ص1      الفهرس   المحور 

هوامش حول مفهوم العقد الاجتماعي

2- العهد … والعقد المزدوج

محمد عابد الجابري

مع نهايات العصور الوسطى في أوربا أخذ بعض الكتاب يطرحون في كتاباتهم السياسية مسألة رضى الشعب، بل كان منهم من وظف مفهوم "العقد" في طرح مسألة "السيادة" للشعب وتأسيس حقه في مقاومة حكم الطغيان، وكان ذلك، خاصة، خلال الصراعات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت في عصر النهضة. يتعلق الأمر في البداية بنظرية أشهرها بعض الكتاب البروتستانت في وجه الملوك الكاثوليك، نظرية تقول بعقدين فعرفت بنظرية "العقد المزدوج": الأول بين الله والشعب، والثاني تابع للأول وهو بين الملك والشعب. وفحوى هذا العقد بشقيه أنه إذا اضطهد الملك "الدين الحقيقي" –دين أتباع الكنيسة- فهو يخرق الميثاق الذي بين الله والشعب وبالتالي يمكن لهذا الأخير استعمال حقه في المقاومة. إن ما يشرع له هذا العقد ليس تدخل البابا، كما رأينا في المقال السابق عند أنصار المذهب الغريغوري في القرن الثالث عشر، بل إن ما يشرع له الآن، في القرن السادس عشر، من خلال العقد المزدوج، هو حق الشعب نفسه في مقاومة طغيان الملك. إن نظرية العقد المزدوج أصبحت الآن تقوم بوظيفة إيديولوجية واضحة وهي الحد من سلطة الملك بالوقوف في وجه الملكية المطلقة القائمة على ما عرف بـنظرية "الحق الإلهي للملوك"، و هي نظرية تقرر أن الملوك يستمدون سلطتهم من الله وبالتالي فهم مسؤولون أمامه وليس أمام الناس. ومن هنا ستكون وظيفة نظرية "العقد الاجتماعي" هي جعل الملوك مسؤولين أمام الناس. وأكثر من ذلك كان لظهور الأفكار التعاقدية في جو الصراعات الدينية التي سادت أوربا دور هام في نضج مفهوم "التسامح".

ومع بدايات القرن السابع عشر تحول "العقد المزدوج" من عقد بين ثلاثة أطراف (عقد بين الله والشعب، وعقد بين الملك والشعب) إلى عقد مزدوج فعلا ولكن بين طرفين فقط: الشعب والدولة. العقد الأول يؤسس المجتمع، والثاني يؤسس الحكومة. فبموجب العقد الأول تخلى الناس عن استقلالهم، الذي يتمتعون به في الحالة الطبيعية، لصالح المجموع. وفي المقابل يحصلون على حماية حقوقهم الفردية وضمانها وفي مقدمتها حق الملكية. وبموجب العقد الثاني ينقل الشعب السيادة إلى واحد أو أكثر من القضاة magistrat ليمارسوها تحت بعض الشروط.

يبدو أن نظرية العقد المزدوج هذه كانت تشكل نوعا من المرحلة الانتقالية. ذلك أنه سرعان ما سينظر إليها على أنها تشكل عقبة، سواء من طرف أنصار الملكية المطلقة أو من طرف المنادين بـمبدأ "السيادة للشعب". وإضافة إلى ذلك تبين أن هذا العقد المزدوج تكتنفه صعوبات نظرية: فإذا كان العقد الأول، عقد الاجتماع، ينتهي أمره عند اتفاق الناس على الاجتماع والعيش معا، فلماذا لا ينتهي العقد الثاني عند اتفاقهم على تنازلهم عن حقوقهم للملك؟ إن فرض واجبات على الملك أمر يقع خارج العقد وبالتالي فسلطة الملك يجب أن لا تكون محدودة بحد!

