رهانات المثاقفة بالمغرب الكبير بعد
الاستقلال
مقاربة أنثروبولوجية - 2 -
محمد أركون
التفكير في الانقطاعات في تاريخ المغرب الكبير
تكمن إحدى الملامح المميزة للفضاء المغاربي في وجود انقطاعات
عميقة، على صعيد الزمان كما على صعيد والمكان، وذلك فوق خلفية من الاتصال
الأنثروبولوجي المدفون أو المغمور كلية تحت طبقات متراكمة، وأحيانا متداخلة،
قوامها تمثلات عن ذات هي موضوع منازعة مستمرة. وهكذا يقدم المغرب الكبير المعاصر
للملاحظ، عند النظرة الأولى، صورة مجتمع مسلم عربي اللغة متجانس تماما. أما
الخلافات السياسية القائمة بين دوله والحساسيات الوطنية التي ازدادت حدة منذ
استقلال أقطاره فهي لا تحول دون وجود شعور مشترك وقوي بالانتماء إلى شعب واحد، إلى
ما يمكن أن ندعوه ، بصيغة المفرد، الشعب المغاربي يقع خارج أو فوق شعوب هذه
الأقطار التي يتشبث كل منها، أكثر فأكثر، بسيادته الوطنية. ذلك، مع أنه من الصحيح
القول إنه لم يكن لهذا الشعب الواحد، طوال تاريخه، سوى نوع من الوجود الكامن،
بالنظر بالضبط إلى الانقطاعات المتعددة التي سأسردها هنا باختصار .
هناك أولا الانقطاع على صعيد اللغة، بين اللغة البربرية التي
يُتَحَدَّث بها في مجموع الفضاء المغاربي وبين اللغات التي كرسها، تباعا، الفاتحون
الرومان والعرب والأتراك والفرنسيين. إن جدل القوى والبقايا قد جرى دائما على حساب
كل من اللغة البربرية والثقافة الشفوية التي تتخذ مطية لها مختلف لهجات هذه اللغة
التي لم ترق قط إلى مستوى اللغة العالمة المكتوبة. وهكذا، فأمام اللاتينية
والعربية الفصحى والفرنسية، صار لزاما على الأهالي الناطقين بالبربرية
"الصعود" إلى المراكز الحضرية حيث مقر السلطة، والمرور عبر تعلم لغة
الحضارة، إذا هم أردوا المساهمة، نوعا ما، في حياة مجتمع ["حضاري"](*)
تطوقه جموع من البربر مقصية ومراقبة ومقموعة في الغالب.
لم يضع انتشار العربية حدا للانقطاع الأساسي ما بين البلد،
كما هو في الواقع، وبين النخب الحضرية التي باستطاعتها وحدها الحصول على اللغة
والثقافة العالمتين. وهكذا فلم تستطع اللغة الفصحى قط حل مشكلة تلك الثنائية
اللغوية المعروفة والتي تحتل فيها إحدى اللغتين مركز السيادة la
diglossie : فبداخل المجال
الخاص باللغة العربية كان هناك، كما هو الشأن في المجال الخاص بالبربرية، نفس
الانقطاع ما بين لغة مكتوبة مشتركة بين النخبة العالمة وبين اللهجات التي يتحدث
بها الفلاحون سكان القرى أو البدو الرحل، هؤلاء وأولئك الذين يمثلون أحد طرفي
الانقطاع الثاني، السوسيولوجي والأنثروبولوجي، في مجموع الفضاء المغاربي.
إننا نعرف كيف أرادت الحكومات الوطنية، حكومات الدولة/الأمة
التي قامت في أقطار المغرب الكبير بعد الاستقلال، أن تضع حدا لانقطاعين اثنين بهدف
توحيد الأمة على غرار النماذج الأوربية: كانت هناك إرادة لتوطين البدو الرحل
وتحديث حياة الفلاحين من خلال تقوية حضور الدولة المركزية الموحدة. وقد تمت ترجمة
تلك الإرادة عن طريق فصل السكان عن جذورهم والقيام بعملية تفتيت سريعة للأعراف
والنظم الثقافية التي حافظت لمجموعات الرحل وللفلاحين، لمدى قرون، على التماسك
الاجتماعي وعلى نوع من الأمن، وإن كان هشا بالتأكيد. وفي هذا المجال، فإن الثورة
الزراعية بالجزائر قد أحدثت من الخسائر أكثر مما حدث في تونس والمغرب اللذين عرفا
كيف يتجنبان مثل تلك الثورة، واستطاعا تجنب خسائرها بالفعل.
أما الانقطاع، في الزمان والمكان، على مستوى الهيأة
الاجتماعية التي تسمى الدولة فهو ثابت آخر، ملازم للانقطاعين السابقين في تاريخ
المغرب الكبير. نعم هناك بالمغرب الأقصى استمرار للدولة منذ الأدارسة إلى أيامنا
هذه؛ لكن كان هناك انقطاع على صعيد الأسر الحاكمة من جهة، وانقطاعات على مستوى
امتداد السلطة المركزية وحضورها الفعلي، بهذه الدرجة أو تلك من القوة، في المجموع
المسمى المغرب الأقصى، من جهة أخرى. وفضلا عن الانقطاع الأكبر ما بين روما
والمدينة الإسلامية، فقد عرفت كل من ليبيا وتونس والجزائر فاصلا عثمانيا طويلا.
ولابد من التنويه هنا بالعمل الذي يقوم به الأستاذ عبد
الجليل التميمي، الذي يتصف بالمثابرة والجرأة الفكرية والوضوح الموضوعي. فقد عرف
كيف يدشن الانطلاقة الأولى لدراسة هذه المرحلة –العثمانية- غير الواضحة من التاريخ
المغاربي، مع أنها محدِّدة وحاسمة في فهم ما راكمته المجتمعات المغاربية من تأخر
في محيط أوربي دشن انطلاقته ابتداء من القرن السادس عشر. هناك كثير مما يجب فعله
في هذا الاتجاه؛ فقليلون هم المغاربيون الذين يدرسون اللغة التركية للوقوف على
الوثائق العثمانية، مثلما أن قليلا منهم يعرفون اللاتينية والإغريقية والعبرية،
وبالتالي قليلون هم الذين يستطيعون المساهمة في الأبحاث التاريخية والأنثروبولوجية
الخاصة بالفضاء الجغرافي–الثقافي المتوسطي، انطلاقا من المغرب الكبير.
لقد عانت الجزائر من انقطاعات الدولة أكثر كثيرا مما عانته
جارتاها. لقد شكلت كل من تلمسان وعنابة وتاهرت ومدينة الجزائر، مراكز لسلطة هشة
بقيت تتعرض لنزاعات "عصبية" بين جماعات جهوية لم تندمج أبدا، من جهة،
ولهجمات القوى المتنافسة المتطاحنة القائمة في المغرب أو بتونس من جهة أخرى .
وغداة الاستقلال كانت الدولة في المغرب هي وحدها التي توافر لها عمق من
الاستمرارية التاريخية للدولة يمتد إلى سنة 808، وقد استمدت منه شرعية ومرجعيات لا
غبار عليها. أما تونس والجزائر فقد اضطرتا إلى الارتكاز أكثر على تضحية المكافحين
في فترة النضال من أجل الاستقلال: وتلك مدة زمنية قصيرة ومرجعية رمزية محدودة جدا
تم تتميمها وتعويض النقص فيها، إما بتوظيف الطابع الكاريزمي، الجذاب فعلا، لشخصية
المجاهد الأكبر [ حالة تونس ]، وإما باللجوء إلى التأثير الواسع في المخايل بواسطة
الخطاب الاشتراكي الثوري [حالة الجزائر].
أما الانقطاعات الراجعة إلى الغزو الفرنسي وإلى مرحلته
الأخيرة التي سادها العنف فتستحق الإدلاء بملاحظات لم يتم بعد التعبير عنها لا من
الجهة الفرنسية، و لا من الجهة المغاربية. لا جدال في أن الاستعمار صفحة سوداء
ومغامرة مشينة؛ ولكن الناس في فرنسا/حقوق الإنسان يفضلون عدم الخوض فيها كثيرا.
