ص1      الفهرس    21-30

 

إدوارد سعيد بين النقد الديني والنقد العلماني

 

إسماعيل العثماني

أن نختلف مع نقاد كبار أمثال نورثاب فراي وهارولد بلوم وفرانك كيرمود لأنهم ألفوا كتبا عن "الكتاب المقدس" أو أعطوا لمشاريعهم النقدية بعدا لاهوتيا فهذا ما فعله إدوارد سعيد. أما أن نستغني عن هؤلاء كليا للسبب نفسه فذلك ما لم يفعله سعيد. لماذا؟ لأن كتاباتهم النقدية، رغم خلفياتها الدينية، تقترح على الباحث (المبتدئ مثلي والمتمرس مثل سعيد) أفكارا وفرضيات جادة في ميدان النقد (الأدبي والثقافي) دون أن تقترح تحويل النقد إلى نوع من الممارسة الدينية الصرفة. إلا أن ذلك لم يمنع سعيد من اتهام النقاد الثلاثة بالقيام بوظيفة القسيس(19)، وهو موقف إقصائي جاهز لا يعكس مبدأي التسامح وعدم ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة اللذين ينبغي وفق منظور سعيد نفسه أن يلتزم بهما الناقد. بل إنه موقف يؤهل سعيد في آخر التحليل لكي يصبح أو يعتبر قسيسا أصوليا في دير علماني/

 

قصدي في هذا المقال أن أبدي ملاحظات عامة حول مضمون كتاب إدوارد سعيد الهام العالم والنص والناقد (1983) الذي تتمحور طروحاته ومعالجاته حول الفصل بين الدين والدنيا في حقل النقد. أذكر أن النقد في منظار سعيد يتجاوز حدود النقد التقليدي ليهم ليس الأدب فقط، بل كل أشكال المعرفة التي ينتجها الإنسان ويصطلح عليها عادة بـ"العلوم الإنسانية".

راودتني فكرة هذه المقالة بعد قراءة أعمال إدوارد سعيد النقدية التي تقوم من حيث المبدأ على نظرة تاريخية (أوتاريخانية) وإنسانية إلى العالم، نظرة تحليلية للممارسات الإنسانية تعتمد على العقلانية وتسعى إلى نبذ التطرف ونصرة الحق للمساهمة في (تأسيس) مجتمع بشري عاقل وعادل. وفي انتظار الإعداد لبحث طويل المدى، قررت تقديم بعض الأفكار الأولية التي قد تساعدنا على فهم مشروع سعيد النقدي. يميز سعيد بين صنفين من النقد في مجال الإنسانيات: نقد ديني ونقد علماني (أو دنيوي)؛ وقد وضع "النقد العلماني" عنوانا لمقدمة كتابه العالم والنص والناقد و"النقد الديني" عنوانا للخاتمة. ورغم أن سعيد يطرح موضوع العلاقة بين الدين والنقد في سياق غربي بحكم تخصصه الشخصي (وربما أيضا لضعف النقد العربي عالميا)، أود الحديث انطلاقا من فكرة أن الدين والنقد أمران لا يفترقان، وأن مصير الإنسان (ونجاحه) مرتبط بالوسطية. أما التعصب للدين أو التشدد للدنيوية فإنهما يعرقلان عمل الوسطية ويخلان بالتوازن المنشود في الحياة العامة والخاصة.

العلاقة بين الدين والدنيا وانعكاساتها على حياة الإنسان موضوع فلسفي شائك لا يمكن معالجته باختزال. لهذا سأحاول مقاربته انطلاقا من كتاب سعيد الذي سبق ذكره، الكتاب الذي يستعرض أفضل من غيره ثوابت وخصوصيات النقد عند هذا الأكاديمي الفلسطيني البارز(1). "كيف يمكن للخطاب النقدي أن يستعيد وضعه القديم كمشروع جماعي علماني وحقيقي؟" هذا السؤال الذي ختم به سعيد كتابه المذكور يتضمن فكرة مركزية مفادها أن النقد كان في السابق علمانيا (وهو ما يرتاح إليه سعيد) ولكنه اليوم أصبح دينيا (وهو ما يأسف له سعيد) نتيجة الحضور الديني المتزايد في الخطاب النقدي.

