ص1      الفهرس     21-30

"شجيرة حناء وقمر"(1) لأحمد التوفيق

بين الرواية والتاريخ

 

إنجاز: المصطفى مويقن

1 – تقديم:

تأتي الرواية، كجنس أدبي، داخل المسار العلمي لأحمد التوفيق، تكميلا لمشواره الأكاديمي في البحث التاريخي والتحقيق(2). وما ولوج المؤلف عالم الرواية إلا لكون التاريخ لم يشف غليله؛مادام التاريخ يكتفي بتسجيل الأحداث الكبرى وحسب. أما الأدب فهو يبحث في طبيعة سلوك الإنسان، إذ "تصف الأعمال الأدبية (كالرواية) الواقع الإنساني بأعمق وأدق أبعاده وفي إطاره التاريخي والاجتماعي بكل شموله. لذلك نستطيع مثلا أن نتعرف إلى واقع المجتمع المصري من خلال الرواية أكثر مما نستطيع أن نفعل ذلك من خلال مجمل الدراسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أجريت حول مصر"(3).

هذا ما حدا بأستاذ التاريخ، وشجعه على دخول عالم الرواية بنصين روائيين: 1) جارات أبي موسى، 2) شجيرة حناء وقمر(*)؛ يقينا من المؤلف أن الرواية وسيلة فعالة، يمكن التعبير من خلالها عما سكتت عنه البحوث والدراسات التاريخية. بل إن الرواية هي أقرب الأجناس إلى التاريخ، والتاريخ الاجتماعي، بالأساس، الذي يسعى لإبراز "نواح من حياة السكان"(4).

يتواجد التاريخ في كل الأشكال التعبيرية والتجارب الفنية، بدرجات متفاوتة، ومن ثم إقامة الدليل على انفتاح التاريخ على مختلف الأنماط والأجناس، وانسلاله داخل كل العلوم والفنون. فإذا كان "أرسطو" قد عرف الكتابة التاريخية بكونها تهتم بالكليات وتخوض في القضايا العامة, دون الاهتمام بكل ما هو جزئي وهامشي، فإن الرواية تمكنت من تجاوز هذا القصور، إن على مستوى الرؤية الموضوعية، أو على مستوى ابتكار آليات كفيلة بمواجهة الخلفيات والحساسيات الإيديولوجية المتعارضة.

 

2 – الروائي والتاريخي:

ارتكزت الرواية على التاريخ كإطار عام، يسمح لها بالتمويه داخل دروبه وحقبه المختلفة، وبالتالي ليدلل لها كل الصعاب للوصول إلى "الحقيقة الروائية". يقول إدوار الخراط "تأتي الخبرة التاريخية في الرواية من خلال منظور عصري، وفي بنية روائية خاصة، لا بد أن تنتمي إلى عصرها، وأن تسعى إلى تجاوز عصرها في الآن نفسه. ليس في توظيف التاريخ شيء جديد، ولكن الحداثي هو وضع شرائح تاريخية في هيكل روائي مخصوص يضفي عليها، أو يستخرج منها، بمجرد وضعها في هذا السياق، وفي هذه البنية بالذات دلالات لم تكن على السطح. ومن هنا تأتي عصرنة التاريخ أو بعث التراث بعثا جديدا وحقنه بدماء عصرية"(5).

والرواية إذ تعلن عن علاقتها بالتاريخ، فهي تسعى لنسفه، مادام التاريخ لم يشر إلى الخلل الذي أصاب المجتمع العربي عامة والمغربي بشكل خاص. وعليه فقد سعت الرواية إلى الكشف عن أسباب العلة، وعملت على استئصال السلبي منها.

ومن هنا يمكن اعتبار الرواية، هي، التاريخ الإبداعي المتخيل، داخل التاريخ الموضوعي المنتظر. وعليه، تبقى الرواية، أمام هذا الوضع العربي، الوعي الإبداعي الكاشف عن جوهر مفارقات التاريخ وتناقضاته..

من هنا –أيضا- نتساءل: إلى أي حد يمكن للروائي أن يتعامل مع التاريخ؟ بمعنى ما هي حدود التاريخ؟ وأين تبدأ أولى خطوات الرواية؟ يسعى أحمد التوفيق إلى إقامة نوع من المصالحة ّالحذرة" بين التاريخ وبين الرواية، مصالحة تحافظ لكلا الكتابتين على خصوصياتهما:

1) فالروائي لم يعين الزمن التاريخي الذي تجري فيه الأحداث، إلا عرضا ومن خلال إشارات باهتة. وبفعله ذاك يجنب الرواية صفة التاريخية، ويحافظ للتاريخ على تعاليه، من خلال مؤشرات سيميائية (اللباس –الألقاب-الحلي…).

2) إن الروائي لم يذكر اسم السلطان، وإن أشار إلى تواجده، كما لم يذكر اسم خليفته على مراكش ولا إلى أي أحد من أفراد الحاشية المخزنية.

3) لم يحدد الروائي الإطار الجغرافي لمجريات الأحداث، بشكل دقيق. هذا ما جعل أحمد التوفيق يصهر التاريخ والمتخيل داخل بوتقة الرواية. حيث اعتمد التاريخ إطارا عاما، وإن كانت الرواية تفوح منها رائحة القرن التاسع عشر سواء من حيث الألفاظ المخزنية الموظفة أو من خلال الأتنوغرافيا الجاثمة على النص. كما النص الروائي ينسج علاقات، في الإطار التاريخي المتحكم في النص، بين شخوص عديدين، حيث نتعرف على الوصف والحوار وتداخل اللغات، وهذا ما يبعد الرواية عن التاريخ…

4) حاول أحمد التوفيق اقتناص رؤية المتخيل، ورؤية السردي لفترة تاريخية معينة (ق 19)، تكون مناظرة لرؤية وموقع المؤرخ، وحاملة لوعي مختلف عن وعي وروح الوثيقة التاريخية.