وهذا الموقف يزكي الشرعية التي تعطيها الشعوب المستعمَرة للخطاب الذي تندب فيه
حظها لكونها سقطت ضحية الاستعمار، مما يجعلها بالتالي ترى نفسها في حل من طرح تلك
المسألة التي طرحها مالك بن نبي: مسألة القابلية للاستعمار لدى شعوب بقيت معزولة
تماما عن الحداثة بوصفها تحولا كيفيا لوضع الفكر البشري، قياسا مع المواقف
المعرفية التي كانت سائدة قبلها والتي تحكمت فيها أسوار من المعتقدات خاصة، لا
يخلو منها دين في العالم.
أنا لا أقول إن الخطوات الهائلة التي أنجزتها الثورات
العلمية بأوربا تبرر أخلاقيا وسياسيا السيطرة الاستعمارية. إن هذا تبرير غير مقبول
بالمرة، خصوصا وقد استعمل المستعمرون الوجه العنيف في الحداثة لضمان سيطرتهم، بدلا
من العمل، بين ثقافات متنوعة مغايرة، على اختبار الطابع الكلي للوجه الإنساني
فيها. ومع ذلك فإن هذا لا يعفي الشعوب المستعمَرة من استخلاص الدروس من الهوة
العميقة والتاريخية التي حفرتها الحداثة العلمية والفكرية لتنفصل بها، وبصورة لا
رجعة فيها، عن التقاليد الثقافية والصيغ الفكرية التي شيدتها الشعوب لنفسها التي
سقطت في الاستعمار. لقد مر على استقلال أقطار المغرب العربي ما بين أربعين وخمسين
سنة، ومع ذلك فإن المرء لا يتبين بوضوح أي تقدم حقيقي حاسم في النقاش الجاري حول
علاقة الثقافات التقليدية بالحداثة: الحداثة مفهومة ومعاشة بوصفها تحولا في
الإدراك يمس وضع الفكر البشري إزاء العالم الطبيعي، وعالم الحياة، وإزاء الهيئات
المنتجة للقيم والمعنى، وإزاء الغايات من الوجود الإنساني. أنا استعمل هنا هذا
التعريف للحداثة كي أرفع إلى مستوى الإدراك المعرفي والإيبستيمولوجيا التاريخية
ذلك النقاش العقيم الذي يدور حول كون الفكر الإسلامي لا يقبل [ولا يحتاج إلى]
أدوات التفكير وأطر التحليل، المنهجية والإيبستيمولوجية، التي صاغها لنفسه ذلك
الذي نطلق عليه هذا الاسم الغامض: "الغرب".
هناك في المغرب الكبير، كما في جميع المجتمعات التي تفشت
فيها الظاهرة الإسلاموية منذ زمان، بما في ذلك جماعات المهاجرين في أوربا وأمريكا،
موقفان بخصوص مواجهة تحديات الحداثة:
- موقف أصولي في جوهره يمثله بالخصوص المنادون بإضفاء الطابع
الإسلامي على جميع المعارف وعلى الديموقراطية وحقوق الإنسان وعلى الاقتصاد وشكل
الدولة وغير ذلك من منتجات الحداثة.
- وموقف أقل انتشارا ولكنه أكثر خصوبة من الناحية الفكرية
لكونه يحيل إلى القضايا القديمة التي أثارها التوتر بين عقل ديني وعقل فلسفي ملازم
الثورات العلمية. وتلك مسألة جرى حولها، طوال العصر الوسيط، جدل بين اللاهوتيين [
المتكلمين ] والفلاسفة، وما تزال مفتوحة لجدل أوسع مدى، كما يتبين ذلك من النقاش
المشار إليه سابقا والذي جرى بين ب. ركور وج. ب. شانجو، وأيضا من إعادة قراءة
الإنجيل التي قام بها كل من ب. ريكور نفسه وأندري لاكوك والتي صدرت في كتاب بعنوان
التفكير في التوراة. دار النشر سوي 1998.
يعبر الموقف الأول عن نفسه من خلال خطاب شفوي ومكتوب من
الصعب ترتيبه ضمن تصنيف صارم للخطابات الإسلامية المعاصرة. هو خطاب تختلط فيه
مرامي وأهداف متناقضة عديدة، ومستويات من الثقافة متنوعة، وأشكال متعددة من
التفسيرات والتعاليم من كل نوع، مأخوذة منكل حدب وصوب: هناك من جهة الخطاب الذي
يعتمد الغموض والتشويش والسائد في مجال الخطابة السياسية-الدينية والذي يقدٍّم،
كحقائق "موحى" بها في مجال الفعل التاريخي، خليطا من المعتقدات غير
ممحصة، ونصوصا مؤسِّسة تؤول تأويلا متعسفا، وأنواعا من القدح السياسي تجند بسهولة
المخيال الاجتماعي للجماهير. وهناك من جهة ثانية البحث العلمي الذي لا غبار عليه
كبحث، ولكنه غير نقدي يُوَظَّفُ، مع منظومة عقائدية مختزلة، من طرف
"العلماء" حراس النزعة الرسمية (الأرثوذوكسية) بهدف الحفاظ للجماهير
المؤمنة بالصلاحية الأخلاقية للشريعة، في سياق تزعزعه القوى العاملة على علمنة
الحياة: نشر النظرة الدنيوية. وهناك ثالثا الخطاب التبريري المتمدِّح الذي يمارسه
كل من المهندس والطبيب وعالم الحياة والفلكي وأستاذ الفيزياء الذرية وصاحب
الإعلاميات، هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم، دونما إعداد ولا استعداد، مفسرين للنصوص
الدينية ومؤرخين للديانات وعلماء دين متكلمين، مبتغين إثبات صحة المصدر الإلهي
للقرآن انطلاقا مما يعبر عنه بالمكتشفات العلمية الحديثة للعلم الغربي. كل ذلك
يلتقي ويترافد في مدونة غير منسجمة ولا منظمة، يتغذى منها مخيال
اجتماعي-سياسي-علمي-ديني معقد، كتعقيد هذه المجموعة من النعوت التي تربط بينها هذه
العلامات الاعتراضية. وباعتماد هذه المدونة يعتقد أنصار الأسلمة أنهم يستطيعون
الاستغناء عن استعمال الأدوات الذهنية وأطر التحليل المنهجية والإبستيمولوجية،
التي يعتبرونها نتاجا مرهونا بظروف تاريخية خاصة بمحاولات "الغرب"
اكتناه حقيقة الأشياء والعالم والتاريخ. أما الفكر الإسلامي قد شيد –في نظرهم-
أدوات البحث وأطر التحليل الخاصة به، في إطار من الاحترام التام للحقيقة التي
أقرها الله في القرآن، والتي بينها النبي بأقواله وأفعاله. وهذا الوضع
الإيبستيمولجي الأصولي في جوهره – بالمعنى الذي يتحدد بها لفظ الأصول، من خلال
مجهود فكري يعرف بالاجتهاد، تحديدا صارما إلى الدرجة التي تكبح كل حركة للفكر تريد
التأكد من مصداقية أحكامه- هو وضعٌ يعيشه كثير من المثقفين الذين يستسلمون مع ذلك
للطرق المنهجية وللطروح الإشكالية الخاصة بالعلوم الاجتماعية التي تعرفوا عليها في
الجامعات. وهكذا تتزايد وتتكاثر عمليات إلقاء رداء الإسلام على ما أفرزته الحداثة
من مكتسبات لا يمكن القفز عليها، دون أن يِؤدي هذا النوع من الخلط، بمن يقومون به
على مذبح عدم احترام التسلسل التاريخي، إلى شعور بتناقض ما، هذا في حين يحترمون،
بالمقابل، قواعد المعرفة العلمية عندما لا تمس مضامين الاعتقاد التي يقررها المذهب
"الرسمي".
