المقاربة السجالية
لمفهوم
"أمية
الشريعة" في الفكر المقاصدي
المقدمــة:
إننا نكتب
نصوصنا بروح سجالة عبر سبل المراجعة والاختيار والنقض، إذ في ذلك ما ينم عن احتفاء
بالآخرين(1)، وعن رغبة في ممارسة حرية المعارضة
والنقد، المرفوقة على كل حال بأخلاق المناظرة، الأخلاق التي من شأنها إبداع مسلك
في تقويم البرنامج الفكري، لا في تقويم أشخاص واضعيه، لأنه صادر في المقام الأول
عن قناعات منهجية ومنطلقات نظرية، وليس مؤصلا في قوانين علمية ثابتة ولا معادلات
رياضية مسلمة.
إن السجال
محرك أصلي للبحث والنظر حتى قال الإمام الشافعي: "قد علمت أن السنة في نتف
الإبط، لكني لا أقوى على الوجع"، بل إن تبين الاختلاف كمنشإ في السجال هو روح
الفقه "ومن لم يعرف الاختلاف لم يشم الفقه بأنفه" كما يقال.
وإذا علم
المرء حدة البعد الإشكالي لمبحث المقاصد في الممارسة الإسلامية سلم بفعالية
مقاربته عن طريق الانتباه إلى مدرك السجال. يأتي مفهوم "أمية الشريعة"
في طليعة المفاهيم الأساسية في هذا المبحث الإسلامي المتميز.
أثار
الشاطبي مفهومه للأمية في الجزء الثاني من كتابه الموافقات في أصول الشريعة، إلا
أنه مفهوم استشكل الشاطبي في مستلزماته. وبموازاة ذلك وجد فيه البعض جانبا تجديديا
يتوقف عليه، إضافة إلى عقلانية بن رشد وتاريخية بن خلدون، تجديد النظر في المجتمع
العربي والإسلامي حتى يساير مقتضيات الحداثة ويستجيب لمقومات الهوية(2).
تندرج
مقاربتنا في هذا السياق العلمي لتقدم وجهة نظر في بيان مقصد المفهوم، وفي كشف
حدوده الإجرائية.
أ ـ المقاربة السجالية
لأمية الشريعة:
لا يعد
اتخاذ المقاربة السجالية طريقا مبتدعا، لأنه متابعة لتقليد رسخه الناظرون في هذا
المفهوم، وفي طليعتهم الإمام الشاطبي الذي يسم البعد الحواري إنتاجه النظري بسمة
سجالية تلفت اهتمام الناظر، وتستوقف القارئ. فالشاطبي يدعو قارئ الموافقات إلى
قراءته قراءة الممحص المدقق، لا قراءة المقلد المتعصب، وفي ذلك يقول: "حق على
الناظر المتأمل إذا وجد فيه نقصا أن يكمل، وليحسن الظن بمن حالف الليالي
والأيام(…) حتى أهدي إليه نتيجة عمره"(3).
أولا –
مفهوم أمية الشريعة بين الشاطبي وغيره:
1 ـ مفهوم
أمية الشريعة عند الشاطبي:
راعى الشارع
في تنزيل شريعته نسبة ما الأمة العربية عليه من الجهل بالعلوم القديمة، لذا لا
يمكن فهم معاني الشريعة فهما سليما، وتفهم مقاصدها تفهما موضوعيا إذا غيب الباحث
الملابسات المجتمعية للحضارة العربية، التي قارنت نزول الشريعة وورودها.
ذلك هو
المفهوم من الأمية في فكر الشاطبي، الذي أسس عليه القواعد الآتية:
ـ الاقتصار
في فقه القرآن، عمدة الشريعة الأول، على المعهود العلمي العربي المقارن لنزول
الشريعة وورودها.
ـ الاقتصار
في فهم القرآن على المعهود العلمي العربي.
ـ إجراء فقه
القرآن على وزن الاشتراك الجمهوري الشامل للأميين وغيرهم.
ـ الاعتناء
بالمعاني الدلالية في بيان مقاصد الخطاب الشرعي.
ـ اقتضاء
شمولية الخطاب الشرعي قدرة الأمي على تعقل القدر المكلف به(4).
