ص1      الفهرس    المحور 

 

في ذكرى اختفاء سلطان الطلبة:

صناعة الفرجة في احتفال سلطان الطلبة

سعيد الناجي

مرت أكثر من ثلاثة قرون على ظهور احتفال سلطان الطلبة في فصل ربيعي خلال القرن السابع عشر. كان يظهر ويختفي، وكان يتأثر بالأحداث التاريخية الكبرى التي يعرفها المغرب وبطبيعة المراحل والأزمات والانفراجات التي يعيشها… ورغم كل الوتائر التي عرفها فإنه بقي دوما مناسبة لتكريم طالب العلم والعالم وكل ما له علاقة بالعلم، كما بقي احتفالا للمواطن يعبر عن خصوصيته الثقافية والاحتفالية حتى أصبح من ملامح الإبداع الثقافي في المغرب، ومن خصوصيات الأمة المغربية وعلامات فرادتها الثقافية. ولا ندري والحالة هذه ما الذي يمنعنا من التفكير في عودة هذا الاحتفال ليمسي من جديد فرصة للقاء نادر واحتفال متميز…

ليست احتفالات سلطان الطلبة أو سيد الكتفي أو البساط أو عبيدات الرمى أو الحلقة أو غيرها أشكالا مسرحية، ولا هي أشكال قريبة من المسرح، ولا هي متضمنة لعناصر مسرحية… هذه هي الحقيقة التي يجب أن ننطلق منها لدراسة تلك الأشكال والاحتفالات وتصنيفها في هويتها التي تجعل منها فرجات شعبية محددة المعالم والمعايير الجمالية والطقوسية. وإذا كان النقد المسرحي سابقا عمل على إثارة الانتباه إلى تلك الأشكال لما تضمنته من ملامح فرجوية بارزة كانت المرحلة الثقافية برمتها تقود إلى التقريب بينها وبين المسرح؛ فإنه بدأ، مع تطور الدراسات الأنثروبولوجية، يتجه نحو محاصرة أشكال تجلياتها الفرجوية وتقاطعها مع الدين والشعائر والاحتفالات الدينية بشكل عام. ونعتبر أن هذا هو المدخل الصائب لمحاصرة فرجة متشعبة مثل احتفال سلطان الطلبة الذي ما يزال يطرح أسئلة ملحة.

إن الآليات التي تفسح المجال للفرجة بالنشوء ثم بالتطور نجدها ماثلة بنفس الدرجة في "الحفل" الذي تفجره ضغوطات اللقاء الإنساني والمشاركة الجماعية. فاللقاء الجماعي لبنة لا بد من وجودها في القاعدة ليتحقق الاحتفال نتيجة حتمية له، وعلى هذا الأساس، فإن "جلسة إحدى المحاكم، ولجنة إحدى المسابقات، وتدشين آبدة ما وصلاة دينية في المسجد أو في الكنيسة، والعيد، وحتى عيد الميلاد الشخصي الذي يحتفل به داخل الأسرة كل هذه احتفالات رسمية يقوم فيها الأفراد بدورهم تبعا لسيناريو لا يملكون له تغييرا، إذ ما من إنسان يستطيع التجرد من الأدوار الاجتماعية التي ينبغي عليه أن يقوم بها"(1).

هكذا، يبدو أن الفعل الجماعي هو الخلية الأم التي تتفاعل عناصرها لتشكل في نهاية المطاف لحمة الاحتفال، هذا السلوك الإنساني المتجذر في سراديب النفس البشرية، والذي يخترق جدرانها متى توفرت شروط قيامه ودفعته إلى الوجود. والنزوع إلى الفرجة وإلى الاحتفال أمر طبيعي وضروري بالنسبة للإنسان الذي لا يتحقق وجوده إلا بهما ما دام يملك جسدا يخلق ببلاغته هذا السلوك الطبيعي، ومادام يملك لغة تفصح عما يختمر في داخله، وما دام لا يحيا خارج حدود الزمان والمكان، بل إن وجوده لا يمكن أن يتحقق إلا داخل فضاء يحتضنه ويتفاعل معه ويساهم معه في خلق هذه الفرجة وفي إحياء هذا الحفل؛ فـ"الفرجوي يسم جميع الأنواع الحيوانية، ويعد الإنسان نسبيا الأكثر فرجوية نظرا لاستعداداته البنيوية والمورفولوجية"(2).