أما الموقف الثاني فيمثله، في المغربي العربي خاصة، المؤرخ
التونسي محمد الطالبي. هو موقف يميز بإلحاح بين المسلمين المؤمنين الذين يقومون
بالفروض والشعائر، وبين الذي هم مسلمون بالانتماء الثقافي، والذين يشاركون في نمط
من الحياة تغمره القيم الإسلامية، ولكن دون الذهاب إلى حد إخضاغ فكرهم وسلوكهم
لمقتضيات الشرع. أما هو –الطالبي- فيدافع عن إسلام يسمح بأن يكون موضوع مساءلة
وإغناء من طرف أنماط أخرى من الفكر ومن المعتقدات والمعارف. إنه يقيم الدليل من
خلال نمط حياته ومن خلال كتاباته ودروسه بأن قيام نزعة إنسانية تستلهم الإسلام شيء
ممكن. ولكنه لا يذهب إلى حد وضع هذا النمط من الإيمان في موضع إشكالي بالتساؤل حول
شروط إمكانية تأسيسه على القرآن والحديث والسيرة النبوية وسيرة الخلفاء، وباختصار
على جميع مدونات الإيمان "الرسمي" كما تركتها لنا الصياغات الأدبية
والمذهبية التي قام بها العلماء المعتمدين، خلال القرون الأربعة أو الخمسة الأولى
من تاريخ الإسلام. هو لا يشعر بضرورة إعادة تأسيس الفكر الأصولي الذي جرى تطبيقه
لمدة طويلة في العلوم الإسلامية المحض، مثل أصول الدين وأصول الفقه. هذه العلوم
التي تبين لنا بحق مدى وعي مفكرينا في القرون الوسطى بالضرورة الثقافية التي تفرض
إرساء الإيمان في الشرع على أصول محددة بشكل صارم وحسب متطلبات الإدراك المعرفي
وإيبستيمولوجيا زمانهم. وهذا عمل يتطلب أكثر كثيرا من مجرد تحديث الفهم العقدي في
الإسلام، ذلك الفهم الذي لم يتجاوز قط المستويات التي تركتها عليه المناقشات الواسعة
التي جرت بين المعتزلة والماتريدية والأشعرية.
والأستاذ الطالبي يعرف جيدا مدى ما حصل في هذا المجال من
تأخر وتقهقر وثغرات وأشكال من النسيان والنقص والقصور، لم يحدث قط أن تصدى
لمعالجتها من داخل الشرع أي مفكر إسلامي -بالمعنى الذي يعطيه هو نفسه
لـ"المفكر الإسلامي"- كما حصل بالنسبة للتراث اليهودي والمسيحي بفعل
الحداثة بوصفها تحولا إدراكيا معرفيا يمس جميع أوضاع الفكر إزاء مشاكل المعرفة
وتوصيل المعلومات. إنها المعالجة التي تزحزح وتتجاوز جميع الإشكاليات وجميع أساليب
الحجاج وجميع أنواع التفسير التي أصبحت بالية بعد جميع الثورات العلمية التي
عشناها منذ الخمسينات من هذا القرن والتي نستعد لنعيشها في مراحل أكثر دينامية
تتميز بها العولمة. إنه عمل يجب القيام به، اللهم إلا كنا نريد ترك الإسلام تحت
طائلة مفعول الآليات المجتمعية غير المراقبة ولقوى التاريخ التي لا ترحم. غير أن
هذا لا يعني أنه يجب انتظار إنجاز هذا العمل قبل ممارسة الاتجاه الإنساني الحكيم
والخصب الذي يدعو إليه الأستاذ الطالبي وغيره ممن هم أقل شهرة، والذين تسكنهم
وتوجههم نفس الحكمة.
ومع تفضيلي لهذا الاتجاه الإنساني على الاتجاهات الترقيعية
التلفيقية والتدخلات الفظة التي يتميز بها الموقف الأول، فلا أملك، مع ذلك، إلا أن
أكرر القول: إن الفكر المغاربي لن يرقى إلى كمال وجوده ولن يحتل مكانته ضمن
الاتجاهات الفكرية الدافعة إلى التحرر والانعتاق إلا عندما يجتاز بنجاح طريقا لم
يسبق له لحد الآن أن عرف ولا استطاع الانخراط فيها بمثابرة: أقصد بذلك العمل على
تخليص نفسه من حصار الأسوار الوثوقية الدغمائية الثلاثة التي انحبس فيها تباعا، أو
في آن واحد، وبالتالي "الخروج" منها: أسوار الجهة [ القبيلة] والدين
والوطنية.
"الخروج" من سور الجمود على التقليد في الدين
لكي ندرك جيدا الأهمية التاريخية والأنثروبولوجية التي
يكتسيها هذا المفهوم [ الذي يمكن ترجمته حرفيا بـ"الخروج من الدين" ]
والذي سبق أن استعمله السيد غوشي للدفاع عن وجهة النظر القائلة إن المسيحية وحدها
هي التي تطورت كدينِ الخروجِ من الدين (راجع كتابه ديزونشانتمون دي موند : نزع
الصبغة السحرية عن العالم)، يجب أن نطرح على مستوى ذي أفق تاريخي الأفكار التالية
التي تتناول ما يشكل اللامفكر فيه حاليا في الفكر المغاربي بخصوص الشأن الديني.
كان لوثر والإصلاح الديني الذي قام به بمثابة الزعزعة الأولى
للضمير الديني في العصر الحديث بأوربا، وذلك داخل المسيحية الكاثوليكية اللاتينية.
ومنذ ذلك الوقت توالت الهزات والرجات على هذا الضمير خلال لحظات تاريخية نذكر
منها: لحظة عصر النهضة الذي اقترن بالعودة إلى الثقافة الإغريقية-اللاتينية،
المرسوم الخاص بمدينة نانت -[ الذي اعترف الملك هنري الرابع بموجبه للبروتستانت
بهذه المدينة سنة 1598 بحرية ممارسة الدين حسب مذهبهم ]، الثورتان الفرنسية
والإنجليزية، عصر الأنوار بفرنسا، عصر الأنوار بألمانيا Aufklärun، تطبيق المنهج التاريخي-الفيلولوجي على النصوص المقدسة، أزمة
التحديث الديني في القرن التاسع عشر [قارن "كل محدثة ضلالة" ]، الفصل
بين الكنسية والدولة (القانون الصادر سنة 1905 بفرنسا)، المغامرة الاستعمارية،
الفظائع التي عرفها العبور العشرون 20e traversées وأنواع الشطط التي ارتكبتها الكنائس، الانتصار الراهن الذي حققته
الليبرالية والعقل العلمي في مجال الاتصال والتقنولوجيا. لقد تم الإعلان، بلهجة
المنتصر، عن موت"الإله" [ وإحلال الإنسان مكانه ]، ثم تلا ذلك المناداة
بموت الإنسان والنزعة الإنسانية. ولمواجهة دعاوى الثورة المسماة إسلامية، التي
قامت في إيران عام 1979، استنجد الغرب بنضالية عصر الأنوار للحيلولة دون عودة
"ظلمات القرون الوسطى" والتعصب البربري. وهكذا لجأ إلى تمجيد فضائل
"الجمهورية" داعيا العالم كله إلى التحول إلى الديموقراطية اللائكية
واحترام حقوق الإنسان. ومع ذلك فإن إسلاما سياسيا فرض حضوره ومثوله أمام الأبصار،
أكثر فأكثر، في أوربا نفسها. وكان الرد عليه باحترام الدساتير التي تنص على حرية
العبادة وترك المراقبة السياسية لوزير الداخلية (في فرنسا على الأقل).
عندما نشر وليم جيمس كتابه تنوع التجربة الدينية The varieties of Religious Experience سنة 1902 (ترجم إلى الفرنسية عام 1906) أثار نقاشا واسع جدا في مناخ
كانت تسود فيه إمبريالية المنهج التجريبي: لقد تم رفض إعطاء أية قيمة
"موضوعية" للتجربة الدينية حتى عندما تقدم كمجرد خبرة حسية. وتشعب
النقاش واتسع حول العلم والدين، ولكنه بقي سجين ثنائية فظة تقيم تعارضا بين
الاتجاهات العلموية والوضعية والتاريخانية والفيلولوجية [= التحليل القائم على فقه
اللغة] من جهة، وبين النزعات الإيمانية والروحية والإطلاقية واللاهوتية ونزعة
التعالي من جهة ثانية. وتخشب التباين بين الكاثوليك والبروتستانت ليتحول إلى
أصولية وتطرف ديني، غذتهما مقتضيات الصراع مع النزعة التحديثية في الدين.
