ص1      الفهرس    المحور 

 

قراءة في الاجتهاد والتحديث:

لسعيد بنسعيد العلوي

عرض : إسماعيل الحسني

الحق أنه لا سبيل لدراسة القضايا المتعددة والإشكالات المتنوعة التي تحبل بها الممارسة الفكرية إلا إذا طرحها الدارس طرحا إشكاليا وتناولها تناولا نموذجيا يحتفظ فيهما بحق المراجعة النقدية والتحقيق الدؤوب. ذلك هو الدرس المنهجي الذي يطمح الباحث المغربي سعيد بنسعيد العلوي إلى التمكين له وتكريسه. فقد فكر في التحديث والاجتهاد، انطلاقا من منحى إشكالي تتكاثف في سياقه المساءلات، ومن هاجس نموذجي يتولد من التأمل في موارده الإشكالات.

وقبل أن نعرض لهذا الهاجس وذلك المنحى يحسن أن نبين المقتضيات المنهجية التي بني في سياقها كتاب الاجتهاد والتحديث، دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب،( نشر مركز دراسات العالم الإسلامي، مالطة، بيروت، الطبعة الأولى 1992. 240ص).

أولا - المقتضيات المنهجية:

يؤصل الباحث في هذا الكتاب لاجتهاد معاصر في وجهه السلفي، وفي صورته المغربية منذ ثمانينات القرن الماضي إلى مستهل الأربعينيات من هذا القرن. وغرضه من ذلك تفهيم وتفهم الكيفية التي تفسر انتقال "الإصلاحات" التي اعتملت في نفوس النخبة المغربية، من مستوى التناظر بين مكوناتها إلى مستوى التنفيذ المزدوج، من طرف الدولة "الحامية" الفرنسية ومن لدن المخزن المغربي الشريف.

ترتسم خطة العمل في هذه الدراسة في مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، بالإضافة إلى ملاحق تتضمن جملة من النصوص تعد شهادة حية مباشرة على الفترة، موضوع الكتاب(1). يعرض الباحث في المقدمة للمقتضيات المنهجية للدراسة. والتي تنتظم أولا في مفهومه لـ"الفكر السلفي المغربي" وثانيا في تبصره بحال وشكله المتني.

1 ـ الفكر السلفي المغربي:

يعتمد الباحث في تحديد مفهومه للفكر السلفي في المغرب على قرارين منهجيين، يحرص الأول فيه على استيعاب القضايا الرئيسية في الفكر العربي المعاصر كشرط في فهم الفكر السلفي في المغرب، ويلح الثاني على الوعي بطبيعة معطيات الوضع المجتمعي في المغرب الحديث والمعاصر كشرط أيضا في تمثل الفكر المغربي. يشكل الانطلاق من هذين القرارين وسيلة ممتازة في المراجعة للكثير من الأحكام وللعديد من القناعات التي انتهى إلى بنائها فريق من الباحثين في الفكر العربي المعاصر عموما، والفكر العربي المعاصر في المغرب خصوصا.

2 ـ واقع المتن المغربي الحديث:

يفرض النظر في هذا الواقع جملة من العوائق تتلخص في أمرين: الأول صعوبة الوصول إلى المادة العلمية لموضوع الدراسة(2)، مما يفرض التنقيب في مخطوطات، هي في غالب أحوالها كتابات متفرقة، تضمها مجاميع متنوعة. توجد في الأغلب الأعم في خزانات خاصة يعسر الوصول إليها.

والثاني غياب مؤسسات تتولى مسؤولية إدارة ودراسة الفكر المغربي الحديث والمعاصر في حقول التاريخ والاقتصاد الوطني، الفنون الأدبية والسياسية، الاجتماع والفقه. نعم لا ينكر المرء، مع الباحث، مساهمات الجامعة المغربية ورواد المؤرخين والمفكرين المغاربة، لكن تطور البحث العلمي في المغرب يستلزم في الحاضر والمستقبل العمل الجماعي الذي يتضافر على إبداعه أكثر من فريق علمي، بل وأكثر من جيل من الباحثين.

