وردة على
سطح المريخ
إبراهيم فاضل(*)
-1-
لا
أدري إذا كان السؤال "أثمة حياة على سطح المريخ؟" يعني أحدا في الثقافة
العربية المعاصرة.
بل
قد أحس أحيانا أن صدور المثقفين العرب لتضيق ضيقا شديدا بمثل هذا السؤال. فمنهم من
قد يعتبره أقرب إلى أسئلة التنجيم بأبراج الفلك منه إلى المشروع من موضوعات
المعرفة. ومنهم من قد يرى فيه تدخلا مكروها من المخلوق في اختصاص الخالق. هذا إلى
اتفاق هؤلاء المثقفين جميعا على أن في هموم الثقافة العربية اليوم ما هو أهم من
قضية الحياة والموت على سطح المريخ.
لا
أستطيع، أيها القارئ العزيز، أن أخبرك بآخر ما يعرفه الفلكيون عن حيوات غير حياتنا
في فضاء الكون الواسع، ولكني أستطيع أن أقول لك بثقة شاعر من شعراء الفرح والرجاء،
أن وردة ذات ثلاث بتلات تفتحت الصيف الماضي على سطح المريخ.
-2-
كان
جسم دليلة، العربة الفضائية التي وصلت المريخ في مثل هذه الأيام من العام الفائت،
جسما بثلاثة أجزاء: الحافظة والحاضنة والجوالة، هي في لغة الورد الكأس والنَّوْرُ
والجَنَانُ.
أما
الحافظة فدرع العربة نار الدخول النيزكي في سماء المريخ، ولها شكل المخروط، ما أن
تتم العربة ولوج سماء المريخ، وتصل من سطحه إلى مسافة محسوبة، حتى ينخلع المخروط
عن الحاضنة انخلاع الإزار، فتشرئب منها حبال مظلة لا تلبث أن تنفتح فتكبح سرعة
الهبوط. ثم ما هي إلا ثوان حتى تنتفح كرات بغاز حول الحاضنة، تنتفخ لتحميها وتحمي
الجوالة فيها من الارتطام بسطح المريخ، كما حمتهما الحافظة من حريق الولوج في
سمائه. وهذه الكرات عظيمة، قطر منها يزيد على قامة إنسان، وهي تنضم حول الحاضنة
كالهرم، له أربعة وجوه، فالكرات وجوهه، والحاضنة في مركزه.
ولو
قلت إن الوردة لما التقت المريخ، أخذت تقفز فرحا، لما خرجت عن الذي حصل، بل لقصرت
في وصف القفزات. فقد حسب المهندسون أن هرم الكرات ما زال يرتطم ويرتد، ويرتطم
ويرتد عن سطح المريخ، حتى اجتاز مسافة نصف ميل، ثم قر على وجه من وجوهه. فما أن قر
حتى جرى عليه ما يجري على كل تَعَبٍ من التنهد والزفير. كرات بل رئات امتلأت ثم
انبسطت إلى آخر الراحة. وآخر الراحة أن يقر نسيجها الأبيض على تربة المريخ
الحمراء. وقد رأيت صورة هذا النسيج مركوما خائرا حول الحاضنة، فبسطته في مخيلي،
وقلت هو ورقة وردة اللوتس عائمة على ذكرى الطوفان.
-3-
العوم
على ذكرى الطوفان؟
ليس
هذا بمجاز شعري. فأغلب الظن أن السرير الذي نامت فيه دليلة المريخ ليلة وصولها
إليه كان مجرى نهر، أو واديا غمره في غابر عمر المريخ الفيضان. من مهام الجوالة أن
تسأل الصخور فيه عن ماضي الماء. غير أن الوقت ليل، وعليها أن تنتظر النهار-أول
نهار لها على سطح هذا الكوكب الجار.
-4-
ليس
المجاز وقفا على الشعر. والوردة التي تفتحت على سطح المريخ مجاز لم أجده في أسطورة
أو ديوان، بل أخذته سماعا من فم مهندس مختص بالملاحة الفلكية، جاءنا قبل أسبوعين ليحدثنا
عن رحلة دليلة المريخ إلى المريخ. وهو قد نطق هذا المجاز لا ابتغاء بلاغة بل عناية
بالتدقيق.
أقول
ليس المجاز وقفا على الشعر. ولو أنك أخذت المجاز بمعناه الأول، وهو العبور بين
حدين، لكان كل قانون من قوانين الطبيعة مجازا على هذا التعبير، لأن القانون الطبيعي
في نموذجه الرياضي، معادلة بين طرفين، أي عبور بين حدين، على جسر من إشارة
المساواة.
بيد
أن المجاز الهندسي أعقد وأعمق وأدق من المجاز الشعري أو المجاز العلمي أو المجاز
الأسطوري. إذ لا يأتي المجاز الهندسي بجسر يصل بين حدين فحسب، بل هو يأتي، مع
الجسر، بكل مدنية العبور.
في
مجاز الوردة، الوردة هي الجسر، وهي مدنية العبور. وردة ألقتها الأرض إلى المريخ في
الشتاء، فما وصلت إليه إلا في الصيف. في مجاز كل وردة العبور والنمو والتفتح معنى
واحد. وفي مجاز وردة المريخ عبوران: واحد في المكان، وواحد في الزمان. أما عبور
المكان، فهو أن جذرها في الأرض ونورها في المريخ، وأما عبور الزمان، فهو لأنها أول
الجنس-حواء الكوكبين.