يسترعي
انتباه الباحث ما أثاره مفهوم الشاطبي حصول الأمية من سجال لدى أبرز من كتبوا في
مقاصد الشريعة في العصر الحديث، بل تستوقفه تلك الانتقادات والعيوب التي ما فتئ
هؤلاء يلاحظونها على صاحب الموافقات، وقد وسم هذا المنحى النظري فكرهم بالطابع
السجالي. لكن أي نوع من السجال يتعلق الأمر: أيتصل بمعناه الهدمي الذي يتحول الفكر
الإنساني في سياقه إلى مجرد براعة منطقية صورية؟ أم هو تفكير سجالي مرتبط بفكر
نقدي يبني نفسه ويقويها عن طريق الحوار مع خصومه ومعارضيه؟
2 ـ مفهوم
"أمية الشريعة" عند الباحثين المحدثين في مقاصد الشريعة:
محمد الطاهر
بن عاشور، عبد الله دراز، وعلال الفاسي ثلاثة أقطاب يشكلون أبرز مناظري الشاطبي في
مفهومه "لأمية الشريعة".
2-1-الأمية
في الشريعة عند عبد الله دراز:
يزاوج في
شرحه للموافقات بين التحقيق المرفوق بالبيان والتعليق المقترن بالسجال، وفي ذلك
يقول: "جعلت المكتوب بمقياس المطلوب، واقتصرت في تحقيق المرغوب، إلا ما دعت
ضرورة البيان إليه في النادر الذي يتوقف الفهم عليه. والتزمت تحرير الفكر من قيوده
وإطلاقه من مجارات المؤلف في قبول تمهيده، أو الاذعان لمقصوده، وكان هذا سببا في
عدم الاحتشام من نقده في بعض الأحيان والتوقف في قبول رفده الذي لم يرجح في
الميزان"(5).
ويتحدد معنى
الأمية في الشريعة عنده في عدم توقف فقه الشريعة على التعمق في العلوم والمعارف.
لا يلزم عن الأمية إذن مجاراة الشريعة للمعهود العلمي العربي، كما لا يلزم عنها
أيضا الإعجاز القرآني.
فالأمية
المقصودة ليست إلا توضيحا للكيفية التي تلقى بها المجتمع العربي الشريعة، لا لأنها
الكيفية الصحيحة والوحيدة بل لأنها الكيفية التي يتعرف من خلالها على المعهود
العربي المقارن لنزول الشريعة وورودها. يقول دراز: "الواقع أن كتاب الله
للناس، كلهم يأخذ على قدر استعداده وحاجته، وإلا لاستوى العرب أنفسهم في الفهم
للكتاب، والأمر ليس كذلك، ألا ترى إلى قول علي: إلا فهما يعطاه الرجل في كتاب
الله"(6).
2-2-الأمية
في الشريعة عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور:
يعد المنحى
السجالي طابعا أساسيا في التفكير المقاصدي عند بن عاشور، لأن استلهامه لعطاء
الشاطبي لم يقتصر على الشرح والتعليق، بل تجاوزهما إلى البناء والتأسيس، إذ يكفي
دلالة على همه التأصيلي نقده المنهجي للطريقة التي سلكها الشاطبي في بناء أصول
قطعية للتفقه(7). يأتي في هذا السياق
المنهجي نقده لدلالة الأمية عند الشاطبي، وذلك من خلال الوجوه الآتية:
ـ يقتضي
مفهوم الأمية عند الشاطبي عدم نقل القرآن العرب من حال إلى آخر، وهذا باطل لأن
تشريع القرآن لا يقرر الأحوال، بل يغيرها أيضا(8).
ـ يلزم عن
عموم القرآن الكريم تضمنه كل ما يصلح أن تتناوله الأفهام اللاحقة.
ـ تأكيد
السلف عدم انقضاء عجائب القرآن الكريم.
ـ من
مقتضيات الإعجاز القرآني تضمن القرآن من المعاني المتعددة، مع إعجاز لفظه، ما لا
تستطيع أن تفي به الأسفار الكثيرة.
ـ لا يمنع
استواء المخاطبين في تعقل المعاني الأصلية من استنباط معاني إضافية، "راجعة
لخدمة المقاصد القرآنية ولبيان سعة العلوم الإسلامية"(9).
وإذا تقرر
إبطال هذه الوجوه لمعنى الأمية عند الشاطبي، فمن غير المنطقي التسليم بما تفرع
عليه من قواعد التي منها قول الشاطبي: "إنما يصح في مسلك الفهم والافهام ما
يكون عاما لجميع العرب"(10)،
فالأمية عند بن عاشور المقصودة في الشريعة حالة مجتمعة تختص بجدلية من الصفات التي
حازها الإنسان العامي المنسوب إلى الأمة العربية، وتنحصر في صفات أربعة: صفة جودة
الذهن التي مكنته من فهم الدين وتلقيه، وصفة قوى الحوافظ التي أهلته لحفظه وعدم
الاضطراب في تلقيه، وصفة البساطة التي أهلته لسرعة التخلق بأخلاقه، وصفة البعد عن
الاختلاط ببقية الأمم التي أهلته لمعاشرتها(11).
