1-
المروءة أو أخلاق الأرستقراطية القبلية!
محمد عابد
الجابري
يقدم لنا الموروث الثقافي العربي "الخالص"،
ونقصد المنسوب إلى مرجعيات عربية من "الجاهلية" أو من "صدر
الإسلام"، عددا هائلا من القيم الفاضلة التي حظيت بالتنويه والاعتبار. وقد
بلغت الإشادة ببعضها إلى درجة أنها ارتبطت بشخصيات معينة صارت مضربا للمثل فيها،
ككرم حاتم، وشجاعة عنترة، وحلم الأحنف، وحكمة أكثم الخ. غير أن هذه القيم
ومثيلاتها لا يبدو أنها تستوعب من الفضل أكثر مما ينتمي إلى مجالها الخاص. فالكرم
لا يتضمن معنى الشجاعة ولا يقتضيها، وليس من شروطه الحلم ولا الحكمة. فالكرم إذن
لا يحتل تلك المنزلة التي نعبر عنها هنا بـ "القيمة المركزية". ومثل الكرم
في ذلك الحكمة والحلم والشجاعة والوفاء والصدق الخ.
واضح
أن ما نعبر عنه هنا بـ "القيمة المركزية"، هي تلك التي تندرج تحتها هذه
القيم ومثيلاتها فتكون لها بمثابة قمة الهرم أو قطب الرحى، بحيث إذا غابت واحدة
منها انعكس ذلك سلبا عليها.
فما
هي يا ترى "القيمة المركزية" في "نظام القيم" العربي
"الخالص"؟
لقد
تبين لنا، بعد البحث الاستكشافي الذي قمنا به، أنه من الممكن النظر إلى جميع القيم
الفاضلة التي تنتمي إلى الموروث العربي "الخالص" بوصفها منظومة تحتل
"المروءة" فيها مكان القيمة المركزية. وباسمها سنسمي منظومة القيم
تلك، فنقول: "أخلاق المروءة".
ما هي المروءة؟
يمدنا
"لسان العرب" بالمعطيات التالية: المروءة: "كمال الرجولية".
وهي من "المرء" أي الرجل، بمعنى الإنسان. وبالتالي فالمروءة هي كمال
إنسانية الإنسان. وهذا التعريف قد يكفي وحده لتبرير اتخاذها قيمة مركزية. ومع ذلك
لابد من التماس التأييد لهذا الاختيار من المورث الذي نتعامل معه هنا، فنحن لا
نشرّع وإنما نحلل ونفحص. ولما كان المجال لا يتسع لعرض واسع، فسنقتصر على نماذج
نعتقد أنها تفي بغرضنا هنا.
لا
يخصص ابن قتيبة للمروءة أكثر من صفحة ونصف. غير أن ما يورده بشأنها هو من الأهمية
بمكان بالنسبة لموضوعنا. من ذلك حديث نبوي جاء فيه: "قام رجل من مجاشع إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست أفضل قومي؟ فقال: إن كان لك
عقل فلك فضل، وإن كان لك خلق فلك مروءة، وإن كان لك مال فلك حسب، وإن كان لك تُقًى
فلك دين ". ومع أن الأمر يتعلق بـ"حديث" مرفوع إلى النبي فهو
لا يعبر عن التصور الإسلامي وحده، بل أيضا عن التصور "العربي" السابق
على الإسلام، شأنه شأن جل الأحاديث التي توظف في مثل هذه المراجع والتي تخلو منها
في الغالب "الكتب الصحاح".
يذكر
هذا "الحديث" أربع مجالات تكاد تستوعب جميع جوانب حياة الإنسان، ويخص كل
مجال بقيمة مركزية خاصة تؤسسه: الفضل لمجال العقل، والمروءة لمجال الأخلاق، والحسب
لمجال المال، والدين لمجال التقوى.
وإذا
كان من الواضح أن هذا الحديث يربط الأخلاق كلها بالمروءة، فإن ارتباط القيم
المذكورة فيه بعضها ببعض، يجعلها تابعة كلها للمروءة. ذلك أنه لما كانت التقوى
مظهرا أساسيا من مظاهر الأخلاق الفاضلة التي تؤسسها المروءة، وكانت التقوى تؤسس
الدين، فالمروءة تؤسس الدين كما تؤسس الأخلاق. وهذا ما يؤكده قول ينسبه ابن قتيبة
للحسن ورد فيه: "لا دين إلا بمروءة". بل إن مجال المروءة يتسع عند بعضهم
ليشمل قيما أخرى مكملة لتلك. من ذلك قول يذكره ابن عبد ربه للعتبي رواه عن أبيه
جاء فيه: "لا تتم مروءة الرجل إلا بخمس: أن يكون عالما صادقا عاقلا ذا بيان
مستغنيا عن الناس". وهذه خصال تندرج في القيم المذكورة في الحديث وتكملها.
وإذن فالعقل والدين والأخلاق والمال، وهي المجالات التي يختص بها الإنسان، تتأسس
كلها على المروءة.
مع
الماوردي نجد أنفسنا إزاء خطاب مختلف تماما، وإن كان الاختلاف في الشكل وليس في
المضمون. والحق أن صاحب "أدب الدنيا والدين" ينفرد بالكتابة عن المروءة
بصورة منظمة لا تخلو من جهد تنظيري. وإذا كان يكثر من النقل عن الحكماء والبلغاء
والشعراء الخ، كغيره ممن اهتم بالتأليف في هذا الموضوع، فهو لا يتعامل مع المنقول
كغاية في ذاته بل يأتي به كشهادة لما يقرره من آراء.
ينطلق
الماوردي من تقرير ما يلي، يقول: "اعلم أن من شواهد الفضل ودلائل الكرم:
المروءة، التي هي حلية النفوس وزينة الهمم. فالمروءة مراعاة الأحوال التي تكون على
أفضلها، حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد ولا يتوجه إليها ذم باستحقاق". وهكذا
يضعنا الماوردي منذ البداية أمام ثلاثة عناصر تؤسس المروءة: المروءة حلية النفوس،
والمروءة زينة الهمم، والمروءة مراعاة.
يبادر
الماوردي فيشرح هذا العنصر الأخير، فيقول: إن "من حقوق المروءة وشروطها ما لا
يتوصل إليه إلا بالمعاناة ولا يتوقف عليه إلا بالتفقد والمراعاة، فثبت أن مراعاة
النفس على أفضل أحوالها هي المروءة".
يقرر
الماوردي منذ البداية،إذن، الفكرة الأساسية التي عليها تقوم نظريته في هذا المجال،
وهي أن المروءة تقوم على المراعاة والمعاناة والتفقد. فليست المروءة مجرد موقف
أخلاقي يطبع سلوك الفرد، بل هي ممارسة أخلاقية يصدر فيها المرء عن إرادة وقصد. إن
الخصال الحميدة، مهما تعددت ومهما سمت، لا تحصل المروءة عن اجتماعها في نفس المرء
بصورة تلقائية، بل لابد من المراعاة : ويؤكد الماوردي هذا المعنى تأكيدا فيقول:
"إنما المراعاة هي المروءة، لا ما انطبعت عليه من فضائل الأخلاق".