يفجر الاحتفال مغالق الإنسان وينقلها إلى عالم الظهور لتنكشف في لوحة أداتها اشتغال الجسد، وتوازيها أدوات طقسية وموسيقية ودينية، فانسجام هذه العناصر وغيرها هو الذي يسهم في إنتاج صورة تمتح تألقها منه، وتسمح بالحديث عن الفرجة سواء في شكلها البسيط، أم في شكل آخر أكثر تطورا واستفادة من تقنياتها، ذلك بأن "الاشتغال على الجسد يعني صناعة فرجة تملأ الركح وتهيء آليات للمشاهدة الذكية، وتضفي ببلاغتها أنساقا تختزل من الكلمات الكثير"(3).

إذا كان تشكل الفرجة يقوم على توفر مجموعة من الشروط التي تكشف الخفي، وتسمح بالتنفيس عن العوالم النفسية للمنخرط فيها؛ وإذا كانت تنطبق على "كل فنون العرض (رقص، أوبرا، سرك…) وعلى أنشطة أخرى تتضمن مشاركة الجمهور (رياضة، طقوس، شعائر، تفاعلات اجتماعية)"(4)، فإن هذه الشروط تتحقق في تراثنا الشعبي لتعمل مجتمعة على خلق فرجة شعبية مليئة بعناصر مشهدية "تقوم في الأساس على فنون الحكي والرقص والموسيقى والغناء والإنشاد، كما أنها تعنى بالحركة والارتجال في القول"(5).

يدفعنا هذا التجلي لملامح الفرجة في تراثنا الشعبي إلى محاولة الكشف عن هذه الملامح لإبرازها وإزالة الستار عنها، كي نتمكن من استكناه جوهر طقوسها وشعائرها التي تطفح بعناصر الصورة والمشهدية، لأن هذه الأخيرة تترجم الرؤى التي تختزنها تلك الشعائر، وتكشف عنها في قالب فني جميل، لأن تلك الأشكال تعتبر في نهاية المطاف طقوسا احتفالية صاغت رؤية جماعية للعالم وتجليات للمقدس في أبعاده الاحتفالية التي تروم امتصاص نزوعات الإنسان الغريزية نحو العنف.

تتميز أشكال الفرجة الشعبية بخصوصيات كثيرة وتختلف عن الأشكال المسرحية، ومن ثمة يشكل تناولها خارج خصوصييتها هذه إجحافا لها، وهذا ما يقودنا إلى تناول احتفال سلطان الطلبة من منطلق ثوابت الفرجة فيه ومعاييرها، وهذا يقودنا بالطبع إلى استئناف الحديث عن هذا الاحتفال في تفاصيله ومراحله، ونترك تأويلها ودلالاتها إلى دراسة لاحقة تستكشف تجذر هذه الفرجة في نظام المقدس الديني والسياسي في مغرب القرن السابع عشر الذي عرف صعود الدولة العلوية. ونظن أن الكشف عن طرائق صناعة الفرجة في الأشكال الثقافية الشعبية يجيب عن خصوصيات فنية وجمالية كثيرا ما بحث عنها النقد الجمالي، والمسرحي منه خاصة في مواضيع أخرى غريبة.

1 - صناعة الفرجة في سلطان الطلبة:

يسمح لنا بالرجوع إلى الذاكرة الشعبية والكشف عما تختزنه من مادة تراثية بأن نكتشف كثيرا من ملامح الفرجة التي تقف شاخصة بكل ثقلها، وتفصح عن نفسها عبر مجموعة من الطقوس والأشكال الاحتفالية. ولعل النزوع الإنساني إلى الاحتفال أمر طبيعي وشبه غريزي تزيد المعطيات الثقافية من إلحاحه كما ثبت ذلك في تجمعات بشرية عديدة لم يكن بينها رابط أو علاقة تواصل وتبادل التأثير.

في هذه الاحتفالات، واحتفال سلطان الطلبة منها، نجد أنفسنا أمام صورة بليغة أو لحظة غريبة يهيمن فيها الانزياح من المألوف إلى الغريب، ومن المعيش إلى المتخيل، ويظهر ذلك من خلال صيغها الفرجوية: "ومع أن هذه الظاهرة الطريفة لم تكن تتجاوز حدود التسلية، ودرء عناء الدراسة والتحصيل، فإنها تكتسي طابعا مسرحيا من خلال صيغها اللعبوية"(6). هكذا، يبدو من خلال تصريح حسن المنيعي أن هذه الظاهرة تفصح عن مخزونها المشهدي الذي يؤطره مفهوم اللعب، فضلا عن ذلك نجد أن الإطار الناظم لهذه الفرجة يدور حول مفهوم التنكر، حيث يتكلف طالب بالتنكر ومعه مجموعة طلبة لتأسيس عالم معيش ومتخيل في الآن نفسه يقوم على سلطة وهمية لسلطان الطلبة، ولكنها سلطة تمتلك حاشية وفضاء خاصا بها ورعية وأموالا…

إن متابعة تطور الأحداث داخل احتفال سلطان الطلبة يجعلنا نعايش لحظتين متتابعتين: لحظة ما قبل التنكر، ولحظة ما بعده للوصول إلى لحظة الخروج عنه.