***

تتوزع الرواية على ثمانية وثلاثين فصلا، يعتبر الفصل الأول منها بمثابة توطئة للرواية، وإن كان يستغرق زمنيا ما يقارب ثلاثين سنة؛ حيث مدار الحديث فيه عن إيالة القائد "علا": "هكذا أمضى "علا" ثلاثين سنة يمثل السلطان ويجبي ما يتوصل إليه من الضرائب ويفصل بين من يصلون إليه من المتنازعين.."(الرواية ص7).

وتشكل باقي الفصول، السبعة والثلاثون، مدة ولاية القائد همو بن علا على قيادة حصن السوق وتستغرق تسع سنوات، أي منذ تقلده مقاليد إيالته حتى بلوغ ابنته نجمة ثمان سنوات، حيث يصرع همو، وتنتهي الرواية بهلوسات السالمة زوجة همو.

الرواية رحلة سياحية في البوادي المغربية/الحوز؛ في مناطق لا نعرف عنها شيئا، مناطق المغرب غير النافع، مغرب السيبة(6). "مغرب لم يتبدل منذ العصور الحجرية"(7). فإذا كان التاريخ يتحدث عن الحواضر، مركز السلطة بشكل واف، ويخفي كل ملامح البادية، فرواية أحمد التوفيق شجيرة حناء وقمر هي تأريخ للبادية والجبل وإغفال للمدينة، والرواية، من هذا القبيل، هي إعادة اعتبار للبادية، وهذه نقطة مركزية في طروحات أحمد التوفيق المؤرخ.

إن ما ساهم في تشكيل جمالية الرواية هو تلك اللوحات الإتنوغرافية والمونوغرافية لمغرب القرن التاسع عشر، وهي لوحات تجهد لتكشف عن خصائص صورة البادية المغربية عن طريق استثمار النظام اللغوي الشفهي، المتمثل في الأشعار واللهجات المحلية؛ وهي محاولة، يتخذ منها الروائي وسيلة فنية لبلوغ حالة التطابق بين الشكل والمضمون. ورواية أحمد التوفيق، هي حكاية ذات البعد الواحد؛ البعد الذي يؤسطر الذات بوصفها ذات الجماعة، مادامت تسير في خط متواز مع التاريخ. إذ الرواية ملفوظ ثان/شهادة ضد التاريخ، وما دام "التاريخ ليس رواية، بل صراع بين سرديات ومرويات ووقائع وأحداث صلبة صلابة الحقيقة كثيرا ما لا تدخل السرديات. وحين يستقر التاريخ على صورة معينة فإنما يفعل ذلك تعبيرا عن انتصار واحدة، أو خليط، من هذه السرديات المروية على غيرها-مؤقتا. وغالبا ما ينبثق صراع جديد بين السرديات ذاتها أو تنبجس سردية جديدة تخلخل البنية الراكدة القارة وينشب الصراع بينهما وبين ما استقر لتشكيل تاريخ جديد، ويكون ذلك كله متأصلا في الواقعي والمتخيل"(8).

إن تمجيد عفة كيما، زوجة همو، وورعها كصيغة للجمال الروحي والجسدي في عذريته وبراءته، إنما هو تمجيد لجمال البادية وللمرأة المغربية في نقائها… والروائي، وعلى مدار الرواية يستمد بهاء الحياة من السالمة، التي تستمد فلسفتها من الطبيعة: القمر وشجيرة الحناء، ومنها اشتق عنوان الرواية.

 

3 – العنوان، والإطار العام للرواية:

يقدم العنوان، عادة، بوصفه تعيينا للنص(9) يوجه القراءة ويهيئها لترجيح نوعية الخطابات التي يتعالق معها النص. ويشتغل بوصفه دليلا، به تتميز الرواية عن سواها. ومنه يعلن المؤلف عن نواياه ومقاصده، وعبره يشي النص بمكنونه ومحتواه، دون أن يفصح عنه بكيفية كلية.

فعنوان الرواية، مدار هذه الدراسة، عنوان موضوعاتي Titre thématique يحيل على موضوع الرواية، فهو من جهة تسمية للرواية، إذ به تتفرد داخل الجنس الروائي، ومن جهة ثانية يرتبط العنوان بالأثر المزدوج الذي يمارسه، هو، على القارئ.

فـ شجيرة حناء وقمر كعنوان للرواية، عبارة عن جملة خبرية غير تامة، هي جملة ابتداء، محتوية على الإضافة والعطف وفي حاجة إلى الخبر المتمم للفائدة على مستوى المعنى وللتركيب على مستوى المبنى. والخبر الناقص لجملة العنوان هو ضالة أحمد التوفيق المؤرخ، إذ يسعى جاهدا للبحث عنها في السرد الروائي، لعله يكشف عن بعض ما سكتت عنه كتب المؤرخين.