يوضح الباحث، على هدي من هذه المقتضيات المنهجية علاقة الاجتهاد بالتحديث، أنجز ذلك من زاوية تأصيلية وبأسلوبه التحليلي-النقدي الذي بقدر ما يحلل القضايا التي شغلت فقهاء المغرب الأقصى في العصر الحديث يركب الخلاصات النقدية للكيفيات التي أرساها روادهم في البناء الفكري المغربي. وعليه يجد القارئ نفسه إزاء خطاب تأصيلي يعالج رافد التحديث في الاجتهاد، نموذجه الأساسي المتن الذي حرره الفقيهان المغربيان: ابن المواز ومحمد بن الحسن الحجوي.

ثانيا - المنحى الإشكالي:

إن ضبط العلاقة بين الاجتهاد والتحديث هي موضوع الفصل الأول من الكتاب، والموسوم بـ"سبل التحديث ومسالك الاجتهاد"(3). يقصد الباحث بـ"التحديث" ارتكازا على محتواه المجتمعي ومضمونه الثقافي ثابتين معرفيين متداخلين: ثابت "الكيفيات التي يسلكها الفكر والمجتمع في النظر إلى التحول الاجتماعي الحادث، وفي التغير السياسي الضمني أو الصريح، المواكب لذلك التحول أو الناتج عنه"(4)، وثابت "الحلول المقترحة في الرد على الإشكالات الحاصلة، وحصيلة الإجابات النوعية: الدقيقة أو المضطربة على الأسئلة الحرجة التي تمثل في صورة تحد يريد أن يعصف بالبناء الاجتماعي الموجود ويطيح بالأنسجة الاقتصادية والسياسية والفكرية التي بها يكون قوام ذلك البناء ووجوده"(5). وأما الاجتهاد، فيعني عنده، النظر الفقهي في الشريعة الإسلامية الذي يستهدف صاحبه الاستدلال على الأحكام العملية للنوازل الطارئة على الوجود المجتمعي الإسلامي.

يستخلص الباحث من تعدد الاستدلالات الفقهية أهمية الوعي بالاختلاف في "النظر إلى العلاقة بين أحكام الشرع الإسلامي من جانب، وما يحدث للناس في حياتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من نوازل(6)" ويظهر لي أن كشف العلاقة بين التحديث والاجتهاد تقوم عنده على أساسين: أولهما لغوي وثانيهما تفقهي.

لا تبدو العلاقة، انطلاقا من الأساس اللغوي، علاقة تغاير فحسب بين الشريعة والتحديث، بل أيضا علاقة إعراض وتنافي، إذ لما دل فعل "أحدث" على معاني الخروج من حال الصفاء والطهر(7)، فلا يمكن للشريعة، المصدر المعتمد في الاجتهاد إلا أن تعرض عن التحديث بل وتنفر من الحداثة وما يأتي من اشتقاقاتها.

أما إذا نظر المرء إلى العلاقة بين الاجتهاد والتحديث من زاوية استحضار أساسها التفقهي تنبه إلى انضباطها في التساؤل الدؤوب عن الفارق في المحدثاث التي تنزل في الوجود المجتمعي، بين ما يعد سنة حسنة يبني فيها الفقيه الأصولي خطة جديدة في العمل بأحكام الشريعة، وبين ما يعتبر سنة سيئة تناقض القيم الأخلاقية والأصول الضرورية التي يقوم عليها التشريع الإسلامي، سواء في العبادات أو في المعاملات أو في العقوبات. ولا يخفى ما استحدث في العصر الحديث من كشوف علمية، وتقنيات تواصلية، ومعاملات جديدة بين الأفراد والجماعات والمجتمعات. وكلها معطيات ولدت مفارقات، أدت إلى تساؤلات، وفي طليعتها التساؤل عن موقع الدين، ومنه الدين الإسلامي "في الأزمنة المعاصرة، وما تستدعيه الأحوال المتبدلة من تحوير وتغير مستمرين في شؤون البلاد والعباد"(8).