الواقع، إن الدين لم يغب قط عن الساحة النقدية، لأن حتى أشد المواقف عداء للدين وتعصبا للدنيا كالإعلان النيتشوي عن موت الله تتضمن موقفا دينيا أو عقديا باعتبار أن الإيمان المطلق بالإنسان مصدر للتشريع بدلا عن الله يحمل في طياته رسالة عباداتية تفرض نفسها على ذوي النزعة النيتشوية. إن إقصاء الدين من الممارسة النقدية إجراء مستحيل لأن الدين من المنظور الفلسفي (البرغماتي) عقيدة، واللادين عقيدة كذلك، بغض النظر عن شكليات العقيدة أو تلك. أما إذا مكثنا خارج نطاق التفلسف البلاغي فحجتنا تتمثل في أن البداية والمنهج بالنسبة للنقد (الغربي) لم يعرفا المفارقة بين الدين والدنيا، بل إن طابعهما الأصلي كان دينيا بامتياز. كل ما في الأمر أن ذلك النقد وهو يستلهم في مساره مدارس وتيارات ومناهج مختلفة جعل حضور الخطاب الديني في كتابات النقاد يتراوح بين الجلاء والخفاء.

الأدب في وضعه الإبداعي (شعر، قصة، رواية، مسرحية، الخ) تجربة فردية من حيث الشكل والمظهر، ولكنها تجربة جماعية في العمق، لأن الفرح والمعاناة والحياة بصفة عامة لا يتأتون إلا داخل هذا الإطار الإنساني الذي تميزه العلاقات الإنسانية بما يقودها من معتقدات وطقوس وما ينتج عنها من مشاعر وأفكار. والمبدع بصفته عنصرا عولمته الحضارة الإنسانية وموضعته ضمن حدود ذلك الإطار الإنساني لا يستطيع أن يجرد نفسه عن وعي منه أو بدونه من الذاكرة الجماعية والمعرفة الخارجة عن الأنا التي تجر القلم وتصوغ الجمل وتقدم العمل وكأنه مجهود فردي خاص جدا. بمعنى أن التنكر للنسب وتبني الانتساب لا يضعان القطيعة بين نسب المبدع أو المثقف وانتسابه. فالنسب القبلي والطبقي والديني للمؤرخ مثلا وتكوينه التربوي والاجتماعي وانتسابه الإيديولوجي والفكري هم الذين يحددون، إن صح التعبير، طبيعة تعامله مع كتابة التاريخ من حيث هو علم إنساني يقوم على الاستنباط والتفسير ويصعب معه الربط بين الأسباب والنتائج بصورة علمية صارمة. أما الناقد (المسؤول) فمن مميزاته الأخلاق التي يكون ضميره مسؤولا على مدى تحكمها في العمل النقدي. وبدون الأخلاق لا مجال للموضوعية والنزاهة (النسبيتين دائما نظرا لنسبوية كل مجهودات الإنسان) في حقل النقد. فضلا عن ذلك، يحتاج الناقد إلى آليات أخرى مثل اللغة ومعرفة أو ثقافة آلية-نقدية (شبه) علمية تتحرى الدقة والموضوعية وتتجاوز الأحكام الجاهزة والشخصية.

بناء على ما سبق، لا يمكن للناقد أن يفصل لغته أو منظاره النقدي عن نسبه وقناعته الفكرية ومزاجه الروحاني ونظرته إلى الإنسان والكون. ثمة في اعتقادي جدلية بين وظيفة الناقد ووظيفة النشاط النقدي. بمعنى أن النقد بما ينطوي عليه من نشاط نظري إنما يعكس في آخر المطاف عناصر وظواهر وآراء بلورتها شخصية الناقد بصفته عضوا مجتمعيا، ومن ثم يستهدف بشكل أو بآخر المشاركة في بلورة وصياغة خطاب جديد أو على أنقاض خطاب ينقضه. إن وظيفة الناقد تتعدى في واقع الأمر مستوى العملية النقدية نفسها لتؤدي كباقي الممارسات في ميدان الإنسانيات وظيفة "تعليمية".

عمليا يساهم النقد في تبرير موقف أو استبدال رأي بآخر مع ما لذلك من تأثير (إيجابي أو سلبي) على الخطاب السائد أو المهيمن. فتوالد الخطابات والصراع في ما بينها من أجل السيادة لا يتمان في فراغ. وعليه يكون الحكم على عمل أدبي مثلا معناه أساسا التعبير عن إعجابنا وتقديرينا أو رفضنا لذلك العمل؛ ولكن لذة الناقد لا تتوقف عند لذة القبول أو لذة الرفض لخطاب معين بسبب ما تفرضه علاقة الناقد من حيث هو مثقف بالسلطة من علاقة مشاكسة أو تكريس لخطابها. فضلا عن ذلك، ينبغي الإشارة إلى أن في إمكان الناقد أن يضبط ما هو متصل باللغة من بنى صوتية ونحوية ودلالية قارة، إلا أن تأويل النصوص، الذي يقتضي قراءة الأعمال بطرق تختلف في الغالب من ناقد إلى آخر، لا يختلف جذريا من مدرسة نقدية إلى أخرى نظرا لاختلاف في درجة علمانية الأساليب والمناهج المستعملة بقدر ما يختلف نتيجة اعتبارات ومقاييس إيديولوجية أساسها أو منبعها النسب الديني أو الانتساب العقدي. فالفرق مثلا بين العلمانيين إدوارد سعيد ورولان بارط محدود إذا ما قورن بالحاصل بين سعيد العلماني ونورثاب فراي الغنوصي-المسيحي.