إذا فما دلالة العنوان؟ وما علاقة الشجرة بالقمر داخل التركيبة اللغوية للعنوان، وبالإطار العام للنص؟

تطغى على نص أحمد التوفيق نفحة ثقافية، بمعناها الأنتروبولوجي، مادام المؤلف/المؤرخ يشتغل على التاريخ الاجتماعي، وما دام يعود إلى الذهنية المغربية متمثلة في الديني والسحري والخرافي. لذا وجب التوقف على دلالة ألفاظ الرواية. تتفق أغلب موسوعات الأساطير العربية على أن الشجيرة، والشجرة عموما، تعبير رمزي للتجدد والنمو: "النبات تعبير عن تجربة الخلود والانبعاث والحياة المستمرة"(10). "فلا غرابة أن توضع (الشجرة) في بداية الخليقة. فدلالاتها الرمزية أكثر من أن تحصى، فمنها شجرة الحياة وشجرة المعرفة وشجرة الكون. ولكن المعنى الجامع هو معنى الحياة والتجدد والخلود. فضلا عن أنها رمز كوني"(11). وبالعودة إلى القرآن الكريم نجدها قد وردت في ست وعشرين آية، وعلى أربع صيغ الشجر أربع مرات، شجر ثلاث مرات، الشجرة ثمان مرات، شجرة إحدى عشر مرة.

أما لفظة قمر فتعود بنا إلى عالم الأساطير. يقول محمد عجينة: "كان القمر إله عرب الجنوب. ومن أسمائه: المقة في سبإ وود عند المعينين"(12). أما لفظة قمر كرمز فتعود إلى التفكير الأسطوري. ذلك أن العرب من أقدم عبدته. "فمن أسماء آلهات القمر عند العرب البائدة سين، وهو نفس اسمه عند السومريين اللاساميين، ويعتقد البعض أن البائدة أخذوه عنهم"(13).

لقد ارتبط ذكر القمر، في النص القرآني، بالشمس، إذ يردان متصاحبين في الآية الواحدة.وبرجوعنا إلى القرآن الكريم نجدهما متلازمين في إحدى وعشرين آية(14). ولم يذكر القمر منفردا، أي غير مصاحب للشمس إلا في سبع آيات.

لقد سعى الروائي إلى الاشتغال على ثنائية جديدة مخالفة للثنائية القرآنية (الشمس والقمر) اللتان ترمزان إلى التعالي، فقط، فيما إذا رجعنا بدلالتيهما إلى الميتولوجيا العربية لما قبل الإسلام. لقد أورد الروائي القمر بدون شمس، وأصر على أن يقحمه في عنوان النص الروائي بصيغة النكرة؟ فعن أي قمر تتحدث الرواية إذا؟

بالعودة إلى الرواية نجد القمر واردا كجرم سماوي، ونصادفه في لوحات خاصة. من هنا محاولة الروائي الجمع بين ما هو متعال (القمر)، وما هو أرضي (الشجرة)، وإن احتفظ هذا الجمع بالرتبة الأصلية المتواجدة في النص الديني، مع تغييب للشمس لتحل محلها الشجرة، ذات الحمولة الدينية، إذ ارتبطت الشجرة بنور الله وبكل ما هو طيب: }الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة، فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب ذري يوقد من شجرة مباركة{(15).

}ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة{(16).

وبهذا التغييب والتحويل والوضع لشجيرة الحناء، جعل الروائي الأرضي المرتبط بالنوراني في مرتبة أعلى من المتعالي، نفسه، ألا وهو القمر، على أن علاقة الشجرة بالقمر نستشفها من النص، بطريقتين:

الأولى، عن طريق أيقونة الغلاف، التي تمثل نقشا بالحناء لرسم حلزوني يبدأ من مقدمة بنصر اليد اليسرى إلى أسفل الراحة، مع انحراف جهة اليمين، في محاولة للإحاطة بالدائرة المتوسطة للكف، الرامزة للقمر. وعليه فقد ارتقى الروائي بالقمر من رمز للإله سين أو ود إلى أيقونة تدرء العين والأذى.

والثانية من خلال الملفوظ الروائي، المتمثل في جلسة الحناء، وما يصاحبها من طقس غرائبي، إضافة إلى تجميل المرأة؛ وهو طقس أسطوري تقوم به امرأة متقدمة في السن، وتحضى باحترام الجميع إنها داد باشا.

"أعلن عن موعد الغد لإتحاف السالمة بتزويق الحناء، وقد علمت أم كيما أن ضيفتها تحب الحناء فاتخذت كل أسباب نجاح الطقوس الكاملة لتلك الجلسة، ودعيت لإعداد ذلك الطقس وتنفيذه الواشمة الكبرى في القبيلة وهي باشا. امرأة في الخمسين"(ص 156).

"عندما أرادت النقاشة أن تبدأ في نقش الحناء على اليد اليسرى للسالمة طلبت منها الضيفة أن ترسم لها مثل ذلك الرسم الذي في يد كيما عند الزفاف.

توقفت باشا عن النقش وتجهمت والتفتت إلى كيما تقول لها بلغتها: إن ما طلبته الضيفة غير ممكن"(ص 157).