يندرج، في سياق الجواب عن أمثال هذه التساؤلات، الفكر السلفي. كما أوضحه اجتهاد جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده. ينبه الباحث إلى حتمية التبصر بالصلة بين "الوطنية" و"السلفية" بالنسبة للناظر في هذه التساؤلات. كما طرحت في المغرب الأقصى. ولا يسع القارئ في هذا الباب إلا أن يستوقفه الطرح الإشكالي لتلك الصلة التي تتجاوز فيها ثلاثة أسئلة:

ـ نصطلح على تسمية الأول "بسؤال الاستبعاد" وصيغته: هل يمكن استبعاد أثر سلفية محمد بن عبد الوهاب على الاجتهاد المغربي؟ لا يخفى على الدارس تبديع الوهابيين الاحتفال بذكرى المولد النبوي، الذي قد يشم منه المغاربة مسا بعقيدتهم، كما أوضحها الأشاعرة، وتعريضا ضمنيا بمسالكهم الفقهية كما مارسها الفقهاء المالكية(9). والحق أنه إذا سلم بعدم تقبل المغاربة للدعوة الوهابية، فإن ذلك عند الباحث دليل على وعيهم بالاستقلال الفكري وعلامة بارزة على شعورهم بذاتيتهم. إذ احتفظوا، ملكا ومخزنا وشعبا، طيلة تاريخهم الإسلامي، بسيادتهم واستقلالهم عن الخلافة العثمانية.

ـ ونصطلح على تسمية الثاني "بسؤال الانتفاء". وصبغته: هل يمكن نفي أثر سلفية جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده؟

إذا استحضر القارئ إحدى القرارات المنهجية(10) لهذا الكتاب، تبين له إقرار صاحبه بهذا الأثر في المغرب، والشاهد على ذلك اقتباس فقهاء المغرب من فتاوي الشيخ المصري عليش. يقع الباحث، بدون هذا الإقرار، في شرك الكتابات الاستعمارية التي قضت على المغرب الأقصى بانعزاله عن الغير.

ونصطلح على تسمية الثالث بـ"سؤال التميز": نعم يؤكد مؤرخ الحركة الوطنية المغربية على مرجعية الشيخ محمد بلعربي العلوي، لكن هل يعني ذلك أن الأشكال الأخرى للممارسة السلفية لم ترق كما قال الباحث إلى "مستوى ما كان العلوي وصحبه يبثونه بواسطة الرواية والدرس الشفوي؟"(11).

يساهم الباحث في الجواب بتقديم ثلاثة ملاحظات أساسية:

يلاحظ في الأولى أن الفكر السلفي في المغرب لا زال مادة ثرية وتراثا بكرا يغري بالاستكشاف والدراسة، لأن أغلبه غميس في كنانيش وتقاييد، وفي أوراق مبعثرة ومراسلات إخوانية وطبعات حجرية.

وينبه في الثانية إلى اجتهاد الفقهاء المغاربة في قضايا حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وذلك كتعبير عن تجاوبهم مع المستجدات التي عرفها وضعهم المجتمعي في العصر الحديث.

ويذكر في الثالثة إلى الوضع التاريخي لكل من المشرقي والمغربي. فهذا محمد عبده(*) نجده اجتهد في تبيين مكانة الإسلام، عقيدة وشريعة وأخلاقا، في سلم الحياة المدنية المعاصرة، وذلك ما اعتبره السلفي المغربي تحصيل حاصل، لأنه فكر في المظاهر العصرية وفي روافدها المجتمعية من وجهة كونها نوازل، يتعين عليه الاستدلال على أحكامها الشرعية العملية(12). ويكفي المرء في تعضيد هذا التميز حضور الخطاب الأصولي الذي حرره الإمام الشاطبي في الاعتصام والموافقات واستئناف الدعوة المشرقية إلى تمثله واستثماره أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين(13).

وكلها ملاحظات يحق للباحث فيها أن يتساءل بقوله: "هل يعني هذا (…) أننا أمام مدرسة فقهية تمتلك صور التمايز والاستقلال عن مثيلاتها في المشرق العربي(14)" سؤال جوهري طرح فيه صاحبه ما يكفي من الاحتياط الرزين، وقد مر فيه ما يقتضيه التريث الكبير، إذ يتعلق الأمر، كما قال: "باستخلاص الملامح الأصولية التي كان الأخذ بها من طرف الفقيه المفتي، فضلا عن استقصاء الفروق الفروعية(15)"

ثالثا - الهاجس النموذجي:

يقرر المؤرخ أن توقيع عقد الحماية بداية في انتقال عملية "الإصلاحات" من مستوى الاقتراحات الديبلوماسية إلى مستوى الالتزامات الحكومية التي يسهر البطش العسكري على تنفيذها واحترامها، وتعنى العلاقات الدولية بين فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وإنجلترا بشرعيتها والتشريع لها(16). بداية تعلن كما قال الباحث المغربي عبد الله العروي فشل "الإصلاحية المخزنية والمعارضة الدينية وحركة التمرد القروية"(17).

