ص1       الفهرس 91-100 

سؤال الكينونة في المتخيل السجني

 

                                                                                     محمد الزموري

دوائر السرد والتخييل

  اتجه المتخيل السجني نحو تشييد خصوصيته و بناء خطابه الأدبي منذ أواخر التسعينيات، مما يؤشر على وجود تحولات إيجابية تمس الأشكال و التيمات وعلاقة اللغة بالتخييل.  ومن ثم، ما فتئ هذا الإنتاج يراكم التجارب الإبداعية التي تصدر عن قواسم مشتركة تعتبر ثمرة استلهام لأهم لحظات الانعطاف في كينونة الكائن. فالكتابة في المتخيل السجني تتخذ من الذات نقطة ارتكاز لها، ذلك أن وسائل التشخيص للذات و العالم تضفيان على الكتابة طابع البوح والاعتراف.

 فضلا على ما تقدم، استطاع المتخيل السجني أن يجد طريقه لابتداع فسحات للكتابة، سواء أكان ذلك من حيث ما راكمه على المستوى الكمي من نصوص، أم على المستوى الكيفي المتمثل في تنوع التجارب. ومن ثم،استطاع هؤلاء الكتاب أن يمدوا للكتابة جسورا نحو بلورة الوعي الممكن من خلال تنويع أسئلة التفكير في علاقة السرد بالمذكرات و التحقيق الصحفي و التوثيق التاريخي. من هنا، أصبح  السرد أداة فاضحة تستمد مادة وقائعها من اقتفاء سيرة الذات في محنة انهيارها و سقوطها أمام وحوش التعذيب.

وبناء على هذا المعطى، اتكأ المتخيل السجني في بداياته الأولى على نتف من التصريحات –المتحفظة-في بعض المنابر الثقافية الفرنسية بسبب غياب المؤسسات التي تسمح لهذا الأدب أن يكون متداولا، و التي بإمكانها أن تمنحه شرعية الوجود و النقاش والحوار. لكن سرعان ما انخرط هذا الأدب في صيرورة التحولات السياسية العامة بعد أن انتزع لنفسه قيمة تمثيلية عن طريق التراكم و الحضور المتميز. كما ساهم هذا الأدب في تسليط الضوء على مرحلة قاتمة من تاريخ المغرب مدموغة بالشروخ والنتوءات.

 وبهذا المعنى، فالعودة إلى الاشتغال التخييلي على المذكرات واليوميات التي تتغذى على سنوات التعذيب ،هي عودة للتاريخ من أجل محاورته و مساءلته. ولعل هذا العامل هو الذي جعل المتخيل السجني قادرا على التقاط تفاصيل المشهد العدائي المعقد، ودقائق التفاصيل المتنافرة. فهو قرين الاحتجاج على القمع والعنف و رفض كل أشكال القيد و الدونية والتهميش.

فضلا على ما تقدم، فإن استيحاء سنوات الرصاص و محاولة إعادة صياغة وقائعها من خلال تجليتها و إلقاء الضوء عليها عبر المتخيل السجني، يخلق للسارد – في تقديري الشخصي-وضعا يسمح  بالبوح و الاعتراف و المكاشفة، و بالتالي أصبحت هذه المذكرات نوعا من ارتياد حمم الأنا و نوعا من العزاء لمقاومة الإحباط و الصدمات النفسية. فعودة المتخيل إلى الاشتغال على المذكرات الشخصية،  و إعادة صوغ وقائع سنوات الرصاص التي تنضح بالخيبة و القهر  و العنف، هو تعرية للأوهام و فضح للمسكوت عنه.

