ص1      الفهرس     المحور

 الخطاب الضمني في التشريع التربوي

 

عمر أوكان

1 – التشريع والقانون:

يلعب التشريع دورا أساسيا في حياة المجتمعات، ليس باعتباره ينظم حياة الأفراد من أجل ذاتهم، وإنما ينظم حياتهم من أجل خدمة(*)فكر طبقة معينة تمارس السلطة وتستحوذ على آلياتها، تحت شعار مضلل هو "معرفة الأشياء خير من جهلها"، أو باسم قاعدة سلطوية "لا أحد يعذر بجهله للقانون".

ومن هنا فإن أهم مجال يمكن للتشريع أن يمارس فيه، وعليه، السلطة هو التربية؛ لأنها تهتم وتتصل مباشرة بالأفراد منذ الصغر وحتى الكبر، ما دام الإنسان يتربى في كل مراحل عمره. ولذلك كانت التربية هي أخطر مجال، وأول مجال يمكن للفكارة أن تفكر فيه، وتحاول الحضور ضمنه، باعتبار أن الخطاب التربوي أخطر من الخطاب السياسي، وأكثر فكارة منه كما يرى أوليفيي روبول[1]. لهذا فإن حضور الخطاب التشريعي في الخطاب التربوي حتمية ضرورية، إن كان الخطاب التشريعي يعرف توجهاته ويفهم أدواته، ويعي ذاته. وهو بذلك يمكنه أن يمارس الضغط نفسه الذي يمارسه التدريس بواسطة الأهداف في خلق إنسان مستلب الإرادة والحرية والفكر. فإذا كان التدريس بواسطة الأهداف يقوم بترويض الإنسان وسلبه إنسانيته؛ فإن التشريع التربوي يجعله طيعا ووديعا عن طريق الثواب والعقاب، إذ يهب المريدين هباته (ترقية، ترسيم، رخص، أو سمة، الخ)، في حين يعاقب المتمردين عليه أو المشاكسين (حرمان من الترقية، إنذار، توبيخ، فصل، الخ).

ويغلف التشريع ممارساته عن طريق القانون الذي يعرف بكونه "تلك المجموعة المؤلفة للقواعد القانونية النافذة في إقليم دولة معينة، في زمان معين، ويؤدي تطبيق كل قاعدة قانونية إلى تحقيق آثار قانونية"[2]. ورغم أن هذا التعريف لا يبرز الوجه السلطوي للقانون، إلا أنه يبين أنه نظام مؤسس على مجموعة من القواعد التي هي من وضع جماعة مسيرة لجماعات مسيرة. وقد أوضح فوكو أن النظام هو إرغام وخضوع لسيطرة القواعد، هذا الخضوع الذي يعطي ضمنيا الإقرار بمشروعية السلطة باعتبارها ممارسة "تعمل في خفاء"[3] من خلال القانون وقواعده، والذي هو "تنظيم النزوعات اللاشرعية التي يمنعها ويعزلها، ويتخذها كموضوع أو كوسيلة من وسائل السيطرة"[4].

هكذا يبدو أن الخطاب الضمني في التشريع التربوي هو خطاب سلطوي في جوهره؛ إذ التشريع التربوي حاضر لممارسة المراقبة والعقاب، وسن معايير ينبغي على الأفراد الخضوع لها والامتثال (احترام السلم الإداري في التراسل التربوي مثلا).

وسوف نحلل هذا الخطاب التشريعي من خلال تشريح خطابه وتفكيكه؛ مركزين على اللغة، والعلاقات التواصلية، والقيم الإنسانية، محاولين الإجابة عن سؤالين جوهريين هما كالتالي:

أ ـ ماذا يقول الخطاب التشريعي في التربية؟

ب ـ كيف يقول ما يقوله؟

 

2 ـ اللغة والخطاب التشريعي:

ليست اللغة بريئة على الإطلاق، بل هي محملة بالفكارة؛ إن لم نقل إنها فكارية في جوهرها. وقد أظهر بارت أن اللغة سلطة تشريعية[5]؛ كما أوضح فوكو الإرغامات التي ينطوي عليها الخطاب باعتباره نظاما[6]؛ بينما أبان بورديو على أن اللغة لا تستمد سلطتها من داخل الخطاب بل هي تستمد هذه السلطة من خارج اللغة، يعني من المؤسسة التي تفوض للمتكلم أمر التكلم بلسان جهة معينة[7]؛ أما روبول فهو يعتبر أن هناك فكارة معينة تحدد طريقتنا في الحديث، إضافة إلى معنى كلامنا، مانحة إياه سلطة (سلطة الإقناع أو الرفض أو القبول، الخ)[8].

