بول ريكور: من التحليل النفسي إلى مسألة
الذات
أو ثلاثون عاما من العمل الفلسفي
أجرى الحوار: فرانسوا أزوفي ومارك دولوني
نقله إلى العربية: عبد الرحيم الزحوتي
بول ريكور
المعروف بصمته وشحه بالاعترافات والنصوص البيوغرافية قبل في النهاية اقتراح كل من
فرانسوا أزوفي ومارك دولوني مساعديه في الإشراف على تسيير مجلة الميتافيزيقا
والأخلاق، بسرد مساره الشخصي والفكري على شكل حوار مطول يستعرض فيه مختلف محطات
حياته. حصيلة هذا الحوار الذي استغرق عدة شهور شكلت مادة كتاب النقد والقناعة الذي
يحسن أن لا ينظر إليه كمدخل وأعمال بول ريكور فحسب، باعتبار أنه يقدم فيه مسحا
عاما لكل الحقول ذات الأهمية الفلسفية، من الميتافيزيقا إلى التحليل النفسي ومن
الهيرمينوطيقا إلى تاريخ الفلسفة والثيولوجيا، بل أيضا كتفكير عميق حول أسئلة لم
يسبق له أن عالجها في تآليفه المنشورة وكدرس في قدرته الفائقة على الربط بمهارة قل
نظيرها بين المعارف والثقافات المتباعدة. الجزء الذي نقدمه معربا فيما يلي يمثل
الفصل الثالث من الكتاب الذي يشتمل على ثمانية فصول أنجزت مادتها الحوارية بين
أكتوبر ونونبر 1994، ثم ماي وشتنبر 1995 في بلدة شاتيني-مالابري Châtenay-Malabry بمكتب بول ريكور.
- في 1965، وبعد أجزاء فلسفة الإرادة الثلاثة حيث تعرضتم
لمسألة التحليل النفسي، نشرتم كتابكم في التأويل، محاولة على فرويد أقل ما يمكن أن
يقال هو أن هذا الكتاب لم يتلق بهدوء من قبل جماعة التحليل النفسي…
- استقبال هذا الكتاب هيمن عليه بشكل واسع في فرنسا طرحه من
قبل لاكان وهو الطرح الذي أفصح عنه علنا في حلقة درسه وفي الحلقات الخاصة. اتهمت
بالصمت عن فهمي لفرويد الذي كان يفترض أني مدين له به.
أريد أن أقول بهذا الصدد بأن هناك سوء فهم متعدد ومتشابك في
هذه القضية، سأبدأ بذلك الذي استهدف مصداقيتي. لوحظ بأني كنت أتردد على حلقة درس
لاكان قبل نشر كتابي، فأستخلص من ذلك أني أخذت عنه تأويلي لفرويد. توجد هنا مشكلة
تتعلق بالتقويم الزمني الذي سأحرص على تصحيحه هنا. قدمت هذا الكتاب، في مرحلة
أولى، على شكل محاضرات بالسوربون قبل أن أبدأ بالتردد على حلقة درس لاكان، يمكن
التأكد من ذلك في سجل الدروس بهذه الجامعة. بالإضافة إلى ذلك كنت قد ألقيت
ببونيفال، في 1960، محاضرة تحت رعاية الدكتور إي EY لم تنشر إلا سنة 1966 والتي يمكن الاطلاع عليها
في كتابي صراع التأويلات. حضر لاكان الذي كان زميلا وصديقا للدكتور إي، هذه
المحاضرة التي نوه بها علانية قبل أن يرافقني إلى باريس ويستدعيني لحضور حلقة
درسه. تشتمل هذه المحاضرة على محصل تأويلي لفرويد الذي كان قد نضج منذ محاضراتي
السالفة الذكر في السوربون. جزء كبير من الكتاب كان قد تم تأليفه، كنت على أية حال
قد انتهيت من التفكير في خطوطه الكبرى قبل أن أبدأ التردد على حلقة درس لاكان.
يوجد هنا، فضلا عن ذلك، مثال لا يصدق عن انعدام الاستقامة
الفكرية من جانب لاكان، وذلك أن النقاش الذي دار حول المحاضرة والذي شارك فيه حذف
من الكتاب بطلب منه. نصوص المحاضرات الأخرى تشتمل عموما على النقاشات التي دارت
حولها ما عدا نص محاضرتي.
نص هذه المحاضرة هو نص أساسي لأنه يعرض تأويلي الكلي لأعمال
فرويد، وهو تأويل يرى في الخطاب الفرويدي خطابا ينقصه التجانس، وهو بالتالي، هش
إبيستمولوجيا، لأنه يزاوج بين لغتين: لغة طاقية باصطلاحات مثل: كبت، طاقة، غريزة…،
ولغة إدراك وتأويل تظهر من خلال كتابه تأويل الأحلام. جعلت انعدام التجانس هذا
لصالح فرويد ولم أعتبره نقصا في الاصطلاح أو الوضوح الإبيستمولوجي، بل رأيت فيه
ممارسة مقصودة للغة ملائمة لموضوعها وهو الموضوع الذي يوجد عند تمفصل القوة
واللغة.
سوء الفهم هذا الذي يستهدف النيل من مصداقيتي يوجد أيضا في
مقال نشره ميشال طور في مجلة الأزمنة المعاصرة وهو مقال مدمر وحارق، يقول إجمالا:
"تحدث ريكور عن اللاوعي لأول مرة في كتابه الإرادي واللاإرادي، فما الذي حصل
بين الكتابين؟ لا شيء إن لم يكن لاكان". الذي حصل، في الواقع، بين الاثنين هو
اكتشافي للغة الرمزية من خلال كتابي رمزية الشر، وبالتالي بروز البعد اللغوي
لعلاقتنا باللاوعي وهو البعد الذي يوجد بالفعل في المرتبة الأولى عند لاكان، إلا
أني قمت بربطه، بدل معارضته كما يفعل، بالبعد الطاقي الدينامي.
- في نظركم، ماذا كان ينتظر لاكان منكم؟ لماذا كل هذه المودة
تجاهكم؟
- أعتقد بأنه، في العمق، كان ينتظر مني ما كان قد انتظره دون
جدوى من كل من هيبوليت وميرلوبونتي، نوعا من الكفالة الفلسفية فخيبت أمله بهذا
الصدد.
- وأنتم، ماذا كنتم تنتظرون من حلقة درسه؟
- عشت هذه الدروس كواجب مفروض ومرهق، كإحباط فظيع ألزمت به
نفسي بانتظام لأنه كان لدي دائما الانطباع بأنه سيقول شيئا مهما لم يقل بعد، وبأن
ذلك سيقال في المرة المقبلة، وهكذا. كان يتقن كامل الإتقان فن الترقب وكنت أجد ذلك
لا يطاق عنده. كان ترددي على هذه الحلقات، مهما كلف الأمر، إمتحانا حقيقيا مع
الشعور بالاضطرار ولكن أيضا بإحباط لا يتصور مداه. لازلت أتذكر قولي لزوجتي في
إحدى الأمسيات عند رجوعي إلى المنزل: لقد عدت من الدرس ولم أفهم شيئا. في هذه اللحظة
بالذات رن الهاتف، كان لاكان هو الذي يطلبني وسألني على الفور: كيف وجدت خطابي؟
أجبته: لم أفهم منه شيئا. فأغلق الخط في وجهي بفضاضة. كنت أحس بكثير من التهديد من
قبله، صرت خجولا، وكان لدي الشعور بأني مهدد بالإقصاء في أية لحظة، فضلا عن أن جو
الإجلال السائد في الدرس كان يثير الدهشة، إذ لم يكن في الإمكان تصور أن أحدهم قد
يستوي واقفا ليقول بأنه لم يفهم شيئا أو بأن ما قيل كان سخيفا… كنت أعيش هنا نقيض
ما عشته في حلقة الدرس بشكلها الأمريكي.
ولكن الأهم لم يقل بعد، كنت قد كتبت في مقدمة كتابي بأني لن
أتكلم عن أحد آخر غير فرويد ولن أستشهد إلا بمؤولين ظلوا أمناء للنظرية الفرويدية،
بالتالي، فإني أبعدت مسبقا كل الفرويديين الآخرين. أبعدت أولئك الذين كان ينتقدهم
لاكان نفسه وهو محق في ذلك –النفسانيون الأمريكيون على الخصوص- وإن كان من المؤسف
أنه لم يكن على علم بالأشد أهمية منهم، أولئك الذين طوروا الجانب الحكائي للنظرية
الفرويدية وأبرزوا بذلك دور الحكاية في استعادة قصة منسجمة من خلال العلاج. هؤلاء
تعرفت عليهم في نيويورك عند مشاركتي لمدة سنة كاملة في دروس مفيدة بإشراف نفسانيين
بجامعة كولومبيا. أبعدت كذلك أنا فرويد وإيرنيست جونز ووينيكوت وبيون الذين
اكتشفتهم في نفس الفترة، وفي نهاية المطاف لاكان نفسه. هنا كانت الزلة التي لا
تغتفر وهي وضعي لاكان في نفس الخانة التي وضعت فيها مجموع الفرويديين المتأخرين.
كان ذلك بالنسبة له مهانة لا مزيد عليها! ربما أنه كان ينتظر مني كتابا هو عبارة عن
إعادة تأويل فرويد انطلاقا من كتاباته الخاصة التي لم أطلع على شيء منها قبل
مباشرة ترددي على حلقة درسه.
- عندما قرأتم كتابات لاكان فيما بعد، ماذا فكرتم بشأنها؟
- إيليزابيت رودينيسكو قالت في هذا الموضوع ما أعتبره مؤيدا
ومهينا لي في نفس الوقت: "لم يستطع ريكور الاقتباس من لاكان لأنه لم يفهم منه
شيئا". هذا القول صحيح لأني لا أستطيع فهم هذا النوع من التمفصل والتفكير،
إنه غريب عني تماما ولا أدرك كيف يشتغل، تجدني في بعض الأحيان منبهرا كما لو تعلق
الأمر بومضات قوية من دون أن أتمكن مع ذلك من الإمساك بخيط الخطاب. وأعتقد بأني
لست الوحيد في هذه الحالة.. كان ذلك يؤسفني على الدوام وكثيرا ما أحسست به كنوع من
العجز. بشكل ما بقيت سجين التهديد.
- ذكرتم بأنكم لمتم نفسكم، بعد فوات الأوان، على انتقاصكم من
نصيب السرير ورفعكم من قيمة كتابات فرويد النظرية، خاصة تلك التي تتعلق
بالميتاسيكولوجية، هذا في الوقت الذي أفردتم فيه حيزا واسعا للثقافة في تحليلاتكم
للتأويل الفرويدي.
- ذكرتم بأنكم لمتم نفسكم، بعد فوات الأوان، على انتقاصكم من
نصيب السرير ورفعكم من قيمة كتابات فرويد النظرية، خاصة تلك التي تتعلق
بالميتاسيكولوجية، هذا في القوت الذي أفردتم فيه حيزا واسعا للثقافة في احليلاتكم
للتأويل الفرويدي.