وكلها صفات تفسر كيف زاوج الشارع في شريعته بين أمري تعقلها النخبوي، تفهما
واستنباطا، وبين تلقيها العمومي للناس كافة امتثالا وانتهاء.
2-3-الأمية
في الشريعة عند علال الفاسي(12):
لا يسلم
علال الفاسي بمعنى الأمية، كما تقرر عند الشاطبي، لأنه لا يساير طبيعة القواعد
التي فوعها(13) عليه، نعم إن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ولا كان يكتب، لكن لفظ الأمية في نصوص الشريعة(14) ليس بمعنى النسبة إلى
"الأم"، بل بمعنى النسبة إلى الأمة، فالأميون هم الأمم الذين بعث إليهم
محمد صلى الله عليه وسلم، فالرسول منهم لأنه بشر، وهو أمي لأنه من الأمم، أي شعبي.
فلما كان
المعتبر في وقت نزول الشريعة هو الجهل بأمور القراءة والكتابة، لم يفرق الشارع في
سيادة ذلك الجهل بين الشعب العربي وغيره من الشعوب الإنسانية.
مجمل القول
أن الأمية في الشريعة عند علال الفاسي منسوبة إلى الأمة، سواء دل ذلك على تبليغ
الرسول الشريعة للناس كافة أو دل ذلك على عدم معرفة أفراد الأمة العربية للقراءة
والكتابة كغيرها من الأمم. لذا كان الغرض الأهم من المعرفة المجتمعية هو
"توسيع ثقافة الأفراد، وتنشيطهم على تنمية ما عندهم من مواهب ومبادئ"(15).
ثانيا –
التأصيل السجالي لمفهوم أمية الشريعة:
يتأصل تفكير
هؤلاء المناظرين للشاطبي في مفهومه للأمية على أصلين: القصد والإعجاز.
1 ـ القصد:
يشكل هذا
الأصل الغاية المنهجية التي يروم تحصيلها كل متفقه للشريعة. إذا كان مفهوم
"أمية الشريعة" أداة تبين دور المعهود الحضاري للمجتمع العربي، لغة
ومعرفة وعادة، في فقه الصحابة للشريعة، فهل يقتصر الباحث على ذلك المعهود في بيان
مقاصدها؟ يبدو أن لذلك المعهود حدودا، فهذا القرآن الكريم، عمدة الشريعة الأول،
يتوجه إلى الأجيال كلها، كما إلى الأجناس كلها، إذ من غير المستساغ في منطق الشارع
إغفال الاختلاف الحضاري، فالوعي بما يتولد عن ذلك الاختلاف من مستجدات علمية ومن
تحولات مجتمعية من شأنه أن يدفع فقيه الشريعة إلى الأخذ بالمقياس الذي يبينه عبد
الله دراز في قوله: "كل ما لا تساعد عليه اللغة ولا يدخل في مقاصد الشريعة
يعامل المعاملة التي يريدها المؤلف(16)، أما
ما لا تنبو عنه اللغة ويدخل في مقاصد الشريعة بوجه فلا يوجد مانع من إضافته إلى
الكتاب العزيز"(17).
كما أن
القصد يحفظ للشريعة عمومية خطابها للناس كافة، لأنه، كما قال علال الفاسي،
"ليس هناك أبناء أو أحياء يوجه إليهم الخطاب وحدهم دون غيرهم من البشر"(18).
2 ـ
الإعجاز:
القرآن
الكريم بقدر ما يمثل وثيقة على العصر المقارن لنزول الشريعة وورودها، يملك خطابه
من الإمكانات(19) ما يمكن متعقليه من
القدرة على توجيه التطور التاريخي وفق مقاصد الشريعة.
تؤدي مراعاة
الإعجاز إلى البحث عن حدود دلالة الأمية في الشريعة، خاصة من حيث القواعد التي
تفرعت عليه، ومنها أنه لا يوجد أصل قرآني للعلوم المستحدثة والمعارف المستجدة بعد
نزول القرآن الكريم، وذلك ليس بسديد في نظر مساجلي الشاطبي لأن القرآن يتوفر على
تعقلات يتأبى على جمهور الناس استيعاب مقاصدها، كما لا يتيسر لجمهور المكلفين
الوعي بخلفياتها، وإلا كيف نفسر وجود المجتهدين من جهة، والمقلدين من جهة أخرى.