ومع أن معظم الكتاب قد تخلوا عن فكرة العقد المزدوج التي أصبحت موضوع استغلال من طرف أنصار الملكية المطلقة فإن بعض من ناهضوا الحكم المطلق بقوا متمسكين بفكرة العقد المزدوج ولكن مع التأكيد على أنه عقد يقوم على تبادل: تنازل الناس للملك عن حقوقهم مقابل التزام هذا الأخير بواجبات معينة. فتنازل الطرف الأول عن حقوقه تترتب عنه واجبات في عنق الطرف الثاني.

من الذين أسسوا لهذا الاتجاه جان دون سكوت Jean Duns Scot (1263-1308: ولد في إيكوسيا وعاش في انجلترا وفرنسا وألمانيا). كان القديس توما الإكويني يرى رأي أرسطو كما ذكرنا في المقال السابق، فكان يقرر مثله أن الأسرة والمدينة (المجتمع) هما ظاهرتان طبيعيتان تماما، لأن الإنسان مدني بالطبع. أما جان دون سكوت فيرى أنه إذا كانت الأسرة هي، فعلا، أسبق ظهورا وأن الزواج شيء بدائي و يقوم مع ذلك على عقد تبادل، فإن المدينة/الدولة مؤسسة متأخرة عنهما وأنها تقوم على التعاقد. ذلك أنه بما أن الحياة البشرية في هذا العالم معرضة للوقوع فريسة قانون الغاب فمن الضروري وضع قوانين وتشريعات عادلة تقي الناس من الظلم والصراع والفوضى. ومن هنا كان من الضروري معرفة من هو أصلح وأقدر على وضع مثل هذه القوانين. ذلك أنه إذا كانت سلطة الأب قد تكفي بالنسبة للجماعات الصغيرة في بداية الأمر، فإن نمو هذه الجماعات واتساعها وتزاحمها واختلاف مصالحها، وما قد تتعرض له من تهديد خارجي الخ، كل ذلك يجعل قيام سلطة عامة شيئا ضروريا. وهذا يكون بالتعاقد.

إذا كان بعض مؤرخي الفكر السياسي في أوربا يرون أن دون سكوت ربما يكون قد أخذ فكرة العقد من عقد الولاء والخضوع الذي يربط اليهود بملوكهم الأولين كما في التوراة، فإن آخرين يرون أن في نظريته ما يتجاوز ميثاق بني إسرائيل مع ملوكهم، ولذلك فهم يربطون أفكاره بالتحالفات التي عرفتها، عام 1291، الكانتونات الثلاث الأولى في سويسرا. فالعقد الذي تصوره سكوت تسلم الجماعة بموجبه إلى طرف آخر، ملكا كان أو مجلسا أو إلى المجتمع كله، سلطة وضع القوانين باسم المجموع ولفائدته. وكيفما كان الأمر فالفريقان معا يقرران أن دون سكوت ساهم مساهمة كبيرة في تقرير وتكريس فكرة أن السلطة الشرعية، أو الممارسة المشروعة للسلطة، هي تلك التي تستند على رضى المواطنين.

على أن فكرة "العقد الاجتماعي" إنما تجد مرجعيتها الحديثة

في كتاب "اللوثايان" -"التنين"- للفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679). ينطلق هوبز من "حالة الطبيعة" التي شرحناها في مقال سابق (هوامش حول موضوع حقوق الإنسان)، وهي الحال التي تخيل أن الناس يكونون عليها قبل قيام المجتمع المنظم بقوانين وأعراف والذي تدبره سلطة سياسية. هذه الحال الطبيعية هي حالة الحرية بلا قيود، التي لابد أن تنتهي إلى صراع يهدد البشرية بالفناء. ولتلافي الاقتتال والفناء يضطر الناس إلى التنازل عن حقوقهم: يتنازل كل منهم عن حقه في التصرف في جميع الأشياء راضيا بحقوق متساوية بين الناس جميعا، وبذلك تصير الحياة المشتركة ممكنة، وتلك هي نشأة المجتمع. ثم إنه لما كانت حقوق الناس متساوية في أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وكان الاجتماع يتطلب وجود سلطة تسهر على الأمن والنظام فلقد اضطر الناس إلى التنازل مرة ثانية ولكن هذه المرة ليس لبعضهم بعضا بل لطرف ثان يتولى مهام الحكم. وذلك هو منشأ الدولة.

