البلاغة والسمة
محمد
أنقار
اختيارات
بلاغية:
قلت في
مناسبة سابقة(*) "إن بلاغة نوع
مسرحي ما قابلة بدورها لكي تختصر في أثناء القراءة النقدية إلى حد أدنى من أدوات
التحليل، أي إلى "مكونات" و"سمات" و"صور" نوعية
نرجح قدرتها على أن تعكس، في وقت واحد، الطوابع الجمالية للكونين النصي والنوعي
معا، بطريقة عملية مبسطة لا ترقى إلى درجة القاعدة العلمية الثابتة". وأود في
هذا المقال أن أمعن في توضيح هذا الافتراض النقدي، مركزا على وجه الخصوص على
العلاقة المحتمل وجودها بين البلاغة والسمات الأدبية.
أبدأ أولا
بالبلاغة، وأطرح السؤال الآتي: ما القصد الذي تطمح البلاغة إلى "بلوغه":
ـ قصد
التوشية والتحلية والتزيين اللفظي أو الخرق المعنوي؟
ـ أم مراعاة
التعبير المطلق عن العواطف والأفكار والمواقف؟
ـ أم
القصدين معا، أي التعبير المطلق الذي لا يخلو في الوقت ذاته من ألوان التزيين
اللفظي والخرق المعنوي؟
إن
الاحتمال الأول من شأنه أن يفضي بنا إلى المداخل البلاغية المعلومة، أو إلى علوم
البلاغة، أو القوانين والضوابط والقواعد، أو إلى ما يمكن تسميته بـ"أبواب
البلاغة الضيقة": فلكل حلية لفظية أو معنوية باب بلاغي، قد تكون الحلية جناسا
أو استعارة، طباقا أو وصلا، وفي جميع تلك الحالات وغيرها تظل الحلية قابلة
للانضباط داخل قاعدة.
أما الجواب
عن الاحتمال الثاني فقد ينتهي بنا إلى إلغاء علم البلاغة برمته نظرا لأن مراعاة
التعبير المطلق لن تقتضي بالضرورة استدعاء أبواب بلاغية مخصوصة ومنضبطة في حدود
القواعد. كما أنه يستوجب منطقيا إطلاقا مماثلا على صعيد أبواب البلاغة ومداخلها
التي قد تستحيل إلى مطلب "لا نهائي" تبعا للانهائية التعابير الإنسانية.
أضف إلى كل ذلك أن هذا الاحتمال الثاني يضرب صفحا عن ألوان التزيين اللفظي أو
الخرق المعنوي مما قد يوحي بأن تأتي التعابير المنظورة في هذا التصور البلاغي جافة
خالية من ماء الحياة ورونق الصنعة.
أما الجواب
عن الاحتمال الثالث فيحفز على استحضار تصور بلاغي يجمع في آن واحد بين "لا
نهائية التعبير الإنساني وإطلاقه" و"إمكانيات التزيين والتفنن في
الصنعة".
ونقول بعبارة
أشد تبسيطا: إن البلاغة المقصودة هنا هي التي لا تقف عند حدود "الأبواب"
و"العلوم" و"المداخل" وإنما تقر بالتفنن في الصنعة الأدبية
إقرارا منفتحا يساير في انفتاحه لا نهائية التعابير الإنسانية وإمكانياتها
المطلقة.
وإذا كان
الفكر النقدي المعاصر قد كشف من ناحية عقم بلاغة "الأبواب"
و"العلوم" و"القواعد" وقصورها عن مواكبة تعابير الحياة
الإنسانية الرحبة وتعقيد همومها، وجعلنا من ناحية ثانية نستصعب تصور بلاغة
التعابير اللانهائية والمطلقة الخالية من اجتهادات التزيين والخرق؛ يبقى الاختيار
الثالث –الجامع بين اللانهائية وضرورة الصنعة- اختيارا موسوما في ظاهره بطابع
المغامرة إن لم نقل بطابع الطوباوية.