فقد يفتح على هذا بشيء ولم يفتح به على الآخر، وقد يقر البعض بذلك الشيء في حين
ينكره الآخرون(20).
وإذا قرر
الباحث أهمية كل من القصد والإعجاز فإن القول بانتفائهما في تفكير الشاطبي في محل
نظر وتأمل، أولا لأن ما يميز الشاطبي هو نظريته في مقاصد الشريعة، وثانيا لأن
الإعجاز كما يقر في المسألة الثالثة(21) من
كتاب الأدلة، مطلب علمي كلامي، وليس مطلبا فقهيا ولا أصوليا. لذا فإن التسليم
بامتلاكه نظرية مخصوصة في المقاصد الشرعية يوجب النظر في مفاهيمها من جانبي
المقصدية والإجرائية.
ب ـ مقصدية أمية
الشريعة وإجرائيتها:
يستلزم
التفكير العلمي في مفاهيم النظرية المقاصدية عند الإمام الشاطبي الإلمام التام
بإشكالاتها وأطروحاتها، وذلك من جانبي المقصد والإجراء، من ذلك قضية "أمية
الشريعة".
أولا –
مقصدية "أمية الشريعة": أعني بالمقصدية هنا معناها في استعمالات
اللغويين وعلماء الشريعة.
1 ـ
الاستعمال اللغوي للأمية:
يؤصل معنى
القصد أصل الاستعمالات اللغوية لمادة أ.م.م في اللغة العربية، إذ يمكن التمييز في
هذه الاستعمالات بين صنفين أحدهما استدلالي والآخر تأصيلي.
1-1-الصنف
الاستدلالي:
يقال أمه
يؤمه إذا قصده ويممته قصدته، وجمل مئم أو ناقة مئمة، أي أنها دليل هاد، وكل ذلك من
القصد، لأن الدليل الهادي قاصده.
1-2-الصنف
التأصيلي:
كما في
قولنا: الأمة ومعناه أصل الأشياء التي يقصدها الخلق ويطلبونها. وقولنا: الأمة في
الشريعة والدين، أي الأصل الذي يرجع إليه. أما قولنا الأمة في الرجل فلأنه بمثابة
الأصل الذي يحتكم إلى رأيه كل الناس، قال تعالى: "إن إبراهيم كان أمة
قانتا"(1)، وقولنا أم الأشياء نعني بذلك مقصدها الأصلي الذي ترجع إليه، كأن
نقول: أم الكتاب، وأخيرا قولنا: الأمي نسبة إلى الحالة الأصلية للإنسان، والتي
ولدته أمه عليها، وذلك قبل معرفته القراءة والكتابة وغيرها من الأمور المكتسبة.
2 –
الاستعمال الشرعي للأمية:
ورد استعمال
الأمية في كل من القرآن الكريم والحديث النبوي(22).
2-1-دلالة
الأمية عند علماء الشريعة:
اختلف علماء
الشريعة في تحديد دلالة الأمية المقصودة في لسان الشرع، ويمكن رد اختلافهم إلى
الآراء الآتية:
ـ الأمية
نسبة إلى الأم، لأن العرب لما كذبوا بأم الكتاب كانوا أميين، وهو قول بن عباس(23).
ـ الأمية
نسبة إلى كل من لم يكن من أهل الكتاب(24)
ـ الأمية
نسبة إلى الأم الجاهلة بأمر الكتابة والقراء’(25).
ـ الأميون،
وأحدهم أمي، وهو المنسوب إلى الأمة الأمية، الأمة التي هي على أصل ولادة أمهاتها،
لم تكتسب من أمور العلم شيئا، ومن تلك الأمور تعلم القراءة والكتابة، وهو قول ابن
العربي والقرطبي(26).
ويظهر أن
المستخلص من كل هذه الآراء دلالتان: الأولى تعني أن الأمية أصل يحتكم إليه، والثانية
تعني أنها حالة أصلية للإنسان قبل اكتسابه وسائل الحياة التي منها إتقان القراءة
والكتابة.