أعلن الإنسان الحداثي موت الإله ونصب نفسه صانعا ومبدعا يعتمد على العقل (مرحلة الآلة والتكنولوجيا)، ثم تقدمت الآلة بوصفها كائنا منتجا بلا حدود حتى أصبحت تتوسط بين عقل الإنسان وعمله (مرحلة ما بعد الحداثة)، مما أدى إلى تزعزع سلطة العقل وهيمنته وظهور أمارات التردد والوجل على وجه هذا الإنسان المستبد بعقله حتى وجد نفسه يؤمن بالأساطير (بسبب الجنون أو الانطواء أو الصايونطولوجيا أو التعشق الذاتي، الخ) أو ينتج لغة "أسطورية" لا يفهمها أحد، وهو الذي كان في السابق يحارب الدين الحقيقي والإيمان بالله بدعوى أنه مجرد أساطير ولغة غير مفهومه. محاولة المفكرين تأليه العقل من خلال عقلنة الحياة على النمط الحداثي لم تؤت أكلها (الأمثل) لأن تأليه العقل أدى إلى تأليه الذات، فآمن بعضهم ببعضهم وألحد بعضهم أو أشرك ببعضهم، وقامت في سبيل صنمية النقد حروب، ضروسة وطويلة في بعض الحالات، في ما بين المعبودين من المنظرين في الفكر والنقد، وفي ما بين العابدين لهم من أتباع ومريدين، وفي ما بين هؤلاء وأولئك. ولا بأس أن نؤكد على أن التعصب للذات وتأليه العقل ظاهرة غربية ساهم في ظهورها وانتشارها عداء الكنيسة التقليدي للعقل والاجتهاد منذ القرون الوسطى، حيث تراكم مع مرور الزمن لدى النخبة المفكرة في أوروبا الشعور بإحباط شديد ولد لديها عداء عميقا للدين ترجمته الحداثة الفكرية فيما بعد إلى ما يعرف بالعلمانية.

لم يشارك إدوارد سعيد بصورة مباشرة في تلك المعارك من أجل السيادة والريادة، ولكن موقفه من "أصنام" كفيكو وغرامشي وآورباخ وفوكو وغيرهم لا يخفى على قرائه ومتتبعيه. أما رجوع الدين بمعناه التقليدي وبأسلوب علني إلى الكتابة النقدية (والفكرية بصفة عامة)، كما يلاحظ سعيد نفسه، فهي ظاهرة عادية بالقياس إلى درجة الفردية المعادية للآخر والعبثية اللغوية اللتين أضحتا تميزان حقلي الفكر والإبداع تحت شعار ما بعد الحداثة. أشير في هذا السياق إلى أنني لا أتفق على أن ما بعد الحداثة ثورة ضد العقل والتعقيل، بل هي تطور منطقي للحداثة الفكرية أدى إلى جحود العقل وتفشي العدمية. إن الإيديولوجيا العلمانية حقا موقعها العقل بالمعنى التقليدي، ولكن التصورات التي تصدر عن عمل العقل والعلاقات التي تربط فيما بينها قد تنتج في الواقع قولا أو عملا يتسم بالحقيقة أو بالوهم. هذا معناه أن العلمانية في شكل منهج نقدي لا تعدو أن تكون آلية ذهنية تعتمد على التعقل المحض (داخل الذهن) ولكن مضمونها مشروط بتبعية الناقد (ذاتا أكثر منه عقلا) في الواقع المعيش (خارج الذهن)، حيث الأشياء أعيان وليست تصورات مجردة.

انطلاقا من هذه "الحقيقة"، ألايعتقد إدوارد سعيد أن ظهور من يقول من جماعات دينية وفكرية بفشل المشروع الحداثي في الغرب (أزمة روحانية، طغيان رأسمالي، تلوث بيئي، إنحلال خلقي، إبداع أناني ولا إنساني) ويدعو إلى ضرورة إعادة النظر في خطاب الحداثة الغربية (وما بعدها) أمر عادي ويستدعي منه شخصيا مراجعة لدور الدين في حياة الإنسان؟ ألا يستحق الوضع الراهن وقفة متأنية من سعيد وباقي النقاد العلمانيين أمام "حقيقة" الخطاب الديني وعلاقته بالنشاط الفكري للإنسان بصفة عامة وبالنقد على وجه الخصوص؟