لقد بدت على هذه الإصلاحات صفة الضرورة التي لا يملك الفقيه المغربي معها إلا خيار التكيف معها بغرض احتوائها والسيطرة عليها، أو قل كما قال الباحث لا يملك المرء إلا "إحالتها أو إحالة الأجزاء الكثيرة منها إلى الأمر المرغوب فيه ما دام ذلك المرء لا يقدر على رفضه ولا يستطيع أن يرفضه ويزيله"(18). والنموذج الفكري في ذلك الممارسة الفقهية التي حررها كل من ابن المواز ومحمد بن الحسن الحجوي.

1 ـ أحمد بن المواز(19) المتوفى عام 1922م:

يشكل هذا النموذج موضوع الفصل الثاني الموسوم بـ"الإصلاح والاجتهاد: الضرورة والحماية والتحديث". تتكون المادة العلمية لهذا النموذج من المتن الذي يتضمنه مؤلفان: أولهما خطوة الأقلام في التعليم والتربية في الإسلام(*) الذي تصالح فيه ابن المواز فكريا مع فرنسا صاحبة الشعار الثلاثي: حرية، مساواة وإخاء وثانيهما حجة المنذرين على تنطع المنكرين(20)، الذي يعالج في خاتمته الموقف الفقهي من نازلة عقد الحماية وما قارنها ولحقها واقترن بها من نوازل في الوجود المجتمعي المغربي. ينبه الباحث إلى أن آراء ابن المواز بمثابة برنامج يكاد يكون تاما أو متكاملا في التحديث، يمكن للباحث أن يستنبطه من استقراء أجزائه المتفرقة في مؤلفات ابن المواز، ومن تركيب أشتاته المنتشرة فيها.

يؤدي التأمل فيما قدمه الباحث في هذا الفصل إلى تبصره بأمرين كيفا نوع الجواب الفقهي عن نازلة الحماية عند ابن المواز.

1.1-أمر الضرورة:

عجز المغاربة عن رد واقع الحماية، تشي بذلك تضاعيف كتاب حجة المنذرين. ولعل أبرزها ازدواجية توجه ابن المواز الخطابي، فالرجل يعي وعيا تاما ما أحدثته نازلة الحماية من شرخ في السيادة المغربية مما جعل خطابه الفقهي متوجها إلى "الدولة الحامية" من جهة وإلى "الجلالة السلطانية" أو "المخزن الشريف" من جهة أخرى. ولا يعسر على المؤرخ الظفر بالشواهد التاريخية التي يستدل بها ابن المواز على ذلك. يكفي منها أن رجال الحماية لم يظهروا عن مطامحهم الاستعمارية في ضرب عقد "الحماية"، نصا وروحا إلا عام الظهير البربري 1930م. ويستحضر منها أيضا "دهشة" المغاربة عن حلول الاحتلال الأجنبي وغموض الأحداث والأحوال بعد عقد الحماية.

والحق أننا بقدرما لا نقصد، كما يقرر الباحث، تبرير الاستدلال الفقهي لابن المواز في نازلة الحماية، ولا الاعتذار لهذا العضو "النهضوي" من جمعية لسان المغرب عما انتهى إليه بعد أقل من عشرين سنة من قول مختلف ومخالف في موضوع "مقاومة الاحتلال الأجنبي"(21) لا نقر أيضا الموقف الذي يرفض صاحبه، وفي انفصال، كل رأي فقهي "من جنس آراء ابن المواز في حجة المنذرين فيما هو يعزف عن فهم فترة حرجة، تكاد تكون مجهولة من تاريخنا الفكري الوطني"(22).

2.1-أمر التفارق:

يفرق ابن المواز بين عقد الحماية الذي أبرمه السلطان مولاي عبد الحفيظ والحكومة الفرنسية، وبين نازلة المحميين التي استنكرها فقهاء المغرب وبدعوا أصحابها، تغاير الثانية الأولى فلا تقاس عليها، الأولى يحدد معانيها القانون الدولي ويشهد لها تاريخ المعاهدات ويراقبها النقد الفقهي لكيفيات تنفيذ "الإصلاحات" التي تضمنها عقد "الحماية".