وهذه
المراعاة والمعاناة والتفقد الخ، تعطي لمفهوم المروءة بعدا اجتماعيا لا يألو
الماوردي جهدا في إبرازه وحشد عدد هائل من الأقوال لتقريره. يقول مثلا: " قال
بعض البلغاء إن من شرائط المروءة أن يتعفف (المرء) عن الحرام، ويتصلف عن الآثام
(يعرض عنها)، وينصف في الحكم، ويكف عن الظلم، ولا يطمع فيما لا يستحق، ولا يستطيع على
من يسترق (لا يستكبر على الضعيف)، ولا يعين قويا على ضعيف، ولا يؤثر دَنِيًّا على
شريف، ولا يُسِّر (يخفي ويضمر) ما يعقبه الوزر والإثم، ولا يفعل ما يقبح الذكر
والاسم".
هذا
عن "المراعاة"، العنصر الثالث من العناصر المؤسسة للمروءة. أما العنصران
الآخران، وهما كونها "حلية النفس" من جهة، و"زينة الهمم" من
جهة أخرى، فيربطهما بجملة من الخصال يجعل منها شروط وجود للمروءة. قسم منها يخص
"شرف النفس" فهي حلية لها. والقسم الآخر يخص العلاقة مع الغير فهو
"زينة الهمم". القسم الأول قوامه مجموعة من القيم تنتظم حول ثلاثة رئيسة
هي: "العفة عن المحارم والمآثم، والنزاهة عن المطامع الدنية والمواقف
المريبة، والصيانة بالتماس كفاية النفس وصيانتها عن تحمل المنن". أما القسم
الثاني فيقوم على ثلاث قيم كذلك: "المؤازرة بالإسعاف بالجاه والإسعاف في
النوائل، والمياسرة بالعفو عن الهفوات والمسامحة في الحقوق، ثم الأفضال بتقديم
الفضل جودا وكرما واتقاء لأذى الغير".
تتفرع
عن هذين الصنفين من الشروط أو الخصال قيم أخرى فرعية، لا مجال هنا لتعدادها. لنقل
باختصار: المروءة هي ملتقى مكارم الأخلاق يتم تحصيلها ببذل الجهد وتحمل المشقة،
وهي تكسب صاحبها، في مقابل ذلك، احتراما وتقديرا وتجعله قدوة وذا كلمة مسموعة، مع
ما ينتج عن ذلك من سلطة ونفوذ معنويين. ومن هنا كان شيخ القبيلة، الجامع لصفات
المروءة، يتحول إلى سيد. فالمروءة من هذه الناحية هي الطريق الملكية نحو السؤدد
الذي هو أسمى قيمة اجتماعية في المجتمع العربي "الجاهلي".
***
لعل
هذا هو نقطة الضعف الخطيرة في أخلاق المروءة، أقصد كونها تقع تحت السؤدد: فالخصال
الكثيرة التي تتطلبها والمشاق العديدة التي لابد من تحملها ليست غاية في ذاتها،
ليست من أجل أنها خصال للخير ومشاق في سبيل فعل الخير فحسب، بل هي أيضا من أجل ما
ينتج عنها من رفعة وسؤدد. وهذا ما يفسر عدم اكتفاء الماوردي بـ "شرف
النفس" في تحديد شروط وجود المروءة، واشتراطه "علو الهمة". فبدون
علو الهمة "يكون الفضل الذي يورثه شرف النفس عاطلا، والقدر الذي يمنحه لصاحبه
خاملا". بعبارة قصيرة: ليست المروءة مطلوبة لذاتها بل من أجل ما تستتبعه، وهو
ما يعبر عنه بـ"السؤدد".
يتجلى
هذا واضحا حتى في تبويب الكتب التي تهتم بهذا الموضوع، فابن قتيبة وابن عبد ربه
يتحدثان عنها في باب السؤدد. والأكثر دلالة من ذلك أن الماوردي يجعل الكلام عنها
فرعا من فروع ما يطلق عليه "أدب المواضعة والاصطلاح"، وذلك في مقابل
"أدب الرياضة والاستصلاح". الأول "يؤخذ تقليدا" مما استقر عند
جماعة أنه الأفضل، فلا مجال للعقل في إقراره أو رفضه. أما الثاني فهو "ما كان
محمولا على حال لا يجوز في العقل أن يكون بخلافها، ولا أن تختلف العقلاء في صلاحها
وفسادها".
بعبارة
أخرى: أخلاق المروءة أخلاق محلية تحكمها المواضعة والعادة وليست من الأخلاق
"الكونية" التي مرجعيتها العقل وحده. هي تقع تحت السؤدد كما قلنا،
والسؤدد من "السيادة"، ولكن لا السيادة في المجتمع الذي تحكمه قوانين
ودساتير موضوعة، مجتمع الدولة، بل السيادة في مجتمع اللادولة. السؤدد هو
سيادة الفرد في قومه، في عشيرته وقبيلته.
هذا
الطابع الاصطلاحي المحلي للمروءة جعلها تبدو كفضيلة عربية محض. يؤيد ذلك أن جميع
من تحدثوا عن المروءة من المؤلفين القدامى قد رووا ما رووا، ونقلوا ما نقلوا، عن
شخصيات عربية من العصر الجاهلي وصدر الإسلام والعصر الأموي. ونادرا ما تجد أحدهم
ينقل عن مرجع فارسي أو يوناني، وذلك على العكس تماما من القيم الأخلاقية الأخرى
التي تحتل المرجعيات الفارسية واليونانية فيها المقام الأول.
ومما
يلفت الانتباه حقا، أن بعض المراجع القديمة تقرر أن "من أخلاق المروءة عدم
التكلم بالفارسية في مصر عربي"، وكأن المروءة مفهوم قومي عربي، أو كأن الشعور
القومي عنصر من عناصرها. وفي هذا المجال ينسب إلى عمر بن الخطاب، الذي يمكن
اعتباره أول عربي قومي، أنه قال: "تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة،
وتعلموا النسب فرب رحم مجهولة قد وصلت بنسبها" ( ابن قتيبة). اللغة والنسب
عماد الهوية القومية، والمروءة جزء من الهوية العربية! أقصد العربي كما كان يتصور
نفسه على أكمل حال- في الجاهلية وصدر الإسلام. فليس غريبا إذن أن تكون
"المروءة" من الكلمات التي يصعب تعيين مقابل لها في اللغات الأجنبية. إنها
من المفاهيم المشبعة بالخصوصية، كـ"العصبية"، لا تترجم بلفظ مفرد.
باختصار:
"المروءة" هي القيمة المركزية في أخلاق القبيلة، أخلاق البداوة. إنها
مصدر السلطة المعنوية في مجتمع القبيلة، السلطة التي تنوب عن سلطة الدولة في مجتمع
اللادولة. بعبارة أخرى: المروءة هي جماع خصال الأرستقراطية القبلية كما عرفها
المجتمع العربي في "الجاهلية" - وهل قطع المجتمع العربي يوما مع
الجاهلية؟
فعلا،
قطع الإسلام حين "الدعوة" مع "الجاهلية"، فهو الذي وصف ما
قبله بهذا الوصف. ولكن هل احتفظت العصور التالية بالبديل الذي قدمه؟
2 ـ من العدل الاجتماعي .. إلى العدل
الإلهي.
عند
الانتقال من الموروث العربي "الخالص" الذي تحتل فيه "المروءة"
منزلة القيمة المركزية، كما بينا، إلى الموروث الإسلامي، فإن أول ما يلفت الانتباه
هو أن القرآن لا ذكر فيه للفظ "المروءة" قط، ولا يوجد في القيم العديدة
التي يقررها ما يفيد معنى المروءة أو ينوب منابها، على الأقل في بعدها الغائي،
أعنى السؤدد.