-5-
ليس
كمال المجاز حتما، ولكنه ظن واحتمال. عُدْ إلى هرم الكرات، وفَكَّرْ بوجوهه
المتساوية أشكالا، المتشاركة في حفظ الحاضنة، هل هي متساوية من جهة الورد؟ أو ليست
الوردة تريد أن تهبط قائمة على ساقها، لا مقلوبة على جنبها، أو منكوسة على تاجها؟
في
حساب الاحتمال، نسبة كمال المجاز في وردة المريخ، هي الربع، لأن للهرم الحامي
أربعة وجوه. ولا يكمل المجاز إلا إذا قر على واحد منها، هو وجه الساق. وقد كان من
حلاوة النصيب أن الوجه الذي رسا عليه هرم الكرات هو عينه الوجه الذي تخرج منه
الحاضنة، ومثلها الجوالة، قائمة على قاعدتها، لا مضطجعة على جنب من جنوبها. ولو
وصلت مضطجعة لتأخر العلم بسلام الوصول ثلاث ساعات.
غير
أنه لم تمض على هدوء الدليلة ثلاث دقائق إلا ومرسلها يبث إلى الأرض أول الإشارة
أني استويت على المريخ، وعلى الأرض السلام.
بين
لحظة البث من المريخ ولحظة الاستقبال على الأرض حوالي ربع الساعة. هي الوقت الذي
تحتاجه الموجة الكهرطيسية لقطع المسافة بين الكوكبين.
قال
المهندس إنه عاش الزمن الذي مر بين إرسال الإشارة الأولى واستقبالها معلقا بين
الأرض والمريخ في المكان، ومعلقا بين ماضي البث ومستقبل الاستقبال في الزمان،
ومعلقا بين حلاوة الظفر ومرارة الخسارة في ميزان الإنسان.
إشارة
-موجة كهرطيسية أطلقها المريخ الآن، وستتلقفها الأرض بعد ربع ساعة، تحمل إما بشير
النجاح أو نعي الفشل. إشارة، قال المهندس، هي إشارة المصير، لأن مستقبلي يعيش، منذ
أن انطلقت، في ماضيها. وهي الفرق بين أن يلعنك التاريخ أو يكرمك- بين أن تنعم في
تقدير الدولة وتكريمها أو أن تمثل ذليلا أمام محاكم التفتيش.
ذكرتني
إشارة المهندس إلى المصير في إشارة الخبر بين الأرض والمريخ بقول ينسب لهرمس
الحكيم عن "سهم الموت ينطلق في أول الحياة فما هو إلا أن يصيب".
في
ربع ساعة من سفر موجة، يتكثف كل المجاز، فإما وردة نضرة تحيا كلمة طيبة، أو وردة
جفت وحيدة في سفر الفضاء، فلا يغني لا هرم الكرات ولا الوصول.
-6-
لن
تعرف معنى التجربة الإنسانية في الإبداع الهندسي حتى تشهد ما شهدت على شريط مصور
في مركز مراقبة رحلة الشتاء والصيف إلى المريخ. شريط سجلت عليه لحظات الفرح التي
تلت لحظة وصول الإشارة البشيرة، بعد إذ بثتها الدليلة من المريخ. ما أن تيقن
المهندسون منها حتى أخذوا يصرخون كالداخل في حال الوجد. ثم أخذوا يتعانقون كأنهم
وجدوا أنفسهم بعد ضياع. ثم عادوا لينظروا إلى الشاشة كأنهم لا يصدقون ما يرون.
تلك
هي اللحظات التي يحيا لها كل مبدع، بل هو يكاد أن يموت في سبيلها، وهي اللحظات
التي تبقى مع المبدع ذكراها، فتملك الباقي من عمره، فكأنه قبلها لم يك شيئا. وهي
اللحظات التي لم أعرف مبدعا يعدلها بشيء من عرض الدنيا.
إشارة
واحدة كفتهم ليعلموا أن الرحلة التي بدأت قبل سبعة أشهر قد وصلت، وأن الوردة هبطت
قائمة على ساقها، وأن الحاضنة سليمة، والجوالة آمنة، فما على البتلات إلا أن تنتظر
فجر المريخ، وما عليهم إلا أن ينتظروا عيني الجوالة أن تريهم آفاقه.
أما
المهندس الذي ظل معلقا ربع ساعة في الزمان والمكان وميزان الإنسان، فقد رأيته في
هذا الشريط المسجل تتنازع تعابير وجهه دمعات عينيه خلف نظارتيه وابتسامة واثقة
خفيفة بين شفتيه. لا جرم أن العقل يعرف العاطفة، وأن الغبطة يؤتيها العمل.
ثم
إني نظرت في هذا النوع من الإبداع فوجدته جماعيا، وفي أصحاب الوردة وصواحبها،
فوجدتهم شبابا، وفي المجاز عموما، فوجدت أجمله الفعال.
-7-
إذن
قر هرم الكرات على سطح المريخ، وبرزت الحاضنة من بياض نسيجه المبسوط على التراب
الأحمر، أذرعها مضمومة حول الجوالة كالنور في نعاس الورود. فما هي إلا دقائق وأذرع
الحاضنة الثلاثة تنفتح، تتفتح بتلات حول الجنان-بتلات سطوحها خلايا من مرايا، تحس
ضوء الشمس فتمتصه، كما تمتصه الخضرة في النبات، وتحيله إلى نسغ القدرة الذي يحرك
ما على الحاضنة من حواس، أعني من أجهزة رصد وتصوير وإرسال وقياس.
ومن
بين البتلات المفتوحة، تخرج الجوالة- السداة، سطحها خلايا من مرايا، تهبها من
الشمس القدرة على التصوير والتنقيب والانتقال.
أجل،
الحركة والانتقال، فإنها سداة ذات عجلات، تنتظر شمس أول يوم لها على سطح المريخ،
لتنهض إلى صخره فتسأله عن ماضي الماء، وإلى أفقه فتسأله عن مستقبل الأحياء.