نحن هنا أمام عقدين وليس إزاء عقد مزدوج. غير أن هذين العقدين ليسا من النوع الذي قد يتبادر إلى الذهن بناء على المعنى الذي كنا نستعمل فيه هذا اللفظ لحد الآن. ذلك أن هوبز يميز بين العقد والعهد. فالأول ينفذ بمجرد إبرامه كعقد البيع مثلا: فالمشتري يدفع الثمن والبائع يسلم السلعة. أما العهد –أو التعهد- فهو أن يتعهد أحد المتعاقدين أو كلاهما على أن ينفذ في المستقبل ما نص عليه العقد، وبذلك تترك له فرصة الوفاء بما التزم به بناء على الثقة فيه. والعقد الاجتماعي في نظره ليس من نوع عقد الشراء والبيع الذي ينفذ حين التعاقد مرة واحدة بل هو تعهد ينفذ في المستقبل ومع مرور الأيام، إنه ليس عقد تبادل بل عقد ثقة: الثقة بالوفاء بالوعد. وعلى هذا الأساس يتحدد معنى الظلم والعدل عند هوبز: فالظلم هو عدم الوفاء بالعهد، والعدل هو تنفيذه.

وهكذا العقد الذي يؤسس الدولة ليس من نوع عقد البيع بل هو تعهد، ذلك هو المفهوم الجديد الذي ركز عليه هوبز: يتعهد الأفراد بالتنازل عن حقوقهم في السلطة، راضين راغبين، لشخص يجسد إرادتهم العامة. أما هذا الشخص فلم يتنازل عن شيء ولا يتعهد بشيء لأنه ليس طرفا في العقد، فتعهد الأفراد بالتنازل عن حقهم في السلطة للحاكم سابق لوجود هذا الحاكم، فتعهدهم هو الذي يخلق هذا الحاكم، وبالتالي فهو ليس طرفا. فالعقد الذي يتحدث عنه هوبز ليس من نوع عقد الحكومة الذي يتم بين رعية وراع بل هو من نوع عقد الاجتماع.

والوفاء بهذا العهد يقتضي أن لا يتعهد المتعهدون لشخص آخر يكون حاكما جديدا عليهم ولا أن يعودوا إلى عهد سابق مع شخص آخر، وليس لهم أن ينتقدوا الملك الذي ملكوه عليهم لأنهم هم الذين خولوا له السلطة، فإذا لاموا الملك فهم إنما يلومون أنفسهم . الملك له الحكم المطلق: يختار مستشاريه وأعوانه بكل حرية، ويقرر المذهب الذي يرى أنه المذهب الصالح، ويسن القوانين التي يراها صالحة ومنها قوانين الملكية الخاصة التي يستتبعها قيام الدولة، وهو الذي يفرض الضرائب ويفصل في المنازعات، وهو الذي يعلن الحرب ويعقد السلم إلى آخر التدابير والاختصاصات التي تشكل جوهر السيادة.

شيء واحد لا حق للملك فيه –حسب نظرية هوبز هذه- لأنه لا يكون موضوع تنازل من الأفراد الذي نصبوه، إنه الحق في الحياة وفي الدفاع عنها. فهذا الحق لا يدخل في العهد، وبالتالي فللشعب الحق في الدفاع عن نفسه في كل ما يتعلق بحقه في الحياة وحقه في الدفاع عنها، سواء في ذلك ما قد يتعرض له من ظلم وعدوان من الملك نفسه أو من الغير، أو ما يرجع سببه إلى تقاعس هذا الأخير أو عجزه عن حفظ حق الناس في الحياة، وما يتطلبه هذا الحق من مستلزمات. فإذا اعتدى الملك على حق الناس في الحياة أو تقاعس أو عجز عن تمكينهم من هذا الحق فلهم أن يثوروا عليه ويقوموا بالدفاع عن أنفسهم بأنفسهم.