ويزخر الخطاب التشريعي بمجموعة من الألفاظ (الكلمات–المحور، الكلمات-البؤر، الكلمات-المفاتيح، الكلمات-الخدع، الكلمات-الصادمة، الخ) التي هي في أصلها سلطوية، ولا يجد خجلا في كونها كذلك، انطلاقا من لفظ "السلطة" ذاته الذي يتردد كثيرا، وعلانية، ظنا منه أن إظهار هذا اللفظ، دون حجاب، يظهر حسن نية المؤسسة، ويخفي رغبتها في التهديد وبث الرعب والخوف، منذ البداية، في قلوب الموظفين لحثهم على الطاعة العمياء وإلا أصابهم ما لا تحمد عقباه، لأن المؤسسة لا تصدر تهديدات فارغة، بل تفي بكل التزاماتها (سلبية كانت أم إيجابية) مخافة فقدها لمشروعيتها، مما يجعلها تملك حتى صلاحية معاقبة الوزير، أو من فوقه (الملك أو رئيس الدولة مثلا)، إذا هددها في مصالحها الخاصة، أو في وجودها؛ وذلك إما عن طريقها مباشرة، أو عن طريق تشغيل آلياتها وتوابعها.

هكذا يعلن الخطاب التشريعي أن الموظف معين من طرف سلطة معينة لخدمتها، وأن المقتصد يتكلف بالتصرف المادي والمالي تحت سلطة مدير المؤسسة، وأن للوزير الحق في مباشرة انتقالات الموظفين الموجودين تحت سلطته، وأن المفتشين يزاولون مهامهم تحت سلطة النائب الإقليمي للمنطقة التي يعملون بها، إلى غير ذلك من العبارات المشاكلة لهذا.

وتشير السلطة هنا إلى خضوع تام، وطواعية مطلقة، لأشخاص أدنى في الرتبة (أو الدرجة) إلى شخص أعلى منهم؛ وذلك من أجل أن يمنحهم نقطة امتياز تساعدهم في الترقية أو الترسيم، وتجعل منهم لعبة توفر له نوعا من السعادة والمتعة حين يحركهم كيفما شاء، وأنى شاء.

وتزكي هذه السلطة ألفاظ أخرى مثل المرسوم الذي هو اتباع الطريق المسطر سلفا؛ والقرار الذي لا يمكن لأحد أن يقوم به، إلا إذا كان مالكا لسلطة اتخاذه؛ والمراقبة التي هي رديفة للتربص والتجسس، ولا يمكنها أن تصدر عن جهاز تربوي وإنما عن جهاز قمعي كالشرطة أو الجيش مثلا، وغيرها من المفردات العديدة.

وإذا انتقلنا من الألفاظ إلى تركيبة الجملة في التشريع التربوي؛ فإننا نجدها تجسد هذه الفوقية (ودونية الآخر) المتجلية في استعمال عبارات تحتوي على أفعال إنجازية ذات قوة حرفية(*) (يجب، ينبغي، يتعين، يتوجب، يشترط، على المدرسين، الخ). وتتمثل في بالأمر الذي هو طلب القيام بأمر غير قائم وقت الطلب على وجه الاستعلاء؛ ولذلك كانت هذه القوة حرفية لتدل على هذا الاستعلاء، ولم تكن مستلزمة(**) حتى لا تدل على غير الاستعلاء، كالدلالة على الالتماس أو الرجاء أو الدعاء أو الإرشاد أو غير ذلك. وهذا ما يعكس سلطة الخطاب التشريعي المتجلية في توفر الوضوح في التواصل اللغوي من أجل رفع الالتباس أو الغموض عن الملفوظ، وإبعاد كل احتمال لتعدد المعنى وبالتالي لتعدد التأويل؛ لأن الوضوح الذي هو توفر معنى واحد فقط يوحد الزمرة المحكومة، والتعدد يفرق بينها ما عدا في بعض الخطابات الخاصة، غير الخطاب التشريعي، مثل الخطاب الأدبي، حيث التعدد ناتج عن الوظيفة الشعرية للخطاب؛ ومثل الخطاب السياسي، حيث المتكلم يلجأ إلى تعدد الدلالة ليطرح نفسه باعتباره المالك الوحيد (والوحيد فقط) للمعنى، ومن ثمة فهو جدير (دون غيره) بالتقديس والحكم، وهو يلجأ إلى ذلك حين يكون عاجزا عن الإقناع بالأدلة والوقائع، ومثل الخطاب السحري الذي يطرح نفسه باعتباره مالكا للحقيقة في حين أنه يجهلها، ويخفي هذا الجهل عن طريق فتح الباب على تعددية المعنى ولا نهائية التأويل حتى يجعل نفسه في مأمن من الفضيحة.