"سر ذلك الرسم ورثته عن معلمتي شطور رحمها الله، ولم يسبق لي أن صنعته لأحد، ولن أستطيع إفشاءه إلا بإذن الصالحين، نعم سأحكي منه شيئا لأن سيدتي كيما مرفوعة على أكتافهم، أنا متيقنة من ذلك. كانت شجرة الحناء في أول الزمان كبيرة تضرب بعروقها في الأرض، وترسل فروشها وأغصانها في السماء، مثل شجرة الجوز، وكانت أوراقها واسعة كراحة اليد أو أكبر. وكان ناقشات الحناء يصنعن رسمها في اليد اليسرى للوقاية من العين ومن أنواع الشرور الأخرى بحسب طقوس تحضر بها مادة الحناء المستعملة في النقش. وفي زمان بغيض لما عظم الشر ولم يعد نقش شجرة الحناء وحده يكفي في رد تلك الشرور، وسئل الصالحون عما ينبغي عمله لوقف الوباء الكاسح، فأشاروا برسم القمر في وسط راحة اليد لأن للقمر غيرة على كل جميل، ثم جعل رسم شجرة الحناء في مرتفع الراحة الذي يلي البنصر، وجعل جذع الشجرة في الأصبع حتى تستقي من القلب، وجعل الفروع في ذلك المرتفع ممتدة إلى نهايته. ولما رأت شجرة الحناء أنها مزاحمة بالقمر متهمة من الصالحين بذهاب التأثير انكمشت وتقزمت إلى حجمها الحالي"(ص157-158).

يقول علي زيعور: "صحيح أن لهذا الاحتفال غايات ثانوية كالتجميل أو رد الحسد ودفع المرض، ولكن الغاية الأساسية الامتلاك السحري واستجلاب الخير والوفرة والرغد"(17).

من هنا أيضا ذلك التداخل بين ما هو نصي وما هو تشكيلي، جمالي. إلى حد القول أن رواية أحمد التوفيق شجيرة حناء وقمر هي بمثابة عروش قد زينها الروائي وحرصها من عيوب الروائيين والنقاد والقراء جميعا بأيقونة الغلاف، وكأني به يقول: خمسة وخميس على عينيك أيها الرائي.

 

4 – الشخصية الروائية:

تستمد الشخصية الروائية تمايزها من خلال تواصلها مع الشخصيات المتعالقة معها. وهي تشكل المحور الأساسي الذي يمنح للعوامل الروائية وظيفتها.

فعبر التفاعل القائم بين مجموع عناصر بنية النص، تتحقق ماهية النص، وتصير الشخصية بؤرة التقاء العناصر في تفاعلها، المشروط بالميثاق الروائي، من أجل تحقق الوظيفة الدلالية للنص.

تحتل شخصية همو مركز كثافة النص، إذ هو المحور الرئيسي، الذي تتلف حوله العناصر الروائية، مجتمعة، لتفضي إلى الدلالة الرئيسية التي تتوجه نحو بؤرة الرواية. فشخصية همو بكل ما تحمله من نزوع للتأصل طبقيا وسياسيا، وما ينسحب على ذلك من أزمة بنيوية على مستوى التاريخ والإنسان، من خلال تجسدهما في بؤرة توجه الرؤية الروائية، فهي تحيل على الشخصية المخزنية للقرن التاسع عشر. ولذا فليس من الغرابة أن يتركز الحديث على همو. ذلك أن سلطوية الفترة التاريخية، متجسدة في القائد همو انسحبت على النص [ همو متسلط وحاضر داخل السرد الروائي ]. "فقال الإمام: هنا يكمن الشر، فإما أن اسمك همو يذكر سيدنا بكلام البقر، وإما أنه يذكره بشيء معين مضحك على حد كلام الغوص عند بعض أهل المدن" (الرواية، ص80).

فاسم العلم الموظف في رواية أحمد التوفيق ذو نكهة خاصة، ذو طبيعة محلية صرفة. ومن جهة أخرى فالشخوص الحاملة لاسم العلم هي الشخوص التي تدور في فلك همو: ابن الزارة – باروخ – كيما – السالمة..، أما باقي الشخوص والتي لا تدور في فلك القائد همو فهي أسماء وشخوص نكرة "الزوجتان الأوليتان" لهمو، الخدم، خليفة السلطان على مراكش، الحاجب، الوزراء، السلطان… وهذا يعني أن كل الشخوص الروائية مرتبطة بشخصية القائد همو. من هنا يمكن مقاربة هذه العلاقة بطريقتين، أفقية، وعمودية:

ـ أفقيا، وذلك من خلال الحاجة إلى القائد همو، فكل الشخوص الروائية تتهافت إلى التقرب إلى همو: ـ ابن الزارة في حاجة إلى همو ليأخذ له ثأره، وليتمتع بالنفوذ، ـ القائد ولد الشهباء في حاجة إلى مهادنة القائد همو، ولذلك صاهره، ـ باروخ اليهودي في حاجة إلى حمى القائد همو، وإلى تشغيل أمواله لديه، ـ خليفة السلطان في حاجة إلى القائد همو لاستثباب الأمن في المنطقة، ـ السلطان في حاجة إلى القائد همو لجمع الضرائب، وأشياء أخرى…

ـ وعموديا، من خلال صراعات الشخوص الروائية مع شخصية همو، صراع السالمة ونفورها منه، هرب ابن الزارة من القائد همو إلى مراكش بعد أن سرقه، ابتزاز باروخ للقائد همو…

من هنا يمكن أن ننظر إلى علاقة القائد همو مع باقي الشخصيات، في ثلاثة مستويات:

1 ـ                       السلطان

                                                فاضما المجذوبة

2 ـ   السلامة                     القائد                    كيما

                                     همو

 


3 ـ   ولد الشهباء              ابن الزارة           باروخ

 

ـ في المستوى الأول، نجد علاقة أحادية، تنبع من السلطان إلى القائد همو، وهي علاقة مخزنية/ودينية. أما الهامش الذي تتحرك فيه حاجة السلطان إلى القائد همو فهي حاجة مخزنية إجبارية.

"فقال القائد: وما هو الليث؟

قال الإمام: الأسد

فقال القائد: صدقت، إنه (يقصد السلطان)، والله مثل الأسد عندما يقترب منك، فكل ما تتمناه هو أن تبقى ساجدا حتى يمر"( ص81).