والمهم من
استقراء كل هذه الآراء هو رجوعها جميعا إلى معنى أصلي تتنوع صوره الدلالية. فهذا
المعنى عند الإمام الشاطبي يحدد نوع المعهود الحضاري، لغة ومعرفة وعادة، الذي من
شأن استيعابه ضبط الكيفية التي فقه عن طريقها الصحابة القرآن. أما عند الإمام محمد
الطاهر بن عاشور فيتجسد المعنى الأصلي للأمية في الحالة التي يوجد عليها عموم
أفراد المجتمع الإنساني في مرحلة من مراحله التاريخية. ويتحدد عند علال الفاسي في
الحالة العلمية التي وجد عليها المجتمع العربي من جهل معظم أفراده بأمور القراءة
والكتابة وقت نزول الشريعة وورودها.
2-2-تاريخية
دلالة الأمية في الشريعة:
إن لمفهوم
الأمية حدودا، لأنه يؤدي وظيفته في نطاق التاريخ، ليس فحسب بمعنى الرجوع إلى ماضي
المفهوم في صوره التي خلصت إليها الحضارة الإسلامية من أجل الاعتبار والتذكر، بل
أيضا بمعنى الاستبصار بإجرائيته، من أجل الوعي باختلاف أشكال حالات الأمية بحسب
تغير الأنماط التاريخية للأوضاع المجتمعية.
يستشف من
هذا النظر نسبية الدلالة التي يقررها علماء الشريعة للمقصد الشرعي من الأمية.
فالأمية، كحالة أصلية للإنسان متلونة الصور بحسب تتابع الأزمنة وتباين الأوضاع
المجتمعية. لا تعني الأمية في العصر الحاضر مجرد الجهل بالقراءة والكتابة، حتى
نعتمد هذه الدلالة في بيان المقصد الشرعي من الأمية في المجتمع الإسلامي المعاصر،
المجتمع الذي تماثل حالته حالة أهل الكهف، ليس أهل الكهف الذين ثامنهم كلهم بل أهل
الكهف الذين أرغم الذين ألقي بهم فيه على إدارة وجوههم نحو الجدار حتى لا يروا ضوء
النهار، وإنما يروا فقط، الخيالات التي ترتسم على الجدار والتي يسقطها عليه ضوء
النهار"(27).
وعليه يؤدي
القول بتاريخية دلالة الأمية على المقصد الشرعي إلى النظر في الوظيفة الإجرائية
التي أداها مفهوم الأمية في فكر مبدعه: الإمام الشاطبي.
ثانيا –
إجرائية "أمية الشريعة": يعنى النظر الإجرائي ربط مفهوم "أمية
الشريعة" بنظام التفكير الذي بناه الشاطبي في كتابه الموافقات في أصول
الشريعة، النظام الذي يتأسس على نظريته في المقاصد الشرعية(28).
تتحدد
إجرائية مفهوم الشاطبي لـ"أمية الشريعة"، في وجهين: أحدهما ذو سمة
غائبية، والثاني ذو سمة منهجية.
1 ـ الوجه
الغائي لـ"أمية الشريعة":
لا تخفى
أهمية هذا الوجه في الفكر العلمي، لأن "كل مفهوم (…) صياغة نظرية لها مقصد،
وهذا المقصد هو الذي يعطي الدلالة الحقيقية للمفهوم"(29). والغاية من مفهوم "أمية
الشريعة" عند الشاطبي هي تحصيل العمل وبناء فقهه على مقاصد الشريعة.
1-1-العمل: قال
الشاطبي: "كل مسألة لا ينبني بها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل عليها دليل
شرعي، وأعني بالعمل، عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا"(30).
لا يعني
الاهتمام العملي هنا موقفا سلبيا من العلم على اختلاف مستوياته وتنوع تراتبياته،
بل يرمز هذا الاهتمام إلى الاستقلالية المنهجية التي يريد الإمام الشاطبي تأسيسها
لمشكلة العمل في الممارسة الإسلامية. يمثل كل من الموافقات والاعتصام مساهمة علمية
في تأصيل تلك الاستقلالية. فـالموافقات هو نشدان "الأصول المعتبرة عند
العلماء"(31) والاعتصام نظر تأصيلي
في بدع الممارسات وسننها(32).
والدرس
الأساسي في هذه العملية التأصيلية هو الانطلاق في تناول مشكلة العمل من التسليم بسيرورة
العمل وتاريخيته المتجددة. يشكل استحضار مفهوم "أمية الشريعة"، كما قرره
صاحب الموافقات إجراء ممتازا يوقف الفقيه الأصولي على المستوى التاريخي للأمة
العربية، لأن الشارع راعى في تنزيل شريعته محدودية الإمكانات التي انتهى إليها
التطور التاريخي للمجتمع الإنساني عامة والعربي خاصة.
