع النصوص التي هي ذات طبيعة بنائية دينامية
قادرة على تقديم اقتراحات دلالية متعددة في نفس الوقت. وكلها قد يعاد تقديمها من
قبل القارئ المتخصص بشكل مبرر ومسند ببنيات نصية نسقية. وأغلب الأبحاث التي كتبها
الناقد الإيطالي أمبيرتو إيكو تسير في هذا الاتجاه، وهي بالتأكيد أبحاث سيميوطيقية
بامتياز، وفيها تشعر بحضور الحس الاجتماعي والتاريخي، ولكن في اندماج تام مع
الأرضية اللسانية والسيكولوجية، كما أن جمالية التلقي أولت اهتماما كبيرا للتعاقب
التاريخي للقراء ثم للقراءة الفردية الآنية على السواء.
إن الذات الناقدة –في
نطاق السيميوطيقا أو جمالية التلقي- تعلم أن معرفتها بالوقائع الأدبية ليست مطلقة
وإنما هي نسبية، تطمح على الدوام إلى الشمولية ولا تصلها. فالناقد خاضع في
تحليلاته للنصوص الأدبية، لثقافته الخاصة ولرؤيته للعالم ولموقعه في الواقع، بمعنى
أنه محكوم باللحظة التاريخية التي يجرى فيها هذا الاتصال مع النصوص. على أن هناك
تفاوتا معرفيا أيضا بين ناقد مطلع وقارئ عادي. فدائرة تفاعل وتأويل الناقد العارف
ستكون أنضج من دائرة تفاعل وتأويل القارئ العادي[12].
الجانب الثاني الذي
ينبغي إعادة النظر فيه بخصوص النقد التاريخي(*) هو فكرة
وحدانية المضمون الأدنى، فبحكم أن النص الأدبي وليد ظروف محددة وأنه تتعاقب عليه
بعد ذلك مراحل تاريخية، فإنه معرض لأن يفقد دلالته القديمة وهذا لا يحدث فقط من
الخارج، أي من قبل القراء ولكن يحدث أيضا من داخل النص نفسه، لأن بنياته اللغوية
ونظامه الداخلي ونوعية تسنينه لا يصبح لها نفس التأثير في سياقات ثقافية ولغوية
مغايرة لسياق نشأته. هكذا تتغير قواعد التسنين ودلالات الكلمات نفسها من عصر إلى
عصر.
وقد قاد هذا الواقع إلى
القول –في ظل نظرية التلقي بالخصوص- إلى أن النص الأدبي ليس له محتوى ثابت، وأنه
لا يكفي إجهاد النفس لاستخراجه منه، فالنص لا يعطي أي شيء من تلقاء نفسه وهو لا
يشرع في أن يكون له معنى إلا عندما يدخل في علاقة تفاعل مع قارئ ما في عصر ما.
وهذا يعني أن المناهج الحديثة لا تهمل أبدا التأثير الحاسم الذي يحدثه تطور
التاريخ في البنيات اللسانية والسيميوطيقية للنصوص.
حقيقة النتاج الأدبي
إذن لا تكمن في النص وحده ولا عند المتلقي ولا عند المؤلف، فهناك بصمات المؤلف،
وهناك المعطيات البنائية النصية التي تتغير احتمالات ودرجات تأثيرها في كل عصر،
وهناك أخيرا نوعيات القراء المتعاقبين على النص في جريان التاريخ.
هذه النظرة التاريخية
الجديدة لا تتحدث فقط عن التغير الدائم في مضامين ودلالات النصوص الأدبية بل هناك
أيضا تغير دائم في قيمها الجمالية عبر العصور، فقيمة الأعمال الأدبية وخصائصها
الأسلوبية ليست ثابتة كما كان يعتقد وإنما هي خاضعة أيضا لما يحدث من تغيرات في
القيم الثقافية والجمالية في كل عصر كما أنها خاضعة لنوعية استجابة القراء.
لا يوجد الموضوع
الجمالي –حسب فولفغانغ إيرز- في النص الأدبي ولا عند القارئ بل في نقطة التقاطع
بينهما.
هذه النظرة الجديدة هي
القادرة في نظرنا على خلق تطور جذري في طرائق دراسة الأدب سواء في معالجته
التحليلية التزامنية أم في مقاربته الزمنية التاريخيةn
[i] - لانسون:
(منهج البحث في تاريخ الآداب)، ضمن كتاب د.محمد مندور النقد المنهجي عند العرب،
دار نهضة مصر للطباعة والنشر (دون سنة الطبع)، ص422. وكلامه هنا لا ينفي أبدا
فردية المعرفة، فالفرد قادر على بناء المعرفة إلا أن عمره قد يحول دون إتمام عمله
لذلك يأتي أفراد آخرون لإتمامه.
[2] - د.عبد
العزيز عتيق: في النقد الأدبي، دار النهضة العربية، بيروت، ط2، 1972، ص290.
[3] - انظر
د.حسين الواد: في تاريخ الأدب، مفاهيم ومناهج، المؤسسة العربية للدراسات
والنشر، بيروت، ط2، 1993، ص310.
[4] - Clément Moisan : Qu’est-ce que l’histoire
littéraire, P.U.F, 1987, p233.
[5] - Clément Moisan : Qu’est-ce
que l’histoire littéraire, P.U.F, 1987, p234-135.
[6] - Ibid, p237.
[7] - Pierre Marcherey :
Pour une théorie de la production littéraire, Maspero, 1974, p150-151.
[8] - معلوم أن
الناقد الألماني هانس روبيرت ياوس هو الذي أدخل هذه المفاهيم إلى حقل الدراسات
الأدبية التاريخية وشرح دلالاتها في كتابه:
Pour une esthétique de la réception,
Gallimard, 1978.
وقد
طور آراءه ومثل لها في كتاب آخر:
Pour une Herméneutique littéraire, Gallimard,
1988.
انظر تلخيصا مركزا لأهم مصطلحات ياوس في مقال
أحمد أبو حسن: (نظرية التلقي والنقد الأدبي العربي الحديث)، ضمن كتاب نظرية
التلقي، إشكالات وتطبيقات، كلية الآداب، الرباط، 1991، ص11-39.
(*) نقصد بالمندمجين، أي الراسخي الاعتقاد بأن
وسائلهم المعرفية وتصوراتهم كفيلة وحدها بإيصالهم إلى عين الحقيقة.
[9] - د.عبد
العزيز عتيق: في النقد الأدبي، مرجع مذكور، ص288.
[10] - Wolfgang Izer: The act of
[11] - Ibid, p45.
[12] - انظر
مقالنا: (مستويات التلقي)، مجلة دراسات سال عدد 6، خريف شتاء 1992، ص94 وما
بعدها.
(*) نحتفظ بهذه
التسمية على سبيل الربط مع الصورة القديمة لواقع النقد، وإن كنا قد وضحنا أن بدائل
النقد التاريخي موجودة الآن في عصرنا في حقل السميولوجيا وجمالية التلقي
والتداولية وسوسيولوجيا النص… الخ.