لا أشعر بأي أسف فيما يتعلق بالنقطة الأخيرة، إني مدين
بالكثير لهذه النظرية في الثقافة: مستقبل وهم؛ ضيق في الحضارة، المراسلات مع
إنشتاين حول الحرب والسلم؛ موسى والتوحيد هي نصوص لم أتوقف عن خوض صراعات متتالية
معها والتي قد أضعها في مرتبة نصوص نيتشه حول الديانة، وأدرج هذه وتلك فيما كنت
أصطلح على تسميته بهيرمينوطيقا الشك. أما المؤاخذة التي أخذتها على نفسي فيما
يتعلق بانتقاصي من أهمية السرير ورفعي من قيمة كتابات فرويد النظرية، فقد فصلت القول
فيها في محاولة نشرت ببلجيكا، وليس في فرنسا، في كتاب خصص للاحتفاء بألفونس
وايلهينس ما هو الإنسان؟. حتى أكون منصفا تجاه الموارد الاصطلاحية التي تقدمها
الممارسة، فقد حاولت تمييز التحليل النفسي بثلاث خاصيات: أولا، كون اللاوعي يتكلم:
ما كان للتحليل النفسي أن يكون ممكنا لو لم يكن هناك نوع التقارب بين الغريزي
واللغوي لدى الإنسان، وتلك طريقة لإعادة التأكيد، بعبارات أخرى غير إبيستيمولوجية،
على وجود اتحاد بين الدينامي والتأويلي. ثانيا، الغريزة موجهة، أي توجد فيها خاصية
التوجه، نحو الأب، نحو الأم.. ما كانت عقدة أوديب لتكون مفهومة لو لم تكن هناك
علاقة مع الآخر، وهي علاقة أساسية بحق. ثالثا، المكون الحكائي للتجربة التحليل
نفسية: يأتي المريض بشذرات حكاية، حكاية مفتتة لا يفهم ولا يطيق مساراتها المتعرجة
والتي يعمل النفساني على تقويمها وتصييرها مفهومة ومقبولة.
أقول اليوم بأننا لم نقم فقط بإضفاء قيمة زائدة على النظرية
عند فرويد، ولكننا لم نكتشف في خضم ذلك بأنها كانت متخلفة بالنظر لاكتشافه الذي
كان ذو طبيعة حكائية، بعيدا عن البيولوجاوية والعلماوية. ليس في هذا أي تعارض مع
ما كان يذهب إليه لاكان، على حساب فهمي له. يبدو لي، في كل الأحوال، إذا ما نحن
أخذنا مأخذ الجد الممارسة التحليلية وإذا قبلنا بأنها متقدمة على النظرية، فإنه
يجب التوفر على نوع من الاستئناس مع ما يحدث خلال العلاج، وبشكل خاص خلال التحويل.
أعتقد أكثر فأكثر بأن كل شيء يحصل خلال هذه المرحلة بالذات، فضلا عن أن فرويد نفسه
يؤكد على ذلك في كتاباته المجموعة تحت عنوان تقنية التحليل النفسي.
- تحدثتم عن سوء فهم متعدد بصدد كتابكم عن فرويد.
كنت أفكر أيضا في خطأ آخر ارتكب في موضوع عما يمكن أن يكون
قصدي في هذا المجال. ألمحت إلى ذلك في وقت سابق أثناء حديثنا هذا. نسبت إلي فكرة
مفادها أني حاولت إدراج التحليل النفسي في الفينومينولوجيا، بل أكثر من ذلك في
الفينومينولوجيا بصيغتها الهيرمينوطيقية. أقول بنقيض ذلك تماما، يعني يوجد مع
نظرية التحليل النفسي ما يتعذر اختزاله، وبالتالي، فإن الفينومينولوجيا تجد هنا
حدها الأقصى. صحيح أنني لم آخذ بجد في هذه المرحلة علاقة ممرات محتملة بين
الفينومينولوجيا والتحليل النفسي، ولكن بطريق آخر هو، في جميع الأحوال، غير طريق
نظرية مركزة بشدة حول الوعي، طريق فينومينولوجيا في مرحلتها الأكثر مثالية كما
نجدها في التأملات الديكارتية لهوسرل.
- في السنوات التي أعقبت نشر كتابكم عن فرويد وبعد ثلاثة
أعوام قضيتموها في جامعة لوفان، عدتم من جديد لمباشرة التدريس بجامعة نانطير حيث
أشرفتم على حلقة درس حول الفينومينولوجيا.
كانت هذه الحلقة تحمل اسم: فينومينولوجيا، هيرمينوطيقا،
وأضيف إليها في وقت لاحق: وفلسفة اللغة. كانت هذه المرحلة هي تلك التي أدرجت فيها
مواضيع الفلسفة التحليلية (بالمعنى الأنجلوساكسوني) في حلقة درسي، وهي أيضا
المرحلة التي أدخلت فيها موضوع الفعل.
- في النقاش الذي كان دائرا في هذه الحقبة والذي كان مطبوعا
بالمعارضة بين التفسير الذي قد يكون مهمة علوم الطبيعة والفهم الذي قد يكون مهمة
العلوم العقلية والإدراكية، فإلى أي طائفة تنتمون؟
لا أعتقد بأنه يوجد بين الهيرمينوطيقا والإبيستمولوجيا
اختلاف بين منهجين أو مشروعي معقولية، إنهما، في الواقع، أفقان يتقاطعان باستمرار
ويتداخلان على الدوام، وذلك لأن مفهوم الهيرمينوطيقا يشتمل على ثلاثة أشياء: مناهج
دقيقة تشتمل على قواعد صارمة وهي حالة الفيلولوجيا وتفسير النصوص الكلاسيكية
الكبرى والاجتهادات القضائية؛ ثم التفكير على طبيعة الفهم ذاته وطرق اشتغاله؛ وفي
الأخير، محور شديد الطموح، وهو عبارة عن نوع من الفلسفة التي تقدم نفسها كطريق آخر
للمعقولية وتزعم لنفسها القدرة على فهم الإجراءات العلمية أكثر من قدرة هذه
الأخيرة على ذلك. يشبه هذا إلى حد ما الموقف الذي تبناه غادمير والذي عملت في
الابتعاد عنه. الهيرمينوطيقا حتى في المعنى الأول الذي تثيره وهو معنى التفسير،
تشكل في نظري إإبيستمولوجيا يملأ فيها المعنى المعقولية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن العلم عندما يفهم، ليس عبر موضوعاته
ومناهجه ومبادئه، ولكن كممارسة نظرية تمتثل لمقصدية خاصة، فإنه لن يتوانى عن إثارة
مسألة معناه، وبالتالي تجد الهيرمينوطيقا هنا أيضا ما يبرز مشروعيتها وهو كونها
هيرمينوطيقا للعلمية كممارسة بين ممارسات عديدة أخرى.
سيقودني هذا إلى طرح المعارضة التي وضعها ديلثاي وطورها بعده
ريكرت بين التفسير والفهم، لأؤكد على التقاطع المستمر للمناهج. فاللسانيات
والاقتصاد والسياسة، على الخصوص، تتداخل فيها صيغتا الفهم والتفسير بشكل يعسر معه
الفصل بينهما: الاقتصاد الرياضي، مثلا، يمتثل للمنهج التفسيري، فالطبيعة والإنسان
لا يشكلان على هذا الأساس حقلين متمايزين يخضع أحدهما للعلم والآخر للهيرمينوطيقا.
إني مدين بشدة في هذا المجال لجون لادريير الذي حلل بطريقة
جيدة الصيغ المختلفة للتفسير. فهو يميز بين أربع صيغ: التفسير بالتصنيف وهو وضع
حدث تحت مبدأ معين؛ التفسير بالتحويل وهو تفسير ظاهرة ما بالمستوى التحتي، هذا ما
تقوم به البيولوجية الإنسانية بشكل واسع وذلك بكشفها عن الشروط الضرورية لظهور هذا
النوع أو ذلك من الأعضاء من دون أن تفسر كيفية حصول الظاهرة من أساسها؛ التفسير
بالتوليد وهو الذي يأخذ على عاتقه تفسير كيفية انحدار هذه الظاهرة من تلك عبر
سلسلة من التحولات المقننة؛ أخيرا، التفسير بالأمثل وهو الذي يعمل على الوصول إلى
المستوى الأمثل لكيفية اشتغال أنظمة جزئية متناسقة ومتجهة نحو هدف واحد.
- ماذا تعتقدون إذا بصدد جملة هيدغر المشهورة: العلم لا
يفكر؟
إذا تصورنا العلم، ليس كممارسة نظرية، ولكن كعملية فكرية
شبيهة بعملية حساب، في هذه الحالة يمكننا التأكيد، كما فعل ذلك، بأن العلم لا
يفكر، ولكن شريطة تقليص الفكر إلى قدرة هذا الكائن في العالم الذي أمثله –ككائن
قلق- على امتلاك ذاته في فهمه الذاتي. ليس علم الطبيعة بكل تأكيد فكر من هذا النوع
ولا يمكنه أبدا أن يفكر موضوعه بصيغة القلق الإنساني أو –حتى أستعمل مفاهيمي-
بصيغة الفعل. في تنظيم الأفعال يمكن دائما العثور على فاعل وراء الأنساق
الاقتصادية والأنساق السياسية… التي ركز نفسه فيها بشدة. يمكن دائما لفاعل التفكير
أن يتدارك نفسه في نشاطه على نتاجات هذا النشاط. المفهوم الذي يمكن أن يكون أكثر
قربا من مفهوم الفعل، في المستويات الدنيا للطبيعة، قد يكون مفهوم الإنتاج الذي
توضع بواسطته ظواهر وأحداث تحت مبادئ وتمكن الإجراءات التفسيرية، سواء كانت سببية
أو توليدية أو بنيوية أو عبر البحث عن الأمثل، من إبراز الطريقة التي وضعت بها هذه
الأحداث أو تلك تحت هذا المبدأ أو ذاك. التوالد الذاتي للطبيعة لا يمكن أن يفكر
على نموذج الفكر الإنساني، أي على نموذج تفكير ذاتي قادر على تدارك ذاته في
إنتاجه.
إني حريص بشدة على المحافظة على هذا التمييز بين التفكير تحت
صنف الفعل، أي التفكير فيما يفعله الناس والتفكير تحت صنف الإنتاج، أي التفكير في
الطريقة التي وضعت بها الوقائع تحت مبادئ. صحيح بأننا قد نغرى بالاعتقاد بأن هذا
التأليف يتوقف أساسا على النماذج التي نهيئها نحن وأن النمذجة تعمل على تشبيه
إنتاجات الطبيعة بنتاجات الفكر الإنساني.