الصلة بين الأدب والدين هي من القضايا التي شغلت النقاد العرب منذ أمد بعيد. فالمعروف أن الثعالبي والقاضي الجرجاني كانا يؤمنان بالفصل بين الأدب والدين عند الحكم نقديا على النص (الشعري) لأن الأدب في نظرهما غير الدين. وإذا ورد في الأدب سوء اعتقاد أو ما يعارض الدين فإن هذا لا يضير الأدب ولا يحط من قيمته الفنية، فيما يتولى الله عقاب المذنب(2). ما يهمني من موقف الجرجاني تخصيصا هو "حداثته" بحيث لا يشمئز من حضور الدين في الأدب وينادي بوجوب التحلي بموضوعية أقرب ما تكون من موضوعية القاضي، بينما تشمئز من الدين نفوس العلمانيين المحدثين، الذين يسقطون في اللاموضوعية بسهولة خطيرة. رأيي أن الناقد الأدبي، مثله مثل المدرس، ينبغي أن يكون وسيطا (إيجابيا) وليس وصيا، مع العلم أن الناقد مهما عارض أو انشق ليس منتجا للقيم، التي يكون إنتاجها موقوفا بالدرجة الأولى على الأديب والمبدع والمفكر. بمعنى أنه لولا المنقود لما كان الناقد.

مبدئيا لا يختلف اثنان على أن القيم الإنسانية، من حسن المعاملة ومكارم الأخلاق إلى العدل والإخاء وغيرها، لها جذور عريقة ومشتركة بين المجتمعات البشرية. كما لا يوجد خلاف بين عموم المنظرين حول ضرورة التزام الإبداع والنقد، بالمعنى الواسع للالتزام، بمصير الإنسان وارتباطاته الحياتية. غير أن تحديد وكيفية بلوغ وتطبيق تلك الأمور على أرض الواقع ليس مشروعا سهلا على الإطلاق. فقداسة قيمة أو موقف بالنسبة للبعض هي دناسة في رأي البعض الآخر لأسباب عديدة نذكر على رأسها الدينية منها والسياسية والتاريخية. مع ذلك، يجب أن نؤكد على أن الانحطاط والانحلال الأخلاقي لا يمكن أن يكون الدين مسؤولا عنهما لأن ذلك يتناقض مع مبادئه الرئيسية، بينما يكشف لنا الوضع الراهن مسؤولية "العلمانية الشاملة"(3) المباشرة على جو الفوضى الثقافية والعمى الفكري اللذين يسودان العالم الغربي.

يحاول مشروع إدوارد سعيد النقدي إقامة تعارض ظاهراتي جذري بين المركزية الإنسانية (Anthropocentrism) وبين مركزية الوجود الرباني (Theocentrism). لقد أثار انتباهي وأنا أتأمل هذا المشروع كون سعيد يغض الطرف عن الفرق الجوهري القائم بين الدين خطابا والممارسة الدينية لفرد أو جماعة، بحيث ينسب إلى الدين كثيرا من الأمور التي يكون الدين في غنى عنها، أو يرفع عن العلمانية تهما يشهد التاريخ أو الواقع على ثبوتها. فمشكلة الأقليات في العالم العربي (من أكراد وأقباط ومسيحيين وأرمنيين وغيرهم) مصدرها الرئيس في رأي سعيد هو الدين والتدخل الإلهي في شؤون العباد؛ أما الحل الذي يقترحه فيجب البحث عنه في نظرة علمانية ولا دينية إلى الأشياء(4). كما أن سعيد لا يقبل أن يكون لتغييب الدين دورا يذكر في اللامنطق واللاإنسانية اللذين يميزان السيمياء والتفكيكية المهيمنتين على حقل المعرفة والنقد، حيث يعزو وجود الظاهرة إلى إهمال أمبرطو إيكو وجاك ديريدا وأتباعهما لما هو غير نصي وما هو تاريخي(5). بل إن سعيد (قد) يذهب إلى حد تجاهل الموقع "المقدس" الذي أصبحت تحتله في الحضارة الغربية الأنا المفكرة (النخبوية) والقائلة بأفول الأصنام(6) ويجرؤ في نفس الآن على القول إن بعضا من اللامعقول الفكري الرائج سببه هو الدين وما يدور في فلكه. مهما يكن من أمر، فإن النقد العلماني (أو اللاديني) في رأيي لا وجود له على أرض الواقع إطلاقا(7)، لأن العقلية العلمية والمبدأ اللاديني للثقافة الغربية رغم ما أنتجاه من تقدم في قطاعات ومجالات عدة لم يفلحا في إقصاء العقيدة المسيحية من الحياة السياسية والثقافية في المجتمعات الغربية. لم يختف الدين بقدر ما غير موقعه التقليدي، حيث يمكن القول إنه انتقل من العمل في الواجهة إلى عمل عمله في الخفاء، باستثناء حالات خاصة لأفراد أو مجموعات أصولية ومعادية للدين قولا وعملا اشتهروا بالعدمية كعقيدة بديلة عن الدين يمارسها العقل المتمركز على الذات. تلك إذن هي العلاقة الحقيقية القائمة بين الدين والدنيا في هذه الحضارة (الغربية) التي ترفع شعار العلمانية بينما لا تتبناها (أي الحضارة) عمليا إلا نسبيا لأنها نادرا ما تستغني فعليا عن رأي الكنيسة (السري) في الأمور العظمى. بعبارة أخرى، إن العلمانية إذا تحققت فإنما تتحقق في أحسن الحالات جزئيا على الأكثر.