السؤال الذي يطرح هنا  هو: ما الذي دفع هؤلاء الكتاب إلى الاهتمام بالمتخيل السجني؟ هل هي رغبة في إعادة بناء كيان الشخصية في ظل الصدمات النفسية التي عاشتها؟ هل هي مجرد رغبة في التقاط شظايا واقع ينضح بالخيبة والقهر؟ أم هي محاولة للتصالح مع الواقع فنيا عبر مسافة اللغة و التخييل؟ هل المتخيل السجني عند هؤلاء الكتاب هو عبارة عن توثيق بالصورة و الرمز لمرحلة مسكوت عنها، أم هي صيغة لبناء التاريخ الفردي للأنا؟

الاعتقال بوصفه مادة سردية: محكيات الحياة

 انطلاقا من هذا، يتخذ كتاب المتخيل السجني من موضوع الاعتقال مادة سردية تخييلية بواسطة مخزون الذاكرة المستعاد. فالكتابة عندهم هي خطاب ناتج عن الرغبة في التخييل والتأمل و تشكيل العوالم و العلاقات. كما أن الكتابة  قناة تتيح لهم تصريف شهادات عن محنة الانهيار والسقوط التي أحدثتها سنوات الرصاص. بهذا المعنى، سنطلق على هذه الكتابات اسم" محكيات الحياة"Les reçits de vie، لأن التخييل هو جنس لعبي Ludique إن هذه المادة المحكية يمثل بؤرتها فضاء السجن المعزول جغرافيا عن العمار الآهل ،كما هو الشأن لفضاء المعتقل المروع "تازمامارت". لذلك، يتحدد شكل محكيات الحياة – إذن – انطلاقا من لعبة الكتابة ذاتها.  فالتخييل هو جنس لعبي، أما السيرة فجنس أدبي مرجعي


[1]، ذلك أن كاتب السيرة الذاتية عندما ينصرف إلى كتابتها لا يقوم بسرد أوضاعها فقط، بل يجعل تلك الأوضاع تتخلق في زمن كتابته كما لو كان زمن وجودها ووجوده على السواء[2] باعتبار الذاكرة هي الخزان الأساسي لتركيب الوقائع و المسارات الحكائية، بما يتخللها من نكسات وانكسارات مع بداية انجلاء وهم الأحلام الكبرى.

واستنادا لهذه التصورات، سأفترض لهذه القراءة بروز منحيين تجريبيين للمتخيل السجني يستوحيان نفس التجربة والتيمات والصور: المتخيل السجني العسكري، و المتخيل السجني المدني. يمكن أن نمثل للأول" بمذكرات محمد الرايس" وكتاب "تزممارت" لأحمد المرزوقي[3]، أما الثاني فيمكن أن نمثل له" بالغرفة  السوداء"لجواد مديدش[4]  و "العريس "لصلاح الوديع  (وكتابات أخرى لا يتسع المقام لذكرها).

 من هذا المنظور، نستطيع تقديم هذا التمييز المتعلق بالمتخيل السجني بحسب المقتضيات التأديبية لمراكز الاعتقال السرية. فنزلاء معتقل الموت و الرعب "بتازمامارت" يختزنون تجربة تنضح بالخيبة والقهر والاستخذاء، لهذا فإن هذه المؤسسة التأديبية العسكرية كانت أكثر دموية من بعض المعتقلات المدنية من قبيل معتقل "درب مولاي الشريف" أو سجن لعلو. في مقابل ذلك، يهمنا أن نتساءل -بهذا الخصوص- عن الجهة المصنفة لهذا النوع من "دور الضيافة"؟ ولماذا تم الزج بالعسكريين في هذه المقابر الجماعية بالذات؟ لماذا تم تجريد هذه الفئة من كافة الحقوق المدنية ضدا على كل المواثيق الدولية؟ لماذا كانت الدوائر الرسمية تصر على نفي وجود مراكز الاعتقالات السرية للجنة الأممية لحقوق الإنسان؟ ٌُ

بهذا المعنى، فالمتخيل السجني العسكري يرصد المصائر المفجعة لمجموعة من العسكريين استغفلت بسذاجة لتجد نفسها في معتقل الجنون والدمار لحظة تفاقم الخلافات العسكرية. هكذا سنجد أحمد المرزوقي يفتح دورة حياتية تبدأ من السنوات التي مهدت للاعتقال من خلال تشكيل العوالم و العلاقات التي سبقت الانقلابين العسكريين إلى حين إصدار الأحكام الجائرة ثم الإقبار النهائي في دهاليز معتقل تازممارت.