على الرغم من ذلك فإن تمثيلية نموذج للمجال الذي يمثل له يظل
لغزا. هذه التمثيلية مفترضة وليست منتجة بالشكل الذي يتم به إنتاج فعل، بالتالي
فإنه من المستحيل التمييز بين إنتاج الطبيعة وفهم الفاعل الذاتي لفعله. لا يتعلق
الأمر بالرجوع إلى التمييز بين طبيعة/عقل، لأن العقل ذاته يعرف عبر تأثيراته
(الأسس البيولوجية للحياة وكل آليات العقل التي لا سلطة لفاعل عليها مثل الابتكار
وإنتاج الأفكار…) نوعا من الإنتاج الذاتي شبيه بذلك الذي نجده في الطبيعة، وملغز مثله.
في هذه الحالة أيضا فإنه لا يتيسر لنا ضبط، عن طريق إعداد مخطط، إلا جزأ صغيرا من
نشاط العقل. عندما يتم التمييز بين معقولية الطبيعة ومعقولية الفعل يصبح في
الإمكان التساؤل عن معنى المعقول الذي يظل إنتاجه ملغزا بالنسبة لنا. انطلاقا من
هذه المعقولية يطرح السؤال عن معنى المؤسسة العلمية التي تدخل حينها في حقل الفعل
وهو الاشتغال في العلم. الفعل وقد حدد بهذه الطريقة يوجد حينها خائضا في البحث عن
فهمه لذاته. لكن الأمر لا يتعلق بتقليص خاصية العلم لأنه لا يمكننا فهم معنى
النشاط الذي يمثله دون الاشتغال فيه. يجب تحليله في علاقته بمشروعه لأنه ببسطه
لمشروعه الخاص حيث يكتشف العلم رقعة، رقعة بعض شذرات معناه. الممارسة النظرية هي
ممارسة فعل يدرك ذاته بذاته في بحثه عن معقولية: علم الطبيعة كإنتاج الذي لا أعرف
كيف أقلصه إلى فعل، هو فعل من نوع خاص، فعل إرادة المعرفة التي هي بدورها ليست
شفافة تماما تجاه ذاتها، لكن العقل لا يمكنه أن يمتلك ذاته بكاملها ولا يعرف هذه
الأخيرة إلا في التقسيمات التي هي الأفعال المختلفة التي ينهض بها. لا يمكن للعلم
أن يفكر إلا في مقصديته في سياق تطور المعقولية التي ينتجها، المقصدية في هذه
الحال ماثلة في إجرائيته الخاصة.
إذا نحن تساءلنا عن الهدف الذي يتوجه نحوه هذا المشروع وما
يميزه عن مشاريع أخرى تتحكم في أفعالنا في مجالات أخرى، فإني أستحضر هذه الفكرة
التي جاء بها نابير الذي احتفظ بعدة حقول ذات مقصدية عميقة مفتوحة ووضعها تحت
أفكار المنصف والصحيح والجميل التي تشكل عددا من بؤر التأمل. تتضمن العلوم فكرة
المنصف على الأقل في المنافسة الضرورية بين الفرضيات المتزاحمة فيما بينها، حيث أن
كل واحدة منها تجد نفسها مضطرة لسماع برهنة مغايرة حتى تأخذها بعين الاعتبار في
سياق النقاش. من المحتمل كذلك أن العلوم تنقاد أيضا لفكرة الجميل إذا استحضرنا في
أذهاننا الاندهاش والإعجاب الذي نفصح عنه أمام جمال الطبيعة. الفضول لا يكفي، في
الواقع، للتعريف بالنشاط العلمي الذي لا يمكن أن يحدد بدواعي سيكولوجية فحسب، كما
لا يمكن أن يكون موجها بدواعي أخرى من قبيل إرادة الهيمنة.
- كيف كانت تشتغل حلقة درسكم حول الفينومينولوجيا؟
تعلمت إدارة حلقة الدرس في الولايات المتحدة الأمريكية
واعتبرت دائما أنها متشددة إلى أقصى حد تجاه المشاركين الذين عليهم أن يساهموا
فيها بفعالية. قاومت باستمرار، بفضل النموذج الأمريكي، مراكز البحث الفرنسية التي
تشتغل كآلات محاضرات. كان يوجد دائما بين طلبتي، حتى في فرنسا، أمريكيون، هم الذين
كانوا يحددون وتيرة الدرس في غالب الأحيان. كنت أحاول فرض ما يمارس وراء المحيط
الأطلنتيكي. في الحلقة الأولى أقترح قراءة حوالي عشرة كتب وعشرين مقالا موضحا بأني
سأعمل جهدي على التجوال بين هذه النصوص التي ستكون عبارة عن حقل تجارب مشترك بين
الأستاذ والمشاركين في حلقة الدرس.
ممارسة حلقة الدرس بهذا الشكل جعلني أستهدف في كتبي طلبتي
أكثر من الجمهور الخارجي، إلى حد أني كنت مدرعا ضد النقد، ما عدا نقد لاكان الذي
استهدف نزاهتي الفكرية، كل الانتقادات الأخرى كانت تبدو لي عادية بحيث لم أشعر
أبدا بأني مستهدف في شخصي من قبلها. في العمق كان هناك شيء واحد يشغلني وهو صلابة
خطابي، إذ كان الأمر يتعلق، بالنسبة لي، بإيجاد حلول لتناقضاتي الخاصة وللصراع بين
التاثيرات المختلفة. مشكلتي كانت تتمثل دائما في معرفة ما إذا كنت أشيد قصورا
وهمية أو أن ما أقوم به لا يعدو أن يكون عملا توفيقيا أو أنه ترويج لموقف ثالث
قادر على السير سوية في الطريق. هنا كانت تكمن انشغالاتي ولم أشعر أبدا من خلال ما
قرأته بشأني في وقت لاحق بأني كنت منسيا إلى فترة قريبة. شعرت دائما بأنه لدي
الجمهور الذي أستحقه لا أقل ولا أكثر. عشت ارتياحا كبيرا في تدريسي يقابله ارتياح
فكري في علاقاتي مع نفسي.
تجولت في مشاهد فلسفية شديدة التنوع منذ وجودية الخمسينيات.
لم أكن أهتم إلا قليلا بما يمكن أن تكون تطلعات الجمهور نحوي، وبالتالي لم يساورني
أبدا هم أن يكون لأعمالي قراء مخلصون وقد يكون هذا خطأ مني. عندما أكتب مؤلفا عن
موضوع ما فإني لا أتحدث عنه فيما بعد، وكأني قمت بواجبي نحوه وصرت حرا لأواصل
طريقي. هكذا، فإني سأتخلى عن مشكلة التحليل النفسي ثم مشكلة الاستعارة فيما بعد.
- لهذا تكون لدينا الشعور بوجود نوع من التفتت في مساركم من
كتاب لآخر.
مع ذلك فإنه في بقايا الموضوع السابق تبدو لي استعجالية
الموضوع اللاحق. يصدق هذا على علاقاتي مع التحليل النفسي باعتبار أن محاولتي على
فرويد تنحدر حقا من كتابي رمزية الشر. بما أني كنت أتبنى خطا هو إجمالا خط
فينومينولوجيا الديانة، وهو قريب من ميرسيا إلياد، فإنه سيتولد لدي الشعور بأنه
يوجد عند فرويد ونيتشه وماركس فكر مخالف، وبالتالي رأيت أنه من واجبي أن أستفسره.
- إنها أيضا المرحلة التي عبرتم فيها المشهد البنيوي، حتى
نستعمل عبارتكم. يقع أوج هذا العبور، على وجه التحديد، في 1975 مع كتابكم عن
الاستعارة. نجد هنا طريقة أخرى لاختبار المنهج الفينومينولوجي، وربما كثر الظن
آنذاك بأنكم أصبحتم من عداد البنيويين.
أقمت دائما فرقا واضحا بين الفلسفة البنيوية والدراسة
البنيوية لنصوص معينة. إني شديد الإعجاب بهذه المقاربة الأخيرة لأنها طريقة من طرق
إنصاف النص والسمو به إلى أعلى تمفصلاته الداخلية بعيدا عن مقاصد الكاتب، وبالتالي
عن ذاتيته. هذا الجانب من البنيوية لم يكن غريبا عني لأني جاهرت دائما
بالاستقلالية الدلالية للنص وبأن هذه الأخيرة تفلت من قبضة الكاتب وأنها تدل
بذاتها. هذه الاستقلالية الدلالية للنص تفتحه لمقاربات لا تأخذ في اعتبارها إلا
موضوعيته فقط، أي كونه قولا ومكتوبا وإذا موضعا. أستعمل التوضيع بمعنى إيجابي جدا،
كممر إجباري عبر الشرح من أجل فهم أفضل للنص قبل الرجوع إلى الملقي.
أميز هذه المقاربة عن الفلسفة البنيوية التي تستخلص من
ممارستها مذهبا عاما حيث يقصي الفاعل من وضعه كملقي للخطاب. إني في نفس الوقت
متعود على الممارسة البنيوية ولكني في علاقة صراع مع البنيوية كفلسفة التي يبدو لي
أنها وطأت أعلى مستوياتها مع كلود ليفي-ستروس الذي أحترم أعماله في المدرسة
البنيوية أكثر من غيره. حصلت لي معه مواجهة شديدة الأهمية في إطار الحلقة الفلسفية
إسبري Esprit
(تأسست حول المجلة التي تحمل نفس الاسم، المترجم)، حيث عملت على إدخال، لتحديد
موقف الحلقة، عبارة التعالية بدون فاعل متعال. كان ليفي-ستروس بالنسبة لي خصما
عنيدا جندت له كامل وسائل دفاعي حتى تصير فلسفة الفاعل جديرة بالتقدير. كنت أرى
فيه المحدد لمستوى النقاش كما أنه يمثل نموذج أعمال حبكت بلا أدنى تساهل.
- يبقى أن تحليل ليفي-ستروس للأساطير يظل مبتورا عن عمد من
بعده العمودي للتعالي وهو الشيء الذي لم يكن ليلقى رضاكم. إلى أي حد يمكنكم السير
برفقته؟
أفكر بشكل خاص في خاتمة كتاب الإنسان العاري. أشعر تجاه هذا
النص بنوع من الإعجاب من بعيد والتقدير لمشروع مختلف حقا ولكنه مشروع ذو أهمية
كبيرة. هناك أعمال أخرى لباحثين آخرين لكنها غريبة عني ولا أهمية لها عندي،
وبالتالي لا أتحدث عنها.