-8-
أول
ما أرتني دليلة المريخ، من صور كوكبها، صورة الجوالة وهي تتأهب للنزول إلى سطح
المريخ على السكة التي مدتها الحاضنة خلفها وأمامها. كانت الحجارة جالسة في موقع
الهبوط تنتظر قرار الدليلة-نساء داكنات جلسن القرفصاء منتظرات على الأبواب بين بيت
الذكرى وشارع النسيان.
كانت
التربة حمراء، والسماء رمادية، والأرض الزرقاء فوق الأفق لا تُرى من وَضَح النهار،
وكان أفق المريخ في هذا الموضع يرسمه تلان متدانيان.
رأيت
هذه الصورة الأولى بعيني الحاضنة. وكانتا ترتفعان على سارية، من جذع وعنق، قامتها خمسة
أقدام. وكان إلى جانب السارية الناظرة، غصن معدني، وقرص كوجه دوار الشمس، هما
هوائيا الاتصال مع الأرض، تراها دليلة المريخ كما نرى المريخ-نجمة حائرة في ليال
من صفاء السماء. وكان إلى الخلف واليمين من سارية العينين طويلة عليها حاسات تقيس
سرعة الريح وحرارة الهواء.
وكذلك
كان للجوالة عينان. وقد أرتني بهما بين ما أرتني من مشهد المريخ، بعيد نزولها على
سكة الحاضنة، صورة الحاضنة، بتلاتها مفتوحة للشمس كوجه اليقظان، ونسيج الكرات
الأبيض مبسوط، تحتها وحولها، غطاء على سريرها في وادي الطوفان، وآثار أولى من
عجلات الجوالة على تراب المريخ، تمتد حبل سرة واصلا، ما زال، بين البتلات
والسداة-آثار عجلات هي أول توقيع خطه المهندسون على المريخ بجسد الأشياء.
ثم
تواترت الصور بعدهما، منها ما يرينا بسيطة المريخ وسماءه بعيني الحاضنة، وهي
أغلبها، ومنها ما يريناهما بعيني الجوالة. أما هذه فكانت تنتقل مسافة قدمين كل
دقيقة، من حجر إلى حجر، تبحث، وتنقب، وتقيس، وتبث إلى الحاضنة ما ترى وتجد، وهذه
تبث إلى الأرض ما تريان وتجدان.
-9-
ليست
الصور بجالية لكل الأسرار. وصور مناظر المريخ، على روعتها وسحرها، لم تخرج عن هذا
الناموس في الطبيعة والإنسان. إذ لم يكن في صور المريخ التي رأيناها، ببصر
الدليلة، الثابت منه والجوال، أن هواء المريخ غير هواء، وأن تراب المريخ غير تراب،
وأن لبعض الحجارة عليه، من حجارة الأرض بعض قربى ليست للغبار، وأن قوة الجاذبية
على المريخ ثلثها على الأرض، وأن ضغط الهواء هنالك عشرة عندنا، وأن الريح تعصف في
فلواته وعلى قممه فلا يشعر بها رمل ولا حجر، لخفة هوائها، وضعف فيه، وأن الحرارة
عليه تتفاضل درجات عديدة بين السطح وما لا يزيد ارتفاعا عن خمسة أقدام.
هذا
ولم يكن في صور المريخ شيء عن حاضر الماء أو ماضيه، اللهم إلا زرقة في حمرة رأيتها
في صورة السماء عند الفجر قبل طلوع الشمس فوق الأفق-زرقة هي انتشار الضوء على
جزيئات من جليد الماء، تعلق بالغبار المؤكسد الذي يهب المريخ حمرة الآجر في التراب
والسماء. لا ولم يكن في صور المريخ أن يومه كيوم على الأرض، وأن عامه كعامين، وأن
فيه أربعة فصول، وأن جليد القطبين ماء في قطب الشمال وثاني أكسيد الفحم في قطب
الجنوب.
لا،
ولم تكن الموجودات المشهودة في صور البقعة المصطفاة للهبوط على المريخ إلا موجودات
محضة لم تجر عليها التسمية قط. أعني أنها كانت أشياء بلا أسماء.
-10-
إيماءة
من أبي الفتح عثمان بن جني: في فصل جميل، من كتابه "الخصائص"، عن أصل
اللغة: أتوقيف هي أم اصطلاح؟ كتب ابن جني في معرضه لحجج من قال بالمواضعة
والاصطلاح أن "على هذا [ أي على المواضعة] ما نشاهده من اختراع الصناع لآلات
صنائعهم من الأسماء، كالنجار والصائغ والحائك والبناء، وكذلك الملاح. قالوا: ولكن
لا بد لأولها من أن يكون متواضعا بالمشاهدة والإيماء".
-11-
يستعين
المهندس بالمجاز لإبداع التصميم، ثم يذهب بالمجاز إلى أقصاه، فيثبته في الكيان،
ويكتبه بجسد الأشياء. أن ينجح في هذه الكتابة هو، أولا، أن يضيف إلى عالم الأشياء
ما لم يكن فيه من ذي قبل. وهو، ثانيا، أن يوسع عالم المعاني إذ يوسع عالم الآلات.
وهو، ثالثا، أن يبني، عن حق مأخوذ، لهذه المعاني والآلات بيوتا جديدة يسكنها فيها،
هي بيوت الأسماء.