بيد أن
محاولة التمثل الذهني لأبعاد هذا الاختيار وإمكانياته قد تفضي بنا إلى استخلاص
"نظر بلاغي غير مألوف". وبيان ذلك أن كل إمكانية تعبيرية أدبية وغير
أدبية تتضمن قدرا من البلاغة يزيد أو ينقص، يشتد أو يضعف، ولكنه يظل في جميع
الحالات إمكانية بلاغية. غير أننا لا نظن أن هذا النظر غير المألوف قد يستحيل إلى
نموذج فكري مستساغ ما لم تراع فيه "حدود بلاغية" ليس لها من ماهية الحد
سوى القيمة التعبيرية المتعالية التي تفرزها السياقات الجمالية لجنس أدبي ما. إن
الناقد الأدبي والبلاغي غير معنيين باستيعاب كل إمكانيات التعبير، وإنما هما
معنيان باستيعاب تلك الإمكانيات التي لها صلة بالإبداع الأدبي تخصيصا. بذلك لا
يغدو "النظر غير المألوف" خارجا عن السياق الأدبي. أما السر في عدم ألفة
هذا الاختيار فيحصل لسببين:
1 ـ تهوينه
من حدة القاعدة وصرامة القانون البلاغي والنزوع إلى جعلهما يتسمان بشفافية هشة
مائعة.
2 ـ
استخلاصه مرتكزات إضافية للنظر البلاغي مستمدة من سياقات قلما حظيت بالاعتبار،
كسياق الجنس أو النوع الأدبي، وسياق القراءة، والتكوين النصي (ولا أقول البناء
النصي).
السمــة:
لا أقصد
بهذا المصطلح تلك الوحدة المعنوية الصغرى المعروفة في اللسانيات بـ sème، وإنما يتجه القصد نحو الخاصية أو الصفة التي تتساند مع مكونات
جنس أدبي تساندا ينتج صورا أدبية. بذلك يكون حقلُ السمات الفسيح الأجناسَ الأدبيةَ
وليس مطلق القول، وتكون الوظيفة المطلوبة جمالية "قبل" وظائف التواصل أو
الإخبار أو التلقين. كما أن وجه السمة لا يظل متجليا في الدلالة أو المعنى أو
المضمون أو الشكل الفني؛ وإنما تنصهر في السمة كل تلك الوجوه وتتداخل تبعا للوظيفة
الجمالية التي يقتضيها سياق كل جنس أدبي وسياق كل نص أدبي.
والسمات
الأدبية متعددة المصادر؛ فقد تستمد من أسماء المذاهب الفنية والمدارس الفكرية، أو
من أنماط السلوك البشري وتفاصيله الصغرى، أو من ميدان الأخلاق، أو من الطبائع
والأمزجة. ثم إن السمة قد تنحصر في لفظة واحدة (وتلك صورتها العامة) مثلما قد
تتجلى في جملة أو شبه جملة، وحتى في فقرة (في حالات نادرة). وحيث إن السمة التي
نرومها "أدبية" ومنتمية إلى "جنس" تعبيري مخصوص ومتساندة إلى
"مكوناته"؛ فيفترض فيها أن تكون ذات واجهات قابلة للإشعاع والانتشار،
لها وظائف نوعية، معقدة وغنية بإمكانيات التعبير. كل ذلك يمكن أن تشتمل عليه الصفة
اللفظية الواحدة مما يقتضي من الناقد الأدبي أن يحتفي بها في صيغتها المشعة
ويوفيها حقها من التأمل الرحب.
حيث إننا قد
خضنا خارج هذا المقال في عديد من الأمور النظرية والتطبيقية التي تخص السمة،
سنكتفي الآن بتلخيص ما قلنا، سابقا، والتمثيل لذلك بنموذج وحيد نتوخى من خلاله أن
يتضح القصد النقدي ونمهد للنظر في العلاقة المحتملة بين البلاغة والسمة.
في الصفحات
الأولى من رواية ملحمة الحرافيش يصف السارد الشخصية الرئيسية في الكتاب بالكلمات
الآتية:
"أما
عاشور فتفتح قلبه أول ما تفتح للبهجة والنور والأناشيد، ونما نموا هائلا مثل بوابة
التكية، طوله فارع، عرضه منبسط، ساعده حجر من أحجار السور العتيق، ساقه جذع شجرة
توت، رأسه ضخم نبيل، قسماته وافية التقطيع غليظة مترعة بماء الحياة. تبدت قوته في
تفانيه في العمل، وتحمله لمشاقه، ومواصلته بلا ملل أو كلل، وفي تمام من الرضى
والتوثب"(1).
إن ألفاظ
"الهائل" و"الفارع" و"المنبسط" و"الضخم"
و"النبيل" هي سمات. كما أن جملة "تفتح قلبه أول ما تفتح للبهجة
والنور والأناشيد" تحسب على السمات كذلك. ثم إننا يمكن أن نعتبر كل كلمات هذه
الصورة الروائية متداخلة فيما بينها ومشكلة لبعض سمات "عاشور الناجي".