حاولت مع ليفي ستروس الاستدلال انطلاقا من نظريته الخاصة
مستندا على التمييز الذي يقيمه بين المجتمع البارد والمجتمع الدافئ. يعرف الأول
كمجتمع لا قبضة للتاريخ عليه والذي يجب أن تعتبر فيه الخطابات والأساطير لم ينشئها
أحد ولا تتوجه لأحد، فهي توجد في نوع من الأوضاع الموضوعية. في مجتمعات أخرى لم
يشتغل عليها –في المقام الأول، العالم الإغريقي وأكثر من ذلك العالم السامي- فإن
التاريخ لا يعد مكونا أساسيا لفهم الذات فقط، ولكن لفهم محتوى الأشياء المقولة
أيضا. كون، مثلا، عدد من ثيولوجيات إسرائيل القديمة تعمد إلى وضع نصوص عديدة في
سياق محدد، وبالتالي توظيف معانيها حكائيا يعني أن التاريخ عند هذا الشعب لا يعتبر
شيئا له قبضة خارجية على الخطاب فقط، ولكنه مكون من مكوناته، إنه ليس موضوعه فحسب،
ولكن صيغته الإجرائية.
- يصدق هذا على الأساطير الإغريقية واليهودية –المسيحية
وأيضا على الأساطير الهندية التي يبرز فيها، إذا ما قيست بالأساطير الهندو-أمريكية
التي اقتصر عليها ليفي ستروس، هذا الاختلاف الهام بحيث أنها تقدم نفسها باعتبارها
حاملة لدلالة ماورائية، إذا صلح استعمال هذه الكلمة هنا.
أعتقد بأن ليفي ستروس اختار حقلا مصاهرا لنظريته، إذ يمكن
القول بأنه يوجد عنده نوع من الاختيار المتبادل بين النظرية والحقل. فماذا كان في
إمكانه أن يقول بإزاء الأساطير التي أشرتم إليها؟ ربما كان جوابه بأن الاهتمام
الخاص الذي نضفيه على العلاقة بين الوجودي والمتعالي يجعلنا نرفع من قيمتها، أما
إذا نحن قاربناها من خلال فلسفة يعتبر فيها التكوين البنيوي هو الطريقة المفضلة،
فإنه سيصبح في الإمكان عندها إلحاق هذه الإنتاجات بالخيالي مصدر الأوهام على طريقة
سبينوزا.
الذي يهيمن في تصوره هو بكل تأكيد فكرة التشابه بين كل
الأنظمة البنيوية متخذا من المخ ببنينته العصبية نموذجا، كما لو كان هناك إنسان
عصبي يكرر نفسه في إنسان الأساطير مع ما قد يلزم بإزاء ذلك من حذف لكلمة إنسان.
- آخرون غير ليفي ستروس كانوا يحذفونه بالفعل في السبعينات.
ماذا كان شعوركم عندما أعلن فوكو عن موت الإنسان؟
فكرة أن الإنسان هو اختراع حديث العهد هي ببساطة فكرة عجيبة،
أفكر على سبيل المثال في "أنشودة للإنسان" التي نجدها في أنتيغون
لسوفوكليس حيث يمكن أن نقرأ: "هناك عجائب كثيرة في هذا الكون، ولكن لا شيء
أعجب من الإنسان". أكثر عجبا؟ أكثر هولا؟ أكثر روعة؟ بالمعاني الحرفية لهذه
الكلمات. كيف يمكن أن ننسى انشغالات الرواقيين في مسألة التحكم في الشهوات
والأهواء التي يرجع إليها فوكو من نواح عديدة في نصوصه الأخيرة التي تعجبني كثيرا،
ولكن الأمر يكاد يتعلق هنا بفلسفة أخرى غير تلك التي عرضها في الكلمات والأشياء.
كنت شديد التحفظ تجاه هذا الكتاب، لأن فكرة الإبيستيميات التي تحل محل بعضها البعض
في انتقالات مفاجئة لم تكن تبدو لي غير مفهومة فقط، بل لم تكن أيضا تستند على ثراء
كاف في محتوى كل واحدة منها. كيف يمكن أن نتحدث عن إبيستيمية للتمثيلية في القرن
السابع عشر من دون أن نأخذ بعين الاعتبار الرياضيات ولا القانون، حتى لا نتحدث عن
الثيولوجيا؟ كان يبدو لي أن فوكو يقوم في كل مرة بانتقاء عينات محدودة جدا حتى
يكون مقنعا. كونه وضع في صنف المراسلات كل ما أنتج قبل القرن السابع عشر لم يكن،
في نظري، منصفا في حق التنوع الهائل للفلسفات والأنظمة الفكرية في عصر النهضة
والقرن السادس عشر.
على العكس من ذلك، خصصت لكتابه حفريات المعرفة فقرة كاملة في
الزمن والحكاية III
بصدد مفهوم التكون الخطابي. ناقشت عن قرب فكرته بأن استمرارية الذاكرة، وبالتالي
تاريخ الفاعل ليست إلا وهما مثاليا. في هذه الفترة بدأت اكتشاف الموضوع الذي أشتغل
عليه الآن والذي يعد بالنسبة لي لغزا وهو "انسجام الوجود" الذي يتموضع
في القسم الذي بحسبه قد يكون ادعاء مثاليا من لدن الفاعل حتى يطالب به لنفسه.
بقدر ابتعاد فوكو عن نفسه في كتابيه الأخيرين بقدر ما وجدت
نفسي أشعر بالاقتراب منه، ولكن من دون أن تتاح لي الفرصة لكي أعبر له عن ذلك. إنه
لقاء لم يكتب له أن يتحقق. لم يكن فوكو، بكل تأكيد، ينتظر مني أي شيء وبدوري كنت
على طرق أخرى لم تكن لتوفر لي فرص الالتقاء به إلا قليلا وبتقاطعات محدودة جدا.
- من بين منظري البنيوية، كنتم تقيمون وزنا خاصا لغريماس.
كانت علاقاتي معه متوترة في البداية، إذ لا زلت أتذكر لقاءنا
الأول حيث حاولت أن أفسر بأن البنيوية تمثل مرحلة من مراحل خطابي، مرحلة المرور
بموضوعية النص. فأجابني غريماس: إجمالا، إنكم تشملونني في خطابكم؛ ولكن، وأنتم
تتكلمون أنشأ أنا سيميوطيقا ما تقولونه، وبالتالي فإني أشملكم! بدأنا على هذا
النحو، ولكننا تجاوزنا شيئا فشيئا هذه العلاقات المتوترة لتحل محلها سنوات عديدة
من الصداقة الحميمية والاحترام المتبادل وحتى المودة. خصصت تحليلات طويلة لكتابه
عن قصة موبسان: صديقان، ودفعت بعيدا بمرافعتي لصالحه، وهي مرافعة قائمة على مجهود
حقيقي لفهم مشروعه الخاص.
أعتقد بأن هذا التمرين نموذجي لعلاقاتي المتوترة مع
البنيويين. بما أنه لدي احترام كبير لاستدلالاتهم، فإن نقطة الخلاف كانت تحدد
دائما بعناية فائقة ويهيئ لها بمجهود فهم هائل. بصفة عامة لا أتحدث إلا عن
المؤلفين الذين في إمكاني مرافقتهم بعيدا ليتسنى لي القول بأن الابتعاد عنهم كلفني
كثيرا، ولكنه أفادني أيضا باعتبار أنه أتاح أمامي فرصة التردد على مدرسة خصومتهم.
الذين لا تربطني بهم علاقة التوتر المنتجة هذه لا أتحدث عنهم وهو ما يفسر صمتي
بإزاء عدد منهم وهو صمت لا يعود إلى جهلي بهم أو احتقاري لهم أو لوجود علاقة عداوة
بيني وبينهم، وإنما لكوني لا ألتقي بهم خلال أبحاثي. إنهم حتى أستعيد أصناف
غريماس، لا ألتقي بهم خلال أبحاثي. إنه حتى أستعيد أصناف غريماس، لا يوجدون لا في
موقع المساعد ولا في موقع المعارض وإنما في موقع محايد تماما.
- تعطون أمثلة لا تنسى في أجزاء الزمن والحكاية الثلاثة عن
علاقة التوتر المنتجة هذه خلال نقاشكم الدقيق لأفكار القديس أوغسطين وأرسطو وهوسرل
وهيدغر.
ليس في مقدوري أن أحدد بالضبط اللحظة التي حصل لي فيها نوع
من الإلهام، يعني حدس بوجود علاقة تواز مقلوب بين النظرية الأوغسطينية عن الزمن
ومفهوم الميثوس عند أرسطو في البويطيقا. هذا النوع من التواطؤ المفاجئ بين مصير
النفس في الكتاب الرابع من الاعترافات والمثوس الأرسطي لم يكن حاسما فقط فيما
سيأتي بعد، ولكن تلقيحي لفكرة، حتى أستعيد قول ذلك الذي تحدثنا عنه عما قليل، كون
الزمن مبنين على شكل حكاية، هذه هي الورقة التي لعبتها في هذا الكتاب: إلى أي حد
يمكننا أن نمعن في الافتراض بأن الزمن لا يصير إنسانيا إلا عندما يصير محكيا؟ وبأن
المرور بالمحكي هو ارتقاء بزمن الكون إلى زمن الإنسان؟
- عندما تعيدون النظر مع مرور الوقت في مساركم منذ كتابكم
الإرادي واللاإرادي وحتى آخر تأليف لكم الذات كآخر مع ما تخلل ذلك من وقفات طويلة
عند النظرية الفرويدية واللسانية والبنيوية.. هل ترون في ذلك جملة من الخطوط
المنكسرة أو بالعكس مسارا متكاملا يمكن الإمساك بالخيط الذي يشده؟
تضعونني هنا في موضع تأويل الذات، وتأويلي لا يساوي أكثر مما
يساويه تأويل أي قارئ من قرائي.
- بكل تأكيد، ولكن لا يقل عنه أهمية كذلك، فكيف تأولون نفسكم
كقارئ؟
ما يمكنني قوله عن نفسي، في جميع الأحوال، هو أن كل كتاب
يحدده مشكل جزئي. أتمسك بشدة بفكرة مفادها أن الفلسفة تتقصد مشاكل محددة ومضبوطة
بشكل دقيق. هكذا فإن الاستعارة هي في المقام الأول صورة أسلوبية والحكاية هي قبل
كل شيء نوع أدبي. مايميز كتبي هو كوني لا أطرح أبدا أسئلة ضخمة من نوع ما هي
الفلسفة؟ أعالج مشاكل دقيقة، مسالة الاستعارة ليست هي مسالة الحكاية حتى عندما
ألاحظ تواصل التجديد الدلالي في هذه وتلك. أرى العلاقة بين مختلف كتبي بشكل مغاير،
بعد انتهائي من عمل معين أجدني أواجه شيئا يفلت من قبضته ويخرج عن مداره والذي
سيستبد بي بالتدريج ويفرض نفسه علي كموضوع تلزم معالجته. ليس في إمكاني عرض هذه
العلاقة السردابية هنا. لماذا ستفرض علي مسألة الحكاية نفسها بعد كتابي عن
الاستعارة؟ يمكنني بطبيعة الحال وضع خط يصل بين الكتابين، إذ الأمر يتعلق فيهما
معا، كما سبق وأن أشرت إلى ذلك عما قليل، بالتجديد الدلالي، بعبارة أخرى، إن الأمر
يتعلق بالسؤال التالي: كيف نبدع المعنى ونحن نتكلم؟ نبدعه بوضعنا معا حقولا دلالية
غريبة عن بعضها –إنها الاستعارة- أو ببنائنا لحبكة-تلك الحكاية. يوجد إذا نوع من
التجانس بين موضوعين تحت اسم التجديد الدلالي. ولكن إلى أي حد يمكن القول بأن
الأمر لا يتعلق باكتشاف استعادي؟ أعتقد بأن أي شخص يمارس الكتابة يمر بهذه
التجربة، موضوع يطوف في هامش وعيه ثم ينتقل ويستقر في المركز ويستحوذ في نهاية
المطاف على الفكر.