نتفق وسعيدا على أن النقد ينبغي أن يكون إنسانيا وإنسانويا فوق كل الاعتبارات الأخرى، ولعله يتفق معنا على أن الدين هو الذي يجسد بامتياز على صعيد الممارسة تلك القيم الإنسانوية المجردة فهما ومفهوما، وأنه على الدين يتأسس مبدأ التوازن بين الحاجات المادية والحاجات الروحانية الذي ينبغي أن يقوم عليه المجتمع البشري. لقد ترجمت "Secular Criticism" بأنه "النقد العلماني" وليس "النقد الدنيوي" حتى يتوضح للقراء أن سعيد لا يقف عند الدعوة إلى ممارسة النقد وفق معايير دنيوية تستمد مشروعيتها من العالم المادي(8)، بل ينظر نظرة شبه تقديسية إلى التاريخ واضعا إياه في مواجهة أبدية للخطاب الميتافيزيقي المتمثل أساسا في الدين. كما إن سعيد ينزع إلى وصف أولئك النقاد الذين يختلفون معه أو يختلف معهم في تحليل وتأويل التاريخ بنعوت دينية دليلا على استيائه. من المعروف أن الاستشراق –ذلك الخطاب الخطير الذي ألهم في الغرب أعلام الفيلولوجيا والتاريخ والأدب والعلوم الإنسانية والطبيعية بصفة عامة- مرجعه الأساس هو الدين (المسيحي واليهودي). نفس الكلام ينطبق على الامبريالية (المرتبطة إيديولوجيا بالاستشراق) التي استندت إلى الدين (المسيحي بخاصة) واستعانت بالعلماء والمبدعين لفرض "حضارتها" على الأمم "البدائية". ولما كان صلب الاهتمام النقدي عند سعيد ينصب على الاستشراق والامبريالية، الظاهرتان التاريخيتان اللتان طبعتا (إلى الأبد؟) مصير أغلب شعوب وثقافات العالم الحديث، وعلى موقع المثقف (المبدع والناقد) منها، فقد كان من المنتظر منطقيا أن يعترف سعيد بوجود الدين وبالدور الذي يلعبه في التحولات التاريخية الكبرى التي تطرأ أو تحدث في العالم الميتافيزيقي.

إن قراءة التاريخ لا تتحقق وفق موضوعية الأحداث بل تبعا للحقيقة التي ينشدها قارئ ذلك التاريخ، باعتبار أن الإنسان، حتى الذي لا يؤمن إلا بالوجود والتاريخ الدنيوي، عاجز على التحكم عمليا في الزمن والحدث الماضيين. هكذا يولد التاريخ لقيطا، ولكنه عكس اللقيط العضوي لا يبحث عن أبيه بل يجعل الأب أو بالأحرى الآباء يبحثون عنه. المعرفة التاريخية تستمد قوتها من التفسير، والتفاسير بتعبير سعيد "تعتمد اعتمادا كبيرا على من يقوم بها وعلى من يخاطبهم هذا المحلل وعلى ما ينشده هدفا لتفسيره وعلى اللحظة التاريخية التي يتم التفسير أثناءها"(9). وانطلاقا من هذه المسلمة يقترح سعيد أن يتوفر في منهج المحلل شرطان، أولهما المسؤولية والثاني معرفة العالم الاجتماعي من الجانب الفكري والسياسي. ولكن هل يجوز للباحث في العلوم غير الطبيعية، سواء إدوارد سعيد أم غيره، أن يدعي لنفسه الأمانة والنزاهة ولعمله الموضوعية والمشروعية؟ الجواب: لا. ودون أن أخرج من نطاق التاريخ أود أن أطرح السؤال الآتي: لماذا يكلف إدوارد سعيد نفسه عناء تأليف كتاب تغطية الإسلام(10) للدفاع عن الإسلام، علما منه أن "لا وجود إطلاقا للتفسير والفهم ومن ثم المعرفة إلا حيثما توفر الاهتمام والمصلحة"(11). هل الدافع هو الرأفة بالمسلمين أم التضامن معهم أم بهدف الدفاع عن الحق وتغيير المنكر؟ وكيف يجعل سعيد ضمن أولوياته العلمية الدفاع عن الإسلام الذي يمثل (إحدى) أعند الخطابات الميتافيزيقية من منظور الغرب في الوقت الذي يقوم فيه زملاؤه من النقاد العلمانيين بتفكيك الميتافيزيقا الفكرية ونبذ حقيقة السلطة العليا؟