ـ في المستوى الثاني، نجد علاقة القائد همو بالمرأة، تطليقه للمرأتين الأوليتين، صراعه مع السالمة وكيما، وهي علاقة محكومة بالكره من جهة المرأة، بالمصلحة والتعالي من جهة همو، وغالبا ما تكون شخصية همو في هذا المستوى متساوية لمنافسيه حينا وفي موقف ضعف في أحايين كثيرة (موقفه من فاضما المجذوبة).

ـ في المستوى الثالث، نجد ثلاثة عناصر:

أ ـ عنصر الدهاء والاستشارة، ويمثله ابن الزارة (النخاس)

ب ـ عنصر الدفاع، ويمثله صهر القائد، ولد الشهباء

ج ـ عنصر المال والصياغة ويمثله باروخ (اليهودي)

إن خطاطة بسيطة يمكنها أن تحسم أمر علاقة همو في ثلاثة أشياء: السلطة والمرأة والمال. وتتحقق هذه المطالب الثلاثة بواسطة ابن الزارة بالنسبة للمطلبين الأولين، وبواسطة باروخ بالنسبة للمطلب الثالث.

وإلى جانب هذه الشخصيات جميعا نجد شخصية فاضما المجذوبة، التي تثير حنق همو "مجذوبة بلهاء اسمها فاضما تاعجانت من أهل إيالتك تطوف بالأسواق وتقول كلاما لا يعجب في حقك" (الرواية، ص83)، إنها صوت المعارضة، صوت من لا صوت لهم، إنها تتحين الفرصة لإبداء رأيها علانية:

·                        "كانت تقول في يوم السوق الأخير:

همو ركلاتو حمارة     وابن الزارة يضرب لو الطارة"

(الرواية، ص84)

·       ".. تصل (المجذوبة) إلى الخادم الماسك باللجام وهي لا تأبه بأحد ولا يعترض سبيلها أحد، وهي تقول:

مولاي السلطان عفا عليا    الله يبارك في عمر سيدي

همو وشيوخو، هدا عليا    فجهنم ندفعهم بيدي"

(الرواية، ص107)

·                        "عادت المجذوبة بعد إبلالها إلى الأسواق تتكلم ولا أحد فهم كلامها، وهي تنشد:

باروخ كال الخوخ    وهمو كيغز علفتو

هذا يتكي وهذا يذبح    كلا يعرف حرفتو"

(الرواية، ص199)

إن قارئ الرواية لا يعرف، إن كان عليه أن يحقد على همو أم يعطف عليه، وذلك لعمق ماساة هذه الشخصية سعيا وراء إنشاء إيالة مخزنية. الشيء الذي ترتب عنه كره الناس له وحقدهم عليه، وهربهم من بين يديه، وإن تعددت أشكال الهرب.

ـ هروب ابن الزارة إلى مراكش

ـ هجران زوجته السالمة له، واستقرارها عند أبيها (القائد ابن الشهباء).

ـ موت كيما زوجته، وموتها ذاك هو بمثابة هروب.

"كانت كيما والسالمة ذاهلتين عن زوجهما القائد همو، غائبتين عن أحواله" (الرواية، ص228). إن حيرة القارئ وتردده مبعثها أن ماساة عالم الرواية، قائـمة على التكالب على السلطة والمال وتتبيث قواعد مخزنية. لذلك نلمس نوعا من التعاطف مع شخوص الرواية من قبل الروائي ضدا على همو، بل إن الروائي يتدخل لينصف هذه الشخوص، وليأخذ لها حقها عبر المشهد الانتقامي من القائد همو. "عندما انتهت الخطبة وأقيمت الصلاة، تحرك الابن الأصغر للشيخ أحماد حتى يصلي وراء القائد همو وطعنه في ظهره طعنات قاتلة. لم يصرخ القائد ولكنه سقط على الأرض من حينه وقد فارق الروح" (الرواية، ص249). غير أن الروائي بهذا المشهد، مشهد مقتل همو داخل المسجد، وهو يؤدي فريضة الصلاة، جعله شهيدا. إنه عمر بن الخطاب أو إدريس الأول…

وبهذا فأحمد التوفيق كان يمهد لموت همو ولو معنويا (رمزيا)، مادام الجميع قد تخلى عنه، وإن تعددت أشكال هذا التخلي، وبذلك فقد مات مرتين: الأولى إنسانية، إذ فقد كل ما هو إنساني، فاستباح الظلم والتكبر، والثانية موت فيزيولوجي.

 

5 – الفضاء الروائي:

يمكن اعتبارالفضاء داخل الأدب، عموما، الحيز الذي لا يتحقق، في النادر، سوى على الورق؛ أي عبر نسق معين، وإن كان السرد القصصي يراهن على كينونة الفضاء/الحيز، حيث تنتشر العلامات اللغوية، وتتوزع مترابطة على هيئة سلسلة(18). مما يجعل الفضاء بصمة Tic، تؤشر على المرحلة التاريخية المشعة بخصائص العصر وطوابعه الاجتماعية والثقافية والدينية، إنه أديولوجيم الحقبة، بلغة كريستيفا(19).

يتميز الفضاء الروائي باستقلاليته الموضوعية، كإطار لمجريات الأحداث، فهو فضاء مبدع، أعاد الروائي إنتاجه وفق عمليات وظيفية، جمالية وإنسانية، طبع بها الروائي شخوصه، إذ يحدد داخلها حركية الشخوص، ضمن الشروط المتحكمة في الدلالة السردية والفعل القصصي، ومقاصد الشخصية الروائي والسارد والروائي من وراء كل ذلك. أي يمكننا اعتبار النص فضاء(20).

