ص1      الفهرس    المحور 

مشروع لتدريس تاريخ الفلسفة (*)

جان هيوليت

ترجمة: مصطفى كاك

ـ 1 ـ

كيف يمكن اليوم تصور دراسة الفكر الفلسفي؟ إن لفظ الميتافيزيقا تم هجره، والعلوم الوضعية، بما في ذلك العلوم الإنسانية، في قمة تطورها. يتبقى للفيلسوف تاريخ أنساق الماضي وفلسفات ميتافيزيقية تبدو بلا أساس ومعرض من الوجوه الفكرية، التي تنشر اليأس من البحث الفلسفي بسبب تنوعها وما يوازي ذلك من إدعاء الحقيقة المطلقة.

ومع ذلك يبدو لنا تاريخ الفلسفة، بوصفه تاريخا للفكر الفلسفي، غير مؤد إلى نزعة شكية عديمة الجدوى. وإذا كان من الممكن الحديث عن فشل الميتافيزيقا، فإن ذلك الفشل له دلالته. لقد أضحى اليوم بمقدورنا -ومنذ كانط بصفة خاصة- طرح سؤال ماهية الميتافيزيقا. فمنذ ذلك الحين أصبح بإمكان عصرنا تحديد بعد جديد، وميدان بحث يسمح، في ضوء تاريخ الفكر الفلسفي، باستكشاف تأويلات الوجود الثاوية خلف حياتنا اليومية والمتخفية كذلك وراء العلوم الوضعية. وهذا الميدان في البحث لن يختلط بميدان الأنثربولوجيا حسب المعنى الدقيق للكلمة.

وأعتقد أن الفضل الأكبر الذي لهوسرل، وكذا أسباب نفوذه، هو أنه حاول الوصول إلى ذلك الميدان. فالجهد الذي بذله في النظر إلى الفلسفة بوصفها لحظة وعي جذري بالتجربة المعاشة، وكتفكير شمولي أطلق عليه الرد الفينومينولوجي. إن قيمة هذا المجهود هي في الكشف عن صعوبات العمل الفلسفي أكثر منها في نجاح مستحيل. أما أن "نفكر في الحياة" -كما يقول هيغل في فترة شبابه- فتلكم هي المهمة، لكنها مهمة تبدو متناقضة. فالوثبة التي تحمل الوعي الإنساني نحو العالم، وكذا الالتزام الذي يربطه بالعالم المحيط أو بأفق العالم الكلي، إنما تسير في اتجاه معاكس للفكر الذي يعلق المعتقدات الطبيعية ليستطيع وصفها والكشف عن معناها. ينبغي التعبير عن الإعجاب إزاء التدقيقات والبدايات المتجددة واللامتناهية لمنطلقات هذا الفيلسوف الذي أبى أن يتخلى عن فكرة التأمل الفلسفي البنَّاء والذي اكتشف في نفس الوقت استحالة إنهاء هذا التأمل، لأن الفيلسوف يصادف دوما ظله دون القدرة على احتوائه. وهذا اللقاء ليس لقاء طارئا، ولا يدل على حد قابل للتنقيل باستمرار فحسب، بل إنه يشير إلى خاصية الوجود ذاته. فالإشكالية الفلسفية لا بد أن تكابد عجزها عن الإحاطة التامة بموضوع مشروعها، دون أن تتخلى مع ذلك عن مهمتها في تحديد بنيات التجربة والعلوم.

يستجيب البحث الفلسفي المعاصر، من حيث هو وعي بالحياة، لمطلبين: مطلب الصرامة في التحليل، ومطلب الاتصال المباشر بالتجربة المعاشة. وهو بهذا يتميز عن الفكر الساذج، فكر عالم الحياة، مثلما يتميز عن الفكر العلمي الذي يتأسس على فكر عالم الحياة. إنه يتأرجح بين الإثنين، لأن كل واحد منهما يمثل استلابا للآخر. فالفكر العلمي يحيل دوما إلى التجربة المباشرة التي يتجاوزها، والتجربة بدورها تقود إلى العلم الذي تؤشر عليه دون أن تؤسسه. إن البحث الفلسفي لا يستطيع التخلي عن العودة إلى الأشياء ذاتها، والاتصال بالوجود الفعلي من غير وسائط (وهو ما عمل على بعثه كل من برغسون وهوسرل)، مثلما لن يتخلى عن المسافة الضرورية للفكر، والتي بفضلها تظهر الماهيات والبنيات المتحكمة في الوجود. ومن الملاحظ أن الفكر الفلسفي في عصرنا هذا مطبوع بحركتين متضادتين هما الحركة التي تحاول الكشف عن الوجود، وتتعارض أحيانا مع العلوم، والحركة المضادة للأولى وترتقي إلى دراسة البنيات المحايثة للعلوم.