كيف
نفسر هذا الغياب؟ وكيف نحدد القيمة المركزية ضمن القيم العديدة التي ينوه بها
القرآن؟
لقد
اخترقت الدعوة المحمدية القبيلة عموديا وأفقيا: اخترقتها عموديا بأن جعلت قمتها
تمتد إلى أعلى نحو بعد ميتافيزيقي ما ورائي، نحو الله… واخترقتها أفقيا بأن جعلتها
تمتد على السطح كله لتشمل الناس جميعا. ومن هنا سيكون مجال القيم في هذه الدعوة ذا
بعدين كذلك:
ـ
بُعدٍ عموي يربط الإنسان بالله، وهو مجال القيم الدينية التي تنتظمها في القرآن
كما في جميع الأديان، قيمتان متلازمتان هما: الإيمان والتقوى. وهذا مجال العقيدة
والشريعة.
ـ
وبُعد أفقي هو مجال الأخلاق التي يعبر عنها بـ "أدب الدنيا".
فما
هي القيمة أو القيم المركزية في هذا المجال، مجال الأخلاق في القرآن؟
لاشك
في أن أَوْلَى القيم الأخلاقية القرآنية بأن تكون بمنزلة القيمة المركزية في
المجال الدنيوي هي تلك التي يمكن أن توضع كموازن للإيمان والتقوى في المجال
الديني. إنها في نظرنا: "البر"، أو "العمل الصالح" على
العموم.
والحق
أن مما يلفت الانتباه في الخطاب القرآني أن لفظ "صلح" وما اشتق منه
(الصالحات، الصالح، أصلح …) من أكثر الألفاظ ترددا فيه. وغالبا ما يأتي لفظ
الإيمان وما في معناه مقرونا بلفظ الصلاح وما في معناه. وعبارة ّالذين آمنوا
وعملوا الصالحات" وحدها وردت في القرآن 62 مرة. إن اقتران "العمل
الصالح" بـ"الإيمان" في القرآن بهذه الصورة المتكررة يميل بالمرء
إلى الاعتقاد في أن الإيمان وحده لا يكفي، بل لا بد من العمل الصالح. تماما مثلما
أن تكرار اقتران لفظ الإيمان في القرآن مقرونا بلفظ التقوى، التي تعني أساسا
اجتناب المنهي عنه، يحمل على الاعتقاد بأن الإيمان من غير تقوى لا يكفي. وهذه
مسألة ثار حولها خلاف كبير بين المسلمين في العصر الأموي خاصة، مسألة: هل العمل
شرط في الإيمان أم لا؟ والمقصود بالعمل هنا العمل الصالح بما في ذلك التقوى. سنترك
الآن هذه المسألة (يمكن الرجوع إلى كتابنا "العقل السياسي العربي" ص 315
وما بعدها) لنقتصر على البحث في المضمون الذي يعطيه القرآن لـ "العمل الصالح"
وما في معناه.
من
المفاهيم القرآنية التي تفيد معنى العمل الصالح: "البر". ففي لسان العرب
: "بر يبر إذا صلح". والبر: الصلاح، والخير، والصدق، والبر ضد العقوق
الخ. ويرتفع الخطاب القرآني بمعنى "البر" إلى المستوى الذي يبدو فيه
موازنا للإيمان والتقوى، وهما القيمتان المركزيتان في المجال الديني كما قلنا. ففي
القرآن الكريم: "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من
آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى
الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس،
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون" (البقرة 177). ويؤكد القرآن هذا البعد
الاجتماعي التضامني في "البر" بصورة حصرية في قوله تعالى: ّلن تنالوا البر
حتى تنفقوا مما تحبون" (آل عمران 92). جوهر البر أو العمل الصالح إذن
هو: إيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين الخ، أي جميع الفئات
المستضعفة في المجتمع، وهذا ما نعبر عنه اليوم بـ "العدل
الاجتماعي". وغني عن البيان القول إن ورود هذا المعنى في الآية الأولى مقرونا
بالإيمان وهو واجب، وبالصلاة والزكاة وهما فريضتان يرفعه بدوره إلى درجة الوجوب
والفرض. وقد استند بعض المفسرين على هذا الاقتران بين "البر"
و"الزكاة" في هذه الآية فقالوا: "إن في مال الأغنياء حقا للفقراء
سوى الزكاة".
سنترك
هذه المسألة الاجتهادية لنسائل الواقع التاريخي: كيف تطورت الدعوة إلى البر والعمل
الصالح في الفكر الإسلامي؟ هل بقيت في هذا المستوى القريب من الفرض والواجب أم
أنها ابتعدت عنه ابتعادا؟
يميز
الماوردي بين "أدب الدنيا" و"أدب الدين" ليتجه بهذا
الأخير وجهة أخرى جمع فيها بين الفقه والتصوف، مهملا الجانب الاجتماعي، جانب البر
والعمل الصالح. وهكذا جعل "أدب الدين" يدور حول الموضوعات الثلاثة
التالية: 1) التكليف الشرعي (اعتقاد وفعل وترك) والتقليد في الفقه. 2) المحرمات
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3) رياضة النفس على أحوال ثلاثة هي: صرف النفس
عن حب الدنيا، عدم الاغترار بما تمنحه من صحة ومال الخ، استحضار الموت والأجل وعدم
الغرور بتوالي الأيام. ثم يختم بنصوص من "التعازي" كلها تذكير بالموت
وفناء الدنيا الخ. هكذا تقلص الأخلاق الإسلامية في الجمع بين "رسوم"
الفقهاء و"زهد" المتصوفة. أما البعد الاجتماعي الذي أكده القرآن تأكيدا
وجعله موازنا للبعد العقدي الديني والذي عبر عنه بالبر والعمل الصالح، فهو مغيب
تماما عن مجال "أدب الدين".
صحيح
أن الماوردي يضع "البر" فصلا من فصول "أدب الدنيا" ويجعله
صنفين: "صلة ومعروف. فأما الصلة فهي التبرع ببذل المال في الجهات المحمودة
لغير عوض مطلوب. وهذا يبعث عليه سماحة النفس وسخاؤها ويمنع منه شحها وإباؤها"
(امتناعها). وأما المعروف فقول وعمل. ويقصد بالقول "طيب الكلام"،
وبالعمل: "بذل الجاه والمساعدة بالنفس والمعونة في النائبة".
وواضح
أن ربط البر بمجرد "سماحة النفس وسخائها" و "طيب الكلام"
و"المعونة في النائبة" الخ، إفقار خطير لمعناه وابتعاد به عن مجال الفرض
والواجب، وتغييب كلي لمعنى العدل الاجتماعي فيه.
كيف
نفسر هذا التغييب؟
إن
تغييب البعد الاجتماعي في نظام القيم، أيا كان، لا يفسر إلا بسيادة النظرة الطبقية
في المجتمع، النظرة التي تقبل الظلم الاجتماعي، أعني وضعية العبد، فتكرسه وتبرره،
إما بفلسفة تقوم على النظر إلى ظاهرة العبودية والرق على أنها ظاهرة طبيعية وأن
العبيد وجدوا ليكونوا عبيدا كما وجد الحيوان ليكون حيوانا، كما كان الحال عند
اليونانية والرومان، وإما بهيمنة الاستبداد في الحكم إلى الدرجة التي تسود فيها
النظرة "الصوفية" على الرؤية العامة للناس، وهي النظرة التي تصرف الناس
عن الدنيا إلى الآخرة. والمجتمع الإسلامي كان زمن الماوردي، وقبله بمدة طويلة، من
هذا القبيل. ولذلك نجد فقه الأخلاق عنده يتحول إلى "تعازي"، كما تحول
فقه السياسة في مؤلفاته الأخرى إلى "استسلام" للأمر الواقع.