فالسارد في رواية شجيرة حناء وقمر عندما يتوجه بسرد مجريات الأحداث، فيقول: "وصل القائد الجديد إلى حصن السوق، عاصمة إيالته، ودخل من باب العرب الموالي للسهل دون أن يشعر به أحد" (الرواية، ص5)، فهو بهذا التحديد يعطي المكان صفة التعريف (اسم المقر) مسقطا عليه هالة سياسة محددة (عاصمة إيالته)، فيكتسب المكان منذ الساعة إيقاعا مناظرا للرهبة التي تتولد لدينا بسماعنا لفظة العاصمة ويخلق آفاقا للانتظار. لقد جعل الروائي من فضاء "حصن السوق" فضاء وسطا بين المركز، الذي تمثله (فاس – مراكش – الدار البيضاء) والهامش (الجبل والسهل) ليحقق أحمد التوفيق فضاء خاصا، مغايرا للفضاء الذي "يقضي فيه الناس حياة بيوغرافية في زمن بيوغرافي: يولدون ويقضون طفولتهم ومراهقتهم، يتزوجون ثم يلدون أطفالا، يشيخون ثم يموتون"(21). إن الروائي يستغل فضاء حصن السوق كرنفاليا، فضاء للفضيحة أو الخلع الكرنفالي، إذ يتيمز هذا الفضاء عامة بزمن الأزمنة والتغيير الجذري والتصدع المصيري المفاجئ، حيث تتخذ القرارات وتتحطم حدود المحظور.

إن فضاء حصن السوق فضاء منغلق على نفسه، ففضاء حصن السوق هو عبارة عن قصبة محاطة بأسوار، وداخل القصبة هنا فضاءات مسورة ومحرمة على العامة، المنزه، الرياض. أما السجن، فهو مكان لإحكام القبضة على الأعداء: "فلا بد أن يسبق خبر السجن وينتشر في الآفاق وأن يكون المارون إلى السوق من القادمين من الجبال ينظرون إلى جدرانه تعلو على جانب الطريق وأن يتخيلوه قبرا عظيما للأحياء تنهش فيه الأفاعي وتلدغ العقارب، وأن يتخيلوا أن الجرذان تنازع نازليه في ما يتسرب إليهم بعد كد من قليل القوت، ولا بد أن يتحدث البناؤون أيضا عن بيوت لا تتسع الواحدة منها إلا للحنش واقفا…" (الرواية، ص30).

على أن علاقة حصن السوق كنسق فضائي مغلق –بلغة بورنوف-(22) في ارتباطها بالنسق الفضائي المفتوح تتحدد من خلال انفتاح حصن السوق على مدن فاس، مراكش، الدار البيضاء وعلى المجهول والبادية.

تنفتح على فاس كمركز للسلطة والرهبة ولتعزيز وتثبيت قيادة همو، وتنفتح على مراكش كمكان للاقتراض وتغيير الذهب بالنقود، كما تنفتح على الدار البيضاء للتزود بالدخيرة. وانفتاح حصن السوق الحذر على هذه العوالم هو انفتاح اضطراري لأن القائد همو في حاجة للأموال لاقتناء الأسلحة لتثبيت مكانته عند المخزن ولمواجهة المجهول والسيطرة على البادية.

فحصن السوق كفضاء محدد/مغلق يمارس تواجده كعامل أساسي لبناء عوالم الرواية (علاقته بالمركز وبالهامش). إنه فضاء للتملك وفرض الرقابة على باقي المناطق، منه تنطلق الإغارة على القبائل. كما أنه يعتبر سجنا كبيرا بالنسبة للسالمة ومنفى لكيما.

إن رسم تفاصيل المكان وجزئياته يهدف الروائي من ورائه تقديم الذات الشاغلة للحيز أمام رحابة الفضاء أو تقلصه. ذلك أن ما نحسه إزاء المكان لأول مرة كانطباع وكشعور هو ما يطبع هذا الفضاء طول الوقت.

فمنذ الوهلة الأولى يحس القارئ بذلك النفور من حصن السوق (دلالة الاسم) ومن صاحبه. وإن حاول القائد همو أن يعيد تأثيث الفضاء من جديد سواء بعد زواجه من السالمة أو بعد زيارته لبيت الوزير…

إن فضاء رواية شجيرة حناء وقمر فضاء المركز الوحيد حيث يشكل فضاء حصن السوق منطق الحدث ومؤهله. إذ تنطلق منه الأحداث لتعود إليه.

 

 

6 – الزمن الروائي:

تقوم شجيرة حناء وقمر على توليفة زمنية للبناء الزمني للرواية المغربية، إذ تعتمد الرواية تعاقب الليل والنهار، ومسايرة الفلك، فلا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سبق النهار. فالبناء الروائي عند أحمد التوفيق في النص يعود بنا إلى بناء الزمن عند أمبرتو إيكو في روايته اسم الوردة(*). إذ يقوم الزمن في هذه الرواية اعتمادا على مواقيت الصلاة عند المسيحيين (صلاة الحمد، صلاة أول الصبح، صلاة الستار، صلاة النوم…).

إن من رواية شجيرة حناء وقمر زمن طبيعي/كوني، فطري لا يعير للتحديدات الزمنية ولا للمدة أدنى اهتمام، وبهذا نجد الرواية تزخر بمزيج من المواقيت الزمنية.