إضافة إلى ذلك يستعمل الخطاب التشريعي الجمل الفعلية؛ لأنها دالة على التحول والتغير، دلالة على أن التشريع التربوي لا يكتسي صبغة الجمود، بل هو قابل للتغير. وقبوله للتغير لا يرجع إلى كونه غير مقدس (بل هو مقدس ويطالب بذلك)، بل لأنه يحتاج لهذا التغير في حالة تعارض الخطاب مع مصالح المؤسسة في فترة ما، أو مكان ما؛ مما يتطلب تغييره حتى يتلاءم مع مصالح المؤسسة المشرعة.

 

3 ـ العلاقات التواصلية ووظائف الشخوص:

يقول بورديو: "إن الوظائف الاجتماعية أوهام اجتماعية، وإن طقوس المؤسسة هي التي تجعل ممن تعترف به بالدخول في المؤسسة ملكا أو فارسا أو قسا أو أستاذا. فترسم له صورته الاجتماعية، وتشكل التمثل الذي ينبغي أن يتركه كشخص معنوي، أي كمكلف من لدن جماعة ناطق باسمها. ولكنها تفعل ذلك أيضا بمعنى آخر، فهي إذ تفرض عليه اسما أو منصبا يحدده أو يعينه ويشكله، ترغمه على أن يصبح ما هو عليه، أي ما ينبغي أن يكونه فتلزمه بوظيفته، ويدخل في اللعبة والوهم، ويلعب اللعبة والوظيفة"[9].

أكثر من ذلك يعتبر بورديو أن سلطة الكلام ليست سوى السلطة الموكولة لمن فوض إليه أمر التكلم بلسان جهة معينة، بل إن فحوى الخطاب وكيفية إلقائه تعودان إلى المقام الاجتماعي للمتكلم، لينظر إلى الناطق باللسان باعتباره مضللا "عهد إليه بأمر التكلم"[10].

وفيما يخص العلاقات التواصلية في التشريع التربوي، فهي علاقات ترتبط بالوظائف الاجتماعية لفواعل التواصل ارتباطا وثيقا؛ حيث تفرض هذه العلاقات أولا وجود مرسل ومرسل إليه، ولا يمكن للتواصل أن يتم في غياب أحد هذين العنصرين، إذ لا يمكن للمرسل أن يكون مرسلا ومستقبلا في نفس الآن (وكذلك الأمر بالنسبة للمتلقي) كما هو الأمر –مثلا- في الحوار الداخلي، فلا يمكن في التشريع التربوي أن يراسل الشخص نفسه طالبا منها رخصة غياب أو مستعطفا إياها، أو متظلما منها، أو غير ذلك؛ بل هناك فواعل في التواصل منفصلون، ويخضعون لهرمية متدرجة من أدنى المراتب إلى أعلاها، وكلما صعدنا السلم إلا وازدادت سلطات الشخص وقدرته على اتخاذ القرارات، وكلما هبطنا السلم إلا وقلت سلطات الشخص وسلبت منه القدرة على اتخاذ القرارات. ولذلك سمي التراسل من أدنى إلى أعلى تراسلا صاعدا، ويسمى التراسل من أعلى إلى أدنى تراسلا هابطا. وقد فرض على الموظف في الحالة الأولى احترام السلم الإداري وعبارات الاحترام والتقدير، في حين أن الحالة الثانية لا تتطلب من الرئيس احترام الموظف بل إنه يأمره أو يحذره أو ينذره أو يوبخه، أو حتى إن اقتضى الأمر يطرده من الوظيفة العمومية عن طريق التوقيف أو الفصل النهائي عن العلم.