تعني حقيقة الحماية في القانون الدولي "مدافعة التسلط الخارجي عن الاستغلال وعن حقوق الدولة المحمية، وإن معنى المحافظة على الحقوق هو بحيث تكون الدولة الحامية مجبورة على إبقاء تعهدها على طبق ما وعدت به"(23). وأما تاريخ المعاهدات فشاهد على احترام دولة فرنسا لما تمضيه من عقود والتزامات. لكن يتحول خطاب الحماية، بدون المتابعة النقدية لتطبيقاتها "الإصلاحية" إلى نشاط إيديولوجي يغطي "مقاصدها الاستعمارية". إذا استعرنا لغة علال الفاسي في كتابه دفاع عن الشريعة(24). ومن ثم يغرق ابن المواز في تنظيمات الحماية بين المقبول والمرفوض.

يقبل كل إصلاح يوافق مقاصد الشريعة في درء الفساد وجلب الصلاح. ويرفض كل إجراء يعارض تلك المقاصد، كالإسراف في النفقات والمبالغة في الضرائب وفي التصدير، وهدم البنيات الاجتماعية والأوقاف الدينية…

والمستنتج من أمري الواقع الضروري والتفارق النقدي تأسيسهما لعمل الباحث في توضيحه لـ"الكيفية التي تقرر بها عند ابن المواز الارتباط بين الحماية والضرورة من وجه أول، وبين التحديث والضرورة من وجه ثان، وبين التحديث والحماية من وجه ثالث"(25) ويبرز في تلك الكيفية الحكم الشرعي لنازلة الحماية، والقائم عند ابن المواز على اجتهاد مقاصدي في "الاستعمار"، لا بمعنى الاحتلال المادي والعسكري الذي ينسب إليه في الكتابات المغربية اللاحقة، وخصوصا بعد عام 1930م. بل بمعنى العمران والتعمير. يقول ابن المواز: "لا شك أن التحفظ على الرعية في الحقيقة تحفظ على تقوية الحكومة وتثمير مداخيل بيت المال على وجوه تدوم، ومنها أن الاستعمار المبني على حفظ الشرع والعوائد لا يقتضي ما يخالفه"(26) فالمقصود من عقد الحماية، هو "التحفظ على الرعية" المغربية، في المجالات السياسية والمالية. ولما كان التعمير فيهما مبنيا على مقاصد الحفظ، حفظ الشريعة أولا، وحفظ عوائد أهلها، وهم المغاربة، فلا يوجد ما يقتضي مخالفته. وإذا تقررت شرعية التعمير والاستعمار كما تنص عليها "إصلاحات" عقد الحماية تعين على الفقيه المغربي الاجتهاد فيما يقارنها ويلحقها من معاملات تتعدد وجوهها المالية والتجارية والاقتصادية بحسب تجدد الأزمان والأوقات. وقد قدم ابن المواز أمثلة على ذلك كـ"المانضة" التي يماثلها بـ"السفتجة". والأوراق البنكية وغيرها من المعاملات الجديدة.

2 ـ محمد بن الحسن الحجوي، المتوفى عام 1956:

إن هذا النموذج هو موضوع الفصل الثالث: "ضرورات العصر ومقاصد الشرع: النظام، الاقتصاد والتجديد"(27). يختص هذا النموذج عند الباحث بالتعدد التأويلي، لأنه دقيق في صرامته من أوجه، وغريب في غموضه من أخرى(28). يطمح المؤلف، بسبب ذلك، إلى تحديد إجرائية هذا النموذج الفقهي في ثلاثة أوصاف، الوصف المخزني، الوصف التجاري، الوصف الاجتماعي.

1.2-الوصف المخزني:

لا يخفى على مؤرخ الفكر السياسي المغربي أن الحجوي مارس مسؤوليات متعددة وخبر سلطات متنوعة. وذلك في فترة حرجة من فترات تحول الفرد والمجتمع والدولة في المغرب الأقصى(29). سبب ضعف هذا القطر، بحسب الحجوي الجهل وانتشار الفتن وإثقال كاهل خزينته بالديون، وكلها مظاهر تنتظم في مفهوم جامع، هو افتقاد النظام، إلا أن مفهوم النظام، على الرغم من ثرائه، فإنه بالنسبة للباحث ملتبس في كتابة الحجوي(30).