من أين للشعب هذا الحق في التمرد والثورة على الملك والحال أنه لم يلتزم لهم بشيء، لأنه ليس طرفا في العقد كما قررنا قبل؟

يجيب هوبز : إذا كان الحاكم متحررا فعلا من أي التزام إزاء شعبه إذ لا واجبات عليه إزاءهم، فإن عليه واجبا إزاء الله: وهو العمل بقانون الطبيعة الذي هو تجسيد لإرادة الله وحكمته، والذي بموجبه قامت الدولة. فالدولة لم تنشأ عبثا بل من أجل مصلحة الناس، فعلى الحاكم إذن أن يجعل هذا نصب عينيه وأن يعمل من أجل سلامة الشعب ومصلحته وأن يسهر على الأمن والنظام وعلى توفير الرخاء وإقرار العدل فيعامل الغني والفقير والقوي والضعيف بالإنصاف.

***

لقد كان طبيعيا أن يختلف الناس حول هوبز. فريق رأى فيه المنظر للملكية المطلقة، وفريق آخر رأى فيه المشرع للتمرد والثورة. وفريق ثالث يرى أنه "يجب فهم هوبز في إطار التفكير العلمي الذي ظهر وساد في عصره والذي قدم له النموذج الميكانيكي الذي استوحاه. ذلك أن الإنسان تغلب عليه غرائزه وأهواؤه، أليس الإنسان ذئبا للإنسان؟ إذن لابد من قوة عليا تحرره منها. وبما أن الملك له جميع الصلاحيات وكل القوة فإنه يتحرر بذلك من الحاجة ومن الرغبة وبالتالي فليست له مصلحة شخصية، فتكون مصلحته هي المصلحة العامة ذاتها، فهو لا يعمل إلا من أجل خير الدولة. فالملك هو الشعب نفسه، إنه العقل وهو يعمل. وعلى العكس مما ذهب إليه أفلاطون فليس الفيلسوف هو الذي يجب أن يتوج ملكا، بل الملك هو الذي بسلطته اللامحدودة يكون فيلسوفا. إن نظرية هوبز تندرج في إطار عقلانية مطلقة ترى أن الشعب يمكن أن يتحول إلى آلة عقلانية منظمة يحكمها الملك المطلق".

أما نحن فنميل مع الرأي الذي يفسر هذا التناقض في نظرية هوبز على ضوء مشاغل عصره: أعني الصراع بين الكنيسة والدولة، بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية وانعكاسات ذلك على الوضع السياسي بإنجلترا في زمانه. خلاصة هذا الرأي أن هوبز منح السلطة المطلقة للملك ليس ضدا على الشعب بل ضدا على الكنيسة التي أراد أن يجعلها تحت سلطة الدولة. أما طغيان الملك الفعلي أو المحتمل فقد قيده بوجوب الخضوع لإرادة الله التي تجسدها قوانين الطبيعة التي من تجلياتها نشوء الاجتماع والدولة. ومن هنا يكون هوبز قد قلب الوضع رأسا على عقب فجعل الدولة من مملكة الإرادة الإلهية وجعل الكنيسة من مملكة القانون المدني، وبعبارة أخرى:" تقديس الدنيوي ودنيوة المقدس". يؤيد ذلك مضمون العبارة التي جعلها بمثابة العنوان الفرعي الشارح لعنوان كتابه الأساسي في الموضوع كتاب "اللوياثان" Leviathan. لقد جاء في هذه العبارة ما يلي: "المادة والصورة والسلطة للمجتمع الديني والمدني". وبعبارة أوضح: "المجتمع الديني المدني: مادته وصورته وسلطته".