الكتابة
بجسد الأشياء هي أصعب الكتابات. لأنها تلك الكتابة التي تريد، في مجاز وردة المريخ
مثلا، أن تكون زاوية الدليلة، وهي تلج سماء المريخ، أربع عشرة درجة لا غير، إذا
زادت شعرة ردت السماء الدليلة إلى تيه الفضاء، وإذا نقصت شعرة احترقت الدليلة قبل
أن تصل إلى غايتها من رحلة الصيف والشتاء. وهي الكتابة التي ترينا صورا تبث من
ثلاثمائة مليون ميل كأنها تبث من غرفة في الدار. وهي الكتابة التي تغزل لقاء
الأجرام وهي تسبح في أفلاكها، هذا جرم الدليلة يفلت من جاذبية الأرض، وذاك جرم
المريخ تتلقف جاذبيته الدليلة بعد رحلة سبعة أشهار وثلاثمائة مليون ميل. إنها
الكتابة التي تجعل من الجوالة مصورة، منقبة، وباحثة. تفاوض الحجر على السبيل، أو
تمتحن صفاته لتعرف من أي العناصر هي. تقوم بكل هذا وهي في جو غريب غير جو الأرض،
كل قدرتها من الشمس، ولكن تكاد أن تكون كل حركتها من ذاتها، أعني من درسها لمحيطها
بالحاسات، وتخطيطها للوجهة، والسرعة، ومواضع العجلات.
على
كل هذه الآلات تواضع المهندسون من ملاحي المريخ في اختراع الأسماء. حتى الجوالة
اختاروا لها اسم علم هو Sojourner Truth تيمنا بمن كانت في القرن الماضي داعية إلى المساواة العرقية في
أمريكا، سائحة بين ولاياتها تنذر وتبشر.
أقول:
وأول ما تواضع عليه المهندسون من الأسماء لما أخذوا ينظرون بعيني الدليلة إلى
بيداء المريخ هو اسم "روض الصخور"، أطلقوه على موضع كثرت فيه الحجارة
قرب الحاضنة. فتأمل كيف أن مجاز الوردة أعانهم على التصميم، ثم توسع لهم فأعانهم
على التعليم.
-12-
ثم
انعكف المهندسون على تسمية الحجارة المحيطة بالدليلة حجرا حجرا. يسمونها بأسماء
ألفوها مما علق بذاكرتهم من أعلام وجماد. ولا عجب، فإن تسمية الغريب بأسماء
المألوف أول حسن الصلة وأول الشعور براحة الوصول. على أنهم لم يخرجوا، وهم في عرس
الكلمات، عن أن يكونوا في براءة أطفال يسمون ألعابا حصلوا عليها لتوهم، وإن تكن
بعيدة عنهم ملايين الأميال.
هذا،
وقد كان لهم، في كل يوم، واحد منهم، يدعونه "شيخ المسمين" يأخذ ما
رفعوا، إلى الأشياء المشهودة في صورها، من جديد الأسماء، فيعرضها على شروط اتفقوا
عليها، فيسقط من الأسماء الجديدة ما لا يفي بالشروط، ويقر ما تبقى أسماء جديدة على
سبيل المواضعة والاصطلاح.
أقول:
ولو أن أبا الفتح أراد مثالا كيف تكون المواضعة في اللغة بالمشاهدة والإيماء، لما
وجد خيرا من هذا المثال.
-13-
وأذكر
أني انكببت الصيف الماضي على بعض صور المريخ هذه، وكانت مبذولة على الإنترنت لكل
مهتم. فرحت على شاكلة إخواني المهندسين أسمي الصخور بأسماء من عندي آلفها. وكنت
أوميء وأشير إلى الحجارة، وأقول هذه هي الضحوك، وهذه الصماء، وهذه العذبة، وهذه
المستورة، وهذه جبهة حائط، وهذه البلاطة، وهذه الشعرة، وهذه بنت الرحى، وهذه
الرشيدة، وهذه أم الحصى.
وقد
شهدوا في صورة رملا مركوما، فسموه كثيب الحورية، وسميته "أوراك الحسان".
أما التلان التوأمان اللذان رسما أفق المريخ في إحدى الصور، فدعوتهما
"النيربين". وقد كنت أحدث نفسي بشجرة، تظهر فجأة على نهدة من الفلاة، في
صورة تبثها الجوالة من المريخ وهي تنتقل غير مكترثة بما ترى، فأسمي الموضع
"الربوة"، وأسمي الشجرة "ياسمين".
غير
أني قبضت على عيني الهاربتين بين الصور، ونظرت بهما إلى ما فيها من مناظر بيداء
قاحلة حمراء، وألفيت نفسي أقول: "هذه بيداء لم تعرفك يا أبا الطيب".
-14-
إذن
في الإبداع الهندسي، المبدع هو المسمي، أما في الإبداع الشعري، فالمبدع ساكن في
الكون المسمى. ليس هم الإنسان الصانع أن يبدع الأشياء فحسب، بل همه كذلك أن يدخلها
في بيوت الأسماء. وليس هم الإنسان الشاعر أن يبتكر المجاز تلو المجاز فحسب، بل همه
كذلك أن يلتصق بالأشياء التصاق الصانع بها، لما كانت محض مشروع في المادة، عارية
من لباس الألفاظ. أعني أن من شوق الشاعر أن يخرج الأشياء من الأسماء، ويقف معها في
البرزخ حيث لا مسمى، بل شيء ومشيئة فحسب-شيء الصانع ومشيئة الشاعر.
في
موقف البرزخ هذا عودة إلى البراءة مع الأشياء، وإياب إلى حالنا مع صور الجوالة نرى
فيها أشياء لا أسماء لها لأول مرة في تاريخ الإنسان. وفي موقف البرزخ هذا، يصبح
الشعر ممكنا تاما، وتنفتح أمام الشاعر أبواب المجاز.