بيد أننا نبادر إلى القول إن التصور البلاغي الذي نرومه لا ينحصر أساسا في
"كم" الكلمات أو في "حيزها" ولا حتى في طبيعتها الوصفية فحسب.
فمثل هذه الأمور الإحصائية ليست من صميم النظر النقدي الذي يصبو إلى استشراف
السمات الأدبية في وضعيات إنسانية متعالية.
إن الجمع
بين كلمات "البهجة والنور والأناشيد" لا تكاد تفضي إلى دلالة ملموسة
تستطيع أن تزيدنا وعيا بطبائع شخصية "عاشور" وإدراكا لصفاتها. فالأمر
يتعلق بتعبير سديمي يوحي من خلال القراءة الأولى بأنه يدل على صفة ما، لكنك بمجرد
ما أن تضعه في بؤرة تفكيرك حتى تراه يمضي بك إلى متاهات تعبيرية قد تحدس أو تستشرف
بالبصيرة، ولكنها تستعصي في نهاية المطاف على الحصر. لكن مهما ظلت تلك الصفات
سديمية أو قابلة للتقري الملموس، فإنها لا تخرج في نهاية المطاف عن كونها سمات
مرشحة لتمييز "عاشور" الإنسان.
إن النظر
النقدي والبلاغي الذي نصدر عنه تؤرقه بحدة أسئلة من قبيل:
ـ ما طبيعة
العلاقة التي يمكن أن يتصور الناقد وجودها بين مكون روائي (شخصية عاشور مثلا)
ومختلف السمات المضفاة على تلك الشخصية؟
ـ هل هي حقا
عملية "إضفاء" يقوم بها المبدع أم ثمة وظيفة "إسناد" أو
"تساند" جمالي؟
ـ ما هي الصلات
التي يمكن أن يتخيلها الناقد بين السمات وإمكانيات النظر الجمالي الأخرى (السياق
النصي، سياق الجنس الروائي، عملية القراءة، اللغة الأدبية، عموم البلاغة)؟
ـ هل يمكن
أن ندرج الجمع بين سمتي "الضخم النبيل" في باب المفارقة أم باب السخرية،
أم باب التضاد، أم أن الأمر يتعلق بصفة إنسانية "ضبابية مائعة" يستشعرها
القارئ داخليا لكنها تستعصي على الضبط القاعدي؟
ـ وأخيرا ما
جدوى أن نخوض اليوم في إشكال السمات؟ هل السمات (وعموم الصورة الأدبية) سؤال نقدي
أصيل أم مفتعل؟ وما علاقته بالمأزق النقدي والإبداعي الذي نجد أنفسنا منحشرين فيه
في الوقت الراهن؟
تلك أسئلة
نراها تقع في صميم إشكال السمات الجمالية. أما قضايا الإحصاء والتحديد الكمي
والرسم اللغوي للألفاظ فلا يجب أن تؤرقنا كثيرا.
علاقة
السمة بالبلاغة:
بالنظر إلى
ما سلف قد يقول قائل إننا قد عوضنا بلاغة "الأبواب" و"العلوم"
و"المداخل الضيقة" ببلاغة الجنس الأدبي والقراءة والسياقات المواكبة،
بحيث نكون قد نفينا قيودا لنحل محلها قيودا جديدة أو لعلها محورة عن الأولى. قد
نختلف في مثل هذا القول لكني أبادر إلى الاعتراف بأن البلاغة وعموم النقد لا
يمكنهما إلا أن يكونا مقيدين ومشروطين ومقننين مهما آمنا بالانطلاق أو الانعتاق أو
التحرر. وإنما يكمن الاختلاف وتتباين مواقع النظر في طبيعة تلك القيود. إن بلاغة
الباب الضيق مثلا تفاضل بين باب بلاغي وآخر (الاستعارة والكناية) وتهتم أساسا
بطرفي الثنائية (المشبه والمشبه به)، ثم قد تأخذ أحيانا بعين الاعتبارسياقات
الكلام الأدبي ومقاماته. بيد أنها لا تمضي بعيدا في الاحتفاء بالإمكانيات
التعبيرية والتصويرية الرحبة التي توفرها مختلف الأجناس والأشكال والأنواع الأدبية
والأغراض الشعرية والمواقف الإنسانية. ثم إن "الحالات" التعبيرية التي
يمكن أن تفرزها الثنائية التشبيهية مثلا تكون مرصودة سلفا في كتب بلاغة التلقين،
محسوبة حساب العملية الرياضية.