يفسر غياب "النظام" ميل الفئات المغربية، كما يقرر الحجوي، إلى عدل فرنسا وإلى ما تسمعه عن قوة نظامها، بل قد "عشقت ذلك ومالت إليه بكلية جمهورها ونفضت من فكرها كل تعصب ديني أو جنسي"(31).

2.2-الوصف التجاري:

تزاوج في بناء شخصية الحجوي التكوين العلمي وشواغل العمل التجاري، وفي ذلك ما يوضح دعوته إلى إقامة مؤسسات تعليمية للتجارة لأنها "من فروض الكفاية كالقيام بعلوم الفتوى والدين"(32)، مؤسسات تجعل التجارة المغربية وغيرها من المجالات الاقتصادية ممارسة منظمة وعنصرا من عناصر إنجاح التحديث في المجتمع المغربي. من الأدلة على ذلك أنها سبب تقدم الأوربيين وتأخر المغاربة، يقول الحجوي: "تقدموا لأنهم قدمهم العلم بالتجارة وأخركم الجهل بها"(33).

يؤمن القتل السياسي النشاط التجاري، لأن وظيف الدولة الحامية، ممثلة في فرنسا، لا يقتصر على بسط الأمن، بل يشمل حماية الصنائع المغربية وأنواع التجارة المختلفة. ليس المقصود الحماية الكلية لأن الحكومة في المغرب مقيدة بسياسة "الباب المفتوح" التي يقررها عقد الجزيرة الخضراء، بل المقصود هو الحماية التي تحافظ على المصلحة العامة للاقتصاد المغربي، فعلى سبيل المثال "الحاجيات التي لا يستغنى عنها، مثل الأثواب القطنية والنباتية ونحوها، فإن بلادنا كانت تكره بيد معامل الإنجليز، ثم الطليان ثم سويسرا وغيرها، وكانوا يستنزفون دمنا ويمتصون آخر قطرة من دراهمنا، فلما جاءت صنائع قطن ونبات الجابون(*) تنفس المغرب الصعداء واكتسى كثيرا ممن كان عاريا"(34).

3.2-الوصف الاجتهادي:

يؤدي النظر في تحقيقات الحجوي في الشريعة إلى أنه فقيه فذ في فروعها، فضلا عن كونه مجتهدا في تعقله لأصولها ومقاصدها وكيفية الاستنباط من مصادرها. ويمكن تقسيم العرض التحليلي الذي أنجزه الباحث لهذا الوصف الاجتهادي إلى مجالين: مجال المساءلة النقدية "للإصلاحات" التي نفذتها الدولة "الحامية"، ومجال المواكبة الفقهية لنوازل المعاملات المستجدة.

1.3.2-المساءلة النقدية:

ينبه الحجوي إلى أن الدولة الحامية لئن تبثت النظام الأمني في المغرب، لم تف بما قطعته على نفسها من وعود وعهود. ومن ثم يجب مطالبتها بـ"إصلاح" ما أفسدته من ممارسات، مطالبتها بتعجيل إيقاف نزع الملكية إلا لمصلحة عامة، وبتخفيف الضرائب، وبإصلاح العدلية وبالتراجع عن الظهير البربري.

كما لا تقتصر وجهة المساءلة على الدولة الحامية بل تتوجه أيضا على "المخزن المغربي الشريف". كل منهما مطالب بإدخال تنظيمات إصلاحية على مؤسسات المجتمع، وفي طليعتها التعليم، بما فيه تعليم الفتيات(35).

2.3.2-المواكبة الفقهية:

اقتدر الحجوي على المواكبة لأنه تمكن من خلع الفكر النسبي على القواعد الأصولية. نختار لبيان ذلك قاعدة الضرورة وقاعدة القياس.

قاعدة الضرورة: يفقه الحجوي هذه القاعدة من خلال موضوع التصوير والتجسيم. فيميز فيها بين زاويتين: زاوية تمكين هذه الوسيلة لرقي التعليم على تراتب مستوياته وتنوع مجالاته. ومن ثم يجب الأخذ بضرورة التصوير والتعليم الذي يتعضد بقاعدة أصولية أخرى اصطلح الحجوي على تسميتها بـ"الأصل في الأشياء عدم المنع ولأجل الحاجة".