أستبعد أن يحاول سعيد الإجابة بحصر تعريفه للإسلام في الأدب والفن والعلوم لأن هذه الجوانب، ومعها القانون والسياسة والتاريخ وغيرها من الجوانب الحضارية الإسلامية لا تنفصل عن الإسلام عقيدة. أستبعد كذلك أن تكون منهجية سعيد النقدية تعتمد على إثارة الانتباه آنيا إلى الخطاب اللاإنساني ومعاتبة الجهة الظالمة (الفاشية، الشيوعية، الاستشراق، الإمبريالية، الصهيونية، الأصولية، الخ) بغض النظر عن هوية أو طبيعة الجهة المظلومة (المسلمون، العرب، العالم الثالث، الفلسطينيون، المقهورون، الخ) لأن سعيد يؤمن بضرورة اقتراح البديل. للمسلمين على سبيل المثال يقول: "ليس الإسلام ما يقال إنه هو عموما في الغرب إلا لأغراض الغزو، ويجب علينا أن نوفر بديلا فوريا"(12). غير أن سعيد لا يقدم أي بديل (فوري أو غير فوري) للنظرة الغربية إلى الإسلام التي يستنكرها، وبذلك يقع في تناقض منهجي جوهري، خصوصا وأن التغييب المنهجي للبديل في النقد، حسب فهم سعيد نفسه للوظيفة النقدية، قد يكون دليلا على غياب غنوصي للناقد عن الواقع المادي والمعرفي. وإثارة هذه النقطة هنا تندرج ضمن محاولتي الكشف عن اللبس والتقلب اللذين يميزان نظرة سعيد الشاملة إلى الدين. نظرة تتراوح حسب فهمي لمضامين كتبه النقدية بين الدفاع التاريخاني والأخلاقي عن الدين (الإسلامي تخصيصا) في مواجهة للاستشراق والإمبريالية والإعلام المسيّس والمقنن ضده من جهة وبين إسقاطات وتعريفات غير تاريخانية من أجل نصرة الخطاب العلماني والمعرفة النقيضة القائمة على معارضة العادة من جهة أخرى.

ومثلما يستحيل الفصل بين الدين والدنيا يستحيل كذلك أن نميز بين تاريخ علماني ينجزه الإنسان وتاريخ مقدس من إنجاز الله(13). يتجلى الفرق بين التاريخين في رأي سعيد، المطابق لرأي جان باطيصطا فيكو، "في أن الأوليأتي إلى الوجود ثم يتطور في اتجاهات عدة ويتوجه نحو أوج متعددة حتى إذا بلغها انهار ليعيد العملية من جديد. ويحدث كل ذلك بطرق قابلة للبحث والتحري لأن المؤرخين (…) بشر ويمكنهم معرفة التاريخ على أساس أنه من وضع الرجال والنساء… أما التاريخ المقدس فإنه من إنجاز الله، ومن ثم يستحيل معرفته"(14).

إن استقصاء تاريخ الحضارات بوقائعها الدقيقة أمر مستحيل، كما إن التأكد التام من صحة التاريخ غير المقدس الذي يضعه الرجال والنساء غير ممكن لأن قدرة الإنسان الآلية والمعرفية في مواجهته للزمن الماضي محدودة جدا، فضلا عن كون الظواهر الاجتماعية أعقد من الظواهر الطبيعية. لجأ سعيد في استقرائه تعامل ميشيل فوكو مع التاريخ من حيث هو حقل دراسي إلى تقديم ملاحظات تقارنية حول تفسير التاريخ عند ابن خلدون  فكتب يقول: "كلاهما (أي فوكو وابن خلدون) مؤرخ دنيوي لأنهما يفهمان، وربما قلنا يستحسنان حركية الأحداث الكونية (على أحقاب)"(15). أذكر أيضا أن سعيد كتب قبل عام فقط يقول أن جان باطيصطا فيكو وابن خلدون "يعرضان تشابها مذهلا في منظورهما للتاريخ" حيث إن "النقطة الجوهرية للرجلين هي أن عالم البشر مختلف عن عالم الطبيعة من جهة، وعن المجال الروحاني من الجهة الثانية، بل هو عالم التاريخ، أي ذلك الحيز الدنيوي الذي يمكن فهمه عقلانيا كنتيجة للتحولات والاستدامات والهزات التي تحكمها قوانين وأفعال إنسانية قابلة للإدراك(16).