1 - لحظة ما قبل التنكر: تمثلها الاستعدادات الأولى التي تسبق إحياء الحفل، حيث يتخذ قدماء الطلبة قرارهم، ثم يعلمون السلطة برغبتهم في الاحتفال، فتبدأ ملامح الفرجة في التشكل منذ اللحظة التي يعلن فيها المزاد العلني. غير أن اختيار زمن إعلان المزاد أمر لا يمكن أن يمر دون أن يترك أثرا، أو يثير استفهاما. لقد كان المسؤول عن إعلان المزاد يقوم بمهمته مساء، وبالضبط بعد صلاة العصر. فما دلالة هذا الاختيار، ولماذا المساء بالضبط؟

كان دلال سوق الكتب يعرض تاج السلطنة على المزاد العلني لتتوقف مناداته عند الثمن الذي رسى عليه المزاد، وليتم إعلان الطالب الذي عادت إليه السلطنة. وقد كانت هذه المراسيم تقام مساء يوم الأربعاء واختيار المساء له دلالته: فهو من جهة لحظة تكتسي تميزها وفرادتها على اعتبار أن المزادات الأخرى كانت تعلن في الصباح، لذلك فإن اختيار المساء لحظة لبيع تاج السلطنة، يجعل منه زمنا مقدسا تزرع أثناءه بذرة الاحتفال الذي سوف ينطلق في الأيام المقبلة، إنه مساء متميز ترسخت خصوصياته في أذهان الناس وتقررت في نفوسهم.

فضلا عن ذلك، لم يكن اختيار فترة المساء بعد صلاة العصر لعرض التاج للبيع سوى فرصة لضمان حضور جمهور غفير عائد من الصلاة، ذلك بأن أفواج المصلين العائدين سوف تساهم بحضورها في إنجاح هذه التظاهرة وفي خلق فرص كثيرة لرفع سعر التاج، وهكذا فإن المشاركة الجماعية تفصح عن نفسها بقوة لتعطي لهذا اللقاء نكهة خاصة تمهد لاحتفال منظم، إذ بالتجمع واللقاء والمشاركة الجماعية ينمو الاحتفال وتشتعل أنواره.

في إطار مراسيم البيع التي يشرف عليها دلال سوق الكتب، وفي وسط جموع الطلبة المعنيين بالأمر، كان للأطفال حضور لافت للنظر، ذلك بأن الدلال يستعين بهم في مناداته بسعر التاج(7)، فما موقع هؤلاء من هذه المراسيم، وما جدوى مشاركتهم في إحيائها؟

لم يكن حضور الأطفال ومشاركتهم في إنجاح عملية البيع سوى دليل على مشاركة الجميع في هذا اللقاء، وبالمشاركة الجماعية والفضاء المفتوح تتحقق الفرجة ويتحقق الاحتفال، ثم إن مشاركة الأطفال في هذه التظاهرة له إيجابياته التي تتجلى في ضمان سرعة انتشار الخبر، ثم إنها في نفس الآن فرصة تتاح لهم لخرق المألوف والابتعاد عن جو الدراسة الذي قد يرهق كاهلهم إنها فرصة للتفريج والترويح، ليقتحموا فضاء مقدسا يبيح لهم ما قد يكون محظورا.

يكلف بإحياء مراسيم المزاد العلني دلال سوق الكتب كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ويشرف هذا الأخير على البيع إلى نهايته بعد أن يعلن الطالب الذي آلت إليه السلطنة، وفضلا عن الجو الفرجوي الذي يساهم دلال سوق الكتب في إحيائه من خلال نداءاته وحضور الجمهور إلى جانبه ومساعدة الأطفال له، فإن اختياره أيضا لا يمكن أن يخلو من دلالة. فلماذا يكلف دلال سوق الكتب للقيام بهذه المهمة دون بقية الدلالين؟

إن الاحتفال الذي سوف يتم إحياؤه له صبغة طلابية، وإن كان المساهمون في إحيائه ليسوا من صفوف الطلبة فحسب، ولكن السمة التي تظل مميزة لهذا المهرجان السنوي هي هذه السمة الطلابية، لذلك فمن الأفضل أن يختار الطلبة دلالا له صلة بالجو الطلابي، كما أن الفضاء المكاني حتم هذا الاختيار، فدلال سوق الكتب كان محل إقامته مسجد القرويين، ومراسيم المزايدة كانت تتم هناك، وهذا ما يفسر حضوره وتوليه هذه المهمة التي ستمضي بالحفل إلى لحظاته المتأججة حين يعتلي الطالب/السلطان عرش مملكته.