وزاوية التذرع بالمجسمات والمصورات التي قد تؤدي من جهة إلى عدم المحافظة على نواهي الشريعة القطعية، وتثمر من جهة أخرى ما لا فائدة عملية من الاشتغال به. يقول الحجوي: "نهى الشرع عنها نهيا صريحا وحكى ابن العربي المالكي الإجماع على المنع ولا ضرورة تلجئنا إلى ذلك"(36).

يكشف هذا التفريق عدم قطعية قاعدة الضرورة، لأنها نسبية عبر الفقهاء عن طابعها الظني بقولهم "الضرورة تقدر بقدرها" وقولهم: "إذا ضاق الأمر اتسع وإذا اتسع ضاق"(37)

قاعدة القياس: لا تنتج قاعدة القياس، خاصة في أبواب المعاملات، إلا بفكر يستوعب به الفقيه المغربي مفارقات الماضي للحاضر. وقد قدم الباحث إشارات ذكية طبق فيها الحجوي قاعدة القياس، تطبيقا يستحضر النسبية، من ذلك معاملة "الضمان التجاري"(38).

والحاصل من إجرائية الأوصاف الثلاثة في النموذج الفقهي كما يمثله فكر الحجوي، هيمنة "سؤال كيفية التحديث" على مقاصدها، نعم تتضافر الأوصاف في تفسير الفكر الحجوي إلا أن الارتداد إلى سؤال التحديث ضروري في كشف تفاعلها وتعاضدها في الممارسة. برهان ذلك أن تحديث المجتمع في مؤسساته العلمية ومناشطه العملية شرط ضروري في وجود الاجتهاد، فعند هذا الشرط، وعنده فحسب، "يتنافس علماء الدين مع علماء الدنيا…" كما قال الحجوي(39).

صفوة القول في دراسة الباحث. سواء في طرحها الإشكالي أو في هاجسها النموذجي تمثلها للنهج التحديثي الذي غرزه أمثال ابن المواز ومحمد بن الحسن الحجوي في البناء الفكري المغربي الحديث. لكن هل تمثله ما درجنا على نعتهم بالوطنيين المغاربة؟

لم يحصل ذلك، بكيفية شمولية بسبب تأثير المحيط العربي، إذ أصبح خطابهم الفكري يلهج بالدعوة إلى "الديمقراطية وبناء المجتمع المدني". وتلك مسألة تحتاج، عند الباحث، إلى تأصيل وتقعيد آخرينn

 

هوامش:

1 - يتعلق الأمر بنصوص محمد بن الحسن الحجوي وابن المواز وأحمد الصبيحي ومحمد بن أحمد العلوي. الاجتهاد والتحديث: ص101-237.

2 - يقرر الجابري أن الأعمال الفكرية المغربية في الفترة الحديثة "لم ينشر منها إلا القليل، وما نشر لم يعد متداولا الشيء الذي يجعل تقديم قراءة موجهة لجمهور المثقفين بمثابة تأويل للمجهول" محمد عابد الجابري، المغرب المعاصر، البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، ص11.

3 - الاجتهاد والتحديث، ص15-43.

4 - المرجع نفسه، ص16.

5 - الاجتهاد والتحديث، ص17.

6 - المرجع نفسه، ص18.

7 - اختار الباحث في تحرير الأساس اللغوي" قاموسا عربيا مبسطا هو قاموس المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة". المرجع نفسه، ص17.

8 - الاجتهاد والتحديث، ص18.

9 - أحمد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، البيضاء-المغرب، دار الكتاب، 8/119.

10 - إن الدراسة السلبية للمفكر العربي المعاصر لا تحصل إلا باعتباره جزء من كل، في اتجاهاته وفي قضاياه. الاجتهاد والتحديث، ص9.

11 - الاجتهاد والتحديث، ص22.

(*) محمد عبده، ينظر على سبيل المثال، الإسلام والنصرانية، القاهرة، مطبعة المنار، 1350هـ.

12 - يراجع كتابنا، نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور، واشنطن، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1995، ص70-71.

13 - محمد المنوني، مظاهر يقظة المغرب الحديث، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1985، 1/22 و316 وما بعدها.