أما
المتكلمون فقد سلكوا في تغييبهم للبعد الاجتماعي مسلكا آخر. لقد اتجهوا بأخلاق
"العمل الصالح" وجهة أخرى: نقلوها من البعد الأفقي الاجتماعي الذي أعطاه
لها القرآن، كما بينا، إلى البعد العمودي المتجه نحو الألوهية فجعلوا من
"الصلاح" شريعة للإله بدل أن يكون شريعة للبشر. وهكذا دار كلام صاخب
طويل عريض في "العدل الإلهي" ومعناه ونتائجه، وساد سكوت مطبق عن
"العدل البشري"، السياسي منه والاجتماعي والقانوني.
أجل، يكتسي
"العدل" عند المعتزلة أهمية قصوى، فهم يسمون أنفسهم "أهل العدل والتوحيد"،
ولكن بمعنى خاص. فليس "التوحيد" عندهم مجرد الاعتقاد في إله واحد، فذلك
ما يقول به جميع المسلمين، بل هم يقصدون أن ذات الله وصفاته شيء واحد، على خلاف مع
الأشاعرة الذين يقولون بأن الصفات زائدة على الذات. أما "العدل" فليس
المقصود به العدل في المجال البشري بل المقصود "العدل الإلهي"، أي ما
يعبرون عنه بقولهم: إن الله "لا يفعل إلا الصلاح والأصلح".
يميز القاضي عبد
الجبار، أحد كبار المنظرين لمذهب المعتزلة وكان معاصرا للماوردي، بين ثلاثة معان
في "العدل".
1ـ العدل إذا وصف
به الفعل "فالمراد به كل فعل حسن يفعله الفاعل لينفع به غيره أو ليضره":
فإعطاء المحتاج عدل وإلحاق الضرر بالمذنب، بسجنه أو تغريمه، عدل كذلك. ومن هنا
كانت حقيقة العدل بهذا المعنى القانوني الفقهي هي: "توفير حق الغير واستيفاء
الحق منه".
2ـ أما إذا وصف
به الواحد من الناس فالمقصود أن أفعاله حسنة. فالرجل العدل هو الذي يتجنب الكبائر
ويجتهد في الإقلال من الصغائر. ومن هنا مفهوم "التعديل والتجريح" في نقد
الرواية في الحديث.
3 ـ أما عندما
يوصف به الله ـ وهذا هو المقصود عندهم ـ فإنه يعني شيئا آخر. يقول القاضي عبد
الجبار: "ونحن إذا وصفنا القديم تعالى بأنه عدل حكيم فالمراد انه لا يفعل
القبيح أو لا يختاره، ولا يُخِلُّ بما هو واجب عليه، وأن أفعاله كلها حسنة".
ويحتج القاضي عبد
الجبار لذلك بحجج تقربنا إلى نظرية سقراط التي تربط الفضيلة بالعلم، ولكن مع
نقلها من المجال البشري إلى المجال الإلهي. يقول: "إنه تعالى عالم بقبح
القبيح ومستغن عنه، عالم باستغنائه عنه، ومن كان هذه حاله لا يختار القبيح بوجه من
الوجوه". كما يحتج بأدلة سمعية فيقرر : "أن الله تعالى تمدَّح بنفي
الظلم عن نفسه مدحا يرجع إلى الفعل حيث قال: "وما ربك بظلام للعبيد"(
فصلت 46) وقال: "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" (النساء 40) وقال:
"ولا يظلم ربك أحدا" (الكهف 49).
يترتب عن ذلك، في
نظرهم، أن الله قد أوجب على نفسه ألا يفعل غير الصلاح والأصلح. ومن هنا قولهم: إن
فعل الصلاح واجب على الله. ومع أن الهدف عندهم من نفي فعل القبيح والشر عن إلى الله
هو نسبتهما إلى الإنسان وحده، وبالتالي تحميل الإنسان مسؤولية أفعاله وإثبات
الجزاء والعقاب، فإن نقل النقاش حول العدل إلى المجال الإلهي بهدف إثبات الحرية
والمسؤولية في المجال البشري ينتج عنه تغييب تام لمعنى البر والعمل الصالح في
المجال البشري كما حدده القرآن. ذلك أن إثبات الحرية والمسؤولية في الدنيا ليس
مقرونا عند المعتزلة بإثبات الجزاء في الدنيا نفسها، بل الجزاء الذي كان يشكل
المفكر فيه عندهم هو ذلك الذي يكون في الآخرة وحدها: الجنة والنار ومقدار المكث
فيهما ونوع الخلود الخ.
ويعمم المعتزلة نظريتهم
هذه على أنواع الشرور التي تصيب الإنسان ولا يمكن أن تنسب إليه بوجه من الوجوه
كالمرض والموت والكوارث الطبيعية الخ ، فيقررون فيها أن الله يضمن "في
مقابلها من الأعواض ما يوفي عليها، حتى لو خير أحدنا بين الألم، مع تلك الأعواض،
وبين الصحة، لاختار الألم ليصل إلى تلك الأعواض". وتلك هي نظرية المعتزلة في
"العوض" أو الحق في التعويض: يعوض الله للإنسان في الآخرة ما يلحق به من
أضرار لا يمكن أن تنسب لأمثاله من الناس لأنها لا تتعلق بإرادتهم وتتجاوز قدرتهم
واستطاعتهم كالكوارث الطبيعية…
هكذا تنتهي نظرية
"العدل الإلهي" عند المعتزلة إلى مثل ما انتهى إليه الماوردي والمتصوفة:
إرجاء تمتيع الإنسان بالعدل إلى يوم الجزاء، يوم القيامة.
لقد حل التشريع للآخرة
مكان التشريع للدنيا، فبقي "أدب الدنيا" محصورا في "الإعداد
الرحيل".
3- العدل … والطاعة
عندما ننتقل
إلى الموروث الثقافي الفارسي ومرجعياته في الثقافة العربية فإن ابن المقفع يفرض
نفسه علينا كمرجعية أولى. لقد ترجم ابن المقفع من الفارسية عدة نصوص، تارة
ترجمة حرفية أو يدعي أنها كذلك، ككتاب "كليلة ودمنة"، وتارة يجمل ويلخص
كما في كتبه الأخرى وخاصة منها: "الأدب الصغير" و "الأدب
الكبير". الأول في الأخلاق بمعنى تدبير النفس -حسب التعبير القديم- والثاني
في السياسة بمعنى تدبير "المدينة" أو بالأحرى "مرايا
الأمراء". هذا إضافة إلى نصوص أخرى وفي مقدمتها "رسالة الصحابة"
التي هي عبارة عن تقرير سياسي رفعه إلى أبي جعفر المنصور.
كيف
يقدم لنا ابن المقفع نظام القيم في الموروث الفارسي؟
يخبرنا
في مقدمة كتابه "الأدب الصغير" بأن المؤلف في الأدب –أي الأخلاق-
ليس من مهمته ولا بمقدوره وضع أخلاق من عنده، بل كل ما يمكن أن يفعله هو أن يجمع
ويصنف القيم التي يرثها الناس من الحكماء والعقلاء الذين سبقوهم؛ وهو هنا يقصد
الفرس والناطقين بـ "الحكمة" من رجالاتهم. يقول: "فليعلم الواصفون
المخبرون (بالقيم الأخلاقية) أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائدا على أن يكون
كصاحب فصوص وجد ياقوتا وزبرجدا ومرجانا، فنظمه قلائد وسموطا وأكاليل، ووضع كل فص
موضعه وجمع إلى كل لون شبهه، مما يزيده بذلك حسنا…".