أما المتخيل السجني المدني، فالكتابة فيه تتخذ منحى استعادة الوقائع المترسبة في الذاكرة و الموشومة بهول التعذيب. يتشكل كتاب هذا النوع من المتخيل السجني من حركة اليسار بفصائلها المختلفة، و ما كان لها من امتداد نضالي في رحاب الجامعات. و من بين إفرازات هذه المرحلة ظهور معتقلات السبعينات التي ابتلعت الحركات السياسية و الطلابية، لهذا نعتبر هذه الفئة هم بمثابة المسجونين بسبب ضمائرهم.

وبناء على هذا المعطى، فإن المتخيل السجني هو ثمرة استلهام لنفس المتخيل و لنفس ذاكرة التعذيب، فهي تجربة تشخص حضور الوعي النظري بالكتابة لخلق التواصل مع الآخر من خلال تقصي تجربة سياسية مدموغة بالشروخ و النتوءات. وضمن هذه الاستعادة، بالمعنى الذي يفيد صياغة وقائع دورة حياتية، يتأسس المتخيل السجني، بما هو محاولة لبناء التاريخ الفردي للأنا، ومحاولة إعادة الاعتبار لمناطق الظل في الكينونة. فالكتابة وهي النظام المنجز الفعلي الذي يحول السيرة الذاتية إلى مجال مدرك (تاريخيا) ونص مقروء (أدبيا) وفضاء للتأويل (القراءة) وصيغة للتحقق (المنجز الذاتي). بل يمكن اعتبار الكتابة في السيرة الذاتية طريقة في صوغ الصورة المرتجاة من طرف المؤلف لهويته النصية.[5] و بالتالي فاستعادة المذكرات المتعلقة بهذه الفترة، هي محاولة لتسريد التعذيب ومقاومة الدونية و الحظر و التقتيل، ذلك أن الشخصية تتغلب على جوانب التمزق و الغرابة فيها من خلال تحرير الذات من ترسبات مرحلة موشومة بالذاكرة و التذكر.  فالذاكرة هي الوجود الفردي في سيرورة تشكله الزمني و التاريخي، لذلك يلخصها الشاوي في أربعة أبعاد : 1/ طريقة لغوية و ذهنية في الاستعادة و الاسترجاع، فما كان ماضيا في الذاكرة يمكن أن يصبح من خلال الكتابة ماضيا في الحاضر.2/ الكتابة عن الذاكرة أو منها هو استدعاء أو تحفيز لها لكي تنكتب بدورها من خلال النظام اللغوي.3/ الذاكرة ملكة حافظة أو وعاء يستجمع المعاش و المفكر فيه والمأمول والمنسي..  4/ الوعي بالذاكرة و التذكر هو بمعنى من المعاني سلطة رمزية.

خصوصية الاشتغال على المتخيل السجني

 فضلا على ما تقدم، ظهرت فئة جديدة من كتاب المتخيل السجني قادرة على إضاءة أسئلة العصر و إثراء الحوار و السجال حول مرحلة مدموغة في ذاكرة الوعي الجمعي بالتقتيل و الاجتثاث و المحو والمحق. كما اتجهت نصوص المتخيل السجني نحو تكريس إبداعيتها و خصوصيتها المحلية بإعادة إنتاج تجربة الحياة نفسها، بوصفها شهادة بوح و اعتراف. وهذا الاشتغال على التجربة الحياتية في مجال الإبداع هو ما يحقق للكتابة خصوصيتها و كثافتها و عمقها، و حجم المعاناة فيها. و في إطار هذه المعادلة تتماهى التفاصيل و التباينات و الاختلافات بين نزلاء مراكز الاعتقالات السرية، ذلك أن المتخيل السجني يجسد و يصدر عن قواسم مشتركة تنتمي لنفس ترسبات الذاكرة  في التيمات و الصور و الايحاءات...وقد تبلورت في مجال هذا الاشتغال عدة مظاهر مجلية لخصوصية المتخيل السجني نجملها فيما يلي:

1- التنصيص على أشكال التعبير النثري ذي النزوع السردي، بوصفه قالبا قادرا على استيعاب السجلات الكلامية و الرطانات اللغوية. فتمكين السرد من تشييد مادة وقائعه من تجربة حياتية تنضح بالخيبة و القهر و العنف، هو بمثابة رغبة في استعادة الكينونة المفتقدة. ومن هنا فالصوغ السردي هو بمثابة رغبة في البوح و التأمل لتشكيل العوالم و العلاقات وتنويع أسئلة التفكير في علاقة المتخيل السجني بالكتابة، و بالواقع القائم والمحتمل. فالاستناد على المادة الخام لأحداث تاريخية واقعية تغذو واقعا فنيا عبر مسافة التخييل و مستويات البناء و التجنس. فطبيعة الأشكال التي تتقصدها الحكاية ليست عملية استنساخ للواقع الخام، و إنما عملية تستهدف أحداثا وقعت بالفعل. من هنا،يتحول النص التخييلي إلى محاورة الواقع، و إعادة التفكير في علائقه و مصائر شخوصه أمام وحوش التعذيب، مما يضعنا أمام حد فاصل بين المستوى الحقيقي للوقائع، باعتباره قيمة مرجعية، و بين المستوى التخييلي، باعتباره قيمة جمالية عبر مسافة اللغة و التخييل.

2- تشظية التيمات : وتتجلى في توظيف اليوميات، من حيث هي وحدة بنائية معززة لسجل المتخيل السجني و مساهمة في أشكال الصوغ الذاتي للخطاب، ورافدا من روافد الغنى النصي في جميع تشكيلاته و تمظهراته. فاعتماد اليومية يؤمن للكتابة التجدد و التغير و الديمومة، و يساعدها على التقاط تفاصيل الذاكرة المستعادة، و استيعاب التحولات الملازمة للمصائر الفردية و الحيوات الجماعية للشخوص. فهي أداة موثقة شديدة الثراء تساهم في تعزيز الزمن البيوغرافي بطريقة واقعية مقنعة وحيثيات مدعمة بالأرقام و التواريخ و الأسماء، كما تربط عناصره بسيرورة الحياة وتتيح تعرف كل حادثة ضمن ما يسمى بتشظية التيمات.

وبهذا المعنى، تقوم الكتابة عند أحمد المرزوقي  بمثابة بنية ناظمة للمتخيل السجني، ذلك أن دخول الشخصيات إلى مذكرات المرزوقي تنضح بالخيبة و بحجم المأساة و ديمومتها. فهو يستعيد جزءا من تاريخ هذه الشخصيات بناء على كثافتها السيكولوجية، ويكون هذا التاريخ بمثابة إرجاع زمني يتجاوز لحظة السرد. فالنص منكسر، مفتت، تجتمع فيه مزق من المذكرات و اليوميات و الرسائل و الشهادات، مما يعطي للكتابة معنى الوجود والديمومة. فالمرزوقي يقدم لنا في كتابه المروع "تزممارت" مجموعة من المشاهد والرؤى تعترض السير الأفقي للمحكي فتغنيه وتنوعه بواسطة مجموعة من التيمات التي تتيح للسارد النقد والتعرية و تمرير التعليقات، مثل العلاقة المتبادلة بين الإنسان و الحيوان الذي  سيصبح أكثر إنسانية من حيوانية الإنسان ، ونفكر هنا بالكلبة هندا و القطة و حمامة تزممارت. وهو حوار مشبع بالسخرية و المفارقات و تعدد الدلالات، بما هو عنصر أساسي من عناصر التحول في الخطاب السجني. ومن الممكن أن يكون هذا التناظر التقابلي حافزا لدراسة سيكولوجية قوامها استجلاء الأبعاد النفسية للسجين اتجاه كائنات أخرى تقاسمه نفس المصير المفجع. فالإحالة على الحيوانات لها وظيفة رمزية تحيل على إعادة بناء إنسانية السجين بعد أن تعرضت للتمويه والتلاشي. إنها لعبة تتيح للسارد تشخيص التحولات السيكولوجية من خلال  تصريف مخزونات اللاشعور و استبطان الذات المتشظية، وتمكينها  من أن تعبر عن الأحلام و الاستيهامات المؤجلة.ومن ثم، فإن التلازم بين الإنسان و الحيوان يكشف عن الأبعاد الغافية للشخصية،  و يمد للذات جسرا مع ما هو خارج عنها ، و يتحول السرد إلى مجال للتأمل و الحلم و المقارنة. وفي سياق هذا التضاد، يقع التلميح إلى عزلة الشخصية ليصبح كل شيء ملونا بخصوصية الذات المبصرة التي تصنع الأطراف المتنافرة في شبكة متوترة الأبعاد. يقول المرزوقي متحدثا عن فرخ الحمام : " آه كم كان حاله أشبه بحالنا لما رمينا لأول مرة في هذه المغارات المظلمة" (ص 202)، بل سيصبح للطائر فرج  نسق اسمي وظيفي  دال على الحرية الداعية إلى تحطيم علاقات التراتب و ألوان الحواجز " ومنذ ذلك اليوم، أصبح (فرج) في تزممارت بهجة عمرنا ومبعث سعادتنا، فأحببناه و أحبنا، وتحملنا بسببه قدوم الموت بمعنويات أفضل" (ص 206).