1 – تعاقب الليل والنهار، إذ اعتمد الروائي الدورة الزمنية اليومية:

ـ "شعرت السالمة بعد استيقاظها في الصباح الباكر…" (الرواية، ص253)

ـ "في مساء ذلك اليوم…" (الرواية، ص71).

ـ "في صباح اليوم الموالي…" (الرواية، ص22).

ـ "في وقت من الليل…" (الرواية، ص111)

2 – مواقيت الصلاة، تزخر الرواية بهذا النوع من التوقيت، لشيوعه في البوادي المغربية:

ـ "في جلسة بعد المغرب…" (الرواية، ص66)

ـ "قبل العصر…" (الرواية، ص110)

3 – زمن شمسي، حيث اعتمد طلوع الشمس وغروبها:

ـ "كانت الشمس في الشفق…" (الرواية، ص73)

ـ "لما مالت الشمس إلى الاصفرار…" (الرواية، ص70).

4 – زمن قمري:

ـ "ليلة تمام البدر…" (الرواية، ص50)

ـ "لما أوشك القمر أن يتوارى عن منظرها…" (الرواية، ص252).

5 – زمن  ذو طبيعة مناسباتية مبهمة:

ـ "في صباح غد يوم الاحتفال…" (الرواية، ص21).

ـ "في يوم ثامن العرس…" (الرواية، ص60)

ـ "في ظهر يوم تقديم الهدية…" (الرواية، ص69)

6 – زمن مواقيت تناول الطعام:

ـ "… وهو يتناول الفطور…" (الرواية، ص35)

ـ "وبعد تناول الغذاء…" (الرواية، ص14)

ـ "وفي وقت الغذاء…" (الرواية، ص252).

على أن ما يبرر هذا الاستعمال للزمن بهذا الشكل هو كون رواية شجيرة حناء وقمر تتحدث عن فترة زمنية منتمية للقرن الماضي، وتضرب بجذورها في البداوة، وشيء طبيعي أن يساير الروائي، معيشة أهل الزمن، من اعتماد على الطبيعة في كل شيء…

 

7 – الرواية والبنيات الثقافية:

لقد سعى أحمد التوفيق من خلال روايته إلى نقل صورة للبنيات الذهنية والثقافية المغربية، مستفيدا من التاريخ الاجتماعي ومسقطا إياه إلى عالم الرواية، حيث تزخر رواية شجيرة حناء وقمر بالعديد من اللوحات الفنية التي تزيد السرد الروائي عند انحباسه (الوقف Pause) عذوبة، إلى درجة أن القارئ يبقى مشدودا إلى قدرة الروائي أحمد التوفيق الوصفية.

وتشكل لوحة الشاي قطعة فنية، تماشيا أولا مع الظرفية التاريخية المتحدث عنها، ولكونها، ثانيا جاءت متساوقة مع السياق العام الذي تسرد فيه الأحداث وهي لوحة تستغرق أربع صفحات: "لا بد للقيم أن يكون ممن يعرف آداب الصنعة. يعرف متى يدل البخار الخارج من لسان البقراج على حرارة الماء المناسب لإقامة جيدة، ويعرف كيف الاستواء أمام الآنية…" (الرواية، ص95).

تكشف الرواية عن العديد من مظاهر أنماط الوعي والثقافة المشكلة لبنية المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر وفي منطقة محددة روائيا هي منطقة (الحوز) عبر لوحات فلكلورية/ثقافية بالمعنى العام. فلوحة إخراج الكنز المتحدث عنها في الصفحات (من 191 إلى 194)، لوحة تنتمي إلى السرد الشفهي المتحدث بها لماما وفي جلسات خاصة، إن الروائي بفعله هذا يعيد الاعتبار للمسكوت عنه وللشفاهي. "… فأشار الطالب المسن وحطوا الرحال. أخرجوا الفؤوس وبدأ العبدان والطالب الأصغر في الحفر تحت الصخرة بينما كان الطالب الآخر يتمتم قراءاته. ولم يطل الحفر حتى بدا ثقب من فم المغارة. وعندها أشار الطالب بإخراج المجامير فأوقدوا النار ووضعوا البخور على الجمر وواصلوا الحفر، وكانت ريح خفيفة تدفع دخان البخور إلى الداخل…" (الرواية، ص194). تصور هذه اللوحة عملية إخراج الكنز المحروس من طرف الجن، وما تستدعيه عملية الإخراج تلك، من حرق للبخور وترتيل لتعازيم خاصة مستصحبة لطقوس لا يعلمها إلا الراسخون في العلم. وهي لوحة تنتمي إلى الماضي الثقافي.

ولا تقتصر رواية أحمد التوفيق شجيرة حناء وقمر على هذه اللوحة فحسب، بل إنها تزخر بالعديد من اللوحات: لوحة الشاي، لوحة جلسة الحناء، لوحة العروس، لوحة الصياغة، لوحة إخراج الجن من كيما.

"حضر الإمام وألحت السالمة على خادمتها الكبرى وخادمة كيما أن تظلا بجانبها ولم يمانع الإمام في ذلك، وبدأ في تلاوة رقيته والبخور تحرق بكثرة وكان المتكلم من كيما يستهتر بصاحب الرقية فيعيب حركة شفتيه ويقرأ معه بالجهر ما يقرأ هو في السر، ثم أخذ يفضح أسرارا من حياته الخاصة، أخجلت الخادمتين، فانصرفتا إلى ما وراء الباب، وكان الإمام وهو يسمع ما يقول الساكن في كيما يستعيد بالله ويقول: اخرج أيها الشيطان! فكان يرد عليه الساكن: أنا الشيطان أم أنت؟ ألم تفعل كذا وكذا…" (الرواية، ص808).