على أن أهمية نظرية هوبز ليست فيما قررته بل فيما فتحته من آفاق من خلال الردود عليه، كما سنرى.

هوامش حول موضوع العقد الاجتماعي

6- من العقد المزدوج … إلى الفصل بين الكنيسة والدولة

محمد عابد الجابري

جرت عادة كثير من مؤرخي الفكر السياسي الأوربي أن ينتقلوا من هوبز إلى لوك، وهذا شيء مبرر، فهذان الفيلسوفان ينتميان إلى بلد واحد وبيئة فكرية وسياسية واحدة (إنجلترا)، هذا فضلا عن كون الثاني منهما قد شيد نظريته في العقد الاجتماعي وفي غيره من الموضوعات السياسية في علاقة مباشرة مع فكر مواطنه، علاقة الرد الصريح والمباشر. ومع ذلك فلا شيء يبرر القفز على معاصرهما المفكر الألماني بوفيندورف (1632-1694) PUFENDORF, SAMUEL VON الذي عارض هوبز واختلف مع لوك وكان له تأثيره فيمن جاء بعدهما في مثل تأثيرهما، هذا إضافة إلى ما في آرائه من جدة، فقد دشنت بحق مسارا جديدا في الفكر السياسي الأوربي أقرب إلى الحداثة من فكر هوبز.

اشتهر بوفيندورف بدراساته حول النشأة الطبيعية للاجتماع البشري وحول القانون الطبيعي والسلطة الحاكمة فعمل على صياغة أخرى لنظرية العقد المزدوج. لقد ميز بوفيندورف بين مظهرين في عملية النشأة الطبيعية للاجتماع البشري:

- فمن جهة هناك الاجتماع الذي مصدره وعي الإنسان للوضع الطبيعي الذي نشأ عليه نشأة طبيعية والذي يجعل الواحد من البشر يدرك أنه إذا كان يدخل مع غيره من بني جنسه في علاقات تعاون وتضامن فهو لا يفعل ذلك إلا لأنه يدرك أنه يعيش في وضع مماثل لوضعه، بمعنى أن التوافق بين الطبيعة التي فيه والطبيعة التي في الغير وكونهما واحدة هو ما تقوم عليه الرعاية الإنسانية أي ما يسميه بوفيندورف بـ"الحمية العامة" التي إنما جعلتها الطبيعة في بني البشر لكونها نافعة لهم.

- ومن جهة أخرى هناك المصلحة التي هي نوع متميز من النشأة الاجتماعية مختلف عن الأول، ولكنه يتفرع عنه لأن الطبيعة لا تطلب منا أن نلغي أنفسنا كأفراد حين تدفعنا إلى الاجتماع. إن هذا يعني أنه ليس ثمة تعارض بين حالة الطبيعة وحالة المدنية، كما يقرر هوبز.