وإذا كانت الفلسفة لا تستطيع التخلي لا عن هذه الحركة ولا عن تلك، فلأنه ينبغي عليها، في وعيها بالحياة، استخلاص بعد أصيل في البحث لا يختلط بالبعد العلمي، بعد أن يعمل على إظهار معنى البنيات وكذلك معنى الوجود ذاته كلقاء. لقد كان هذا البعد، ضمن تاريخ الميتافيزيقا هو اكتشاف المبدأ الترنسندنتالي.

ـ 2 ـ

هنا يطرح أمامنا بصدد الفلسفة، مشكل تاريخها والمنظورات التي نرغب من خلالها في تأمل هذا المشكل. وإذا تمكنا كما نريد من طرح سؤال ماهية الميتافيزيقا، فذلك لأنه بمقدورنا تكرار تاريخها منذ مفكري الإغريق حتى مرحلة الفكر النقدي، التي جعلت من الميتافيزيقا ذاتها موضع سؤال، والمرحلة الوضعية التي تم فيها استبدال الأنطولوجيا بالأنتربولوجيا. هذا التكرار للتاريخ [تاريخ الميتافيزيقا] يتيح لنا مساءلة الميتافيزيقا والكشف عن معنى الفكر الفلسفي الذي يسكنها، وربما نكتشف بذلك ميدان البحث الذي حاولنا إعطاء فكرة عنه.

مع الفلسفة الكانطية والمثالية الترنسندنتالية إنما بدأت الميتافيزيقا تتساءل عن ذاتها. ويمكن القول إنه لدى فشته وهيغل يوجد "ميتافيزيقا الميتافيزيقا"، وتأمل الميتافيزيقا في ذاتها. إن فيشته يرتفع فوق التاريخ باحثا عن نسق الروح الإنساني، وعن منطق أصيل للفكر -الجدل- مخالف لمنطق الرياضيات، لكنه منطق يسمح بأن ندخل في الاعتبار جميع التفسيرات الممكنة -بواسطة مبدأ العلية أو الجوهر- للقاء بين الفكر والوجود. ومنطق الميتافيزيقا هذا سيكون هو التأمل الأخير للفكر، وعلم العلم. ومحاولة هيغل، قبل ماركس، أنزلت هذا المنطق المفارق للتاريخ بوضعه داخل التاريخ ذاته. إن صيرورة الفكر نحو المعرفة المطلقة هي في نفس الآن جدلية وتاريخية. حاول هيغل التفكير في بنية ونشأة تأويلات الوجود؛ وبذلك فتح أمامنا، خاصة في فينومينولوجيا الروح، إتجاها في البحث شديد الغنى والعمق، وإن كانت النتائج المخيبة لنسقه لا توحي بذلك. إن تاريخية الفكر والأشكال الملموسة للوعي داخل كلية الحياة الإنسانية، وحالة الوعي الواضع لمضمون تلك البنيات، اللاواعية في البدء لذاتها، وكذا الارتقاء بالعقل إلى صورة جديدة من التجربة، كل هذا تم عرضه في ذلك العمل المدهش [ فينومينولوجيا الروح ]، ويمكن أن يقدم لنا مصدرا للتأمل، حتى لو كان النسق الهيغلي، مثله مثل نسق فيشته، يبدو متجاوزا.

هذا التأمل الذي أنجزته الميتافيزيقا حول ذاتها هو مع ذلك ميتافيزيقا. فليس بهذه الكيفية يجب التفكير في ماهية الميتافيزيقا بالذات. إن السؤال المطروح بصدد نهاية الميتافيزيقا لا يمكن أن ينتهي إلى نزعة وثوقية [دغمائية] صادرة عن آخر نسق أو عن نهاية ما للتاريخ، كما لن يقود إلى الاحتفاظ المحض والبسيط بالوجود الفعلي للعلوم الوضعية التي كانت ستحل محل الميتافيزيقا.

إننا نعود باستمرار إلى ذلك الميدان الأصيل في البحث الفلسفي الذي يلزمه لكي يتأسس أن يعيد التفكير مجددا في تاريخ الفكر الفلسفي وأن يأخذ في اعتباره المعنى -المتخفي ربما- لهذا التاريخ.