أقتفي
خطا ابن جني (انظر أول كتاب الخصائص: باب القول على الفصل بين الكلام والقول)،
فأضيء ظليل ما أقول بثنائيته حول القول والكلام، وأقول: الإنسان الصانع، إذ يدخل
الأشياء في أسمائها، يدخلها في القول فحسب. أما الشاعر فيريد ما هو أتم من
القول-هو يريد الكلام. أو قل، مع الكاتب الأمريكي هنري ميلر، إن ما يعني الشاعر هو
اللغة، وليس الكلمات.
-15-
"البرزخ"
عنوان قصيدة لأدونيس (انظر أعماله الشعرية الكاملة، الجزء الثاني، دار المدى،
1996) وردت فيها لازمة شعرية هامة هي:
"تخرج
الأشياء من أسمائها، لا أسميها، ولكن…"
وهي
النواة المجازية التي تنمو حولها القصيدة طبقة من المعنى فوق طبقة. موقف البرزخ في
قصيدة أدونيس هو، أولا، أن تعود الأشياء إلى إبانها والصانع معها قبل أن يسميها.
وهو، ثانيا، أن يستدرك الشاعر (ولكن) بعد تعليق التسمية، فيطلق المجاز حتى تحل
اللغة محل الكلمات (ميلر)، ويأخذ الكلام مكان القول (ابن جني).
وهو
الموقف الذي من أجله علق أبو الفتح الحكم على أصل اللغة: أمواضعة هي أم إلهام؟
ونزل منزلة بين المنزلتين. فكأنه ترك للإنسان الصانع حرية إدخال الأشياء في بيوت
الأسماء، وترك للإنسان الشاعر حرية نزعتها منها حين يشاء.
والشاعر،
إذ ينزع هذه الأسماء، يضع نفسه في منزلة آدم الفردوس والأسماء لما تعرض عليه. وهو،
إذ يعلق التسمية، يجعل كل اللغات ممكنات في القلب واللسان، وكل أشياء العالم
واجبات الحضور في الزمان والمكان. وهو، إذ لا يسمي، يبقى في عالم من خالص رؤية
وسماع وعلم وفهم وكشف-عالم الصورة التي وصلت لتوها، بثتها سداة ذات عجلات من على
سطح المريخ.
على
أن موقف البرزخ هو موقف كل مبدع إذ يتهيأ أمام بشارة المجاز. كما وقفه ذلك المهندس
الفلكي، وهو ينتظر الموجة الكهرطيسية-إشارة البشارة بسلام وصول دليلة المريخ إلى
المريخ.
مازلت
أتحدث في هذا المقال عن مجاز الوردة التي تفتحت على سطح المريخ، وعن الأشياء التي
أدخلها المهندسون الفلكيون في بيوت الأسماء، فما أنسب أن أختم هذا القدر منه بهذا
المقطع من أول قصيدة "البرزخ" لأدونيس:
"يخرج
الشيء على أسمائه-لا أسميه، ولكن
قلد
الورد يد الشاعر واستسلم للماء الذي قلد نهر الرغبات
فقل
الآن لليل الكلمات:
أنت
نور آخر يقتحم الفجر عليه
سأحيي
وردة يحملها الشعر إليه-"
-16-
ظلت
الدليلة تعمل على سطح المريخ مدة ثلاثة أشهر. بلغ ما بثته من صور المريخ إلى الأرض
خلالها ست عشرة ألف صورة، بثت أغلبها الحاضنة وهي جزؤها الثابت، وبثت الجوالة، وهي
جزؤها المتحرك، خمسمائة وخمسين صورة. وقد كان من عمل الجوالة وهي تنقب، وتبحث،
وتفحص بسيطة المريخ حول الحاضنة، أنها أجرت خمسة عشر تحليلا كيميائيا لبعض صخوره،
أرسلت نتائجها إلى الأرض، مع آلاف القياسات الجوية التي أجرتها الدليلة لضغط
الهواء وسرعته وحرارته في موقعها من سطح المريخ.
وليس
هذا المقال المجال الأنسب للتوسع في النتائج العلمية التي أفضت إليها كل هذه الصور
والقياسات. بيد أني أود أن أذكر أن أجمل ما رأيت من بين صور المريخ أزواج التجسيم،
ينظر إلى كل زوج منها بجهاز بصري بسيط يدعى المجسام، فيربك المشهد مجسما بأبعاده
الثلاثة من طول وعرض وعمق، حتى ليخيل إليك أنك تشهده وأنت فيه، أي على سطح المريخ،
لا خارجه، هنا على سطح الأرض.
كما
أني استظرفت موازنة عقدها مهندس صديق بين رحلة المريخ هذه وفيلم ما زال العهد به
قريبا، جنت هوليوود منه مالا طائلا، هو فيلم التايتانك. قال: "لا شك عندي أن
رحلة المريخ فيلم أنجح، لأن الصور التي وصلتنا منها مما لا عين رأت، ولأن القصة
أجمح خيالا، والإخراج أرفع فنا، والإنتاج أقل كلفة، والحصيلة أعظم نفعا، والحكاية
أسعد خاتمة، فعربة الفضاء انتهت إلى سطح المريخ حيث أردناها، أما عابرة المحيط فقد
انتهت منه إلى القاع حيث لم يردها أحد".
-17-
لما
توقف إرسال الدليلة، وانقطع الأمل بإعادة الصلة معها، عقد الفريق المشرف على
الرحلة مؤتمرا صحفيا، ليعلن فيه عن نهايتها، وليعرض على الجمهور آخر ما عرف أعضاؤه
عن حال الدليلة، وحال المريخ.
وقد
كان من أبعث الأمور على تأملي، في مؤتمرهم هذا، قول أحد المهندسين في بدايته:
"أتينا إلى هنا لنرثي الدليلة، لا لندفنها. "وهو قول باعث على التأمل
لأربعة أسباب.