هكذا لا يمكننا في التراسل الصاعد الحديث إلى رئيس مثلما نتحدث إلى زميل لنا في العمل أو في الشارع؛ إذ إن مقام التواصل يفرض احترام السلم الإداري، فنحن لا نكاتب السيد الوزير مباشرة، بل نكاتبه عن طريق الإدارات الوسيطة بالتنازل:

إلى السيد وزير التربية الوطنية

الكتابة العامة

مديرية شؤون الموظفين

قسم موظفي التعليم الثانوي الرباط

على يد السيد مدير ثانوية……

تحت إشراف السيد النائب الإقليمي لوزارة التربية الوطنية بـ……

هكذا نلاحظ أن الشخص الأكبر في السلم هو الأول في التراسل الإداري، وهي سلطة رمزيةتزيد من رأسماله الرمزي الذي لا يعمل التشريع التربوي سوى على تقويته من خلال منع الموظف من استعمال العبارات الودية التي يستعملها الناس فيما بينهم؛ مما يضاعف من سلطته الرمزية، وذلك بمخاطبته بضمير الجمع –مثلا- للدلالة على التعظيم، لأنني حين أعظم الآخر لا أجعل نفسي أقل منه فقط، بل أضعها تحت سلطته.

ويسعى التراسل الهابط إلى الحفاظ على هذه الهرمية؛ حيث إن المذكرات الوزارية –مثلا- الصادرة عن الوزير، أو بتفويض منه، تراعي مراعاة دقيقة هرمية المرسل إليهم. لأن ذلك يقوي من سلطة المؤسسة، باعتبار أن الهرمية نظام ينبغي احترامه والمحافظة عليه، حتى يمكن احترام المؤسسة والمحافظة عليها:

إلى

السادة مديري الأكاديميات

السادة نواب وزارة التربية الوطنية

السادة مفتشي التعليم الثانوي

السادة مديري الثانويات

وهذه الهرمية قصدية الغرض منها إجبار الموظفين على الخضوع للمؤسسة تلقائيا دون تدخل منها مباشرة؛ لأن هذا الخضوع التلقائي لا يكلفها استعمال رأسمال الرمزي (أو المادي) لما في ذلك الاستعمال من تكلفة وهذر لطاقتها، في حين يمكنها أن تسيطر رمزيا عن طريق النظام.

واحتراما لهذه الهرمية وضع التشريع التربوي صنافة لموظفي وزارة التربية الوطنية على صعيد الوزارة نفسها، أو على صعيد قطاع المؤسسات التعليمية؛ حيث نجد على رأس الصنافتين الوزير باعتباره سلطة سياسية قبل أن يمثل سلطة تربوية. وهو يجسد قمة الهرم في وزارته، ولا يمكن التظلم منه إلى الوزير الأول؛ لأن هذا الأخير من الناحية الإدارية لا يمثل سلطة رئاسية على الوزير. وتعطيه المؤسسة باعتباره ممثلا لها ومدافعا عنها، صلاحية ممارسة التعيين والتقرير والتسيير والرقابة بدلا عنها. هكذا يمكن للوزير أن يقوم –مثلا- بمعاقبة الموظف بصفته السلطة الإدارية العليا. هذه السلطة التي تقوي من حضورها بمنح الوزير صلاحية التوقيع على المذكرات والمراسيم التي لا يمكنها إلا أن تنفذ من طرف الأكاديميات والنيابات والمؤسسات التعليمية، وإلا تعرض من لم ينفذها للعقاب. وتوقيع الوزير (أو من ينوب عنه) هو توقيع، في الحقيقة للمؤسسة. ويمارس هذا التوقيع مراقبة على من يرسل إليهم، مشعرا إياهم بأن المؤسسة دائما حاضرة للقيام بالمراقبة والزجر.