1-2-بناء
الفقه على المقاصد: يتأسس فقه العمل على المقاصد الشرعية، ومفهوم
"أمية الشريعة" هو جوهر قصد الشارع في وضع شريعته للإفهام(33)، لأن الفهم السليم للمقاصد الشرعية كما
لا يحصل دون اعتبار عربية الشريعة لا يتم أيضا من غير تبين للأمية التي كانت عليها
الأمة العربية، أولا "لأن القرآن نزل بلسان العرب(…) فمن أراد تفهمه فمن جهة
لسان العرب يفهم"(34)،
وثانيا لأن أهل الشريعة الأوائل، وهم العرب، أميون، وذلك "أجرى على اعتبار
المصالح"، ومعنى هذا كما يقول عبد الله دراز: "إن تنزيل الشريعة على مقتضى
حال المنزل عليهم أوفق برعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم"(35).
فمفهوم
"أمية الشريعة" يحمل الفقيه الأصولي على تبين أمرين يؤسسان فهمه لمقاصد
الخطاب الشرعي: الأول خصوصية الاستعمالات اللغوية العربية، والثاني نوعية
المستويات الإدراكية التي انتهى إليها التطور التاريخي للأمة العربية.
2 – الوجه
المنهجي لـ"أمية الشريعة":
يأتي مفهوم
"أمية الشريعة" في طليعة المنطلقات النظرية لطريقة تفكير الشاطبي في
الشريعة. وتلك فكرة أدركها إدراكا تاما أحد الباحثين في نظرية المقاصد عند
الشاطبي، لأنه لم يستسع(36)،
إدراج الشاطبي مباحث النوع الثاني، المتعلق بقصد الشارع في وضع الشريعة للأفهام،
ضمن مقاصد الشارع، إذ هي في العمق مباحث تتصل بجهات إثبات مقاصد الخطاب الشرعي.
إن مراعاة
جهات إثبات المقاصد أو قل، بحسب تعبير الشاطبي، "الأدوات التي تفهم بها
المقاصد"(37) هو الأحرى في الصواب والأقوم
في العلم والعمل، لكن هل يستوجب بيان القصد الشرعي من أجل العلم بمقاصد الشريعة أن
يراعي الباحث فقط الحالة الأصلية للإنسان العربي المعاصر لنزول الشريعة وورودها
قبل اكتسابه القراءة والكتابة؟ أو هل يستوجب كشف القصد الشرعي من أجل العمل
الاعتماد فقط على مفهوم الشاطبي لـ"أمية الشريعة"، أم لا بد من المتابعة
الواعية لمقتضيات التطور العلمي ولأوضاع التغير المجتمعي؟
أسئلة قد
نلتمس الجواب عنها في نظرة الشاطبي إلى العمل العلمي، النظرة الوسائلية التي تجعل
من مفهوم العبادة قيمة مؤسسة للنظام الفكري، يقول الشاطبي: "كل علم شرعي فطلب
الشارع له من حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى"(38).
ج ـ الخلاصات:
1 ـ إن
المقاربة السجالية للمفاهيم التي أسست تفكير الشاطبي للشريعة يجب، لكي تكون نقدية
تساهم في تقويم الفكر المقاصدي وتسديده، أن تستوعب الوظائف الإجرائية لتلك
المفاهيم وأن تتساءل على الدوام عن قيمة دلالاتها على المقاصد الشرعية.
2 ـ مكن
مفهوم "أمية الشريعة" الشاطبي من تأصيل جملة من القواعد البيانية في
إثبات مقاصد الشارع من خطابه.
3 ـ تأصيل
مفهوم القصد في معناه اللغوي الاستعمالات المختلفة للفظ "الأمية".
4 ـ لماانتظمت
معاني "الأمية" عند علماء الشريعة في الحالة الأصلية التي فطر عليها
الإنسان كانت دلالتها على المقاصد الشرعية دلالة ظنية، قد لا يعتمد في البرهنة
عليها على مجرد الجهل بالقراءة والكتابة.
5 ـ إجرائية
مفهوم "أمية الشريعة" عند الإمام الشاطبي بقدر ما ترتبط بمطلبي العمل
وبناء فقهه على المقاصد الشرعية تقوم أيضا تبعا لاختلاف الأوضاع الحضارية، خاصة
الأوضاع العلمية منها.