الأول
هي أن الدليلة حقيقة بالرثاء. فقد صممت الحاضنة لتعمل في جو المريخ مدة أقصاها شهر
واحد، فظلت تعمل ثلاثة أشهر، وصممت الجوالة لتعمل معها مدة أقصاها أسبوع واحد،
فظلت تعمل إثني عشرة أسبوعا. ولو بحثت عن أشد فرح المهندس لوجدته فرحا بآلة تؤدي
أفضل مما خمن، وتذهب إلى أبعد مما حسب. وهو بهذا شريك الشاعر الذي تفرحه استهارة تقول
أكثر مما أراد.
أما
السبب الثاني فهو أني وجدت القول أعلاه معبرا لا عن حال هؤلاء المهندسين مع
الدليلة فحسب، بل عن حال البشرية كلها مع التقنية كلها. إذ قلما تدفن البشرية
الجسد التقني، رغم كل ما يقال في ذم ما ينعت بالسيطرة التقنية على مصائر الناس.
فالبشرية تخلق الجسد التقني، وتعدله، وتجعله عنصرا في الجسد الآتي بعده. وهي ترتكز
إليه، وتبني عليه، ولكنها لا تدفنه.
أما
السبب الثالث فهو أن هذا المهندس دخل، بهذا القول، في باب المجاز الشعري الذي يؤدي
المعنى كما لا يؤديه الكلام على الحقيقة. فلو أنه قال "نعلن اليوم نهاية
الرحلة" لفهمه الناس في الحال، ولنسيته اللغة في كل الأحوال.
أما
السبب الرابع الذي أفضى بي إلى التأمل فهو أن لهذا القول "أتينا إلى هنا
لنرثي الدليلة، لا لندفنها "صلة قربى بقول مارك أنطونيوس في مأساة يوليوس
قيصر: "أتيت لأدفن يوليوس قيصر، لا لأرثيه" (شكسبير). ولا أظن هذا
المهندس إلا قرأه فيما قرأ من شكسبير إبان شبابه فعلق بذهنه كما علقت بأذهاننا
أطراف المعلقات، ونتف الغزل والفخر والمدح والهجاء. على أني سعدت بهذا المهندس
يذهب ليصور المريخ بالآلة، ثم يعود ليصور الآلة بشكسبير. كما أني لأسعد بكل مهندس،
يتفقد شكسبير أو غوته أو دانتي أو أبا العلاء، وهو يكتب أشياءه آلات وأدوات بجسد
الأشياء.
أقول
ولهذه القربى بين جملة المهندس وجملة شكسبير وجهان: ظاهر وباطن. أما الظاهر فواضح
من تآلف كلام المهندس والشاعر في صياغة الدفن والرثاء. وأما الباطن فشؤون طريفة من
الثقافة والتاريخ أفضت بي إلى موقفي هذا على البرزخ بين المريخين: مريخ الفلك
ومريخ الثقافة.
-18-
من
شؤون مريخ الثقافة أن شهره، وهو الثالث، آذار-مارس، من السنة الشمسية، شهد مقتل
يوليوس قيصر غيلة، يوم النصف منه. وقد يعلم القارئ أن المريخ وإله الحرب والشهر
الثالث تشترك باسم مارس في ثقافة الرومان. ويشترك المريخ وإله الحرب، باسم آرس، في
ثقافة اليونان. وباسم تيو أو تاير عند الجرمان. وفي بابل، يشترك المريخ وإله الموت
باسم نرغال. وهو في ملحمة جلجامش فاتح أبواب الطوفان. وقد جعل البابليون له من
أيام الأسبوع يوم الثلاثاء. كما جعلوا لكل جرم من الأجرام السبعة المعروفة آنذاك
يوما في الأسبوع. وعن ترتيب أيامهم أخذت الثقافات ترتيب الأيام. واسم المريخ في
الصين هوتسنغ، ومعناها نجم النار، وعند المصريين القدماء هرديشر، ومعناها الأحمر.
وسماء
المريخ في أحكام النجوم هي الخامسة، وقد نعتها بعض المؤولة في الإسلام بواحد من
نعوت الجلال، فسموها القاهرة. وللمريخ في الثقافة العربية من الصلة بالحرب والموت
والدمار ما له في سائر الثقافات. فقد جاء، مثلا، في كتاب الشيخ عبد الغني النابلسي
"تعطير الأنام في تعبير المنام" أن المريخ صاحب حرب الملك، وأن رؤيته في
المنام تدل على الشرور، والأنكاد، والمخاوف، وسفك الدماء.
ولو
سمح لي القارئ أن أدخل في موضوع من موضوعات الساعة، لقلت إن لمريخ الثقافة شأنا في
"العولمة" عظيما. فهو قد تعولم، والبشرية في طفولة الوعي. وقد كان العلم
به، وبسائر الأجرام السبع، في قديم العصور علامة المتعلمين في كل قوم. وأنت لو
نظرت إليه بمنظار أي ثقافة شئت، لوجدته، في حال سعوده، كوكب رجولة وجرأة وإقدام،
وفي حال نحوسه، كوكب الحرب والموت والخراب العام. كما أنك لو أردت أن تستعمل عبارة
واحدة تصف بها مريخ الثقافة في حالي سعوده ونحوسه لما وجدت خيرا من قولك إنه كوكب
"الفتكة البكر". (أبو الطيب أحمد بن الحسين). وهل كانت فتكة بروتوس
وأعوانه بيوليوس قيصر في شهر المريخ سواها؟ أ, هل كانت فتكة أنطونيوس بهم غيرها؟
هزمهم بعد أن ألب عليهم عامة روما في خطاب شهير بدأ دفنا ولا رثاء، وانتهى رثاء
وثورة ولا دفن.