آخر مرة حصل لي مثل هذا، كان عندما أستدعيت لأحاضر في إطار
حلقة "قراءة جيفورد" في 1986 بعد صدور كتابي الزمن والحكاية بمدة قصيرة.
أول رد فعل صدر عني كان تساؤلي عن ماذا يمكنني أن أتحدث في هذه المحاضرات. قلت في
نفسي يجدر بي، بعد كل شيء أن أتناول من جديد دفعة واحدة مسألة الفاعل. اضطرني ذلك
إلى إنجاز المسافة التلخيصية التالية: تناولت على التوالي حقل اللغة وحقل الفعل
وحقل الهوية الحكائية لأصل فيما بعد إلى فلسفة الأخلاق والأنطولوجيا. الصلة التي
تربط بين كتابين لا تتشابه أبدا من كتاب لآخر. كتاب في التأويل خرج بشكل ما عن خطه
لأنه كان يفترض أن يكون تعقيبا على كتاب رمزية الشر، فصار كتابا عن فرويد. كتاب
الاستعارة هو الذي يوجد، في نهاية المطاف، في علاقة نقدية مع رمزية الشر وميرسيا
إلياد، بحيث كنت أتساءل عما إذا لم تكن هناك بنية لغوية درست بشكل أفضل ومضبوطة
بشكل أفضل من الرمز، هذا المفهوم الغامض الذي يستعمل بطرق شتى ابتداء من الرمز
الكميائي وحتى رمز الملكية. وجدت أننا نفهم بشكل أفضل كيفية اشتغال الاستعارة
قياسا بالرمز بفضل مجموع التراث البلاغي الذي نتوفر عليه. تساءلت آنذاك عن إمكانية
إفراغ في نوع من القوالب البلاغية مجموع الإشكالية المسهبة للرمز وتدليلها بقوة. ما
قدمته في الواقع في تأليفي عن الاستعارة هو نظرية دلالية الرمز. يمكن القول بأني
تراجعت مع الاستعارة خطوة إلى الوراء لكوني عدت إلى موضوع رمزية الشر بعد مروري
بفرويد والتقائي بأدوات لسانية لم تكن في حوزتي حينها، بل لم تكن لدي أية معرفة
بها: الدلالة القضوية والبراغماتية ونظرية الإلقاء. لقائي بماكس بلاك كان هاما جدا
لأنه أفسح أمامي المجال للتعرف على نظريات الاستعارة التي تقوم ليس على انحراف
التسمية ولكن على انحراف الإسناد.
تبحثون عن معرفة ما إذا كانت بين كتبي علاقة استمرارية أو
انقطاع: هو ذا نوع من الاستمرارية الخاصة التي تباشر عملها بالتناول من جديد،
بالرجوع خطوة إلى الوراء. نفس الشيء بالنسبة للحكائي الذي كنت قد صادفته قبل الزمن
والحكاية بزمن طويل، في الفترة التي نشرت فيها كتابي التاريخ والحقيقة(1955)، وحتى
الأساطير هي حكايات منذ كتاب رمزية الشر.
هكذا يمكن القول بأن موضوع الكتاب الجديد هو تعريج على
سابقه، ولكن مع التناول من جديد لموضوعات كان قد تم الوقوف عليها وملامستها وحدسها
في وقت سابق خلال الموضوعات المعالجة سالفا. ما كان قطعة يصبح الكتاب الجديد.
أفضل أن يكون لكل كتاب موضوع له حدود مضبوطة، ومن التفكير في
هذه الحدود تتولد استحواذية الموضوع الجديد. نفس الشيء يمكن أن يقال بالنسبة
للذاكرة، الموضوع الذي يؤرقني في الوقت الراهن كما هو الشأن بالنسبة لكل ما لم
أتعرض له في الزمن والحكاية.
- أشرتم بصدد نظريات الاستعارة إلى تطعيم الفلسفات
الأنجلوساكسونية لافكاركم، يبدو أن تدريسكم بالولايات المتحدة فتح أمامكم آفاقا
واسعة كانت مجهولة تماما في تلك الحقبة من قبل الجامعيين الفرنسيين.
يمكنني القول بأن الجامعة الأمريكية كانت بالنسبة لي، وفي
المقام الأول، مكتبة ضخمة وبيبليوغرافيا هائلة! بيبليوغرافيا مفتوحة صارت فيما بعد
لا غنى لي عنها. اكتشفت مؤلفين ومؤلفات كنت أجهل عنهم كل شيء. يكفي استعراض
العناوين التي رجعت إليها خلال كتابة الزمن والحكاية للتأكد من ذلك. أتاح كل هذا
أمامي فرصة إقامة التوازن في تكويني الألماني من دون شطبه، سأظل دائما مدينا
لكانط، إذا يمكنني القول بأني لم أتوقف أبدا عن اعتبار نفسي ما بعد كانطي ولو
انحصر ذلك في نابير وهوسرل فحسب، بل وأيضا كانطي ما بعد هيغلي، كما يحلو لي أن
أقول.
- تعرضتم بشكل عابر لظروف تأليف كتابكم الزمن والحكاية الذي
لا يمكن، بطبيعة الحال، تفصيل الكلام في مجلداته الثلاثة التي لا شيء يمكنه أن يغني
عن قراءتها. مع ذلك، هل يمكنكم، على الأقل، توضيح هندسته العامة؟
أريد أن أنطلق من المفهومين الموجهين لهذا العمل: وهما
"التشكل" و"إعادة التشكل" اللذان يفتحان المجال بشكل أفضل
لطرح السؤال الذي عالجته في تأليفي عن الاستعارة تحت عنوان المرجع الاستعاري، ولكن
بشكل سريع. واجهت آنذاك مشكلة قدرة اللغة على إعادة تنظيم تجربة القارئ لأخلص في
النهاية إلى القول بأنه في الوقت الذي يعاد فيه تنظيم اللغة بطريقة مبدعة من لدن
الاستعارة فإن اختراقا يحصل في التجربة، أي أننا نصبح مدعوين إلى قراءة تجربتنا
الخاصة بحسب صيغ اللغة الجديدة، إلا أن حلقة ظلت ناقصة في هذا الفصل وهي تلك التي
تتعلق بدور القارئ.
وهي المشكلة التي سيتم التحكم فيها بشكل أفضل، على ما يبدو
لي، في الزمن والحكاية حيث خصصت لها قسمين اثنين متمايزين: أحدهما أفردته للتشكل،
يعني العمليات الحكائية التي تشتغل داخل اللغة نفسها على وضع عقدة الفعل والأشخاص
(عالجت هذا الجانب في الجزأين الأول والثاني)، أما الثالث فخصصته لإعادة التشكل،
يعني تحويل التجربة الحية تحت تأثير الحكاية. مشكلة التشكل تمت معالجتها في ثلاث
ممارسات لغوية: وضعت في مرحلة أولى نفسي في حقل اللغة العادية للتواصل اليومي حيث
سأفتح نقاشا واسعا ذو طبيعة محاكاتية للغة حاولت فيه إبراز أن مفهوم المحاكاة
يشتغل بشكل جدلي، كتقليد أولا، ثم كإعادة بناء، ثم كقدرة تحويلية للتجربة. يأتي
فيما بعد الحقل الخطابي الثاني، حقل القصة، وأخيرا، الحقل الخطابي الثالث، العمل
التوهمي.
ولكن، سواء تعلق الأمر باللغة اليومية أو بالتاريخ أو
بالتوهمي، فإني وقفت دائما في وسط اللغة وهو ما جعلني أقتصر على معالجة مشكلة
التشكل وحدها لأخصص الجزء الثالث بكامله لمشكل شديد الحساسية ومحل جدل شديد وهو
موضوع خروج اللغة عن ذاتها وعن قدرتها على إعادة توجيه وإعادة بنينة تجربة، لإنتاج
طريقة جديدة لقطون العمل. فيما يتعلق بالقصة، يلزمني القول بأني حصرت اهتمامي في
الزمن والحكاية في مشكلة واحدة وهي إلى أي حد تكون القصة حكاية؟ لهذا السبب فإني
في أبحاثي الراهنة عن علاقات الذاكرة بالقصة أعمل على ردم ثغرة ظلت ظاهرة بحدة في
هذه المقاربة وهي ثغرة نتجت عن الطبيعة الانتقائية والشديدة الخصوصية للسؤال
المطروح. كان لهذا السؤال في نظري استعجالية كبيرة في تلك الفترة، التي كان لازال
يطبعها تأثير فيرناند بروديل ومدرسة الحوليات وهي الفترة التي رأت تراجع الحدث
والحكائي وكذا التاريخ السياسي والديبلوماسي وتاريخ المعارك.. لصالح تاريخ يمكن أن
نقول عنه أنه تاريخ أكثر بنيوية لا يأخذ بعين الاعتبار إلا القوى ذات التطور
البطيء، وبالتالي المدى الطويل. قدمت في الزمن والحكاية التنازلات الواجب تقديمها
لهذا التوجه وذلك لأتأكد من أنه إذا كان التاريخ حكائيا فإنه كذلك بشكل مختلف عن
اللغة العادية التي تقوم على الاختلاف المباشر والآني للقول، لأننا مع التاريخ نجد
أنفسنا أمام حكاية مبنينة للغاية. تناولت كمثال لتعزيز أطروحتي الكتاب الضخم
لبروديل البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي في عصر فيليب الثاني الذي أتاح لي
ذلك فرصة إبراز أن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بحكاية بطلها البحر الأبيض
المتوسط، وبالتالي فإن موت فيليب الثاني ليس هو الذي يحدد نهايتها وإنما اختفاء
البحر الأبيض المتوسط كبطل أسطوري وشطبه كمركز للعالم. يبدو لي بأن النزاع بهذا
الشأن أصبح أقل حدة عما كان عليه في الماضي.
- كيف كان رد فعل المؤرخين؟
استدعيت مرات عديدة من لدنهم. علاقاتي مع المؤرخين كانت
دائما جيدة على خلاف علاقاتي مع النفسانيين في الماضي. التقيت كثيرا في شيكاغو
بفرانسوا فوري، كما كنت ألتقي مع روجي شارتيي، وفيما بعد مع فرانسوا بيداريدا بصدد
التاريخ المعاصر. بصفة عامة تلقى المؤرخون عملي بترحاب بعد فترة أولى سادها الحذر
من دون أن يكون ذلك موجها نحوي وإنما نحو فلسفة التاريخ بذريعة أنه إذا اهتم
فيلسوف بالتاريخ فذلك بالضرورة قصد القيام بخدعة..