نظام
القيم حسب هذا التصور نظام على شكل عقد (قارن "العقد الفريد"). والعقد
مجموعة من الجواهر - وهي هنا القيم. والعقد يوضع على عنق. و المقصود هنا هو عنق من
يدعوه ابن المقفع بـ "العاقل"؟ وهو الحاكم (الخليفة) تارة و"الكاتب"
غالبا، فهو الذي يخاطبه ابن المقفع في نصوصه بهذا الوصف. من ذلك قوله: "وعلى
العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين، ويلبس لهم لباسين مختلفين: فطبقة من
العامة يلبس لهم لباس انقباض وانحجاز وتحفظ في كل كلمة وخطوة، وطبقة من الخاصة
يخلع عندهم لباس التشدد ويلبس لباس الأنسة واللطف والبذلة والمفاوضة. ولا يدخل في
هذه الطبقة إلا واحد من ألف، كلهم ذو فضل في الرأي، وثقة في المودة، وأمانة في
السر، ووفاء بالإخاء" (الأدب الصغير ). واضح أن "العاقل" المخاطب
هنا طرف ثالث فوق الخاصة والعامة، وهو الخليفة، -أو "الكاتب" الذي
بجانبه- فهو الذي عليه أن يلبس لباس انقباض من العامة ولباس الأنس واللطف من
الخاصة، وذلك من أجل أن تخافه الأولى أو تهادنه، وتطيعه الثانية أو تحترمه. ومع أن
"الكاتب" يعتبر نفسه من خاصة الخاصة فإن حاجته إلى الإمام هي كحاجة
مجموع الخاصة، ولذلك كانت طاعتهم إياه ضرورية لهم لأنه هو الذي يجعل منهم خاصة
إزاء العامة. يقول ابن المقفع: "وحاجة الخواص إلى الإمام الذي يصلحهم الله به
كحاجة العامة إلى خواصهم وأعظم من ذلك، فبالإمام يصلح الله أمرهم، ويكبت أهل الطعن
عليهم ويجمع رأيهم وكلمتهم، ويبين لهم عند العامة منزلتهم ويجعل لهم الحجة والأيد
في المقال على من نكب عن سبيل حقهم" (رسالة الصحابة).
من هذه
الخلفية -التي على ضوئها يجب في نظرنا أن تقرأ نصوص ابن المقفع- نستشف نوع الأخلاق
التي سيكرسها في كتاباته هذا "الكاتب" (ومستشار الخليفة أبي جعفر
المنصور). إنها بكلمة واحدة: "أخلاق الطاعة". أجل، يولي ابن المقفع
وجميع الذين روجوا للموروث الفارسي في الثقافة العربية أهمية خاصة لـ
"العدل"، إلى درجة يبدو معها أن القيمة المركزية التي تحكم نظام القيم
في هذا الموروث هي "العدل". ولكن ذلك ليس سوى وجه واحد من العملة، أما
الوجه الآخر، الذي يعطي هنا لـ "العدل" مضمونه فهو "الطاعة".
والمسألة
تحتاج إلى بيان.
لنقل
باختصار إن الناظر في الأدبيات الأخلاقية السياسية التي تهيمن على الموروث الفارسي
في الثقافة العربية يجدها تتمحور حول موضوعين رئيسيين يرجع فيهما بصورة أساسية إلى
ملكين كانا من أعظم ملوك الفرس. أما الموضوعان فهما العلاقة بين الدين والملك -أو
الدولة- من جهة، والعلاقة بين الطاعة والعدل من جهة أخرى. وأما العاهلان الفارسيان
فهما أردشير الأول مؤسس الدولة الساسانية وهو المرجع في الموضوع الأول، وكسرى أنو
شروان، آخر كبار ملوك الفرس، وكان المرجع في الموضوع الثاني. واستحضار العلاقة
التاريخية بين هذين الملكين والموضوعين ضروري للكشف عن أبعاد "الأخلاق"
التي كان يكرسها كتاب السلاطين وفقهاؤهم والمؤلفون في الأدبيات السلطانية أو ما
يعرف في الغرب بـ "مرايا الأمراء "… وفيما يلي تذكير بالظروف التاريخية
التي أنتجت هذا النوع من الأخلاق:
عرفت
الإمبراطورية الفارسية عهدا من التفكك والانحلال قبيل فتوحات الإسكندر المقدوني
وبعدها. لقد استولى الإسكندر على معظم بلاد فارس ثم اقتسمها قواده العسكريون من
بعده فدخلوا فيما بينهم في حروب ومنافسات طاحنة انتهت بقيام ما عرف بـ "عصر
ملوك الطوائف"، وهو العصر الذي استمر يكرس التمزق والانحلال إلى أن قامت دولة
بني ساسان فأعادت للإمبراطورية الفارسية وحدتها ومجدها. كان ساسان رجل دين، وكان
ابنه أحد ملوك الطوائف يحكم مدينة صغيرة. وعندما خلفه ولده أردشير الأول سنة 226
ميلادية عمل على توحيد فارس وبناء دولة قوية أعاد لها مجدها، فكان المؤسس الفعلي
للدولة الساسانية، وكان يلقب بالملك "الجامع" أو "الموحد"
لأنه جمع الفرس وأعاد إليهم وحدتهم، ليس بتوحيد البلاد عسكريا وحسب، بل أيضا من
خلال تحالفه مع رجال الدين من أتباع الديانة الزراديشتية التي جمع نصوصها وجعل
منها الدين الرسمي للدولة فأشرك الموابذة والكهنة في السلطة تحت إمرته ورقابته،
وجعل من وحدة الدين والدولة أساسا لملكه. ومع أن ولايته لم تدم سوى خمس عشرة سنة
(توفي سنة 240 ميلادية) فإن إحياءه للإمبراطورية الفارسية من خلال فتوحاته
وانتصاراته العسكرية وإصلاحاته الإدارية والسياسية والدينية جعلت منه في وجدان
الفرس المرجع الأول والنموذج والمثال. وقد اشتهر بوصيته السياسية إلى الملوك من
بعده والمعروفة بـ "عهد أردشير"، والتي تدور كلها حول الأساس الذي
يجب أن تبنى عليه الدولة والذي يضمن لها القوة والاستمرارية. هذا الأساس هو:
الدين. يقول أردشير مخاطبا خلفاءه ملوك بني ساسان من بعده: "واعلموا أن الملك
والدين أخوان توأمان، لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، لأن الدين أس الملك وعماده، ثم
صار الملك بعد حارس الدين، فلابد للملك من أسه ولابد للدين من حارسه، لأن ما لا
حارس له ضائع وما لا أس له مهدوم". ويكاد لا يخلو من هذه العبارة
بالصيغة نفسها أو مع تعديل طفيف- كتاب من كتب "الآداب السلطانية"
والأخلاق والنوادر والأخبار، وهي الكتب التي تزخر بها المكتبة العربية والتي تكرر
نفسها مع نوع من التضخم لدى كل عصر. وبمراجعة وقائع ما يعرف بـ "العصر
الفارسي" في الدولة العباسية يتجلى واضحا أن هذه النصيحة كانت بالفعل
"المبدأ الدستوري"، النظري والعملي، الذي طبقته هذه الدولة في ذلك
الوقت، وخاصة منذ ثاني ملوكها أبي جعفر المنصور باني صرحها. فالعلاقة بين الدين
والدولة أيام العصر الأموي لم تطرح بهذه الصورة. فلم يكن الخليفة الأموي يدعي أن
ملكه قام على أساس الدين ولا كان يعتبر نفسه حارسا للدين، بل لقد كان الدين يتمتع
باستقلال شبه تام عن الدولة: فالقضاة كانوا مستقلين، والعلماء بالكتاب والسنة