في هذا المقطع يصور السارد محاولة إخراج الجن من جسد كيما زوجة القائد همو. غير أن النص ذاته يضعنا أمام مشهد كرنفالي، إذ يتعرض الإمام (مع ما ينبغي أن تكون عليه هذه الشخصية من وقار واتزان ومعرفة) للسب والفضيحة، وهنا تقلب المواقع إذ عوض أن يطرد الجني، نشاهد الإمام في موقف ضعف، إذ يصبح مطرودا وهاربا. كما أن هذا النص هو صورة مصغرة لارتباط المقدس (مفهوم الإمام كتصور وإطار ديني) بالمدنس (شخصية الإمام روائيا). وثنائية المقدس/مدنس تنسحب أيضا على القائد همو والرواية، وارتكازا على مثل هذه اللحظات/اللوحات، هي فضح للمسكوت عنه، وإخراج لمجموعة من العيوب، عيوب أولي الأمر: القائد-الإمام… وعليه، فرواية أحمد التوفيق، تعتمد الخطاب التاريخي مغلفا بالخطاب الروائي، بحيث لا يمكن التفريق بينهما، لأنهما يعتمدان تصورا واحدا للزمن، ولأن الخطاب التاريخي المتواجد في النص الروائي، يتشكل حكائيا، بقدر ما يتوخى إقامة علاق يمرر عبرها موضوعات وأشياء تكون لها صلة بالتاريخ وبالحاضر…n

 



(1) أحمد التوفيق، شجيرة حناء وقمر، (رواية)، دار القبة الزرقاء، سلسلة جواهر الأدب(2)، مراكش، الطبعة الأولى، 1998، وتقع الرواية في 258 صفحة من الحجم المتوسط.

(2) للمؤلف الأعمال التالية:

ـ المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (إينولتان) 1850-1912، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية (صدرت في طبعتين)، ط2، 1983.

ـ التشوف إلى رجال التصوف، لابن الزيات التادلي، (تحقيق)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، صدرت في طبعتين، ط2، 1988.

ـ مواهب ذي الجلال في نوازل البلاد السائبة والجبال، لمحمد الكيلي (تحقيق)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1997. وما إشارتنا لهذه الأعمال إلا لكونها تشكل الخلفية التاريخية والثقافية لرواية شجيرة حناء وقمر.

(3) حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر، بحث استطلاعي اجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، الطبعة الرابعة 1991، ص359.

(*) ونحن بصدد إنجاز هذه الدراسة صدرت للأستاذ أحمد التوفيق رواية ثالثة تحت عنوان: السبيل، عن دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى 1998.

(4) أحمد التوفيق، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، مرجع مذكور، ص9.

(5) إدوار الخراط، الحساسية الجديدة، مقالات في الظاهرة القصصية،دار  الآداب، بيروت، الطبعة الأولى، 1993، ص23.

(6) انظر بحث عبد الرزاق الصديقي، الرحامنة وعلاقتهم بالمخزن (1850-1900)، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، الطبعة الأولى، 1997.

على أننا نعني بمغرب السيبة، الفترة الزمنية التي أعقبت وفاة الحسن الأول، إذ تمردت مجموعة من القبائل بسبب "ثقل العلاقات الجبائية والتسخرية وما كان يحف بتلك الجبايات من اشتطاط القواد في نهب أرزاق الناس" عن بحث الرزاق الصديقي، مرجع مذكور أعلاه، ص253.

(7) أحمد التوفيق، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، مرجع مذكور، ص9.

(8)  G.Genette, Seuils, ed. Seuil, coll. Poétique, Paris, 1987, p73.

(9) كمال أبو ديب، (هو ذا الكتاب…)، مجلة فصول، المجلد 16، العدد 2، خريف 1997، ص235.

(10) علي زيعور، التحليل النفسي للذات العربية، أنماطها السلوكية والأسطورية، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثانية، 1982، ص124.

(11) محمد عجينة، موسوعة أساطير العرب، عن الجاهلية ودلالاتها، الجزء الأول، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 1994، ص140.

(12) نفسه، ص147.

(13) شوقي عبد الكريم، موسوعة الفولكلور والأساطير العربية، مكتبة مدبولي، ط1 – 1995، ص70.

(14) لقد ورد ذكر لفظ "القمر" في القرآن الكريم عشرين مرة، وورد مرة واحدة تحت اسم "زمهرير" }لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا{، سورة الإنسان، الآية 13.

(15) سورة النور، الآية 35.

(16) سورة إبراهيم، الآية 24.

(17) علي زيعور، التحليل النفسي للذات العربية، مرجع مذكور، ص169.

(18)  Tadie (J.Y) Le récit poétique, PUF, Paris, 1969, p47.

(19)  Kristiva (J) Le texte du roman, LaHaye, Mouton, 1970, p181.

(20)  Tadie (J.Y) Le récit poétique, op.cit., p47.

(21) ميخائيل باختين، شعرية دوستويفسكي، ترجمة جميل نصيف التكريتي، دار توبقال، الطبعة الأولى، 1986، ص219.

(22)  Bourneuf (R., « L’organisation de l’espace dans le roman », Etude littéraire, Avril 1970, p53.

(*) أمبرتو إيكو، اسم الوردة (رواية)، ترجمة أحمد الصمعي، دار أويا، طرابلس، الطبعة الثانية 1998.