ومن ثم، فإن استبدال السرد الخطي بشكل قوامه الاعتماد على عناوين تيماتيكية  دالة، سمح للمتخيل أن يكون مجالا للتوتر و المصائر المفجعة و فعلا للتواصل و الدلالة و توليد التقابلات عبر محاورة الذات و الآخر. فمحكي تزممارت يتم تصريفه من خلال مجموعة من التيمات تؤثث النص بالأحداث التي لا توجه الشخوص فحسب، بل مصائرهم التي تتتالى فيها الأفعال عن الموت و الجنون و الدمار و الأخطار المحدقة و الأوبئة والطقوس والشعائر....

في الاتجاه نفسه، يسير  جواد مديدش على هدى المرزوقي من موقع تعرية مؤسسة القمع  عبر مساءلة الإيديولوجيا السائدة. وبتلازم مع هذا العنصر، وما يقتضيه من شهادات موثقة بالصورة و الرمز، يتألف كتاب درب مولاي الشريف من سبعة فصول هي بمثابة تيمات مترابطة بكلية المتخيل السجني هي على التوالي: (النواصر، ربيعة والآخرون -الببغاء والطيارة -أعمى في متاهة الدرب -الغرفة السوداء- من الظلمات إلى الظل-المحاكمة- ما بعد الاعتقال ).

من هذا البناء التيماتيكي، تستمد الغرفة السوداء طابعها المتميز القائم على التقاط تفاصيل المشهد المعقد العدائي، و استجلاء عوالم الأقبية و المتاهات السرية واستعادة ماض مثقل بالجراح و الذكريات المصدومة ومشاعر الانكسار. فالكاتب يقدم شهادة تحث تأثير حافز نفسي سلبي عن مرحلة موشومة في الذاكرة و مترسبة في الذهن و الوجدان. فمن اختطاف من مقر العمل إلى تحقيق وتعذيب وتحرش جنسي  وعنف جسدي موشوم بالرغبة في الإجهاز على الضحية داخل الأبنية المغلقة حيث تحاك المؤامرات والدسائس بلا حسيب  و لا رقيب. ينبني هذا النموذج من الكتابة على سلسلة من الاختبارات يمتحن فيها السارد عن نواياه بواسطة تحقيقات تتصل بماضيه و أنشطته السياسية، لتنتهي بأهم لحظة انعطاف في كينونة الكائن، ذلك أن الشخصية ستجد نفسها محكومة بوضعية تتجاوزها ضمن شبكة متواشجة متوترة الأبعاد و المكونات.

3- تسريد التعذيب: لعل أهم ما يميز المتخيل السجني و يبرز خصوصيته وفرادته، هو الصيغة التي يتحول فيها التعذيب إلى مادة سردية لرسم صورة عن تناسخ الرعب و البشاعة. فالشعور الدائم بالاضطهاد لدى الضحية، يشي بمدى هشاشة الإنسان و ضآلته إزاء مجموعة من الكوابح. فأشكال التعذيب تختزل المعادلة بين طرفي الصراع : الجلاد و الضحية لتفضي إلى نسيج معقد و علاقات متواشجة الخيوط و الأبعاد ضمن ألوان التراتب القمعي. فالجلاد يعتد بجبروته و استعلائه في أشد لحظاته بطشا و دموية، والضحية مدجج بقناعاته و أفكاره في أشد لحظات ضعفه و انعطاف كينونته. وهكذا، تتحول البراهين والأدلة إلى صك اتهام، توقع الضحية في براثن تمديد الحبس الاحتياطي، وما يتتبع ذلك من شروخ ونتوءات وسط واقع متشابك و هلامي. فوراء الوقائع المستعادة ضمن انسياب عملية التذكر، يتم إعادة بلورة الماضي وملء فجوات الذكريات المصدومة وإعادة إبرازها تخييليا.