لقد كان لا بد من انتظار الخمسينات والستينات لكي تولي
العلوم الاجتماعية اهتمامها بالديانات وتقوم بإثراء تاريخ خاص بالأديان يعرض
الوقائع دون تأويل، مقتصرا على الاستعراض الخطي الوصفي الوضعي. إن الدراسات
اللاهوتية ما زالت تتعامل بحذر وتوجس مع المناهج التحليلية الإرجاعية التي تعتمدها
العلوم الاجتماعية. صحيح أن ثقافة اللااعتقاد تختزل السلوك والاعتقادات والخطابات
الدينية إلى رفات لا قيمة له في مجموع المجتمعات الغربية (قارن: ستيفان كارتر:
ثقافة اللااعتقاد؛ كيف يعمل القانون والسياسة على إفقار التقوى الدينية. (cf.
Stephen Carter : The culture of disbelief ; How American Law and politics
trivialise religious
devotion,
N.Y.
1993). غير أنه في المجال الذي
كانت تسيره الشيوعية، خلال السبعينات، تحولت الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية
إلى مراكز لمقاومة الشيوعية الملحدة فحصلت هكذا، بواسطة النضال السياسي، وليس
بواسطة لاهوت محرر للفكر، على قدر من الشرعية.
يشير الرواج الذي عرفته المكتبات مؤخرا إلى نوع الطلب الذي
يحظى به اليوم، من طرف الجمهور الأوربي، ما أصبح يدعى بالحكمة، تجنبا للدلالة
"السلبية" التي تلصقها بالدين ثقافة اللااعتقاد. وهكذا فكتاب الوعظ
الجديد، الموجز في الفضائل الكبرى للسيد أندري كومت سبونفيل، والصادر عن
المنشورات الجامعية الفرنسية 1995 - Le Nouveau
catéchisme, le Petit traité des grandes
vertus d’André
Comte-Sponville
- وكتاب الإنسان-الإله أو مغزىحياة لوك فيري, P.U.F. 1995 ، دار نشر غراسي 1992 - L’homme-Dieu ou le sens de la vie de Luc Ferry, Grasset 1992 - والكتاب الصادر مؤخرا بعنوان حكمة المحدثين -La
sagesse des modernes
- الذي وقعه هذا المؤلفان المحظوظان، إن هذه الكتب قد بيعت بمئات الآلاف من النسخ.
يصرح لوك وأندري –هكذا تجمع وسائل الإعلام بين اسميهما- أحدهما بالإلحاد مع التمسك
بالمتعالي أما الآخر فينتسب إلى اللا-أدرية والمادية. لقد نجحا في الإبقاء على
حضورهما في وسائل الإعلام إذ يرتبط بهما جمهور متنوع منذ عشر سنوات. بعبارة أخرى
يقاوم هذان المؤلفان القانون الذي يحكم اليوم الفكر التافه la
pensée jetable.
[ الفكر الذي يرمى به على الأرض بعد استهلاكه كما يرمى بعلب المأكولات ]، فيقدمان
أفكارا فلسفية سائغة، حول موضوعات ذات حضور قوي في الساحة الأخلاقية والسياسية
الراهنة، كما يتناولان الشأن الديني ويحرصان في الوقت نفسه على الحفاظ على
الطمأنينة الفكرية للجمهور الواسع العلماني أو المغزو من طرف الإلحاد
"الحديث". هذا علاوة على أنهما يعرفان كيف ينتزعان، في الوقت نفسه،
إعجاب المؤمنين من خلال تناول لبق لمسائل الإيمان، والروحية، والأخلاق، والمواطنة
المسؤولة، وقضايا البيئة، والاقتصاد. يقدمان ذلك في إطار نزعة شكية مكيفة مع
"الأنوار" الجديدة التي يقدمان نفسيهما كرائدين لها، مع التنديد اللازم
بمنكرات القرن العشرين الذي يشرف على نهايته.
لا جدال في أننا هنا أمام فكر انتقائي موجه إلى الطبقات
الوسطى التي توصف بأنها مثقفة والمهتمة بالحصول على الأدوات الذهنية الضرورية
للتنظير لشروط حياتها، في عالم يدبره الفكر التافه وثقافة الاستهلاك السريع. يقوم
هذان العرَّابان بتقسيمات وتحقيبات وتقطيعات بنيوية لـنوع من "معنى
الحياة"، يريد أن يكون من الناحية الفلسفية مقبولا ومن الناحية العلمية
مضمونا، وحاملا لنزعة إنسانية مناسبة لعصرنا. وبوصفهما فيلسوفين فهما لا يجهلان
الثمن الذي يجب أداؤه على صعيد الفكر النقدي بسبب اللجوء إلى التقسيمات والتوصيفات
والتحديدات والتموضعات التعسفية؛ ولكنهما، بفعلهما ذاك، إنما يخضعان لأحكام قوانين
البيع والشراء التي تفرض نفسها بقوة على ساحة واسعة حرة خاصة بتسويق الأفكار.
هناك موقف آخر يمكن الإشارة إليه هنا، يختلف تماما. يتعلق
الأمر بأعمال بيير جيزيل، أحد رجال اللاهوت من مدينة لوزان. لم يسبق لي أن شاهدت
هذا الرجل لا على شاشة التلفزيون ولا على الصفحات الأولى من مجلة باري ماتش [ التي
تتعمد الإثارة والواسعة الانتشار ] ولا على صفحات مجلة نوفيل أفسيرفاتور [ الأقرب
إلى الرزانة ]. ولذلك فإذا نحن أردنا تعميق النظر، لاهوتيا وفلسفيا، بصورة تمكن من
الاستفادة التامة من منجزات العلوم الاجتماعية في مجال الظاهرة الدينية، فسيكون
علينا أن نقرأ ما كتبه هذا الرجل، وهناك آخرون غيره كثيرون من حسن الحظ.
ولكن، ماذا عن التطورات التي عرفتها الساحة الإسلامية
والمناقشات التي تثيرها، خصوصا في المغرب الكبير؟
يبدو أن السور الوثوقي الدغمائي المنتسب إلى الإسلام هو أكثر
الحواجز مقاومة لقوى التغيير التي تفعل فعلها في جميع المجتمعات الحديثة. وغالبا
ما تفسر هذه المقاومة، ليس فقط بوصفها برهانا تاريخيا على صلاحية التعاليم
الإسلامية صلاحية أبدية وملائمة للعالم أجمع ، بل أيضا بوصفها علامة أو آية على
مصدرها الإلهي. ومن الأمور التي تفرض نفسها على الملاحظ أن النظم التي يطبعها غياب
المساواة الاجتماعية، التي استفحلت في الثلاثين سنة الأخيرة في المجتمعات التي
تنتسب إلى الإسلام بفعل عوامل ديموغرافية وسياسية واقتصادية، تجعل عددا كبيرا من
الآيات القرآنية ذات دلالة في هذا الصدد، على المستويات السيكولوجية والاجتماعية
والسياسية، دلالات خاصة تفي بالغرض وتتكرر باستمرار. وهكذا يحدث اليوم ما يشبه ما
حدث في مكة والمدينة في أوائل الدعوة المحمدية. فالآيات القرآنية تنعش الأمل في
عدالة شاملة لا تنتكس، كما تقوي ثقة المؤمن في الوسائل التي منحها الله له من أجل
التقليص من الحدود التي تجعل منه كائنا جاهلا يمارس العنف، ضعيفا وفانيا. إنه يؤمن
بالبعث وبالتالي يعرف أنه سينتصر على الموت الذي ينزل بالأرض وما عليها، ليلتحق
بالرفيق الأعلى، إذا هو قام في هذه الحياة الدنيا بالوفاء بجميع ما في الميثاق
الأبدي الذي يربطه بالله. وإذا كان من الصعب التأكد من حقيقة الوقع الذي للقرآن في
نفس كل فرد وفي المخيال الجماعي بسبب اختلاف السياقات الثقافية والسياسية التي سبق
لنا أن أبرزنا ما يكتنفها من ضعف وعدم اتساق على مستوى الدلالة، فإن هناك معطى آخر
قويا يشرح كيف أن الخطاب القرآني يملأ فراغا هائلا في المجتمعات التي طبعت بطابعه
منذ قرون: وهكذا فمنذ أن خابت الآمال الكبرى، التي ملأ بها النفوس خطاب الحركات
الوطنية من أجل الاستقلال ومن بعده خطاب بناء الوطن، لم يتمكن أي خطاب سياسي من أن
يمد الشعوب، المنتظرة المتلهفة، برموز جديدة ترسم السبل وتحدد القيم وتبين الوسائل
التي ستسمح بتجاوز حقيقي ودائم لوضعيات زائلة بطبيعتها، ولكن كرستها وأطالت من
عمرها إيديولوجيات منهكة. لا شيء غير الدعاء بالويل والثبور على الغرب والصهيونية
والإمبرياليات المتعاقبة والشياطين الكبار والصغار، هؤلاء جميعا الذي يتآمرون من
أجل إلحاق الهزيمة بمعارك التحرير الكبرى التي يقودها مرشدون لا يقهرون، يحتكرون
السلطة مدى الحياة. وبطبيعة الحال لا بد من الأخذ بعين الاعتبار الفروق
والاختلافات التي غض الطرف عنها هنا عمدا، في هذا التعارض الذي قصدنا تشخيصه
والإلحاح عليه من أجل أن نبين كم هو مناسب تماما اللجوء إلى الخطاب القرآني
والحديث النبوي كلما اكتشف الفاعلون الاجتماعيون فراغ الخطابات السياسية التي لا
تستند، لا إلى مشروعيات ديموقراطية تفرض احترامها، ولا إلى ثقافة سياسة ذات مفعول
تربوي طويل المدى في نفوس جميع المواطنين.