- خدعة هيغل؟
لا أفظع من هذا! خدعة توينبي أو شبينغلر، إلا أني في الزمن
والحكاية لم أوجه اهتمامي إلا لتاريخ المؤرخين متلافيا كل إشكالية تتعلق بفلسفة
التاريخ سواء كانت كانطية أو هيغيلية أو ما بعد هيغيلية. حصرت نفسي في حقل
المؤرخين فحسب. خيل لي أن المؤرخين كانوا فرحين بمواجهة فيلسوف للتاريخ عن طريق
الإبيستيمولوجيا لأنهم يكادون يقتصرون في أعمالهم على مشاكل ذات طابع منهجي وليس
إبيستيمولوجي. مسألة علمية التاريخ لم تناقش منذ ريمون آرون وهينري مارو وبول فين
الذي يبدو أنه أقرب إلى ميشال فوكو منه إلي في هذه القضية.
اشتغالي مع المؤرخين لم يكن أبدا على نمط المواجهة وإنما عن
طريق العمل المشترك حول نقاط شديدة الأهمية مثل مفهوم الحدث مع بيير نورا وكريستوف
بوميان الأكثر تعاطيا للفلسفة من بين المؤرخين، إلا أني لم أطلع على كتابه نظام
الزمن إلا في وقت لاحق. إنه عمل شديد الأهمية ولن أعيد كتابة الزمن والحكاية بنفس
الطريقة اليوم وقد قرأته.
حتى نبقى بعض الوقت في إطار مشكلة إبيستيمولوجية التاريخ،
أريد أن أضيف بأني نشرت منذ ظهور كتابي الزمن والحكاية، دراسة أكثر إلماما بالنقاش
الراهن ابتعدت فيها بشكل واضح عن مشكلة الحكائي. عمدت في هذه الدراسة إلى تمييز
المستويات العلمية للتاريخ: أولا، التاريخ الوثائقي حيث يمكننا أن نجيب بصواب أو
خطأ فيما يتعلق بعرض الأحداث، في هذا المستوى تتم تسوية أسئلة مثل كم كان عدد
السجناء في معتقل الباستيل ليلة الرابع عشر من يوليوز 1789؟. ثانيا، التاريخ
التفسيري وهو الذي يشتمل على نقاش الأدوار المتوالية للقوى الاجتماعية والقوى
الاقتصادية وتقويم مكانة السياسي في علاقته معها ومع العنصر الحكائي المرتبط
بالحدثي. أخيرا، مستوى ثالثا لم أقف عنده حين تأليفي للزمن والحكاية وهو المستوى
الذي تتشكل فيه الأصناف الكبرى كالنهضة والثورة الفرنسية وهي أصناف تنتمي بدرجة
أولى لمجالي التأويل والكتابة. يأخذ هنا مفهوم التاريخانية معناه الأشد قوة. هناك
إذا، ثلاثة مستويات ابتداء من التاريخ الوثائقي الذي يهتم بمعايير الفحص، ثم
التاريخ التفسيري المفتوح للتناظر فالتاريخ الذي يمكن أن نسميه بالشعري لأنه تاريخ
حبك الفهم الذاتي لأمة عبر حكايتها المؤسسة.
في الجزء الثاني من الزمن والحكاية واجهت مسألة الحكاية
التوهيمية مصطدما بمشاكل استمرارية البنيات الحكائية الكبرى لأجد نفسي من جديد في
صراع، لم يكن مثمرا بالقدر المتوقع، مع البنيوية في الحقل الذي تشتغل فيه بشكل
أفضل وهو حقل الحكائي. استوقفتني طويلا الأنماط البنيوية للنظرية الحكائية وغامرت
في نهاية الكتاب بوضع ثلاثة تمرينات على ثلاث روايات زمنية حاولت من خلالها اختبار
تصوري للإخراج المتزامن لحبكة القصة المحكية وللشخص.
أما الجزء الثالث من الكتاب فخصصته لمشكلة إعادة التشكل، أي
كيف تقود لغة، وقد أعيدت بنينتها عن طريق إخراج الحبكة، إلى إعادة قراءة تجربتنا
الخاصة بحسب الخطوط القوية للحكائي؟ استعدت هنا بطريقة مستساغة أكثر ومستندا على
كم لا بأس به من الأدلة، أطروحة كنت قد لامستها في كتابي عن الاستعارة كنوع من
المسلمات الكبرى وهي تلك التي تتعلق باللغة، يعني أن العلاقة بين اللغة والواقع،
بين التجربة والعالم الخارجي، حسب الاختيار، هي علاقة جدلية: انطلاقا من أن
العلامة ليست هي الشيء وإنما توجد في مكان منفصل، فإن اللغة ستتكون على هامش
التجربة لتصير عالما متكلما لذاته. من هنا تأتي مشروعية حجة اللسانيين الذين
يبعدون عن حقل اشتغالهم كل ما خرج عن حقل اللغة، إنها قوة المدرسة السوسيرية التي
تعتبر أن فضاء اللغة يتشكل عبر الانتقال من علامة لأخرى ومن كتاب لآخر في تناصية
كبرى. إن هذا الطرح مشروع تماما باعتبار أنها كلحظة أولى، لحظة الاغتراب، لاشتغال
اللغة التي توجد، إلى حد ما، في حال تمجيد ذاتها بذاتها على حد قول رولان بارث.
مقابل هذا الاغتراب هي اللحظة التي يحتفظ فيها، حسب إشارة لبينفينيست، باللغة
للكون.
تيسر له كلساني صياغة هذه اللحظة لأنه، خلافا لسوسير الذي
أسس مجموع نظريته على العلامة وعلى العلاقات الخلافية بينها، كان ينطلق من الجملة
التي يسميها "الظاهرة النموذجية للخطاب".
وحدها الجملة، وليس العلامة اللغوية، هي التي لا تمتلك
مدلولا فقط، بل مقصدا أيضا، أي استهدافا للواقع. الأطروحة التي أدافع عنها هي أن
قوة إعادة تشكل اللغة تناسب مع قوتها على التمييز في لحظة تكونها الذاتي كفضاء للدال.
توجد هنا الأطروحة العامة، الجبهة التي حاربت عليها دائما وهو أن اللغة، في رأيي،
تريد أن تقول العالم الذي غادرته أولا، تطمح هكذا إلى استعادة الواقع الذي فقدته
بسبب صراعها الأول من أجل التدليل بذاتها ولذاتها. بناء على هذه الأطروحة العامة
أدافع عن أطروحة ثانية مفادها أنه إذا كانت اللغة العلمية تشتغل إلى حد ما بهذه
الطريقة المباشرة، فإن اللغة الأدبية أو الشعرية تشتغل بطرق أخرى أكثر لطفا
وتعقيدا، باعتبار أن الهوة الفاصلة بين اللغة والواقع عميقة بشدة، وذلك بسبب حضور
الميثوس الخاص باللغة. لم يكن اختيار مفهوم الميثوس من قبل أرسطو نابعا من الصدفة،
إذ أنه يحدد في نفس الوقت أن الأمر يتعلق بحكاية وبأن هذه الحكاية منظمة، إنها
فكرة حكاية منظمة ومنظمة كحكاية. هذه هي لحظة التشكل أو لحظة اغتراب اللغة. أما
فيما يتعلق بلحظة الرجوع نحو الواقع، التي تمثل لحظة إعادة التشكل، يبدو لي أني
عالجتها بشكل أفضل على اعتبار أني وضعت وسيطا بين هذين اللحظتين يتمثل في القارئ،
لأنه إذا كان القارئ يعيش في العالم اللاواقعي للحكاية، فإنه في نفس الوقت كائن من
لحم تم تحويله من قبل فعل القراءة. القارئ كما يقول بروست في مختتم روايته الزمن
المستعاد، يمكنه، بفضل الكتاب الذي يطرح نفسه كآداة بصرية، أن يقرأ فيه قصته
الخاصة. إني مدين في إلمامي بهذه الوظيفية الوسيطية التي ينهض بها القارئ
لهانس-روبير جوس وللمدرسة المعروفة باسم مدرسة التلقي المنبثقة عن هيرمينوطيقا
ديلثاي وغادمير. أتعجب من نفسي كيف أني لم أنتبه مبكرا لهذا الدور الذي يلعبه
القارئ كوسيط بين اللغة والعالم، باعتبار أن الفيلولوجيا الكلاسيكية تقوم على قصة
القراءات أو لنقل على أفعال قراءات، حتى أستعيد هنا عنوان كتاب ولفغنغ إيزر.
بعد أن وضعت هذا المتصرف في مكانه الذي يتحقق من خلاله
الانتقال من التشكل إلى إعادة التشكل، أعود الآن إلى ما كان يمثل مشكلتي الأولية:
الزمن. في أي شيء يعاد تشكيل الزمن باعتباره بنية أساسية للتجربة الإنسانية عند
مروره بالحكائي؟ هنا أموضع المواجهة الكبرى النهائية للكتاب بين الحكائي والزمني
على قاعدة ثلاث نظريات كبرى للزمن: نظرية القديس أوغسطين ونظرية هوسرل ونظرية
هيدغر بحجة مركزية تتمثل في كون كل واحدة من هذه النظريات الثلاث تخرج معززة بعد
مرورها بشبكة الحكائي، ولكن معززة بأي معنى؟ لم تظهر لي إعادة قراءة القديس
أوغسطين وهوسرل وهيدغر من زاوية الحكائي بمثابة طعن في فلسفاتهم، ولكن كتقوية
لمواقعهم المتوالية في مواجهة الزمن الكوني الذي ليس زمنا محكيا ولا يعدو أن يكون
ملحقا، كما يقول أرسطو، بالحركة. في الواقع، إذا لم يكن هناك أحد ليحكي قصة الكون
منذ الانفجار الأول، إذا لم يكن هناك حكي للأحداث الكونية الكبرى، فإنه ليس هناك
زمن. أجعل هكذا من الحكي المعيار الذي يميز بين الزمن النفسي والزمن الكوني ويمكن،
بالتالي، الزمن من انتزاع نفسه من المادة.
- تشكل أجزاء الزمن والحكاية الثلاثة نصا يكاد يناهز ألف
صفحة، كيف تمت كتابة مجموع بهذا الحجم؟
كتبت مجموع الكتاب في مركز بحث أمريكي، المركز الوطني الإنساني
في شابيل هيل بكارولينا الشمالية، الذي قضيت به سنة كاملة ثم نصف سنة أخرى حيث
كانت تحت تصرفي مكتبة بكاملها فضلا عن الهدوء الملائم للكتابة. وحدها الخاتمة
كتبتها في مكان آخر نزولا عند طلب الناشر فرانسوا فهل الذي أريد أن أقدم له تحياتي
هنا لأنه كان دائما قارئا متشددا لأعمالي كما أني مدين له بالكثير في هذا المجال.