هناك، إذن، وظيفتان في العلاقات التشريعية؛ وظيفة النظر بالمجهر، ووظيفة التموضع تحت المجهر. أي بعبارة أوضح، هناك من يمارس المراقبة بموجب سلطة تمنحها له المؤسسة، وهناك من تمارس عليه المراقبة.وباصطلاحات النحاة هناك فاعل، وهناك مفعول به؛ انطلاقا من تراتبية اجتماعية هي ذات دلالة رمزية. وكلما هبطنا السلم إلا وتعدد الفاعلون؛ تمارس عليه المراقبة من طرف مدير المؤسسة، والمشرف التربوي، والنائب الإقليمي، ومدير الأكاديمية، الخ. وكلما صعدنا السلم إلا وقل المفعول بهم. ومخافة ألا يقوم ممثلو المؤسسة بالدور المنوط بهم، نجد هذه الأخيرة تستعين بآليات أخرى للضبط والمراقبة دورها مراقبة ممثلي المؤسسة؛ كما هو الأمر في المجالس التربوية، ومجلس التكوين، والمجلس الداخلي، الخ؛ والتي الهدف منها إجبار ممثلي المؤسسة على الخضوع لسلطتها.

 

4 ـ القيم الإنسانية:

يبدو الخطاب التشريعي خطابا إنسانيا في ظاهره، إلا أنه في باطنه خطاب غير إنساني إطلاقا، لأنه لا يجعل الإنسان هدفه، بل مصلحة المؤسسة، فإنسانية الإنسان ليست هي غاية التشريع، وإنما الإنسان ليس سوى وسيلة للإنتاج لا تختلف عن الآلة. وسوف نكشف عن لا إنسانية الخطاب التشريعي من خلال الاقتصار على بعض الأمثلة التي يمكن القياس عليها.

فمن شروط الولوج إلى الوظيفة العمومية توفر الموظف على مروءة. إلا أنه هل من المروءة (التي تدعو إليها المؤسسة) أن يكون من شروط ولوج إحدى الوظائف العمومية توفر الشخص على القدرة البدنية؛ مما يعني إقصاء الأشخاص غير المنتجين من ذوي العاهات أو الأمراض دون اعتراف بإنسانيتهم، وذلك في غياب تعويض مادي عن البطالة أو العاهة أو المرض؟!!!

كذلك قد يبدو ظاهريا، أن الاستيداع الإداري في جوهره نابع من قيمة إنسانية، فهو يتم، من بين ما يتم، في حالة إصابة الزوج أو أحد الأبناء بحادث خطير أو مرض مزمن، أو في حالة تربية الولد الذي يقل عمره عن خمس سنوات أو مصاب بعاهة تقتضي علاجا مستمرا. إلا أن هذه القيمة الإنسانية تختفي، أو سرعان ما تفتضح، حين نعرف أنه في الاستيداع الإداري لا يتقاضى الموظف أي مرتب مع أنه في حاجة إلى معالجة ذويه، مع ما يقتضيه العلاج من مبالغ باهضة، فأين هي القيمة الإنسانية في ذلك، مع أن الإدارة تحتفظ للموظفين بمرتبهم في حالة إلحاقهم بعضوية مجلس النواب أو لنيابة نقابية، وهي حالات غير إنسانية، ورغم ذلك احتفظت لهم المؤسسة فيها براتبهم؟!!!

وننتقل إلى التعويضات عن الأولاد، حيث يعوض عن الأولاد شريطة ألا يكونوا متزوجين أو بالغين من العمر سن السادسة عشر، ويمكن رفع السن إلى حدود الحادية والعشرين سنة بالنسبة للأولاد الذين يتابعون دراستهم، ولا يعتد بحد السن فيما يخص الأولاد المصابين بعاهة تجعلهم غير قادرين عن العمل. وحتى هنا تبدو القيمة الإنسانية متوفرة جليا، إلا أن هذا التعويض هزيل، حيث يبلغ مائة درهم عن كل طفل من الثلاثة الأوائل، وستة وثلاثين درهم عن كل طفل مما فوق الثلاثة الأوائل. فهل مثل هذا التعويض (الذي لا يخجل من حمله لهذا الاسم) كاف لعلاج ذوي العاهات أو حتى لمتابعة وتغطية مصاريف الدراسة؟!!! فمثل هذا التعويض لا يقي من حر الصيف فأنى له أن يكسو في قر الشتاء؟!!!

بل يمضي التشريع في لا إنسانيته ليقرر أن الموظف لا يستفيد من التعويض العائلي إلا في حدود ستة أولاد، وهذا يعني أن ما فوق الستة لا يعوض عنهم الموظف. وهنا نجد أنفسنا أمام نوع من القسر والإجبار الواضحين، فما معنى أن تحدد لي عدد الأطفال المعوض عنهم إن لم يكن ذلك سلبا لحريتي في الاختيار؟!!! وقد يعترض علي بكون هذا الإجراء هو من أجل تحديد النسل، فأجيب إن تحديد النسل هو إجراء وضع لمصلحة المؤسسة وليس من أجل مصلحة الفرد.