من اللازم علينا بوصفنا باحثين أن نرفض هذه الإسقاطات غير العلمية التي لا تنصف ابن خلدون ونوضح أن مشروع هذا الأخير يتضمن على الأقل ثلاث قواعد إسلامية في تفسير التاريخ لا يمكن تجاهلها، أولاها "أن التاريخ علم، لا يقل عن بقية العلوم الكونية، حتى وإن عجزنا عن اكتشاف كثير من مفاتيح القوانين التاريخية"؛ وثانيها "أن هذه القوانين، التي يمكن أن تخضع للسببية بطريقة حاسمة، لا تتناقض مع فعل الله وإرادته، وقدرته في التاريخ"؛ وثالثها وآخرها "أن ما يشاع عن وجود فوارق كثيرة بين مستويات الثبات والاضطراد في العلوم الطبيعية وبين قوانين الحركة التاريخية هو نوع من المبالغة… فالحق أن الفوارق بينهما هي في النسبة لا في النوع"(17). استنادا إلى ما سبق، لا يحق لأي كان أن يجعل من ابن خلدون مفسرا علمانيا للتاريخ وذلك عن طريق علمنة مشروعه اعتمادا على تأويل بنيوي فوكوي (نسبة إلى فوكو) أو فيكوي (نسبة إلى فيكو) لعنصر "العصبية"، لأن "العلمية" عند ابن خلدون لا تعني الاضطراد الحتمي، الذي ينعدم حتى في العلوم الطبيعية(18). بل إن إدوارد سعيد لو كان تعمق أكثر في قراءته لابن خلدون الذي تعايش لديه الفيزيقي مع الميتافيزيقي، والعقل مع العقيدة، لأدرك لا علمية نظريته التي تميز بين تاريخ علماني وتاريخ مقدس.

من المعروف عن سعيد أنه ينبذ التخصص في النقد لأنه يؤدي إلى فصل العلوم الإنسانية عن الواقع الاجتماعي. بمعنى أن سعيد يتصدى لتطهير النقد الذي يجعل منه نظاما منفصلا قائما بذاته ويحاول في المقابل أن يربطه بأشياء عديدة تجعله نفعيا وجماليا في وقت واحد. ولما كان الدين يشكل عنصرا مؤسسا للواقع الاجتماعي، أضحى من البديهي أن نتساءل: لماذا يصر سعيد ويشدد على إقصاء الدين من الممارسة النقدية؟ أن نختلف مع نقاد كبار أمثال نورثاب فراي وهارولد بلوم وفرانك كيرمود لأنهم ألفوا كتبا عن "الكتاب المقدس" أو أعطوا لمشاريعهم النقدية بعدا لاهوتيا فهذا ما فعله إدوارد سعيد. أما أن نستغني عن هؤلاء كليا للسبب نفسه فذلك ما لم يفعله سعيد. لماذا؟ لأن كتاباتهم النقدية، رغم خلفياتها الدينية، تقترح على الباحث (المبتدئ مثلي والمتمرس مثل سعيد) أفكارا وفرضيات جادة في ميدان النقد (الأدبي والثقافي) دون أن تقترح تحويل النقد إلى نوع من الممارسة الدينية الصرفة. إلا أن ذلك لم يمنع سعيد من اتهام النقاد الثلاثة بالقيام بوظيفة القسيس(19)، وهو موقف إقصائي جاهز لا يعكس مبدأي التسامح وعدم ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة اللذين ينبغي وفق منظور سعيد نفسه أن يلتزم بهما الناقد. بل إنه موقف يؤهل سعيد في آخر التحليل لكي يصبح أو يعتبر قسيسا أصوليا في دير علمانيn

المراجع:

عبد الرحمان بن خلدون: المقدمة، بيروت، دار الجيل، د.ت.

عبد الحليم عويس: التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون (سلسلة كتاب الأمة، عدد 50) الدوحة، 1996.

فخري صالح (ترجمة وتحرير): النقد والمجتمع، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1995.

مجلة الآداب (ملف خاص حول الحداثة) عدد 11-12، 1998.

محمد السمرة: القاضي الجرجاني، الأديب الناقد، بيروت، المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، 1979، (ط.2).

محمد علي الكردي: (الشرق والغرب بين الواقع والإيديولوجيا)، في مجلة فصول، عدد 3، مجلة 3، 1983، ص218-

برنارد لويس وإدوارد سعيد: الإسلام الأصولي (نصوص معربة مختارة) بيروت، دار الجيل، د.ت.

عزيز العظمة: التراث بين السلطان والتاريخ، بيروت، دار الطليعة، 1990، (ط.1-1987).