هذه الخاتمة هي جزئيا عبارة عن نقد ذاتي لأني أعدت قراءة عملي طارحا على نفسي
السؤال التالي: أين تقع الحدود القصوى للمشروع؟ في أي شيء يفلت الزمن، في نهاية
المطاف، من قبضة الحكاية؟ بما أني انطلقت من نوع من التماثل المتبادل بين زمن
مبنين وحكاية زمنية، كان علي أن أقوم في النهاية بإعداد حصيلة لهذا الشيء الذي
يجعل الزمن يعود إلى نفسه ويفلت من قبضة الحكاية. لو كنت أفلحت في إبقاء الزمن
أسير حبال الحكائي لكنت تقهقرت نحو مواقع مثالية التي لم أتوقف أبدا عن محاربتها،
سيعني ذلك أن الفاعل سيتحكم في المعنى وسيمسك بكل المعاني المحتملة في الحكاية.
لكن زمن العالم، الزمن الكوني مبنين بحسب إنتاج العالم وليس بحسب إنتاج الحكاية.
التصريح بمثل هذا الاعتراف قد يكون نوعا من الاحتفاء الختامي بهيدغر.
أتمسك بشكل ثابت بوجود قراءتين اثنتين للزمن: قراءة
كوسمولوجية وقراءة سيكولوجية، زمن الكون وزمن النفس وهذا ما يبعد الزمن كلية عن كل
زعم بتوحيده. الشيء الذي قادني إلى الفكرة الكانطية عن استحالة تقصي الزمن: الزمن
يتقدم، يسيل، وكوننا لا نتحدث عنه إلا بالاستعارات يظهر، غياب أي سيطرة لنا عليه،
لا يتعلق الأمر بسيطرة عملية أو أدواتية فقط ولكن أيضا بسيطرة مفهومية.
- تحدثتم عن الاحتفاء بهيدغر، ولكن كان في الإمكان أن يكون
احتفاء ببيرغسون.. إنكم لا تتحدثون عنه إطلاقا، كيف يمكن تأويل هذا الصمت؟
لمستم هنا اللوم الكبير الذي ما فتئت أوجهه لنفسي، إلا أني
عندما أحاول إصلاح هذا الصمت في ذهني مع تعذر إصلاحه في كتاباتي، أقول في نفسي قد
لا يكون في مقدوري إنصافه كما أنصفت هيدغر وربما القديس أوغسطين وهوسرل، وذلك
لسببين اثنين يجعلاني في علاقة حرجة بشكل لا رجعة فيه تجاهه. أولا، بسبب فكرته
التي تقول بأن تبنين الزمن ناتج عن تلوثه بالفضاء. ثانيا، إذا كان الزمن عبارة عن
قطع منعزلة، فذلك حاصل عن تأثير مستلزمات الفعل. أبعدني كتاب غاستون باشلار عن
اللحظة عن هذا التصور الذي يرى الزمن عبارة عن انسكاب غامض الملامح وبعيد عن كل
البنينات، في حين يدافع باشلار عن نوع من الزمن العاضل، ببدايات وانقطاعات وخواتم
ويتبنى فكرة أنه ليس عيبا إطلاقا أن يكون الزمن مبنينا. أحسست بدأ بأني بعيد كل
البعد عن إشكالية المدة. يبقى مع ذلك أن انتقاداتي لا تنسحب إلا على كتاب المعطيات
الآنية للوعي وليس على المادة والذاكرة الذي أريد أن أقف عنده الآن من جهة مشكلة
الذاكرة. يبدأ هذا الكتاب الذي هو أهم كتب بيرغسون بهذه البداية الملغزة إلى أبعد
حد: "سنتظاهر لحظة بأننا لا نعرف أي شيء عن نظريات المادة وعن نظريات الروح
ولا أي شيء أيضا عن النقاشات بصدد واقعية أو مثالية العالم الخارجي. ها أنا إذا
بحضور صور…" يشبه هذا القول أسطورة ممهدة. على أي حال، فإن هذا الكتاب هو
الأكثر باركلية (نسبة إلى باركلي) من بين كتب بيرغسون.
- الصلة بين الزمن والحكاية والذات كآخر هو حسب تعبيركم
موضوع الهوية الحكائية، أين يظهر ذلك؟
لم يتمفهم عندي التصور الذهني إلا عند إعادة قراءة الكتاب لما
كتبت الخاتمة نزولا عند طلب فرانسوا فهل. هنا ظهرت العبارة بوضوح لتجسد في نظري
المكسب الأساسي لهذا العمل. من الغريب تماما أن الصيغة لم تتضح لي إلا في نوع من
التفكير على العمل المنجز، في حين أنها كانت، في الواقع، في صلب الكتاب مع مفهوم
إخراج حبكة الشخص، ولكن لندع الزمن والحكاية عند هذا الحد.
اسمحا لي أن أتناول كتاب الذات كآخر من بعيد شيئا ما انطلاقا
من موضوع الإنسان القادر الذي أتمسك به بشدة اليوم. فصول الكتابة الستة الأولى
التي توجد قبل قسم علم الأخلاق تحاول الإجابة عن السؤال التالي: هل يمكنني؟: هل
يمكنني أن أتكلم؟ هل يمكنني أن أفعل؟ هي يمكنني أن أحكي؟ يثير هذا السؤال سلسلة من
صور لمن؟ لأن سؤال الإنسان القادر هو على التوالي سؤال لمعرفة من يمكنه أن يتكلم،
من يمكنه أن يفعل، من يمكنه أن يحكي، من يمكنه أن ينسب إلى ذاته أفعاله الخاصة به.
تجد هنا مسألة الحكائي مكانها ولكن كسؤال ثالث فقط، السؤال الذي يطرح مسألة
العلاقة بالزمن سواء تعلق الأمر بالفاعل المتكلم أو بالفاعل المتصرف، لتجد زمنيته
نفسها وقد صيرت موضوعا من قبل الحكاية. عند هذا المستوى سيتم لي التمكن من مفهوم
الهوية الحكائية الذي لم أتجاوز حد وضع خطوطه الرئيسية في خاتمة الزمن والحكاية.
في الذات كآخر غصت في قلب مسألة الهوية الشخصية من خلال حقل شديد الغنى في الأدب
الأنجلوساكسوني. غامرت بإقامة تمييز، لم يكن يبدو لي أنه ينتمي إلى اللغوي فحسب
ولكن للبنينة العميقة، بين تصورين للهوية: الهوية المثلية والهوية الهذية. المثلية
هي، مثلا، ثبات بصمات أصابع شخص أو تكوينه الجيني وهو ما يظهر على المستوى النفسي
تحت صفة الطبع، كلمة طبع لها أهمية خاصة هنا، إذ أنها تستعمل كعبارة تقنية في مجال
الطباعة لتحديد شكل ثابت. أما الهذية فهي عندي الوعد. هذه الهوية هي هوية متوخاة
ومتمسك بها تواصل الانتشار على الرغم من التحولات، بهذا المعنى فإن مفهوم الهوية
الحكائية لا يتضح فلسفيا إلا مع شبكة التمييز التي لم تكن لدي أية فكرة عنها عندما
وقع نظري عليها لأول مرة.
تركز اهتمامي على تجارب شديدة الخصوصية. ذلك أن الهوية
الهذية مرغمة على التقهقر إلى شكلها التساؤلي: من أنا؟ مع غياب الجواب الذي يزودها
بالهوية كمثلية. النموذج عندي هو "الإنسان الذي لا خصائص له" لموزيل، أي
الإنسان الذي لا مثلية له.
- على مستوى النقد، أي على مستوى الفلسفة تتمسكون بشدة بسؤال
من أنا؟ ضد كل الفلسفات الاختزالية والموضعة، ولكن ألا يحسن على مستوى القناعة أو
على المستوى الروحي التخلي عن الهوية؟
ربما قد يوجد مستوى تأمل حيث يجب التخلي عن الانشغال الذي
يعبر عن نفسه في سؤال: من أنا؟ في حالة مكوثي على خط فلسفة استبطانية فإن قوة هذا
السؤال تستتبع قوة مقاومة التوضيع وقوة مقاومة الطبيعاوية. يلزمني كفيلسوف أن
أصارع إلى النهاية من أجل الهوية مع احتمال التخلي عن ذلك في مرحلة أخرى قد نتعرض
لها عند حديثنا عن الديانة. من المحتمل أن خلفية انتقادات ديريك بارفيت للهوية تجد
هنا ما يبررها وذلك عند قوله بأن الهوية هي ما لا أهمية له وهو قول يكاد يفقد كل طابع
فلسفي.
- الفصول الثلاثة الأخيرة من الذات كآخر، تلك المخصصة لعلم
الأخلاق لم تكن تشكل جزأ من الكتاب في صيغته الأصلية.
تضخم حجم الكتاب وتغير بناؤه تماما إثر المحاضرات التي
ألقيتها في إطار حلقة "قراءات جيفورد"، ينسحب هذا القول على الفصول
الثلاثة الأولى من الكتاب التي تنتهي بنقاش حول ما أسميه "الكوجيطو
الممجد" مع ديكارت و"الكوجيطو المستهان" مع هيوم ونيتشه والملحق
الذي فرضه مؤسس الحلقة المذكورة تحت عنوان من عنديته: :الثيولوجيا الطبيعية"،
وذلك لإرضاء بقدر المستطاع، مسايرا في ذلك كل الذين سبقوني، هذا التقليد الذي أصبح
شاذا مع مرور الوقت، كما أضفت فصلين آخرين أحدهما عن حكايات النداء الباطني الموجه
للأنبياء للنهوض بالمهام الموكولة إليهم حيث عالجت مشاكل الهوية في بناء الهوية
النبوية، والثاني عن تملك نصوص الكتاب المقدس من قبل فاعل كنسي. لم أحتفظ بهذين الفصلين
في الصيغة الفرنسية النهائية ونشرتهما في مكان آخر حتى أظل وفيا لعهد قطعته على
نفسي بتلافي الخلط بين الفلسفي والثيولوجي. تخلصت أيضا من ثقل النقاش الذي واجهت
فيه بين الكوجيطو الممجد حسب ديكارت والكوجيطو المستهان حسب هيوم ونيتشه والذي
ينتهي بإقرار الذات "بالكوجيطو الجريح". نصصت بهذا الخصوص بأن شأن
الكوجيطو في هذه الحال شأن الأب: "في بعض الأحيان هناك فائض وفي أحيان أخرى
هناك خصاص".
لم أكن أعرف في هذه الأثناء بأن هذا الحكم سينطبق علي عما
قريب. يبقى أني قمت بنقل هذا النقاش في مقدمة الكتاب حتى يتسنى لي إفساح المجال
أمام تقصي صور الإنسان القادر (من يتكلم؟ من..؟)، هذا التقصي الذي يقبل بشكل جيد
أن يوضع تحت صفة "الكوجيطو الجريح".