كانوا مرجعيات مستقلة، (إلا من كان منهم في خدمة الأمويين متحزبا لهم). كان كل قاض
وكل إمام يجتهد ويفتي حسب اجتهاده. ولم يكن للخليفة أو عماله أية سلطة عليه، إلى
أن قامت الدولة العباسية وكلف أبو جعفر المنصور-فيما يبدو- الكاتب السلطاني
المعروف ابن المقفع بوضع تقرير يقترح فيه ما يراه ضروريا لتوطيد أركان الدولة (وقد
يكون ابن المقفع قد اتخذ المبادرة من عنده –لا فرق)، فكتب رسالته الشهيرة المعروفة
بـ "رسالة الصحابة" يقترح فيها، من بين أمور أخرى، تنظيم القضاء على
أساس المركزية، بحيث ترفع جميع الأحكام إلى الخليفة ليستخلص منها ومن الأسس
والحيثيات التي بنيت عليها قانونا عاما يسير عليه جميع القضاة…
لقد
كان ابن المقفع بحق المنظر الأول للدولة العباسية؛ فقد نقل إليها من خلال كتبه
العديدة التي ترجمها عن الفارسية النموذج الفارسي في الحكم والسياسة، فصارت
الخلافة العباسية تبدو وكأنها تستنسخ بنية الدولة الساسانية. وإن المرء لا يملك
إلا أن يسجل ملاحظتين لهما دلالة في هذا الصدد، الأولى تتعلق بلقب
"المنصور" الذي اختص به أبو جعفر، ولم يسبق لأي خليفة أموي أن خلعه على
نفسه كلقب رسمي. إن الربط بين هذا اللقب السياسي/الديني وبين الموروث الفارسي يحمل
على الاعتقاد بأن الأمر يتعلق هنا بترجمة حرفية للقب "أبرويز" الذي يعني
"المنصور"، وكان ذلك هو اللقب الذي كان يحمله كسرى أبرويز، خليفة كسرى
أنو شروان. (بعض الكتب القديمة تتحاشى ترجمة أبرويز بـ"المنصور" وتستعمل
لفظ: "المظفر" ، إبعادا للشبهة عن لقب أبي جعفر "المنصور"
–ربما! ). أما الملاحظة الثانية فتتعلق بتعريف الماوردي للخلافة أو الإمامة
بكونها: "موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا". وواضح أن
عبارة "حراسة الدين" مستقاة مباشرة من عهد أردشير كما رأينا. ولم تستعمل
هذه العبارة قبل الماوردي، ولم نعثر في النصوص السابقة عليه لأي أثر يفيد أن من
مهام الدولة "حراسة الدين". فالدين في الإسلام وفي وعي المسلمين كافة
يحفظه الله، لا غيره، وذلك بنص القرآن:" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له
لحافظون"(الحجر 9).
بعد تسجيل
هاتين الملاحظتين اللتين تتطلبان مجالا أوسع لبيان دلالتهما كاملة ننتقل إلى كسرى
أنو شروان (أي صاحب النفس الخالدة). فقد تولى الملك هو الآخر في ظروف كانت فيها
الدولة الساسانية تعاني من الضعف والانحلال، خصوصا بعد أن تحالف والده قباذ، الذي
تولى الملك سنة 488 ميلادية، مع أتباع المزدكية ضدا على الأرستقراطية الفارسية
التي كان يشك في ولائها وإخلاصها. كان مزدك رجل دين من أتباع الزراديشتية، وقد مال
إلى جانب الفقراء والمستضعفين ضدا على ملاك الراضي والنبلاء وطبقة الخاصة
المترفهة. وكان يرى أن أصل الداء في المجتمع، أصل الاستغلال والحروب، هو الجري
وراء الثروة من جهة والتعصب للنسب والحسب من جهة أخرى، ولذلك دعا إلى الشراكة في
المال والنساء، وذلك بجعلهما من الأمور المشاعة بين الناس كالماء والنار والكلأ.
تحالف الملك قباذ، إذن، مع أتباع المزدكية وقطع أشواطا في تطبيق الشراكة في
الأراضي والنساء، وكاد يقضي على النبلاء والأرستقراطية الفارسية، لولا أن ثار عليه
أخوه "جاماسيف" الذي كان خصما للمزدكية حليفا للأرستقراطية. ومع أن قباذ
قد تمكن من استرجاع عرشه فإن ابنه كسرى أنو شروان، الذي تولى الملك بعده، قد عدل
عن سياسة والده فقضى على المزدكية وأعاد للأرستقراطية ممتلكاتها ونفوذها. كان كسرى
أنو شروان يلقب أيضا ب "دادجر" أي "العادل". وتطنب الأدبيات
السلطانية في الثناء على عدله. ولا بد أن يكون هذا اللقب قد خلعته عليه الطبقة
الأرستقراطية من النبلاء وملاك الأراضي وغيرهم ممن أعاد لهم مكانتهم ونفوذهم.
ويبدو أن تحالفا، على هذا الأساس، قد قام بين الطرفين. وتؤكد النصوص التي تتحدث عن
سيرته "العادلة" أنه أعاد ترتيب الطبقات كما كانت عليه من قبل وأصلح
نظام الضرائب و"أنزل الناس منازلهم"، وذلك هو معنى "العدل" في
الفكر القديم.
ومن
هنا المحور الثاني الذي تمحورت حوله الأخلاق والسياسة في الموروث الفارسي، محور
"الطاعة والعدل"، وهو يعكس النموذج الساساني على عهد كسرى أنو شروان كما
كان محور "الملك والدين" يعكس النموذج ذاته على عهد أردشير، مع العلم أن
ربط الدولة بالدين بجعلها حارسا له إنما كان الهدف منه فرض طاعة كسرى باسم الدين.
ولكي يكتسب المحور الثاني -أعني الطاعة- شرعية تاريخية ربط بأردشير
فنسبت إليه أقوال في هذا الموضوع، منها: "سعادة الرعية في طاعة الراعي وسعادة
الراعي في طاعة الله". ومما له دلالة في هذا الصدد أن ابن المقفع قد أثار هذه
القضية في "رسالة الصحابة"، أعني قضية ربط طاعة الراعي بطالعة
الله، أثارها ليرد على فريق من الناس كانوا يناقشون في زمن أبي جعفر المنصور مسألة
"الطاعة" من خلال تأويل خاص للحديث المشهور: "لا طاعة لمخلوق في
معصية الخالق"، فقالوا ، حسب ما يرويه ابن المقفع: "إذا كان الإمام يعصى
في المعصية وكان غير الإمام يطاع في الطاعة، فالإمام ومن سواه على حق الطاعة
سواء". ويرد ابن المقفع على ذلك بالقول: "لو أن الإمام نهى عن الصلاة
والصيام والحج أو منع الحدود وأباح ما حرم الله، لم يكن له في ذلك أمر"، أما
غير ذلك من "الرأي والتدبير والأمر الذي جعل الله أزمته وعراه بأيدي
الأئمة"،يعني شؤون الدنيا كلها، فــ "ليس لأحد من الناس فيها حق
إلا الإمام، ومن عصى الإمام فيها أو خذله فقد أوتغ نفسه" (رسالة الصحابة).
فعلا، لقد روج ابن المقفع في الساحة الثقافية العربية الإسلامية لإيديولوجيا
الطاعة، ونقل عنه المؤلفون في الآداب السلطانية والنوادر والأخبار حتى جعلوا منها
قيمة أخلاقية ودينية تكاد تعلو على أية قيمة أخرى، مما لا يتسع المجال هنا لتفصيل
القول فيه.