14 - الاجتهاد والتحديث، ص25.

15 - المرجع نفسه، ص37.

16 - تستحضر هنا العقود الثنائية بين هذه الدول، مثل الاتفاق الواقع بين فرنسا وإيطاليا عام 1902، كما ينبه في الوقت نفسه إلى الفصل الأول من عقد الحماية في صيغته الفرنسية. والذي ينص على "إنشاد نظام جديد يشتمل على الإصلاحات الإدارية والقضائية والمدرسية والاقتصادية والمالية والعسكرية التي ترى الحكومة الفرنسية أنه من المناسب إدخالها في التراب الوطني".

17 - عبد الله العروي: Les origines sociales et culturelles du nationalisme, Casablanca, Centre culturel Arabe., p.410.

18 - الاجتهاد والتحديث، ص46.

19 - أحمد بن المواز:

(*) مخطوط في الخزانة العامة، م40، الرباط-المغرب.

20 - فاس، طبعة حجرية، بدون تاريخ.

21 - علال الفاسي، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، البيضاء-المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة5، 1993، ص119-141.

22 - الاجتهاد والتحديث، ص55.

23 - حجة المنذرين، ص63.

24 - علال الفاسي، دفاع عن الشريعة، الرباط-المغرب، مطبعة الرسالة، 1966، ص162.

25 - الاجتهاد والتحديث، ص64.

26 - حجة المنذرين، ص18-19.

27 - الاجتهاد والتحديث، ص67-96.

28 - الاجتهاد والتحديث، ص64.

29 - محمد بن الحسن الحجوي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، فاس، المطبعة الجديدة، بدون تاريخ، 4/382 وما بعدها.

30 - الاجتهاد والتحديث، ص73.

31 - المرجع نفسه، ص75.

32 - محمد بن الحسن الحجوي، بالاقتصاد حياة البلاد، مخطوط في الخزانة العامة، الرباط-المغرب، ص3، ج113.

33 - مستقبل تجارة المغرب، مخطوط في الخزانة العامة، الرباط، ص10، ج115.

(*) يقصد اليابان.

34 - بالاقتصاد حياة البلاد، ص5.

35 - محمد بن الحسن الحجوي، تعليم الفتيات لا سفور المرأة، الرباط، الخزانة العامة، ج205. والجتهاد والتحديث، ص82-88.

36 - الفكر السامي، 4/242.

37 - أحمد الزرقا، شرح القواعد الفقهية، تقديم ومراجعة مصطفى الزرقا، عبد الفتاح أبو غدة وعبد الستار أبو غدة، بيروت، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1983، 111-112 و133-134.

38 - الاجتهاد والتحديث، ص89-92.

39 - الفكر السامي، 4/272.

مراجع القراءة:

ـ أحمد الناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، البيضاء-المغرب، دار الكتاب 1956.

ـ أحمد الزرقا: شرح القواعد الفقهية، تقديم مراجعة مصطفى الزرقا، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1983.

ـ إسماعيل الحسني: نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، واشنطن، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة 1، 1995.

ـ ابن المواز أحمد: حجة المنذرين على تنطع المنكرين، فاس-المغرب، طبعة حجرية بدون تاريخ.

ـ بوجندار مصطفى: الاغتباط بتراجم أعلام الرباط، الرباط، طبعة الأوفست، 1987.

ـ الحجوي محمد: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، فاس، المطبعة الجديدة، بدون تاريخ.

مستقبل تجارة المغرب-الرباط، مخطوط الخزانة العامة، م115.

بالاقتصاد حياة البلاد، الرباط-مخطوط الخزانة العامة، 113.

تعليم الفتيات لاسفور المرأة، الرباط، الخزانة العامة، م205.

ـ محمد عبده: الإسلام والنصرانية، القاهرة، مطبعة المنار، 1350هـ.

ـ محمد عابد الجابري: المغرب المعاصر، البيضاء-المغرب، الطبعة 1، 1988.

ـ محمد المنوني: مظاهر يقظة المغرب الحديث، بيروت، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1985.

ـ الفاسي علال: الحركات الاسقلالية في المغرب العربي، البيضاء-المغرب، الطبعة5، 1993.

-Laroui Abdellah: Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain 1830-1912. Casablanca, Centre cutlurelle Arabe.

ــــــــــــــــــ