نقرر هذه
الخلاصات ونحن نعلم مسبقا، كما قال الإمام محمد الطاهر بن عاشور: "إن معرفة
مقاصد الشريعة نوع دقيق من أنواع العلم… وأصل مقام العالم فهم المقاصد. والعلماء…
في ذلك متفاوتون على قدر القرائح والفهوم"(39)،
بل إن الإمام الشاطبي اشترط على قارئ الموافقات ألا ينظر فيه "نظر مفيد أو
مستفيد حتى يكون ريان من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد
للتقليد والتعصب للمذهب، فإنه إن كان هكذا خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فتنة
بالعرض، وإن كان حكمة بالذات، والله الموفق للصواب(40) n
المراجع:
القرآن
الكريم برواية ورش.
1 ـ أحمد
الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، الرباط نشر مكتبة الأمان، 1991.
2 ـ إسماعيل
الحسني، نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، منشورات المعهد العالمي
للفكر الإسلامي بواشنطن، الطبعة الأولى، 1995.
3 ـ
البخاري، الجامع الصحيح، طبعة 1313.
4 ـ ابن حجر
العسقلاني، فتح الباري، مصر، المطبعة البهية، 1348هـ.
5 ـ
الزمخشري، الكشاف، بيروت، دار الكتاب العربي.
6 ـ ابن
سالم حميش، (الحق في السجال)، باريس، مجلة اليوم السابع، عدد أكتوبر، عام 1988,
7 ـ الشاطبي
أبو إسحاق، الموافقات في أصول الشريعة، ضبط وتعليق عبد الله دراز، بيروت دار
المعرفة، بدون تاريخ.
8 ـ الشاطبي
أبو إسحاق، الاعتصام، تحقيق محمد رشيد رضا، بدون تاريخ.
9 ـ ابن
عاشور محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، تونس، مكتبة الاستقامة، الطبعة
الأولى، 1366هـ.
10 ـ ابن
عاشور محمد الطاهر، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، بدون تاريخ.
11 ـ عبد
الله دراز، ضبط وتعليق على الموافقات للشاطبي, بيروت، دار المعرفة، لبنان، بدون
تاريخ.
12 ـ علال
الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، البيضاء، مكتبة الوحدة العربية، بدون
تاريخ.
13 ـ علال
الفاسي، النقد الذاتي، الرباط، لجنة نشر تراث علال الفاسي، الطبعة الخامسة 1979.
14 ـ علي
أومليل، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، البيضاء، المركز الثقافي العربي،
الطبعة الأولى، 1985.
15 ـ
القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، بدون تاريخ.
16 ـ محمد
عابد الجابري، بنية العقل العربي، البيضاء، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى،
1985.
17 ـ محمد
عابد الجابري، وجهة نظر، نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي، البيضاء، المركز
الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1992.
18 ـ محمد
الكتاني، جدل النقل والعقل في مناهج التفكير الإسلامي البيضاء، دار الثقافة،
الطبعة الأولى، 1992.
19 ـ ابن
منظور، لسان العرب، بيروت، دار الجيل، بدون تاريخ.
20 ـ الميلودي شغموم، الوحدة والتعدد في الفكر العلمي الحديث،
بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر الطبعة الأولى، 1984.
(1) ابن سالم
حميش، الحق في السجال، باريس، فرنسا، مجلة اليوم السابع، عدد أكتوبر
1988، ص42.
(2) محمد عابد
الجابري، بنية العقل العربي، البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط.1، ص565.
(3) الشاطبي
أبو إسحاق، الموافقات في أصول الشريعة، ضبط وتعليق عبد الله دراز، بيروت،
لبنان، دار المعرفة، بدون تاريخ، 1/26.
(4) من أجل
تبين التطبيقات الفقهية لهذه القواعد، ينظر إلى المسألة الرابعة من النوع الثاني:
(مقاصد وضع الشريعة للإفهام)، الموافقات، 2/79-95.
(5) الموافقات،
1/13.
(6) المصدر
نفسه، 2/82.
(7) قال ابن
عاشور: "وقد حاول الشاطبي (…) الاستدلال على كون أصول الفقه قطعية فلم يأت
بطائل (…) ولكنه تطوح في مسائله إلى تطويحات وخلط وغفل عن مهمات من المقاصد بحيث
لم يحصل منه الغرض المقصود(…) ذهب يستدل على ذلك بمقدمات أكثرها مدخول، ومخلوط غير
منخول. مقاصد الشريعة الإسلامية، تونس، مكتبة الاستقامة، ط.1، 1366هـ،
ص6-7و42.