Edward W.Said : The world, The text, and the critic. London, Vintage, 1991 (1st ed. 1983).

Edward W.Said : Covering Islam, New York, Pantheon Books, 1981.

Edward W.Said : Beginings. Intention and Method, New York, Columbia UP, 1975.

Edward W.Said : Orientalism, London, Pinguin, 1995 (1st ed. 1978).

Edward W.Said : Culture and imperialism, London, Vintage, 1994 (1st ed.1993).

Edward W.Said : « Foucault and the imagination fo power » in : Foucault. A Critical Reader (ed. D.Couzens Hoy), Oxford, Basil Blackwell, 1986, pp149-155.

Michael Sprinker (ed.) : Edward Said A critical Reader, Oxford (UK) & Cambridge (USA), Blackwell, 1992.

Robert Con Davis & Ronald Schleifer (eds) ; Contemporary literary criticism, New York and London, Longman, 1994, (3ed.).

Eugenio Donato and Robert Macksey (eds) : The Langage of Criticism and the Sciences of Man : The structuralist controversy, Baltimore, John Hopkins UP, 1970.

Bridget G.Lyons (ed.) : Reading in an Age of Theory, New Brunswick, Rutgers UP, 1997.

Christopher Norris : Deconstruction : Theory and Practice, London, Routledge, 1982.

Christopher Norris : Uncritical theory : Post modernism, Intellectuals, and the Gulf War, London, Lawrence and Wishart, 1992.

 

 



(19)  حوار مع إدوارد سعيد في النقد والمجتمع، ترجمة وتحرير فخري صالح.

(1)  في الواقع، ما يقوم به سعيد في هذا الكتاب هو بلـورة القصـد والمنهـج في نظرتـه الخاصـة إلى النقـد التي طرحها في كتابه بدايات، القصد والمنهج، 1975.

(2)  محمود السمرة: القاضي الجرجاني، الأديب الناقد، ص160-169.

(3)  أخذت هذه التسمية عن عبد الوهاب الميسري الذي يفرق بين "علمانية شاملة" و"علمانية جزئية"،وتتميز الأولى عن الأخيرة بكونها "لا تعني فصل الدين عن الدولة فحسب، وإنما فصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن كل جوانب الحياة العامة… إلى أن يتم نزع القداسة تماما عن العالم". راجع مقال الميسري (اليهودية وما بعد الحداثة: رؤية معرفية) في إسلامية المعرفة (مجلة) العدد 10، 1997، ص93-122 (ص93).

(4)  انظر (حوار مع إدوارد سعيد) في Edward Said. A Critical Reader، من تحرير مايكل سبرنكر، ص232-233.

(5)  إدوارد سعيد: (النقد الديني) ضمن كتابه العالم والنص والناقد. راجع ترجمتنا في الملحق الثقافي/الاتحاد الاشتراكي، العدد 561.

(6)  ربما كانت تلك الأنا الصنمية هي المسؤولة عن موقف اللاتدخل أو المساندة للقوات المتحالفة الذي تبناه الكثير من النقاد والمفكرين الغربيين إزاء الهجوم على العراق مثلا. راجع في هذا السياق كتاب كرستوفر نوريس: Uncritical Theory على قائمة المراجع.

(7)  سعيد: (النقد الديني)، مصدر سبق ذكره.

(8) وهو ما اصطلح عليه المسيري بـ "العلمانية الجزئية"، راجع المصدر أعلاه، ص93.

(9)  إدوارد سعيد: الإسلام الأصولي…، بيروت دار الجيل، 1994، ص125.

(10)  إدوارد سعيد: Covering Islam، 1981.

(11)  إدوارد سعيد: الإسلام الأصولي، ص127.

(12)  نفس المصدر، ص130.

(13)  هذه الفكرة مركزية بالنسبة لكتاب سعيد العالم والنص والناقد، وسيجد القارئ ملخصا لأفكار سعيد في هذا الاتجاه في خاتمة الكتاب الذي مر ذكره. راجع ترجمتنا لـ"النقد الديني".

(14)  انظر إدوارد سعيد: "النقد الديني"، مرجع سبق ذكره.

(15)  سعيد: "Foucault an The Imagination of Power"، ص149-150.

(16) إدوارد سعيد في يومية الحياة اللندنية، العدد 12769 (17 فبراير 1998).

(17)  عبد الحليم عويس: التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون (انظر قائمة المراجع)، ص113-114.

(18)  المصدر السابق، ص115. من المراجع المهمة في هذا السياق كتاب محمد عابد الجابري، العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، بيروت، دار الطليعة، 1982 (ط3).

(19)  حوار مع إدوارد سعيد في النقد والمجتمع، ترجمة وتحرير فخري صالح.