4- أخلاق السعادة العقلية
عندما كنا
بصدد البحث عن القيم المركزية التي تتأسس عليها النظم الأخلاقية في الموروث العربي
"الخالص" والموروث الإسلامي والموروث الفارسي، كنا إزاء مادة غير مبنية
غير منظومية، فكان علينا أن نقترح لها نوعا من البناء والنظام لنستطيع بعد
ذلك القيام بتحليلها ونقدها. أما الموروث اليوناني فهو مبني ومنظومي أصلا، سواء
عند أصحابه المشيدين له –أفلاطون وأرسطو خاصة- أو عند الفلاسفة العرب الذين تبنوه
وعدلوا من نظامه بصورة أو أخرى.
وإذن فلا حاجة
بنا هنا، في هذه الخطاطة العامة، إلى القيام بعملية نمذجة، ولن نعرض للفروق التي
يمكن رصدها بين بناء أفلاطون وبناء أرسطو، ولا لمحاولات إعادة البناء التي قام بها
الفلاسفة الإسلاميون. سنقتصر على إشارات خاطفة إلى المعالم العامة لنظام القيم
التي تنتمي بصورة أو أخرى إلى الموروث اليوناني ككل، لنختم بعدها بتسجيل ملاحظات
ورسم آفاق.
نظام القيم
في الموروث اليوناني يتمحور كله حول قيمة مركزية واحدة هي "السعادة"،
والمقصود "السعادة القصوى" التي هي "الخير على الإطلاق"، حسب
تعبير الفارابي. والسبيل إلى هذا النوع الأسمى من السعادة هو الحكمة،
و"الحكمة هي أفضل علم لأفضل الموجودات"، وبعبارة الإسلاميين "العلم
الإلهي"، أو علم "ما بعد الطبيعة" الذي يتوج العلم الطبيعي في
المنظومة الأرسطية.
ولما كانت
النفس الإنسانية إنما تبلغ كمالها بالمعرفة العقلية التي لا تحتاج فيها إلى ما
تنقله إليها الحواس فإنها بالترقي صعدا على هذا السبيل تصير جوهرا بسيطا لا تحتاج
في قوامها إلى مادة، لا إلى جسد ولا إلى حواس، فتصير من جملة "الجواهر
المفارقة" فتتصل بالعالم العلوي، عالم العقول السماوية، وهذا
"الاتصال" هو السعادة الحقيقية.
الطريق
إلى هذه السعادة القصوى تبدأ أولا بمعرفة النفس على حقيقتها وذلك بالتمييز
فيها-كما فعل أفلاطون- بين ثلاث قوى أو نفوس: القوة الشهوانية التي تحرك الإنسان
إلى ما يشتهيه أو يجذبه من الملذات والخيرات. والقوة الغضبية التي تحركه إلى
"الغضب" عدوانا أو دفاعا أو نجدة. والقوة الناطقة العاقلة وهي التي يحصل
بها التمييز والروية والتفكر. ولكل من هذه القوى فضيلتها: ففضيلة النفس الشهوانية
العفة، وفضيلة النفس الغضبية النجدة، وفضيلة النفس العاقلة الحكمة. ومن اعتدال هذه
الفضائل الثلاث ومن نسبة بعضها إلى بعض تحدث فضيلة رابعة هي كمالها وتمامها وهي
العدالة. وتحت كل واحدة من هذه الفضائل الأربعة فضائل متفرعة عنها، وتقابلها رذائل
أربع، وما تفرع عنها، وهي مضاداتها.
والفضيلة
كما حددها أرسطو هي وسط بين رذيلتين: فالحكمة وسط بين السفه والبله. والعفة وسط
بين الشره وخمود الشهوة. والشجاعة وسط بين الجبن والتهور. والعدالة وسط بين الظلم
والانظلام. وتأتي السعادة في القمة إذ هي تمام الفضائل والخيرات وغايتها.
هناك طريقان
في الموروث اليوناني لبلوغ السعادة. طريق "الاتصال" بواسطة الفلسفة كما
هو عند الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل (على ما بينهم من فروق واختلافات)
وطريق "الإشراق" كما هو عند الفلاسفة الإشراقيين من أمثال ابن عربي
والسهروردي، وهو طريق يمزج بين الفلسفة والتصوف. وفي كلتا الحالتين تكتسي السعادة
طابعا فرديا. ومع أن الفارابي يربط السعادة بالمدينة الفاضلة فإنها تبقى مع ذاك
فردية وأخلاقها فردية كذلك.
غير أنه إذا
كانت القيمة العليا في نظام القيم في الموروث اليوناني هي السعادة، كما بينا، فإن
القيمة المركزية التي تؤسسها هي "العدالة". فما المقصود بالعدالة هنا؟
لعله
من المفيد هنا التذكير بأن فكرة العدالة d ikè في الفكر اليوناني ترجع إلى أناكسيمندر الذي جعل منها معيارا أسمى
يخضع له الكون كله: يعطيه النظام وينقذه من الفوضى. إن فكرة الكوسموس Cosmos التي تعني الكون المنظم، أو نظام الكون، هي التي تعطي للعدالة
دلالتها. الكون في التصور اليوناني كروي الشكل مصمت كله ملاء على صورة بصلة. الأرض
مركزه والأفلاك تحيط به كما تحيط قشرات البصلة بلبها الذي في وسطها بداخلها.
والإنسان على الأرض يلاحظ نظام هذا الكون: الكواكب والنجوم تجري في أفلاكها، لا
تتصادم ولا تتأخر أو تتقدم. النهار يعقبه الليل والليل يعقب النهار بدون كلل و لا
خلل، وكذلك الفصول الأربعة والرياح والأمطار الخ، كل شيء في مكانه ووقته. هذا
النظام لا يترك مجالا للفوضى ولا للمصادفة. الأشياء كلها منزلة في منازلها. وتلك
هي العدالة عندهم. لاشيء في الكون يترك منزلته ليعتدي على منزلة غيره.
الكون
والمدينة نموذج واحد. بنى اليونان نظام الكون على غرار نظام مدينتهم، وجاء
الفلاسفة الإسلاميون –والفارابي بالتخصيص- فبنى مدينته الفاضلة على غرار الكوسموس
اليوناني. سنغض النظر الآن عن هذا القلب لنسجل أن العدالة في المدينة، عنده
وعندهم، هي في محاكاة هذا النظام الذي يقوم على "إنزال الناس منازلهم".
المجتمع اليوناني مجتمع قائم على ثلاث طبقات: المنتجون من فلاحين وحرفيين الخ، وهم
عبيد أو في وضعية العبيد، والجنود المدافعون عن المدينة القائمون بحراستها والحفاظ
على نظامها وسيرها، ثم الحكام المدبرون للشأن العام.
ينقل
أفلاطون هذا النموذج نفسه إلى النفس البشرية فيجعلها قوى ثلاثة كما رأينا: القوة
الشهوانية ويقابلها في المدينة المنتجون لما به تطفأ الشهوة إلى الطعام وهم
العبيد. والقوة الغضبية وهي النفس السبعية في الإنسان ويقابلها الجند والحراس في
المدينة، والقوة العاقلة أو النفس الناطقة ويقابلها في المدينة السادة الحكام.
العدالة هي أن تحاكي النفس في نظامها نظام المدينة وتحاكي المدينة بدورها نظام
الكون. يجب أن يبقى كل شيء في مكانه حتى لا يختل النظام. العدالة هي أن يبقى
العبيد عبيدا والجنود جنودا والسادة سادة. ذلك هو معنى "إنزال الناس
منازلهم".