ليس المغرب الكبير بمنآى عن هذه التطورات! ولكنه يستطيع أن
يغرف، في تاريخه الخاص، من مصادر ثقافية وفكرية وروحية قد تمكنه من بناء مشروعيات
جديدة سيعمل مداها بدون شك على التأثير في العالم الإسلامي بأجمعه، بل وقد تساعد
على جعل النقاش الجاري فيه يصب في المناقشات الجارية في أوربا وأمريكا. بذلك سندخل
في مرحلة منتجة، مرحلة المثاقفة التي تشكل القاعدة الضرورية للشراكة في الإبداع
التي ستفعل فعلها بوصفها أحد محاور العولمة.
لقد سبق أن ذكرت بالاسم القديس أغوسطين [ انظر العدد الماضي
] الذي فكر وعلم وكتب ونشط في هذه الناحية من المغرب الكبير المشرئبة إلى روما،
والتي سماها العرب-البربر المسلمون إفريقية. وأقول إن اللجوء إلى محو هذه
الشخصية المرموقة من فكر عاش قرونا عرف فيها أنواعا من التغيير والتجديد والثورة
دون أن يفقد شيئا من حيويته التربوية ولا من قوته على المساءلة ولا من أفكاره
الثاقبة اللاهوتية والفلسفية والسياسية والأخلاقية والسيكولوجية من جهة، كما أن
الإعراض عن هذا الشاهد الفذ على خصوبة الفكر البشري والذي ظهر ومارس مهنته
الكهنوتية وسط جمهور من البربر، بذريعة أنه عبر عن فكره باللغة اللاتينية وخاطب
مسيحيين وفي خدمة روما الاستعمارية من جهة أخرى، أقول إن هذا وذاك يعنيان ببساطة
التوقيع على صك الاعتراف بالعقوق الفكري والروحي لشعب يقدَّم وكأنه ارتضي بأجمعه
تبني هذا المنظور الظلامي كوسيلة لتحديد هويته وقدره التاريخي.
ونحن هنا لم نخص القديس أغوسطين بالذكر إلا لكونه يحتل موقع
الريادة ليسجل ثراء ثقافة وفكر لاتيني-مسيحي شيدهما البربر الأفارقة واغترفوا
منهما خلال عدة قرون، على الرغم أن جماعات أخرى من البربر قد قاومت الاحتلال
الرومامي، كما بين ذلك السيد مارسيل بنعبو في رسالة ساهمت في إثراء الإشكالية التي
يطرحها العهد الروماني من تاريخ المغرب الكبير. ونفس المقاومة واجهت الفاتحين
العرب والمسلمين دون أن يحول ذلك بين الحضر من البربر وبين مساهمتهم مساهمة
متنامية في الثقافة والفكر العربيين. لقد كان التونسيون أقل خصومة من الجزائريين
لماضيهم اللاتيني. أما في المغرب الأقصى فالآثار التي ترجع إلى العصر الروماني فيه
أقل أهمية من تلك التي في "إفريقية" [تونس وشرق الجزائر]، كما أن
استمرارية الدولة الإسلامية المالكية فيه تفسر النسيان الميمون –ربما- والذي تعرض
له تراث كان يمكن أن يجعل النجاح يحالف، بكل تأكيد، ترشيح المغرب إلى الوحدة
الأوربية بسهولة. ويمكن أن نسجل أيضا أن اهتمام التونسيين بالبحث الأركيولوجي لم
يذهب إلى حد إدراج نصوص نموذجية من الأدب اللاتيني، بإفريقيا، في برامج المدارس
الثانوية. والحق أن مختارات متوازنة، مشروحة شرحا جيدا من قبل أساتذة مقتدرين،
تجمع بين مفكرين من إفريقيا الشمالية، لاتينيين مسيحيين وعربا مسلمين ويهودا، يمكن
أن تفتح للشباب المغاربي آفاقا لم تكن لتخطر ببالهم حول مدى الغنى الذي يتوافر
لتراثهم الفكري والروحي. إن البعد المتوسطي للمغرب الكبير سيصبح، إذا ما تم تحيينه
في اتجاه جغرافي-سياسي يحظى بتشجيع الاتحاد الأوربي، نقطة ارتكاز، أكثر شخوصا
وأكثر امتلاء بتاريخ جديد، لمجموع العالم العربي وأوربا. إن التشجيع الذي خص به
الفاتيكان (المجمع الثاني) الحوار بين الأديان والذي تبنته منظمة اليونسكو قد وجد
أخيرا في المغرب الكبير فاعلين أكثر استعدادا وأكثر تحمسا للمساهمة في توسيع آفاق
التفاهم وتشييد السلام في منطقة عانت طويلا من التمزق والانقسام بفعل الحروب الدينية.
أستطيع أن أجزم، انطلاقا من معاشرتي الطويلة لكتاب الاعترافات للقديس
أغوسطين ولمؤلفات مفكرين مسلمين ويهود من العصر الوسيط أمثال أبي حيان التوحيدي
والغزالي وابن خلدون وابن حزم وابن ميمون الخ، بأن مقابلة تأريخية تفكيكية، تقارن
بين هؤلاء الشهود الكبار على مسيرة الفكر البشري للبحث عن المعنى، لابد وأن تعطي
للفكر المغاربي نقط ارتكاز لا مثيل لها لتدشين تاريخ آخر.
ولابد أن أعترف، وأنا أكتب هذه الفقرة، أنني أشعر أني مهدد
بـ "عقوبة الطرد الكبرى"، ليس فقط من جانب جميع المسلمين الذي يريدون جب
جميع أنواع الماضي السابقة على الإسلام، لأنه ماض وثني حتما أو لأنه من الناحية
اللاهوتية يقع خارج سبيل الهدى (انظر الخصومات التي نشبت في مصر بخصوص الفرعونية)،
بل أيضا من جانب الوطنيين الأقحاح، والمتشددين منهم، الذين يرفضون أية إشارة إلى
البربر. إن مثل هذا العداء قد منع دائما، أو أعاق، النقاش حول الأدب المغاربي
المكتوب بالفرنسية. هناك عدد من المواهب لشعراء وكتاب، ولباحثين أيضا، قد تعرضت
للإجهاض لأنها مواهب مارست على نفسها رقابة ذاتية قاسية إزاء التعامل مع البربرية
أو الفرنسية. فعندما نشر مولود المعمري روايته الأولى التل المنسي oubliée
La colline
تعرض لهجوم عنيف من طرف المثقفين الوطنيين [بالجزائر ] لكونه اختار لغة وطريقة
أدبية في التعبير قيل عنها إنها لا يمكن أن تستقطب إلا اهتمام الجمهور الفرنسي
المرتبط بالاستعمار. هذا في حين أن هذا النقاش كان يدور هو نفسه بالفرنسية. أما جان
عمروش فقد حاول أن يفسر لماذا لم يكن يستطيع الضحك والبكاء إلا في اللهجة
القبائلية البربرية، بينما كان يجد نفسه مضطرا إلى استعمال الفرنسية إذا هو أراد
ممارسة التفكير، أو الاستفادة من المعارف الحديثة. إن هذه الأنواع من التوترات
وسوء التفاهم والجدل السجالي قد انعكس أثرها السيئ بقوة بعد الاستقلال. من أجل ذلك
يوجد دائما –في المغرب الكبير- كتاب يبحثون عن الجمهور وجمهور يبحثون عن الكتاب!