لكن، لا يمكنني أن أمر دون إثارة الظروف المأساوية التي وقع
فيها هذا التعديل العميق للنص الأصلي الذي ألقي أولا على شكل محاضرات في فبراير
1986 كما ذكرت ذلك سابقا.
بعد عودتي ببضعة أسابيع من إيدنبورغ، سينتحر إبني الثاني
الذي ازداد غداة عودتي من الأسر مع نهاية الحرب العالمية الثانية. حصل ذلك في
اليوم الذي كنت فيه مع أصدقائي أعضاء جماعة بوتوشكا في براغ. خلفت لدي هذه الفاجعة
جرحا داميا لم يفلح حدادي الطويل الأمد في مساعدته على الاندمال. لازلت حتى الآن
ضحية تبكيتين اثنين يتعاقبان علي: الأول، أني لم أهتد إلى كيفية الوقوف في وجه بعض
الانزلاقات في اللحظة المناسبة، والثاني، هو أني لم أدرك ولم أصغ لصرخة النجدة
المنبعثة من أعماق الشدة. هكذا سألتحق بهذا العدد الهائل من الآباء الذين عاشوا
قبلي نفس المصاب الذي لحقني وسأكتشف هذه الأخوة الصامتة التي تتولد من المساواة
أمام المعاناة. أسابيع قليلة بعد هذه الفاجعة، سأرافق إلى عتبة الموت بشكاغو، حيث
لجأت إلى صديقي ميرسيا إلياد لأجد نفسي ترزخ بشكل ما تحت وطأة التضاد الصارخ بين
قدرين، أحدهما ترك آثارا ضخمة في حين لم يترك الآخر أي شيء من هذا النوع، على
الأقل ما يمكن أن يرى ويلمس. بعد عودتي من سلسلة دروسي الربيعية بشيكاغو تفرغت
لمهمة توسيع الحقل الذي غطته محاضرات حلقة "قراءات جيفورد" مركزا اهتامي
على تبعاته بالنسبة لأخلاقية اعتباراتي حول الإنسان القادر وحول الهوية الشخصية.
كانت حصيلة ذلك موضوع سلسلة من المحاضرات ألقيها في روما في إطار جامعة سبينوزا
مستجيبا لدعوة كريمة من لدن الأستاذ فرانكو بيانكو.
هذا الجزء من المجموع الذي أصبح بهذا الوصف الذات كآخر والذي
أسميه من باب الهزل أو التواضع: "علم أخلاقي الصغير" مبنين في ثلاثة
فصول يمكن تلخيصها بشيء من السرعة في نقاش بين علم أخلاق ثيولوجي أرسطي محدث قائم
على فكرة الحياة الصالحة ومقاربة ديونطولوجية أكثر كانطية تتمركز حول الواجب
والإلزامي. ولكني شديد التمسك بالفصل الثالث المخصص للحكمة العملية ولإبداع
القرارات في مواجهة الحالات الصعبة. أتشبث كثيرا بهذا التقدم انطلاقا من المستوى
الأول حيث نجيب عن السؤال الأرسطي: ماذا يعني السعي نحو الحياة الصالحة؟ لننتقل
للواجب؟ ثم نصل إلى المستوى الثالث حيث نتساءل: ما هو حل مشكلة أخلاقية-عملية
مستحدثة؟ ألحق هكذا، الحكمة العملية بهيرمينوطيقا التطبيق.
لهذه الفصول الثلاثة بنينة مزدوجة، عمودية وأفقية. تحدثت
فيما أتيت على ذكره عن البنية العمودية بمستوياتها الثلاثة، إلا أن كل مستوى منها
يشتمل على ثلاثة مستويات: المثلي والآخر الحامل لوجه والآخر الذي لا وجه له وهو
فاعل العدالة. مشكلتي كانت تكمن في نقل هذا الثالوث من مستوى لآخر وفي المقام
الأول تركيبها في المستوى الأول، قائلا إن الحياة الأخلاقية هي أمنية تحقق ذاتي مع
ومن أجل الآخرين من وجهة نظر فضيلة الصداقة وفي علاقة مع طرف ثالث من وجهة نظر
العدالة، وهو ما سيجعلني أقول بأن العدالة هي مكون مبنين ابتداء من المستوى الأشد
دونية. يبدو لي من المهم التأكيد على هذه الخاصية الأولى للعادل كوجه للصالح،
الصالح مع ومن أجل الآخر، من أجل الآخر الذي لا يحمل وجها ولكنه الأنا الاجتماعي
الذي أجده في المؤسسات، فهو آخر المؤسسات وليس آخر العلاقات البيشخصية.
أواصل في المستوى الثاني متابعة قدر هذا الثالوث الذي أعيدت
صياغته بعبارات احترام الذات واحترام الآخر واحترام كل الأشكال المقعدة للعدالة
عبر البنيات المسطرية.
المستوى الثالث يتولد من التقاء حالات مأساوية. في هذا
المستوى أواجه كل أشكال تحير الذات في غياب دعم مؤسسة مثلية مع سؤال: كيف يمكن حل
رموز حياتنا الخاصة في حالات الشك، في حالات الصراع أو حالات المجازفة؟ الجهة
الأقوى في نظري هي تلك التي تعمل لكي تكون العدالة عندما يجب قول كلمة القانون في
حالة معينة. أواصل اليوم بحثا عن العادل والعدالة التي تأخذ بعين الاعتبار هذا
التربيع المزدوج الإشكالية الخاص والقريب والبعيد والتربيعين الأفقي والعمودي.
*أشرتم غير ما مرة إلى عزمكم الاشتغال الآن على مشكل
الذاكرة، من أي جهة تفكرون معالجته؟
من جانب العلاقة بين الذاكرة والتاريخ، التي وقعت خارج إطار
دائرة الزمن والحكاية وهو ما جلعني أتركها جانبا. فيما يتعلق بالتاريخ فإني لم
أركز اهتمامي إلا على مسألة التعرف على المدى الذي يظل فيه التاريخ التفسيري
تاريخا حكائيا، ولكن هناك جوانب أخرى في الإشكالية التاريخية وهو ما سيدفعني إلى
التخلص من مسألة الحكائية. أما فيما يتعلق بالزمن فإني أجملت القول فيه في خاتمة
الكتاب بفكرة مفادها أن هناك طرقا أخرى للحديث عن الزمن غير طريق الحكائية مثل
الغنائية على الخصوص. أعتقد اليوم بأن التعارض الحاد بين زمن العالم وزمن النفس لا
يمكن أن يعبر عنه إلا شعريا، في الشعر الشعبي، حيث يكرر القول إلى ما لا نهاية بأن
الحياة قصيرة وأن الموت قدر محتوم، كما في الشعر الراقي، لنقل من بودلير إلى إيف
بونوفوا. كوني حصرت كامل اهتمامي في الحكائي ترتب عنه أني أجحفت حق أشكال أخرى
لقول الزمن، التغني به، رثاؤه، مديحه كما نرى ذلك في أناشيد الثورات مثلا.
أريد أن أتناول من جديد هذه الأسئلة من باب التكوين الذاتي
للذاكرة في الحصيلات السلبية على طريقة هوسرل واضعا هذه التأملات في إطار انسجام
الحياة. كيف تستجيب الحياة لذاتها؟ أريد أن أؤكد على أن الأمر يتعلق بحياة وليس
بوعي. أفكر في الوقت الراهن في موضوع الحياة الذي كنت أتهرب منه باستمرار لأني كنت
شديد الحذر، تابعا في ذلك موقف هوسرل في فلسفته الأولى، من فكرة فلسفة الحياة.
- لقد سبق لكم، مع ذلك، التعرض لهذا الموضوع في كتابكم
الإرادي واللاإرادي.
بالفعل، ولكني تحدثت فيه عن الإرادي المطلق. لم تكن لدي في
هذه الفترة أي رغبة في إرهاق نفسي بمشكلة الموت وفضلت بمحض إرادتي إعطاء موضوع
الحياة كامل حقه.
مستوى الحياة في حياة إنسانية هو أيضا مستوى الرغبة،
وبالتالي هو المستوى الأول لعلم الأخلاق. في كتاب الذات كآخر دافعت عن فكرة مفادها
أنه يوجد قبل علم أخلاق المعايير علم أخلاق توق الإنسان إلى العيش الكريم. أجد إذا
كلمة حياة في المستوى الأولي لعلم الأخلاق، هنا أيضا يوجد المستوى الذي تتكون فيه
الذاكرة تحت تأثير الخطابات قبل المرحلة الحملية. مع الحكاية نجد أنفسنا في خضم
الخطاب الحملي. في الزمن والحكاية كان ينقص الطرف الأساسي الذي هو الذاكرة،
الذاكرة تهمني أيضا كذاكرة مشتركة، عن طريق الأحداث المعاصرة. إحياء خمسينيات مثل
تلك التي أحييناها في 1994 وفي 1995 تعود بنا إلى زمن أسميه احتكاك الذاكرة
والتاريخ. الأحياء الباقون من هذه الفترة الذين أمثل واحدا منهم، سيتركون عما قريب
المكان للمؤرخين وحدهم. الاحتفال بالخمسينيات هو آخر لحظة يتقاطع فيها التاريخ
بالذاكرة. الخمسينيات هي مكان آخر مواجهة بين ذاكرة الناجين وعمل المؤرخين.
فلسفيا، المسألة التي ما فتئت أصطدم بها مثلي في ذلك مثل
آخرين كثيرين هي مسألة الذاكرة المشتركة التي تناولها هالبوش بكثير من الإسقاط
والتبسيطية. من يتذكر عندما نتحدث عن الذاكرة المشتركة؟ هل هناك تعسف في استعمال
اللغة؟ أو هل الأمر لا يعدو أن يكون استعارة؟ أو هل يمكننا استعادة الذاكرة
المشتركة متوسلين اصناف هوسرل في التأمل الخامس من التأملات الديكارتية، أي عن
طريق تكوين ما يسميه الشخصيات ذات الطابع الفوقاني كالأمة والدولة. حينها، فإن
الذاكرة المشتركة تمثل بالنسبة لهذه الشخصيات الفوقانية ما تمثله الذاكرة بالنسبة
للأفراد، لأنه يبدولي أن الذاكرة بالمعنى الدقيق، بالمعنى الأول هي شيء يستحيل
إبلاغه. كيف يمكن أن تكون مشتركة إذا كانت في المقام الأول شخصية؟ كون الذاكرة
شخصية يجعل أن ذكرياتي لا يمكن أن تكون ذكرياتك، ليس هناك تحويل من ذاكرة إلى
أخرى. إذا أمسكنا جيدا بهذين الخطين، أي الطابع الشخصي للذاكرة ومساهمة الذاكرة في
استمرارية الشخصية، حينها سيطرح بحدة لغزه سؤال الذاكرة المشتركة. هذا هو المشكل
الذي أواجهه في الوقت الراهن●