يشكل تاريخ الميتافيزيقا جزءا مكملا لهذا البحث، في حين أن تاريخ العلوم المعاصرة لا ينتمي إلى العلم ذاته. فالرياضيات المعاصرة تكونت، كنظرية للمجموعات ونظم المتقابلات، بالتخلص من تاريخها الخاص، الذي لا يمكن أن تعتبره سوى متتالية من الأمثلة لمصادفات سعيدة (مثلا تاريخ العدد المتخيل الذي تحول إلى كيان للأعداد المركبة) أو لجملة من العوائق. إن هوسرل عندما يتناول أصل الهندسة، فالأمر عنده لا يتعلق كثيرا بالهندسة كما هي، بقدر ما يهم دلالة الفكر الرياضي داخل تأويل الوجود والكينونة. ثمة نشأة وتاريخية للفكر الميتافيزيقي ينبغي المحافظة عليها في التأمل الفلسفي، في حين أن علما من العلوم يبدو في مرحلة نضجه قادرا على الفهم وبالتالي على إذابة تاريخه. إن تاريخ الميتافيزيقا هذا -أي تاريخ تأويلات الوجود والكينونة، الذي تخضع له ربما حتى العلوم والتقنيات الحديثة- ليس سردا للوقائع التاريخية أو تفسيرا سببيا. فهنا توجد نشأة وبنية ذات أسلوب أصيل، حيث يلزم التفكير مجددا وإعادة تفعيل المعنى القصدي المغمور داخل الفكر. يمنحنا تاريخ الفكر الفلسفي إذن تاريخا أساسيا، يتطلب منهجا خاصا يحاول الجمع بين النشأة والبنية؛ ويرفض انعدام المعنى الفلسفي في تاريخ تجريبي محض مثلما يرفض عجز العقلانية اللاتاريخية.

يوجد هنا برنامج للبحوث، ستكون غايته القصوى دوما هي التعرف على البعد الفكري الذي يسمح -في عصرنا هذا حيث اللقاءات التاريخية بين الفكر المتوحش والفكر العلمي على وشك الاكتمال (علاقات الشعوب المتخلفة بالشعوب المتحضرة)، وحيث العلوم الإنسانية أصبحت قادرة على بلورة نماذج ذات بنيات مهيمنة في الوجود الفعلي- يسمح بالتأمل في معنى الكينونة والحقيقة، وفي وجود المعنى ذاته كما في العلاقات بين الحقيقة والوجود. إن نشأة وبنية الفكر الفلسفي تقودان إلى إشكالية المنطق والوجود.

تصادف هذه الإشكالية القصوى -باعتبارها نتيجة لتاريخ الفكر الفلسفي- إلى جميع الاكتشافات الحديثة للأنتربولوجيا الوجودية والبنيوية، وكذا الأفكار الموضوعة حول بنيات اللغة أو حول التركيبات، والتي تشكل، بعيدا عن الوعي الإنساني، مختلف إيديولوجياته. ويبدو أنه من غير الممكن الاكتفاء بالنشأة التاريخية كما لا يمكن التخلي عنها تماما. فبقدر ما نرتقي في عالم الروح بقدر ما تتوقف الفكرة [ الأيدوس ] عن كونها ماهية لتصير معيارا، ويحل مفهوم الأفق تدريجيا محل مفهوم البنية والماهية. ولا بد من بعد تاريخي لفهم فكرة المعنى والكلية التي بدونها تذوب تحليلات العلوم الوضعية في الكثرة والتجزيء. غير أن هذه الكلية لا يمكن أن تنسب إلى كوجيطو [ أنا أفكر] مجرد، بل هناك وحدة، كما تبين هيغل ذلك، مرددا تعبيرا كانطيا بمعنى جديد، وحدة أولية التركيب، علاقة أولى بين الإنسان والطبيعة التي تغلف الفكر، فإلى تلك الوحدة ينبغي الرجوع. لكن هذه الوحدة الأصلية والتركيبية في آن معا، ليست كيانا مباشرا نكتشفه، كما أنها ليست أبدا تلاعبا منطقيا وجدلية مجردة.

هكذا ينفتح مجال للأبحاث لا يتعارض مع العلوم الإنسانية أو الأنتربولوجيا الوضعية، لكنه يستهدف، بفضل تاريخ الفكر الفلسفي، سير معنى الحقيقة داخل سياق التجربة الإنسانيةn

Jean Hyppolite, Figures de la pensée philosophique, Tome2, Quadrige, PUF, 1991.