لقد أعطى بوفيندورف لفكرة القانون الطبيعي معنى آخر غير الذي كان سائدا. فليس القانون الطبيعي في نظره من نوع مناقض أو مغاير للقانون الذي مصدره الوحي. بل هما نوع واحد ويشكلان معا مجموع القوانين الإلهية. فحكمة الله هي التي اقتضت وضع القوانين الطبيعية مثلما أن وجوده اقتضى أن تكون هناك قوانين مصدرها الوحي (وهذا قريب مما قرره ابن رشد في الموضوع). وهكذا يشيد بوفيندورف فكرة الحق الطبيعي على التأكيد على وجود نظام أخلاقي كوني كلي وعلى وجود قاعدة للعدل لا تتغير سابقة للقوانين المدنية ومستقلة عنها وأسمى منها. إن القانون الطبيعي هو والقوانين الإلهية معطى أولي للإنسان. وبما أن الله هو الذي وضعها فلها قوة العقل وقوة الكلي وتمتلك فعالية خاصة. وبفضل العناية الإلهية فإن القوانين الطبيعية مناسبة تماما للطبيعة الإنسانية. أما القوانين الوضعية التي تسن بمراعاة المجتمع وأحواله ومراعاة الطبيعة الإنسانية فهي إنما تمدد مفعول القوانين الطبيعية، وبالتالي يجب أن تستلهمها لا أن تتعارض معها. وهكذا فالتوافق والتعاضد بين القوانين الطبيعية والقوانين الإلهية يعطي القوة للقواعد الوضعية التي يسنها المشرعون كما يضفي الشرعية ويبرر المقاومة التي يقوم بها المواطنون عندما تتعرض حقوقهم للعدوان من طرف السلطة الحاكمة. وهكذا يرفض بوفيندورف مثله مثل لوك –كما سنرى- حالة الطبيعة التي قال بها هوبز والتي جعل منها هذا الأخير حالة فوضى وعدوان. إن بوفيندورف يتجاوز ذلك بالجمع بين القانون الطبيعي والقانون الإنساني في قانون موحد مبني على القانون الإلهي، وفي نفس الوقت يتمتع بمعقولية كاملة لأنه حال طبيعية، وفي نظره لا يوصف بـ"الطبيعي" حال لا يتبع فيها الناس قوانين العقل.

وبناء عليه فالسلطة التي تتوافق مع القانون الطبيعي لا يمكن أن تكون مطلقة –كما يريد لها هوبز أن تكون- بل هي سلطة قائمة على التعاقد. أما المماثلة بين السلطة المطلقة وسلطة الأب وتأسيس تلك على هذه فعمل غير مشروع لأن سلطة الأب ليست قائمة على عقد. والعقد هو وحده الذي يؤسس السلطة السياسية. وهو في نظر بوفيندورف عقد مزدوج بل عقدان:

- العقد الأول يؤسس المجتمع المدني: فلكي يكون هناك مجتمع لا بد من أناس يريدون أن يكونون أعضاء في دولة يشكلون فيها جسما واحدا ويدبرون معا وباتفاق بينهم المسائل التي تخص أمنهم المتبادل.

- أما العقد الثاني فهو يخص تنصيب الحكومة، وبموجبه يقرر المتعاقدون بأغلبية الأصوات شكلا للحكومة يلتزم فيه الحاكم (الملك) بالعمل لخير المجموع. أما إذا لاحظ المواطنون أن الملك لا يوفي بالتزاماته فإن لهم الحق في استعادة ما منحوه له بموجب العقد.

ما يلفت الانتباه في الاتجاه العام لهذا المفكر الألماني، الذي كان له تأثير كبير على الفكر السياسي الفرنسي والفكر السياسي الإنجلوساكسوني، بما في ذلك الدستور الأمريكي الصادر عام 1787، هو استبعاد الكنيسة كهيأة تحتكر الدين وتأويله، وفي المقابل إقامة نوع من المؤاخاة بين القوانين الطبيعية والتشريعات الإلهية، بل دمج الواحد منهما في الآخر، وجعلهما معا أساس القوانين الوضعية، منهما تستمد هذه شرعيتها ومضمونها. إن الدين هنا يبدو وكأنه قد تحرر من الكنيسة ليصبح دين الجميع، دين العقل، دين الطبيعة. والطبيعة والعقل في هذا المنظور وجهان لعملة واحدة.

من هذه الزاوية يكون بوفيندورف رائدا للاتجاه الطبيعي العقلي في الفكر السياسي الأوروبي، وهو الاتجاه الذي سيبلغ ذروته مع كل من الفيلسوف الإنجليزي جون لوك والمفكر الفرنسي جان جاك روسو. كما سنرى في العدد المقبل.