وبناء على هذا المعطى، يتميز المتخيل السجني بسمات وظواهر ناطقة بلسان حال آلة البطش الدموية من بينها :

أ‌-       الجلادون و  الحجاج الميامين: يمكننا الإشارة إلى مجموعة من آليات الموت والجنون والدمار التي تؤثث المتخيل السجني بالصور الكابوسية فتمنحه خصوصية تثري مجاله الأوسع، وهي آليات على قدر ما تثير الرهبة والخوف والقرف في نفوس النزلاء العزل، بقدر ما تشحذ همة الجلاد للإستقواء على الضحايا و إذلالهم أو الزج بهم إلى مصير مفجع. فالإحالة على نسق اسمي وظيفي من قبيل" الحاج " بحمولته المرجعية الدينية، هي محاولة للجلاد للتمويه على هويته لتجذير بنية القمع  والتستر عليها بعيدا عن أية متابعة. فالجلاد في جميع الأقبية العميقة ينتمي إلى طائفة الحجاج الميامين، تحركها التراتبية القمعية داخل الأقبية العميقة. فالأسماء لها مقاصد دلالية، باعتبارها مرآة لثقافة و عتبات الأقبية حيث توحي بالأدوار و المراتب الخدماتية . فالأنساق الإسمية للشخصيات ووظائفها توحي بالأدوار التي تنهض بها  إما سلبا أو إيجابا. لهذا فتحوير الأسماء تتتالى مشبعة بالسخرية لتفصح عن الاغتراب الذي يحس به الفرد في ظل محاورة الاشباح. فالأدوار القذرة التي انتدبت لها  هذه الأسماء هي من مؤشرات هذا التحوير الساخر الذي يتخذ منه الكاتب موضوعا للهزء والتحريف الدلالي. وبهذا المعنى، تصبح هذه الكنى بمعناها القدحي  بمثابة عنصر إضاءة للذاكرة و للذات و محيطها لحظة استعادة تصادم الذهنيات. إن هذا التوجه يزداد عمقا عند أحمد المرزوقي حيث قام بما يشبه" كستينغ" أولي للشخصيات وما تمثله من أوضاع و أنماط ثقافية في تلك الربوع الجهنمية، ومن الأسماء القائمة على هذه الربوع نذكر : السلك- و فوكسطروط- السرخينطو-مايك سييرا-الوزة-البيليلي-الباش- الشوبيني-الفرناتشي- حمار العودات- السر فر أحمد الهيش-

ب‌-  العصابة: هي أول احتفال طقوسي يقام ابتهاجا بسقوط الضحية و هي تساق نحو مصيرها

المجهول المفجع. فالجلاد ما أن يحكم قبضته على الطائر الطليق حتى يضع العصابة على عينيه إمعانا في  تمويهه عن المكان الذي يقتاد إليه. يقول جود مديدش ( كانت تلك العصابة تبعث رائحة مزكمة صعبة الاحتمال، تمتزج فيها النتانة بالعفونة، أوحت إلي بالمكان الذي كنت أقتاد إليه ) ص33