(8) المرجع
نفسه، ص34.
(9) التحرير
والتنوير، تونس، الدار التونسية للنشر، بدون تاريخ، 1/45.
(10) الموافقات،
2/85. يفسر بن عاشور موقف الشاطبي هنا قائلا: "ولعل هذا الكلام صدر منه في
التفصي من مشكلات في مطاعن الملحدين اقتصادا في الوقت، وإبقاء على نفيس
الوقت" التحرير والتنوير، 1/128.
(11) المرجع
نفسه، 1/573 و7/57، ومقاصد الشريعة، ص93.
(12) يرتسم
التفكير السجالي لتفكير علال الفاسي في تمييزه بين أنواع الكتابة اللاحقة على
الشاطبي: "الذين تعاقبوا على كتابة المقاصد الشرعية لم يتجاوزا الحد الذي وقف
عنده إمامنا أبو إسحاق رحمه الله في كتابه الموافقات، أو لم يبلغوا ما إليه
قصد، وبعضهم خرج عن الموضوع إلى محاولة تعليل كل جزء من أجزاء الفقه أخذا للمقاصد
بمعناها الحرفي"، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، البيضاء، مكتبة
الوحدة العربية، بدون تاريخ، ص1.
(13) كالبعد عن
التكليف بما لا يطاق، وكإجراء غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين…
(14) من ذلك
قوله تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولا"، سورة الجمعة، 2.
(15) علال
الفاسي، النقد الذاتي، الرباط، لجنة نشر تراث علال الفاسي، ط.5، ص387.
(16) أي الإمام
الشاطبي.
(17) الموافقات،
1/56.
(18) مقاصد
الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص72.
(19) ينظر في
شأن هذه الإمكانات، محمد الكتاني، جدل النقل والعقل في مناهج التفكير الإسلامي،
البيضاء دار الثقافة، ط.1، 1992، ص174-209
(20) الموافقات،
2/69. هامش رقم 1 من تعليق عبد الله دراز على الموافقات.
(21) المصدر
نفسه، 3/377.
(22) قال تعالى:
"ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني" سورة البقرة: 77، وقال أيضا:
"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، سورة آل عمران: 75، وقال
أيضا: "الذين يتبعون الرسول النبيئ الأمي "سورة الأعراف: 157، وقال
أيضا: "هو الذي بعث في الأميين رسولا "سورة الجمعة: 2. وقوله صلى الله
عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا"
البخاري، الجامع الصحيح، طبعة 1313هـ، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله
عليه وسلم، لا نكتب ولا نحسب.
(23) القرطبي، الجامع
لأحكام القرآن، بدون تاريخ ولا مكان الطبع، 2/5 و18 و91.
(24) الزمخشري،
الكشاف بيروت، دار الكتاب العربي، 1/157 و357 و529.
(25) ابن حجر
العسقلاني، فتح الباري، مصر، الطبعة البهية، 1348هـ، 4/102.
(26) الجامع
لأحكام القرآن، 2/5 و7/298.
(27) محمد عابد
الجابري، وجهة نظر، نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي، البيضاء، المركز
الثقافي العربي، ط.1، 1992، ص41.
(28) ينظر من
أجل التوسع، أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، الرباط، نشر
مكتبة الأمان، 1991.
(29) علي
أومليل، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، البيضاء، المركز الثقافي
العربي، ط.1، 1985، ص34.
(30) الموافقات،
1/46.
(31) المصدر
نفسه، 1/24.
(32) يقول
الشاطبي: "وعلى طول العهد ودوام النظر اجتمع لي في البدع أصول قررت أحكامها
الشريعة، وفروع طالت أقنانها لكنها تنظم تلك الأصول" الاعتصام، تحقيق
محمد رشيد رضا، 1/31.
(33) تتوزع
مقاصد الشارع عند الشاطبي إلى أربعة أنواع: قصد الشارع في وضع الشريعة، وقصده في
وضعها للأفهام، وقصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، وقصده في دخول المكلف تحت
أحكامها.
(34) الموافقات،
2/64.
(35) المصدر
نفسه، 2/69.
(36) نظرية
المقاصد، ص125.
(37) الاعتصام،
2/293.
(38) الموافقات،
1/60.
(39) مقاصد
الشريعة، ص14.
(40) الموافقات،
1/87.