ويبدو من خلال الرخص الاستثنائية الخاصة بأسباب عائلية أن التشريع فكر بطريقة إنسانية في الموظف. إلا أنه كيف يعقل أن يمنح في زواج الموظف أربعة أيام، في حين يمنح في وفاة الأخ يومين؟!!! وكيف أن وفاة الزوج أو الولد حددت في ثلاثة أيام، في حين حددت وفاة الأب أو الأم أو الأخ في يومين؟!!! بل الأدهى من ذلك هو أن المشرع قد حدد مدة الرخص الاستثنائية في عشرة أيام في السنة الواحدة، فهل هذا يعني أن على الموظف أن يبرمج مناسباته السعيدة والمحزنة حتى لا تتجاوز هذه المدة وإلا تعرض للاقتطاع؟!!!

أتذكر مما أتذكره من قراءاتي في الصغر (باعتبار القراءة في الصغر مثل النقش على الحجر) أن طفلا كتب رسالة إلى الله يشكو فيها يتمه وأن لا أب له يهديه بمناسبة العيد لعبا وملابس جديدة، ولما أمسك بالرسالة ساعي البريد حار في أمرها ففتحها، وحين قرأها اشترى للطفل اليتيم لعبا وملابس. فهل في حالة تجاوز المناسبات السعيدة والحزينة للمدة القانونية نبعث برسالة إلى الله نبثه فيها ما أصابنا من ظلم وحيف عسى أن تقع الرسالة في يد الوزير فيلغي الاقتطاع؟!!!

وأختم مقالي هذا بذكر الحقوق السياسية والخاصة للموظف التي منها حماية الدولة له من التهديدات والإهانات التي قد يتعرض لها أثناء تأدية واجبه. إلا أن هذه الحماية ليست من أجل الموظف بل هي من أجل المؤسسة ذاتها؛ لأن التعرض للموظف بالشتم أو الاعتداء هو تعرض للمؤسسة ذاتها باعتبار أن الموظف ليس غير ممثل لها. ومثل هذه التعرضات تقلل من احترام الناس للمؤسسة، وإذا ما تكاثرت فهي تهدد المؤسسة في الصميم؛ إذ قد تؤدي إلى زوالها. ومن هنا فإن سن المؤسسة للمتابعة القضائية قد وضع أصلا نتيجة عدم احترام المؤسسة، وليس نتيجة عدم احترام الموظف؛ إذ قلما تهتم المؤسسة بالإنسان من حيث هو إنسانn



(*) فكارة ترجمة لمصطلح Idéologie.

[1]  O.Reboul : Le langage de l’éducation : analyse du discours l’édagogique, édition PUF, Paris, 1984.

[2] خ.المير إ.القاسمي: التشريع الإداري والتسيير التربوي، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، 1996، ص12.

[3] ع.أوكان: مدخل لدراسة النص والسلطة، إفريقيا الشرق، البيضاء، 1994، ص78.

[4] دولوز: المعرفة والسلطة: مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، البيضاء، 1987، ص36.

[5]  R.Barthes : Leçon, éditions du Seuil, Paris, 1978.

[6]  M.Faucault : L’ordre du discours, Gallimard, Paris, 1971.

[7]  P.Bourdieu : Ce que parler veut dire : l’économie des échanges linguistique, Fayard, Paris, 1982.

[8]  O.Reboul : Langage et idéologie, PUF, 1980.

(*) القوة الحرفية هي التي تحتمل معنى واحدا يفهم من ظاهر اللفظ دون اللجوء إلى التأويل.

(**) القوة الاستلزامية هي التي تحتمل أكثر من معنى يفهم من باطن اللفظ عن طريق اللجوء إلى التأويل، كما هو الأمر في الاستعارة والكناية والمجاز وغيرها، أو كما هو الأمر في خروج الأساليب الإنشائية عن وضعها الحقيقي.

[9] ب.بورديو: الرمز والسلطة، الرمز والسلطة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، البيضاء، 1986، ص29.

[10]  P.Bourdieu : Ce que parler veut dire, Fayard, Paris, 1982.