ج – من الببغاء إلى الطيارة: يتعلق الأمر بالإحالة على أكثر الوسائل قذارة ووحشية في التعذيب. فالتعذيب يدشن لحظة انعطاف في الكينونة عندما يأخذ طابع المساومة و الابتزاز، فيصبح بالتالي رديفا لانتزاع شهادات تحت الإكراه. وفي سياق إصرار الجلاد على تصريف شهوته المحتجزة في التعذيب فإنه لا يتوانى على اختراق المحظور للاستقواء على الضحية و ترهيبه بآلة البطش و لإرغامه على الاستسلام و الانسلاخ عن عقيدته و التنكر لقناعاته. وهكذا، فتجذر  بنية القمع في الأقبية المجهولة يتنوع بين ما يسمى بالتعذيب الذي يتخذ شكل الببغاء، أو شكل الطيارة. فأقبية التعذيب تتالى فيها الأفعال المشبعة بالوقاحة و التحرش و الاستخذاء و المصائر المفجعة. نقرا مثلا عن نموذج الببغاء مثلا في ص25 من الغرفة السوداء : " أجلسوني أرضا و العصابة على عيني، وتنوا ركبتي إلى أن صارتا لصق صدري. كما يفعل في وضعة اليوكا. أوثقوا يدي إلى رجلي بخيط. رفعوني من على الأرض. وضعوني فوق طاولة بواسطة مثلث معدني دسوه تحت ركبتي. شرعوا ينهالون بسياطهم على باطن قدمي". و نقرا عن نموذج الطيارة ص50 "أما في هذه المرة، أوثقوا يدي خلف ظهري، و أوثقوا رجلي، ثم شدوا الرجلين إلى اليدين بتقييدهما مجتمعة. بحيث تدلى الرأس تلقائيا إلى الخلف. ووجدتني مرة في وضعة اليوكا... ثم دسوا من تحت رجلي وقدمي الموثوقة إلى بعضها قضيبا حديديا جعلوه تحت ركبتي، كما في المرة السابقة. فلما تم لهم ذلك، رفعوا جسدي في الهواء في وضع الطيارة".

    4-المتخيل السجني والتشخيص الأدبي للغة: يتميز المتخيل السجني بسمات وظواهر أسلوبية  قادرة على التقاط صور لغوية مختلفة بواسطة التشخيص الأدبي للغة. فأمام الأزمات و المصائر المفجعة تصبح اللغة أداة للتذكر والحلم والاستيهام لتمرير التأويلات و التعليقات وإدماج الأجناس التعبيرية المتخللة(الرسائل، الأشعار، التاريخ،) مثلا الرسالة في ص135 من الغرفة السوداء، أشعار ناظم حكمت ص134 توظيف بلاغ وزارة الإعلام ص162

وفي الاتجاه نفسه، ولاستجلاء التحولات و التقاطعات، يستعير المرزوقي عدة مقامات كلامية تسند الصوغ الذاتي للخطاب وتغنيه بأشكال تعبيرية متنوعة،  مما يكشف عن أبعاد مقومات اللغة، بوصفها أفقا للمحتمل والمتخيل من خلال التنصيص على رطاناتها و تعدد اقتباساتها من قبيل توظيف لغة خاصة بنزلاء معتقل تزممارت ص 118، توظيف المنتن القرآني ص283 (سورة الكهف)، حضور اللغة الفرنسية كموضوع للتشخيص الأدبي ص138، اللعب الهزلي مع اللغات من خلال التشخيص الأدبي ، تأثيث النص بقوالب تعبيرية تمتح من الشعر و المواعظ و التاريخ والأغاني و المرددات الشعبية والأمازيغية عبر فسيفساء لغوية متجانسة ومتعددة الدلالات و الأبعاد.

وبناء على هذه المعطى، استطاع المتخيل السجني أن يمد للغة جسرا مع ما هو خارج عنها  من خلال إنتاج متنوع اللغات والمرجعيات ، مما مكن المتخيل من استيعاب اللغات المتداولة  و القوالب المتغايرة و إعادة إبرازها تخييليا لإضاءة مرحلة مترسبة في الذهن و الوجدان، لكنها موشومة بالمشاهد والرؤى الفاجعة و المصائر المأساوية...

 



[1]- انظر توماس كليرك :" الكتابة الذاتية إشكالية المفهوم والتاريخ" ترجمة محمود عبد الغني منشورات الموجة

[2]- انظر عبدالقادر الشاوي :" الذات و الذاكرة" منشورات الموجة ضمن سلسلة قراءات لمجموعة الباحثين الشباب في اللغة و الأدب أبريل 2004

[3]- أحمد المرزوقي : تزممارت

[4]- جواد مديدش : درب مولاي الشريف : الغرفة السوداء ترجمة عبد الرحيم حزل أفريقيا الشرق 2002

[5]-الذات و الذاكرة مرجع مذكور ص8