وهذه المحاولة تدخل في هذا الإطار: هناك قطاعات عديدة من الجمهور الواعد توجد
متناثرة هنا وهناك، معزولة الواحدة عن الأخرى بتأثير سياقات مختلفة جدا وارتباطات
تاريخية يناقض بعضها بعضا، في ظل وضع يتميز بالانشطار على المستويات الثقافية
والطائفية والإيديولوجية. وكثيرون هم الكتاب المجددون، المتميزون بثراء عطائهم ،
الذين يجدون أنفسهم محرومين من جمهور يقوم بالتبليغ، أعني كوادر اجتماعية للمعرفة،
هم من الكثرة والحماس والانسجام بحيث يستطيعون تعديل شروط التواصل التثاقفي
والفكري.
يتجلى بوضوح مما تقدم أن المغرب الكبير تنقصه السياسة،
وينقصه الفكر بدرجة أكبر: أقصد السياسة و الفكر الصادرين عن جغرافيته وتاريخه
وانثربولوجيته الاجتماعية والثقافية. ففي جميع هذه المجالات التي تحدد الأساس الذي
تقوم عليه الشخصية لم يتمكن المغرب العربي والإسلامي بعد من تعويض ستراتيجية الرفض
والإقصاء، التي أرستها المذاهب الدينية والكتابات التاريخية التقليدية والتي
خلَفَتها، في ممارسة نفس المهمة بقوة أكبر، الإيدولوجيات الوطنية، إيديولوجيات
العراك. لم يستطع المغرب العربي الإسلامي تجاوز هذه الستراتيجية إلى ستراتيجية
أخرى تعمل من أجل الإدماج الفكري والثقافي لجميع مظاهر الغنى في جغرافيته وتاريخه
وانثروبولوجيته. وفي إطار استراتيجية كهذه، فإن النواة الصلبة، العربية الإسلامية،
لن تتضرر قط من مثل هذا التحول بل بالعكس ستوظف هذه النواة في دينامية جديدة للفكر
النقدي والخلاق، الذي سيكون قد تخلص من الشوائب التي ألحقها به كل من الجمود على
التقليد خلال القرون الوسطى ومن التوظيف الإيديولوجي، الذي يجثم بكاهله على الفكر
والمنطق، والذي مارسه المناضلون الساعون وحدهم إلى استلام الحكم.
لقد سبق أن بينت في مقال بعنوان أشكال حضور الفكر العربي
في الغرب الإسلامي، المشار إليه آنفا، كيف عمل الفقهاء المالكيون بسرعة فائقة
على الاستحواذ على الوسائل والأوضاع القانونية والوظائف التي مكنتهم من مراقبة
مختلف أنواع التعبير العقدي الإسلامي في الأندلس والمغرب. إن تعدد الآراء والمذاهب
والاحتكاك التربوي بين مدارس متنوعة، الذين يرجع إليهما ذلك الغنى الذي عرفه الفكر
الإسلامي بالمشرق، لم تكن لهما سوى أصداء خافتة ومؤقتة في الغرب الإسلامي، وفي
المغرب الكبير خاصة. فابتداء من القرن الثالث عشر، وبالتدريج، تولى إسلام الزوايا،
الذي كثيرا ما يخلط بينه وبين إسلام التصوف، مهمة الإشراف على الديانة الشعبية
التي تمت ممارستها والتعبير عنها، إما بالبربرية أو بالعربية الدارجة، حسب
المناطق. لقد اكتفى الفقهاء الذين كانت عزلتهم وابتعادهم عن المصادر الأصيلة
تتزايد -هذه المصادر التي كانت بدورها في طريق النضوب الفكري والانحسار المكاني-
إضافة إلى انقطاعهم عن الأساتذة بالأندلس، أقول اكتفى هؤلاء الفقهاء بتحرير شروح،
موجهة إلى طبقة مثقفة حضرية ضيقة، لدين كان قد تمزق وأصبح أهله شيعا فصار لا يقوم
سوى بأدنى المهام، مهام "البنيات التي تمنح المصداقية لعالم كل شيء فيه جائز
ومقبول" (حسب تعبير بيتر بيرجي).
ونحن نعرف كيف انغلق المصلحون المغاربيون بدورهم، خلال النصف
الأول من هذا القرن، في سياج الوثوقية الدوغمائية المنحدر من المالكية المتشددة
الوسيطية، جامعين بين الإيدولوجية الوطنية العراكية وبين إسلام يخاطب طبقات مثقفة
تعمل باستمرار، وبسذاجة، على تأمين مصداقية أبدية لعالم كل شيء فيه جائز ومقبول.
وإذا كان التياسر السياسي المعبر عن هذا النوع من الإسلام، لا يتجاوز قط الدعوة
التقليدية للجهاد، فهو يعبر على الأقل عن التخبط الكبير الذي أصبح الإسلام السياسي
الأصولي يعاني منه اليوم.
يهدف هذا الموجز التاريخي، الذي قدمناه هاهنا، إلى حملنا على
التفكير في الواقعة التالية: لم يكن الإسلام [من الناحية العملية] منذ الفتوحات
الأولى بالنسبة لأقطار المغرب الكبير سوى إديولوجيا للإدماج، تتولى مراقبتها، في
المدن مجموعات متنافسة من الفقهاء، وفي القرى البوادي رؤساء الزوايا الذين عوملوا
كأولياء محليين. وهذا الواقع يحيلنا إلى تلك المسألة النظرية التي يطرحها وجود
وجهين في الدين من الصعب الفصل بينهما: الوجه الإيديولوجي الذي يتولى وظائف التقديس
والتأليه وإضفاء صفة التعالي ويمنح صفة الوجود، كما يتولى القيام بالصياغة القصصية
إلى درجة تشويه المستويات السياسية والأخلاقية-القانونية والاجتماعية، من جهة،
والوجه الروحي الذي يواصل مهمته كملجأ ونبع بالنسبة لحياة الروح التي يغمرها
"الشوق الشاق إلى البقاء" (الخلود)، والتطلع إلى المطلق والكمال والعدل
والمحبة، وتحركها إرادة المعرفة والرغبة في الوجود. لقد اهتمت المذاهب الدينية
الروحية اهتماما بالغا بهذا الجانب، الذي تعنى باستكشافه اليوم العلوم الاجتماعية
موظفة أدوات و تساؤلات أكثر تعقيدا. وفي عالمنا الذي يدبر أموره، بالأساس، العقل
العلمي وتطبيقاته على صعيد التقنية والاتصال، فإن أصحاب النزعات الروحية التأملية
ما زالوا يقدمون، داخل جميع المذاهب الدينية الكبرى، الشهادة التي لا تعدلها شهادة
أخرى على "واقعية" هذا العشق الصميمي الذي لا يمكن إرجاعه إلى ما هو
أبسط وأكثر جوهرية منه والذي يوقد لهيب الروح، بوصفها محل انبثاق وانتشار جميع
الفعاليات الكشفية الإلهامية التي ترتفع بالإنسان إلى أبعد من شرط وجوده الهش. لقد
سبق لكبار المتصوفة المسلمين والمسيحيين واليهود والبوذيين والهندوس أن لامسوا
واختبروا هذه المستويات والوظائف التي للحياة الروحية. أما الفقهاء، القـيّمون على
مراقبة الأجساد، من خلال الشعائر، وعلى المجتمعات، من خلال أوامر الشرع ونواهيه،
فقد واجهوا المتصوفة النظريين الكبار بأنواع الرفض والإدانة المعروفة. إن هذا يعني
أن التوتر بين الوجه الإيديولوجي والوجه الروحي يغذي باستمرار الجدلية
الاجتماعية-التاريخية القائمة بين الجوانب الثلاثة التي نطلق عليها الأسماء
التالية: دين، سياسة، مجتمع. وهذه النواحي من الدلالة والوظائف، التي للظاهرة
الدينية، هي بالضبط تلك التي يكبتها في اللامفكر فيه الفكر المغاربي الذي بقي رهين
مسار محدود مجتزأ من الفكر العربي الإسلامي دون غيره. إن جميع أنواع الخطاب
الإسلامي المعاصر ليست على بينة من الأهمية المعرفية التي يكتسيها الفصل بين
الفكرولوجيا (الإيديولوجيا) وبين التعقلية (الصياغة الفكرية)؛ بين الروحانية التي
تقوم باستلاب الروح، والروحية التي تعمل على تحريكه؛ بين الطرقية التي تسير
مجموعات انقسامية تميل إلى التشكل على صورة طوائف مغلقة، وبين التصوف بوصفه تجربة
شخصية لما هو إلهي؛ بين المقدس بوصفه نتاج الفعالية العلائقية للروح التي تمنح
للأشياء وضعها في إطار من الزمان والمكان يعاد تقييمه باستمرار، وبين التقديس
بوصفه مجموعة من الأعمال والشعائر التي تمنح الصبغة المقدسة لزمان ومكان وأشياء
وفعاليات دنيوية في صميمها؛ بين الشعائر بوصفها آلية لاكتساب العوائد التي
بواسطتها تنغرس في الجهاز العصبي-النفسي منظومات الإيمان وعدم الأيمان التي تميز
كل دين، وبين القواعد الصورية التي من خلالها يتم القيام بالواجبات الشرعية التي
تقررها النص المرجعي الذي تصدره هذه السلطة الدينية أو تلك.