أقول:
ومن الفتكة البكر في السوق الثقافية الأمريكية هذه الأيام، كتاب في الصلات بين
الجنسين، عنوانه "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة". "وهو قد
صدر منذ ستة أعوام، وما زلت أجده على قوائم أكثر الكتب مبيعا، مما تنشره الصحف كل
أسبوع. وأنا كلما رأيته على هذه القائمة حيرني، عنوانا وموضوعا، حيرة تجدني سائلا
نفسي، وأنا في آخر هذا القرن العشرين: أليس من الطريف أن النظرة الاجتماعية
والنفسية إلى المرأة والرجل في يومنا هذا ما تزال تقرن بالنظرة الثقافية الرومانية
أو الإغريقية أو البابلية إلى الزهرة والمريخ؟ أو ما يزال المريخ حقا كوكب الرجل؟
والزهرة، أو ما تزال حقا كوكب المرأة؟
ثم
أليس من الطريف المحير أن يكون الشعب الذي انكب بالملايين على الإنترنت يريد
مشاهدة صور المريخ، مريخ الفلك، تبثها دليلة المريخ الصيف الماضي، هو عينه الشعب
الذي ما زال من ست سنين يشتري مئات آلاف النسخ من كتاب أقل ما يقال في ثقافة
المريخ فيه أنها سحرية أسطورية؟
أما
أنا فأعرف سيدتين من كوكب الأرض لهما من الصلة الوثيقة بالمريخ ما ليس لرجل في
ماضي الكون وحاضره. الأولى هي جنفر هاريس، وكانت مسؤولة الملاحة الفلكية في مشروع
دليلة المريخ، والثانية اسمها دونا شرلي، وكانت مديرة مشروع تصميم العربة الجوالة،
وهي اليوم مديرة مشاريع السفر إلى المريخ في وكالة الفضاء الأمريكية.
أليس
إذن من الأليق بروح العصر وواقع الأمر أن نقول إننا جميعا، رجالا ونساء، من هذا
الكوكب، وإننا جميعا، رجالا ونساء، نتوق إلى ما هو أكبر منا ومن الأرض التي
تحملنا؟
أما
آن أن يغير مريخ الفلك بعضا من أمارات مريخ الثقافة؟
-19-
من
تاريخ المريخ في الثقافة كذلك أنه إله فلورنسة قبل المسيحية. وباني فلورنسة ليس
إلا صاحبنا المغدور يوليوس قيصر. وكان للمريخ وثن في ظاهرها يقال له مارزوكو،
كانوا يأتونه في مناسكهم. وقد ظل وثن المريخ في موضعه إلى أن جرفه طوفان في القرن
الرابع عشر، وكان من أنكاده على فلورنسة أن جريمة قتل جرت عند قدميه، فطلبت
الجريمة ثأرا، فجلب الثأر فتنة، والفتنة حربا بين فئتين من أهل المدينة، ظلت ناشبة
الأوار زمنا، ولد فيه دانتي الشاعر، ومات فيه منفيا عنها.
غير
أن دانتي، على كل ما عرف من صلةالمريخ بمدينة مولده، ربا ووثنا وجرثومة فتنة وحرب،
جعله في كوميدياه فردوسا، لا مطهرا ولا جحيما، ووضعه من الجنة حيث وضع مؤولة
الإسلام فلك المريخ من الأفلاك، فجعله خامسا وسماه فلك الإقدام. ووضع فيه من
اصطفاهم من أهل الشجاعة، ممن أتى على ذكرهم في أناشيد المريخ من أناشيد الفردوس.
وكان فيهم جد له، فارس شجاع، حدث دانتي بعز فلورنسة قبل الضر الذي أصابها، وبذلها
بعده. ثم أوحى إلى حفيده بما خفي من الغيب. ثم أوصاه، وهو في المريخ، بكتابة الكوميديا.
وكان
لدانتي في فلك المريخ، وكل فلك، دليلة يقال لها بياتريس. إذ قالت له وهي تهديه سبل
السماء، وكان بصره معلقا بعينيها: "يا دانتي، انظر حواليك، لا في عيني،
فعيناي لا تسعان كل الفردوس! "أفلا يهتدي الشعر كذلك بدانتي وبياتريس، فينظر،
لا في عيني اللغة، بل حواليه وحواليها، أي إلى العالم حيث المادة، ومد الأشياء؟
فاللغة، كعيني بياتريس، لا تسع كل الفردوس.
-20-
ومن
شؤون مريخ الثقافة اللون والحركة. أما اللون فما زالت الحمرة الفاقعة صفة لازمة
له، جعلت منه قرين سفك الدماء ولهيب النار. وهي صفة لزمت مريخ الثقافة حتى وهو فلك
في فردوس دانتي. فقد ذكر حمرته النارية في غير موضع من أناشيد الفردوس. ذكرها غير
آبه لرؤية النار في عرض الجنان.
أما
الحمرة في مريخ الفلك فصدأ كلها-حمرة صدأ. كل ما نرى من حمرة المريخ في السماء هو
من ثاني أكسيد الحديد، وهو اسم الصدأ في الكيمياء. المريخ كرة من صدأ! كرة ذكرتني
بسخرية الفيزيائي الأمريكي فاينمان من الشعراء وتحديه لهم يوم قال: "تبا
لهؤلاء الشعراء. لا يكتبون شعرا في المشتري إلا إذا ظنوه رجلا. ويخرسون إذا قيل
لهم إنه كرة من غاز الميثان".