نفترض أن
البلاغي أو الناقد البلاغي إنما يتشبت بالسمة قصد النفاذ من خلالها إلى الكون
الأدبي الذي صوره المبدع. والحق أن النفاذ إلى ذلك الكون يمكن أن يتم من أية جهة
شاء البلاغي (الثنائيات، أو الدلالة، أو المضمون،أو الشكل، أو البنية…) تبعا للقصد
الذي يود الانتهاء إليه. إذ المطلوب في خاتمة المطاف القدرة على استشراف بعض
الجوانب الإنسانية للنص الأدبي انطلاقا من قيمه الجميلة. لذلك لا ندعي أن النفاذ
عبر السمة يجب أن يتم قسرا. ففي مناسبات تحليلية عديدة نلفي السمة تثير انتباهنا
بحدة صارخة لا نملك حيالها إلا الاذعان لهيمنتها. وفي رواية ملحمة الحرافيش
السالفة الذكر تظهر شخصية "عاشور الناجي" في الصفحات الأولى، ثم تكاد
تختفي طوال مئات الصفحات لتظهر من جديد في خاتمتها في صيغة روائية محيرة (هل الأمر
يتعلق بعاشور الحفيد أو بعودة عاشور الأصلي؟). وخلال تلك المدة الورقية لا يفلح
القارئ الناقد في التخلص من استحضار تلك الشخصية ذهنيا وفي الانقطاع عن الاستفسار
عن علة تسميتها بـ"الناجي". ومن حسن الحظ أن ملحمة الحرافيش عمل سردي
جيد التكوين، وأن صاحبه لا ينفك هو الآخر عن التفكير في مثل هذه التفاصيل الجمالية
التي تخص شخصية "عاشور"؛ تفاصيل إنسانية ورمزية وتداولية لا تكاد تقطع
أواصرها بأسئلة العصر على الرغم من طابع "الفتوة" الذي يميز هذه
الرواية. لذلك استحالت صفة "الناجي" إلى سمة مهيمنة ومشعة، قابلة
للانتشار، تثير إليها انتباه القارئ بإلحاح، وتستثير لديه حوافز السؤال وتقنعه في
خاتمة المطاف بأن "عاشور" نسيج إنساني جدير بأن يتعالى على الزمن ومصائب
الفتونة وكوارث الحارات و"ينجو" من شررها المتطاير.
لذلك ليس من
طبيعة السمة أن تفرض عسفا؛ وإنما الذي يقتضي استحضارها نقديا تلك البدهية التي ترى
أن قسما هائلا من كلمات الإبداع الأدبي إنما هي في العمق نعوت وصفات وأفعال تضفى
على المكونات النصية. وفي المجال الروائي تتجلى بوضوح شديد عملية الإضفاء أو
التساند المشع. وبذلك يغدو البحث البلاغي رصدا للتحولات الجمالية التي تطرأ على
السمات التي تثير إليها انتباه القارئ وملكته الذوقية. ومن البين أنه من الصعوبة
بمكان حصر تلك التحولات كميا وإحصائيا نظرا لغزارتها إن لم نقل لا نهائيتها. إلا
أن رصدها يظل على الرغم من ذلك وطيد الصلة بمقتضيات الجنس أو النوع الأدبي وسياقات
اللغة والقراءة والتكوين النصي.
إن
علاقة البلاغة بالسمة شبيهة بالعلاقة التي يحتمل أن تقوم بين اللغة والكلام.
فالسمات، إلى جانب الكون الأدبي والمكونات والسمات التكوينية والصورة تشكل تجليات
فعلية للأسلوب الحيوي الذي نستقرئ "بلاغته". بيد أن ذلك الشبه لا يعني
التطابق بين القضية اللسانية والتجلي الأدبي. فالسمات الأدبية على الرغم من
طبيعتها الجمالية التطبيقية لا تكتفي بتحقيق غايات التواصل والإخبار والتداول
فحسب، وإنما تضيف إلى ذلك طموحها إلى تصوير النوازع الدفينة في النفس البشرية التي
تمتنع عن التقييد والضبط الحصري. وبذلك لا ترقى السمة إلى رتبة القاعدة أو القانون
العلميn