من الممكن مواصلة هذا التعداد باستعراض جميع المصطلحات التي
تنسب للدين، والتي يجري استعمالها جريان العادة، سواء من طرف رجال الدين المهتمين
بإعمال النظر في مدى ملاءمة جميع المعتقدات ووفائها بالغرض، نظريا ومعرفيا، أو من
جانب المؤمنين الذين تتوقف معارفهم على مدى ضيق أو اتساع القابل للتفكير فيه الذي
يسمح به القـيّمون على المذهب الرسمي، الأرثوذكسي. وفيما يخص الإسلام على العموم،
والإسلام في المغرب الكبير على الخصوص، فإن الأخطر من ذلك كله هو السكوت عن جميع
جوانب اللامفكر فيه، في الفكر الإسلامي المعاصر، مما يمد في عمرها ويجمدها عند
الوظيفة التي تمارسها كعوائق معرفية لم يتم التعرف عليها في الأدبيات الإسلاموية
والسياسوية الوصفية الاستعراضية التي هي صورة طبق الأصل لآراء الفاعلين المسلمين
أنفسهم.
آمل، من خلال جميع ما تقدم، أن يكون مفهوما أني لا أعني بـ
"الخروج من الدين" نهاية التوتر بين وجهي الظاهرة الدينية كما حددتهما
آنفا. إنني أهدف، بالأحرى، أن أبين، من وجهة نظر المؤرخ، عملية استنفاذ الوظائف
التقليدية التي تقدم للديانات عادة، وهي عملية تقود إلى إعادة التركيب وإعادة
التنشيط وإعادة التوزيع، وإلى تغيير المواقع وتحقيق أنواع من التجاوز في دوائر كل
من [الشأن] الديني والسياسي والأخلاقي والاجتماعي والدلالي والأنثروبولوجي. وتلك
عمليات تتحقق في جميع المجتمعات بوتائر مختلفة من التسريع والملاءمة والتقديم
والتأخير. وذلك ما تترجمه إلى أرض الواقع عمليات التشغيل المتجدد لتعاريف ووظائف
اللائكية، والاهتمامات الجديدة التي تخلقها الأبحاث في العلوم الاجتماعية المتخصصة
في الديانات. وهذا الخط من التطور المصحوب دوما باليقظة النقدية والرفع لجميع
الطابوهات هو ما أرجو العمل على تقويته في جميع السياقات الإسلامية المعاصرة كي
يتمكن نموذج الإسلام من الكشف عن جميع مساهماته ذات الدلالة في النقاش الواسع
الجاري حول رحابة تاريخنا وحول الصيرورة التي يعرفها العالم.
اختتام
هل من الضروري أن نعتبر -باسم واقعية تاريخية تفترض وجود
فلسفة للتاريخ تحتاج بدورها إلى إثبات صلاحيتها- أن كل محاولة لاستكشاف أو إعادة
طرح مسألة المعنى، الحاضرة باستمرار في الفضاء المتوسطي، هي محاولة محكوم عليها
حتما بالغرق في الأحلام الروحانية والتأملات المثالية والاستذكار الذي يحركه الحنين،
أم أنه من الممكن -رغم زحف عولمة منتصرة فاقدة لمشروع إنساني على قدر كاف من
الوضوح وقادر على تعبئة جميع الشعوب- القيام بتحديد أشكال الوجود التي عرفتها، في
التاريخ الفكري والثقافي لحوض البحر الأبيض المتوسط، كل من وضعية العقل والتزامات
الفكر ومنشآت الخيال المبدع وشهادة الأنبياء والقديسين والمفكرين والفنانين
والأبطال ناشري الحضارة، مما شأنه أن يساعد على إخصاب وإضاءة وإلهام وتأمين قوة
روحية إضافية لأشكال النضال الجديدة التي يتطلبها تحرير شرط الوجود الإنساني والتي
ترتسم أمامنا اليوم ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين؟ إن جميع ما ذكرته بخصوص
المغرب الكبير يمكن بل يجب أن يطبق على الإسلام ككل، وهو الذي ينتظر أن يقام فيه،
من جديد، بما يلزم من النظر والتقييم والملاءمة، انطلاقا من تاريخ العالم، الإسلام
بوصفه يشكل واحدا من الينابيع والقوى التي مكنت الوجود البشري من الانتشار في
التاريخ، وليس بصفته هذه الصيغة اللاهوتية الوثوقية، الجامدة على التقليد، التي
تجعل منه النموذج الأخير الكامل الذي أوحى به الله ليفرض فرضا على جميع البشر. نحن
نعرف أن المصلحين الكبار، من محمد عبده إلى محمد إقبال إلى المودودي، ومن أحمد
شيرهندي إلى شاه ولي الله في الهند، ومن الإخوان المسلمين إلى الخميني وعلماء
اليوم، قد اعتكفوا كلهم داخل خطاب التأسيس الذاتي بهدف الحفاظ للدين على وظائفه
كملجأ ومخبأ ومنطلق لتوسعات جديدة لإكمال إبلاغ الرسالة المخلصة لجميع الناس.