أما السعادة
فبما أنها سعادة عقلية تحصل للنفس ببلوغها أسمى درجات المعرفة فهي، أعني السعادة،
خاصة بالطبقة التي هي في منزلة العقل من الإنسان، أي الفلاسفة الذين لا تكون
المدينة فاضلة إلا بتوليهم دفة الحكم. أما العبيد (والجهال- لا فرق) فهم آلات
كالحيوان، كل حاضرهم ومستقبلهم في جسمهم، يفنون تماما بانحلاله وفنائه. أما من هم
دون الفلاسفة الحكماء وفوق العبيد فلهم عندا الفارابي مصير وعند ابن سينا مصير،
وعند غيرهم مصير، وفي جميع الأحوال فـ "المؤقت" يحكم مصيرهم: يمكثون في
الشقاوة أو في السعادة، لبعض الوقت، قد يطول أو قد يقصر.
5- أخلاق الفناء
أخلاق
"الفناء" مثل أخلاق "السعادة" من حيث غايتها وطابعها الفردي.
والفرق بينهما أن السعادة طريقها الارتقاء على سلم المعرفة العقلية بينما تنبني
أخلاق "الفناء" على مدى الرقي بالنفس… أخلاق "الفناء" هي
أخلاق التصوف. والتصوف بوصفه تجربة روحية تقوم على "تطهير النفس" -وليس على
المعرفة- له نظام من القيم خاص به يشكل "الفناء" القيمة الأسمى فيه.
ونظام القيم عند المتصوفة بهذا المعنى "مقامات وأحوال". أما المقامات
فهي آداب السلوك وأنواع الرياضات التي يمارسها المتصوف على طريق تصفية نفسه
وتطهيرها، مثل مقام التوبة ومقام الزهد ومقام الورع الخ… أما الأحوال فهي جملة الحالات
النفسية الوجدانية التي يعيشها المتصوف دون اختيار أو اكتساب، وهي تتفاضل بترقي
السالك في طريقه إلى أن يبلغ حال الوصال، أو المكاشفة، أو الفناء: فناء السالك
(المتصوف) في الذات الإلهية. ويلخص المتصوفة هذه الأحوال في حديث ينسبونه إلى
النبي بالصيغة التالية: "إن لله تعالى وتبارك شرابا لأوليائه، إذا شربوا
سكروا، وإذا سكروا طربوا، وإذا طربوا طابوا، وإذا طابوا ذابوا، وإذا ذابوا خلصوا،
وإذا خلصوا وصلوا، وإذا وصلوا اتصلوا، وإذا اتصلوا لا فرق بينهم وبين
حبيبهم". قد يكون "الاتصال" مجرد "وصال"، وقد
يتحول إلى "حلول" أو "وحدة وجود" مما لا مجال هنا
لتفصيل القول فيه.
خاتمة
تلك كانت
نظرة إجمالية عن النمذجة التي نقترحها لتحليل ونقد منظومات القيم في الثقافة
العربية الإسلامية في إطار مشروعنا العام "نقد العقل العربي". وغني عن
البيان القول إن هذه النمذجة غير مقصودة لذاتها، وإنما هي وسيلة منهجية للتحكم في
الموضوع والإمساك بتلابيبه. ولسنا أدعي أنها النمذجة الوحيدة الممكنة، ولكنها فيما
يبدو مناسبة وملائمة. لقد اعتمدنا تصنيف القيم في الثقافة العربية الإسلامية حسب
الموروث الثقافي الذي انحدرت منه والذي إليه تنتمي، وذلك من أجل إبراز أصولها
ووظيفتها ودلالتها الأصلية، وبالتالي الكشف عن نوع الرؤية التي تحملها معها عن
الإنسان والمجتمع والدولة. إن نظام القيم ليس مجرد خصال حميدة أو غير حميدة يتصف
بها الفرد فتكون خلقا له، بل هو بالدرجة الأولى معايير للسلوك الاجتماعي والتدبير
السياسي ومحددات لرؤية العالم واستشراف المطلق. صحيح أن منظومات القيم التي ذكرنا
قد تداخلت في الثقافة العربية على مر العصور نوعا من التداخل، ولكنها مع تداخلها
لم تندمج في نظام واحد، بل بقيت، ومازالت، تشكل مرجعيات متباينة متمايزة ومتنافسة.
إن بعضها مازال مستقلا بنفسه يؤكد وجوده وحضوره في شتى المناسبات، في هذه الجهة أو
تلك من الأرض العربية. فالقيم البدوية مازالت نظاما يحافظ على استقلاله ونفوذه،
كما أن أخلاق "الطاعة" مازالت تمارس تأثيرها بعد أن ألبست لباسا
إسلاميا. وإذا كانت القيم الغربية الحديثة تفعل فعلها في النخبة العربية العصرية
فإن القيم العرفانية الصوفية المنتمية إلى الموروث اليوناني والهيلينستي مازالت
تحتفظ بمواقع لها في رؤى وسلوك أوساط عديدة من المثقفين العرب، تقليديين وعصريين.
ولابد من
الإشارة إلى أن اهتمامنا هنا منصب فقط على القيم الأخلاقية الاجتماعية
والسياسية (بالمعنى الذي كانت تفهم به العلاقة بين الأخلاق والسياسة في الفكر
القديم). أما القيم الجمالية من جهة، والقيم الشفوية التي تقع خارج الثقافة
العالمة من جهة أخرى، فهي تقع خارج اهتمامنا واختصاصنا.
هذا
من جهة، ومن جهة أخرى فنحن أول من يدرك ما في العرض من نقص. ولو سبق أن عرضنا كتاب
"بنية العقل العربي"، أو "العقل السياسي العربي"، قبل
كتابتهما، هذا النوع من العرض والنمذجة وقلنا إنا سنمحور عملنا على ثلاثة مفاهيم
هي البيان والعرفان والبرهان، بالنسبة للأول، أو القبيلة والغنيمة والعقيدة،
بالنسبة للثاني، لما تصور القارئ نوع الجهد الذي تطلبه هذان الكتابان، قبل أن يطلع
عليهما. إن النمذجة تقوم دوما على نوع من الإفقار للموضوع بقصد تعرية بنيته
والإمساك بتلابيبه، فعسى أن لا يخيب الظن في مشروع الجزء الرابع بسبب هذا الاختزال
النمذجي الذي لم يكن منه بد في عرض محدود كهذا.
***
وبعد، فإن
الإنسان لا يهتم بالماضي إلا من أجل الحاضر والمستقبل. لقد أشرنا في مقدمة هذه
العجالة إلى الأهمية التي تكتسيها مسألة القيم والأخلاق في أيامنا هذه. وبما أن
القيم القديمة تبقى حاضرة تزاحم القيم الجديدة، في كل عصر، فإن قيم الماضي لا تسمح
بانبثاق قيم جديدة من داخلها بفعل التطور والاحتكاك مع الثقافات الأخرى، إلا إذا
تم الفصل فيها بين ما يلائم العصر وما لا يلائمه. وغني عن البيان القول إننا في
عصرنا هذا نحتاج إلى كثير من المروءة وإلى كثير من العمل الصالح… أما قيم
"الطاعة" والخنوع ونشدان "سعادة" فردية موهومة أو "الفناء"
في المطلق والهروب من الدنيا، فلست أظن أنها قادرة على جعلنا أكثر قوة واستعدادا
لمواجهة التحديات التي يطرحها عصرنا.