أما
شأن الحركة فهو عينه شأن الحرب. ذلك لأن المريخ كوكب كر وفر. أعني أن حركته
الظاهرة في قبة السماء فيها تقدم وتراجع. قال القدماء: إنها حركة حائر، وهي الأظهر
بين حركات الكواكب المتحيرة على صفحة السماء ذات البروج. وقد وضع بطليموس
الأقلوذي، لتفسير هذه الحركات، نظرية أفلاك التدوير، فجاءت شديدة التعقيد، ودخل عليها،
في كتابه المجسطي، التناقض من أقطار مختلفة حتى كتب فيه ابن الهيثم رسالته
"الشكوك على بطلميوس".
فالمريخ
إذن إله الحرب من جهة حركته، وإله أوزار الحرب من جهة حيرته، ثم إن شدة حمرته
أضافت كوارث الحريق وبوائق الجحيم إلى ما في معناه من الحيرة والحرب. وقد جمع شيخنا
أبو العلاء الحركة الراجعة والحمرة الساطعة في بيت من شعره في "سقط
الزند" فقال:
ويستبطأ
المريخ وهو كأنه
إلى
الغور نار القابس المتسرع
هذا
ولم تقف البشرية على أمر حركة المريخ وحيرته حتى أتى كوبرنيكوس وكيبلر. ثم أتى
بعدهما من اكتشف للمريخ قمرين يدوران في فلكه، شكلاهما كرأسي بطاطس، سمى الأول
خوفا، وسمى الثاني هلعا، ذلك بما علق في ذهنه من ثقافة المريخ-إله الحرب، يدور في
فلكه الخوف والهلع.
-21-
يقول
الشعراء ونقادهم إن الشعر كالأسطورة، أو إن الشعر إعادة كتابة للأسطورة، أو إن
الأسطورة طفولة الشعر، أو إن الشعر لغة في الأسطورة، أو إن الأسطورة لغة في الشعر،
إلى آخر ما يقولون في أمر الشعر والأسطورة.
وجدتني
أقلب هذا الأمر، وأنا أقف على البرزخ بين المريخين. وكنت أتساءل: هل هذا البرزخ
صراط أم صعيد؟ أعني: أنعرف حقا أين هو الحد بين فلك المريخ في فردوس دانتي وفلكه
في كون كيبلر؟ أليس الفلكات يتمازجان في سماء الثقافة كما يتمازجان في علم السماء؟
وجدتني
كذلك أفكر بذلك المهندس الفلكي الذي استعمل مجاز الوردة وبتلاتها لتصميم دليلة
المريخ، وبتلك الدليلة التي تهدي الشاعر في سبل السماوات. أعني بياتريس وهي تقود
الشاعر إلى وردة أقصى الرؤية: أو لم تكن سدرة المنتهى وردة في رؤية دانتي وجنته؟
ثم
تساءلت: والهندسة؟ أليست هي كذلك كتابة أسطورة؟ أليست هي كذلك لغة فيها؟ لا أريد
أن أعني أن العمل الهندسي أسطوري، أي جليل جبر مفحم، وإنه في بعض صنائعه لكذلك، بل
أريد أن أعني ما وجدت في نص من كتاب جيمس فريزر الشهير "الغصن الذهبي"
عن مناسك المريخ، إذ جاء فيه أن أصلها عند قدماء الرومان هو القربان إليه، طلبا
لحصاد جزيل ونبيذ طيب. قال: وكان أهل مرسيليا (واسمها مشتق من مارس، اسم المريخ
عند الرومان) يلوذون بحجر عند معبد المريخ في أيام القحط، ويأخذونه إلى المدينة
جلبا للغيث عليها.
أي
أن المريخ في فجر الثقافة كان إله نماء، لا إله فناء، وكوكب خصب، لا كوكب خصب، لا
كوكب حرب. شهرة آذار، لأن آذار شهر الربيع، لا شهر سفك الدماء.
أليست
إذن رحلة دليلة المريخ إلى المريخ إعادة كتابة لأسطورة هذا الإله؟ أليس شعرا جميلا
أن نعود، بعد كل هذه الأجيال، فيضع الإنسان الصانع منا وردة في يد إله الحرب،
ويعيده رمز خصب ونماء؟ أليس شعرا جميلا أن يرسل الإنسان الصانع منا الجوالة إليه
تسأل صخره عن الماء، كما كنا نسأل حجر معابده عن الغيث في الزمن الظمآن؟ أليس شعرا
جميلا أن ترينا دليلة المريخ أن الحمرة التي فيه ليست من دم أريق، ولا من نار
الحريق، بل هي من عهد تقادم على حديد سلاحه، فهو يفضي به كل يوم إلى صدأ جديد؟
-22-
وبعد،
فإني قد صدرت هذا المقال عن الوردة التي تفتحت على سطح المريخ بالقول: لا أدري إذا
كان السؤال "أثمة حياة على سطح المريخ؟" يعني أحدا في الثقافة العربية
المعاصرة.
ولقد
أحب أن أعالج هذه العبارة، وأنا آتي إلى الختام، بشيء من القلب، كما قلب ذلك
المهندس الدفن والرثاء في عبارة شكسبير. أود أن أقول الآن. لا أدري إذا كان السؤال
"أثمة حياة في الثقافة العربية المعاصرة؟" يعني أحدا على سطح المريخ.
رب
جوال أو جوالة عليها تسأل صخرها عن ماضي الماء، وتسأل أفقها عن مستقبلنا نحن
الأحياء. أو رب صور تأتي منها لبيداء لم تعرفك يا أبا الطيب.
وأنا
قد ضربت المريخ والرحلة إليه مثلا، لأظهر ما ينفتح أمام الإنسان الصانع من الممكن،
ولأدعو أنفسنا إلى أن ننفتح على الدهشة من هذا الممكن، بدلا من أن نترامى، شعراء
وغير شعراء، على العويل من المستحيل.
يوركتاون
هايتس 21/11/1998