وتدافع السلطات المعترف بها في الديانات الكبرى الأخرى على التوجهات نفسها وتوظف
من أجل الغرض ذاته تحديات العولمة التي تعمق، في مجال العلاقات بين الدين والتكنو
لوجيا والأخلاق على الخصوص، من وقع الهزات التي أحدثتها من قبل الحداثة
الكلاسيكية. لقد بدأت العلوم الاجتماعية في البحث في المجتمعات والتاريخ ليس من
منطلق التجليات المحلية الظرفية التي لا تقبل التعميم، كما كانت تفعل من قبل، بل
انطلاقا من النظرة الشمولية التي يتوخاها كل من علم التأريخ العام للعالم ومن
الأنثروبولوجيا النقدية. ولا نعتقد أن بإمكان الديانات أن تبقى بمنأى من هذه
المرحلة الجديدة من سعي الإنسان إلى طرح وضعيته طرحا إشكاليا. فعلى أبناء المغرب
الكبير، وعلى جميع الذين يربطون مصيرهم التاريخي بآفاق المعنى التي يقترحها التراث
الإسلامي، أن يحددوا أين هم من السؤال الحاضر في نفس كل مواطن في العالم وفي جميع
لحظات وجوده، السؤال الذي يطرح نفسه على الشكل التالي: باسم من، وباسم ماذا، ومن
أجل أي غرض أختار الفعل الذي سأقوم به؟
تذييل
لقد توصلت هذه الأيام بالعدد 17 من مجلة فكر ونقد
التي سبق أن أبرزت إلى أي مدى تبعث الأمل في أوساط الباحثين والمثقفين المغاربيين
خصوصا، والعرب عموما، في الحصول أخيرا على أداة للتعبير تلبي الحاجات الجديدة
للأجيال الصاعدة. وأشير في هذا العدد إلى مساهمة بوسلهام الكط الذي طرح مسألة
قريبة من المسائل التي عالجتها هنا، في مقالة بعنوان: "هل هناك فكر فلسفي
مغربي معاصر!؟!" وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما ذكر من المراجع والمؤلفين،
وبإسهاب ملاحظ، فإن لفظ "مغربي" الوارد في العنوان يحيل إلى المغرب
الأقصى وليس المغرب الكبير ككل. لقد أنهي السؤال بنقطتي تعجب ونقطة استفهام. لقد
اكتفى الكاتب فعلا على ذكر عدد من الشهادات التي أدلى بها زملاء كتبوا في الموضوع
ذاته، مضيفا تساؤلات أقرب إلى الإطناب. ومن الملاحظ أن لفظ "التراث"،
الذي يوجد اليوم على كل لسان، يمارس فعله بوصفه عنصرا مضايقا أو عائقا لا يمكن
الالتفاف عليه، أكثر من كونه منبعا ثرا يحفز تدفق الفكر نحو إشكاليات تحريرية. إن
اتخاذ التراث نقطة ارتكاز ضرورية لتحريك الفكر الفلسفي في المغرب العربي أو خارجه
من شأنه أن يؤجل القيام بالمهام، ذات الأولوية، التي أشرت إليها في دراستي هذه:
ذلك أنه يتوجب أولا على المؤرخين الذين يتعاملون مع المناهج ومع الطروح الإشكالية
لهذا العلم –علم التاريخ- الذي لم يفتأ يوسع مجال عمله ويحسن من أدائه، يتوجب
عليهم القيام بإعادة التراث إلى مضامينه وأبعاده المعرفية ووظائفه وفضائه الفكري،
كما هي كلها في واقعها التاريخي، من أجل وضع حد لجميع أنواع الاستغلال الإيديولوجي
وأشكال المنافحة عن الذات، التي ما زال يتعرض لها. أنا لا أعرف كثيرا من الباحثين
المغاربيين الذين يعملون على بيان أن الأبعاد المعرفية وآفاق المعنى لما ندعوه
التراث هي من الناحية التاريخية محصورة ما بين القرن السابع والثالث عشر
الميلاديين، وأنها من الناحية الإبيستيمولوجية كما على صعيد النظام المعرفي تنتمي
إلى القرون الوسطى. وهذا يعني أنه لن يكون في الإمكان إعادة الحيوية لوضعية العقل,
ولا للبناء المعرفي ولا لممارسة التأويل ولا للجهاز المعرفي ولا للإشكالية
المرتبطة بالتراث, بدون القيام أولا بفحص مواقع القطائع الجذرية والحوامل الممكنة
لمفاصل الاهتمامات الراهنة للعقل المعاصر، مع اهتمامات عقل القرون الوسطى –وواضح
أني لا أتكلم عن أوضاع عقل الأنوار الذي يقع الآن، هو نفسه، في فضاء معرفي قطع معه
فضاؤنا المعرفي الراهن.
إنني استند إلى جميع الاستشهادات التي ذكرها بوسلهام الكط
لكتاب مغاربة، وألاحظ أنها تؤكد جميع ما قلته حول وجوه الضعف في فكر لم يتعلم بعد
كيف يفكر في أنواع غير القابل للتفكير فيه وأشكال اللامفكر فيه التي
تَحُدُّ، دون علم هذا الفكر طبعا، من أهمية وصلاحية المفكر فيه الذي يواصل
تكبيل كل مطلب ينشد التوسيع والتحرير. وغني عن البيان القول إنني عندما أتحدث عن
الفضاء الفكري الوسيط، فالمراد هو، قبل كل شيء، لفت الانتباه إلى ميدان يخص التاريخ
العام للفكر يتعرض للإهمال على صعيد عمل الباحثين كما على صعيد برامج التعليم:
يتعلق الأمر بتاريخ تفكيكي مقارن للنظم المعرفية الثلاثة التي يتواصل توظيفها
اليوم تحت اسم اللاهوت (الفكر الديني العقدي) وفي سياقات دفاعية تمجيدية
وإيديولوجية معروفة، من قبل الأمم الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلامية. ومعلوم
أن هذه الأنواع الثلاثة من الفكر الديني قد عملت وتواصل العمل (وأخص بالتحديد هنا
اللاهوتيين الكاثوليك والبروتستانت) بوصفها منظومات فكرية ومعرفية للإقصاء
المتبادل. إن هذه المنطقة البالغة الأهمية من الفضاء الفكري الوسيطي قد تُرِكت لـ
"القيمين على تدبير المقدس" في الديانات الثلاث، بينما يفضل الزملاء
المغاربيون بالعمل في الإطار المعرفي ذي الجوهر الإيديولوجي الموروث من حداثة
مناضلة، في أوربا ما بين القرن السادس عشر والتاسع عشر، حداثة كرست قطيعة فكرية
ومؤسسية بين العقل اللاهوتي والعقل الفلسفي. لقد أعطى السيد ج. فان إيس في كتابه
الضخم Theologie und Geselleschaft (ظهر منه خمسة أجزاء ضخمة) مثالا لما يجب أن يكون عليه تاريخ
للفكر الإسلامي، مجموع الشمل، قبل انفجار وحدة المنظور المستقبلي الفكرية والروحية
التي ميزت فكر القرون الوسطى، هذا الفكر الذي لا يمكن عزله، كما سبق القول، عن
التداخلات القوية بين الفكر المسيحي وميتافيزيقا الأفلاطونية المحدثة خلال العصور
القديمة المتأخرة. وإذا رغب الفكر الإسلامي المعاصر في بعث الحياة في البحث
اللاهوتي كما يفعل المسيحيون وبعض المفكرين اليهود فإن عليه أن يمر عبر المرحلة
التاريخية كما تتمثل في العمل الذي قام به كل من ج. فان إيس حول القرون الثلاثة
الأولى للهجرة وآلان دو ليبيرا في كتابه التفكير في القرون الوسطى Penser
au Moyen
Age. ونظرا لأن هذا
النوع من البحث لا يعار له اهتمام في جامعات البلدان الإسلامية فلن يكون في
الإمكان العثور اليوم على لاهوتي (متكلم) مسلم يمكن مقارنته بإيرنيست ترولتش أو
بيير جيزيل بالنسبة للمذهب البروتستاني، أو ب. شونو، أو ي. كونغار، أو كلود جيفري
بالنسبة للمذهب الكاثوليكي، أو مارتان بوبر بالنسبة لليهود.
وألاحظ بحزن، مرة أخرى، أن كثيرا من الباحثين المغاربيين
يفضلون تكرار الرائج من الأفكار والانخراط بعقولهم في الأطر التقليدية المرتادة،
التي تمكن من الحصول بسرعة على وضعية [إدارية أو مهنية …] بدل اختيار موقف نقدي
يغوص في الأعماق، مثل ذلك الذي يطبق على نطاق واسع في الكتابات الصادرة باللغات
الأوربية التي لا تصل مع الأسف إلا بصعوبة إلى أيدي الباحثين الشباب بالمغرب
العربي. لقد فضل السيد بوسلهام الكط هو والزملاء الذين استشهد بهم، وهذا إما بدافع
من قناعة دينية أو من حذر سياسي أو بهما معا، فضلوا تفادي، أو تأجيل، الانكباب
بشجاعة ومثابرة، مع شبان أعرف حوافزهم وحماسهم القوي، على المهام العديدة والثقيلة
التي رسمتها منذ أزيد من عشرين سنة لمشروع نقد للعقل الإسلامي. ويؤسفني أن
ألاحظ أن الفروق والاختلافات بين الطروح الإشكالية والآفاق المعرفية التي حددتها
لهذه المهام وبين تلك التي اختارها صديقي الجابري بالنسبة للعقل العربي لم
تتخذ قط موضوعا لمناقشات خصبة، من طرف الباحثين والمفكرين المغاربيين والعرب
والمسلمين، تتجنب بطبيعة الحال كل سلوك يصدر عن سوء نية أو رغبة في سجال غير ذي
موضوع. وإذا كنت قد سمحت لنفسي هنا بتوجيه هذا النداء بمناسبة التقاء فكري بين ما
كتبته هنا ومداخلة السيد بوسلهام الكط, فلأنني أتمسك بقوة بالرغبة في أن يصبح
الاسم الذي اختير لمجلة فكر ونقد علامة على واقع دائم الحضور، ويغتني
باستمرار.
ترجمة : عبد الكريم
شوطا
مراجعة : رئيس التحرير