2 - زمن التنكر:

تبدأ وتيرة التنكر الناظمة لفرجة سلطان الطلبة منذ لحظة شراء السلطنة وامتلاك التاج، حيث تعود السلطنة للطالب الذي رسي عليه المزاد، ويتم التعاقد على توليه عرض مملكته أسبوعية ليعيش الطالب/السلطان طوال مدة حكمه لحظات مقدسة تخول له كل تقاليد السيادة والحكم، ويجوب الموكب الملكي المزيف ضواحي المدينة مزودا بكل مقومات الموكب السلطاني التي تعطي للمهرجان نكهة خاصة يلتحم فيها الحقيقي بالمتخيل، وتتحقق فيها لحظات التفريج والتنفيس حيث يمارس السلطان/الوهم، والموكب السلطاني/الوهمي طقوسا تتفجر فيها رغباتهم الجامحة، ويظهر من خلالها هذا الكامن الخفي الذي استمد شرعيته من قانون الطقوسية والاحتفالية المقدسين.

إن لحظة التنكر هذه تمارس سلطتها بشكل قانوني لتصبح الحدود القائمة بين السلطان الحقيقي والمزيف ضيقة إلى حد كبير، ويتجلى ذلك بوضوح حين يركب السلطان/ الوهم "جوادا مطهما وترفع المظلة -الشمسية- فوق راسه ومن حوله الحراب تحملها الشرطة وتتقدمه موسيقى عسكرية ثم قواد (المشور) فرسانا حاملين السيوف وتتلوه حاشيته وجمهور غفير من رعاياه الطلبة مشاة على الأرجل ثم أصحاب الطبول والمزامير"(8).

بعد اعتلاء عرش المملكة المزيفة يعود السلطان المزعوم إلى مدرسته ليوزع الأدوار على زملائه، فيعين من بينهم الصدر الأعظم والوزير والحاجب ويختار أمين الصندوق من بين موظفي الحبوس ويتقلد منصب المحتسب شخص يعرف بالتهريج ليتمكن من جمع الإكراميات.

إن ما تكشف عنه هذه المراسيم هو أن هذه الفرجة السنوية تمتح طقوسها الفرجوية من قانون التنكر الناظم لها(9)، فلحظة التنكر هذه لا يحيى طقوسها السلطان المزيف فحسب وإنما يساهم الجميع في إحيائها، ومن تم تصبح الحدود وهمية بين السلطانين وبين الحاشيتين: الحاشية الحقيقية والحاشية المزيفة، حيث يقوم أفراد هذه الأخيرة على امتداد الاحتفال بإنجاز أعمال البلاط محاطين بكتاب دواوينهم، ويحررون موضوعات خيالية في جو من المرح الذي تتخيله أهازيج وولائم… إننا إذا تابعنا وتيرة التنكر هذه، والتي تبدأ نشأتها الأولى خلال لحظة امتلاك التاج، نجد أنها وتيرة حيوية تصاعدية ترافق الموكب السلطاني إلى حين انتهاء أسبوع الحكم القانوني، ويمتد هذا التنكر ليعيش بنبضه شخص آخر يتم اختياره ليكتسب الاحتفال تميزه الفرجوي، ويتعلق الأمر بالمحتسب.

يدخل المحتسب بعد أن يتم اختياره في لحظة تنكر هادفة يمارس من خلالها واجباته كمراقب عام، يجوب أرجاء المدينة، فيراقب المحلات التجارية، ويطالب أصحابها بأداء الضرائب المفروضة عليهم، ومن تم تضيق الحدود بين المراقب الحقيقي والمراقب الوهمي ليمارس هذا الأخير شرعيته القانونية، وليكشف التجار ما كان كامنا في نفوسهم، فيفجروا طاقاتهم الثورية مستغلين لحظة التنكر هذه والتي تمنحهم كل الصلاحية ليقوموا بما يرونه واجبا.

وفوق كل ذلك، يمارس المحتسب دوره الذي كلف به في ظروف خاصة تم اختياره اعتمادا بفضل طاقاته وقدراته الذاتية، إذ يعمل على جلب أكبر قدر من الاهتمام والمشاركة وجمع أكبر قدر ممكن من الإكراميات حيث "يرتدي هذا المحتسب حلة خاصة في هيأة مضحكة: يجعل على عنقه سبحة عقودها من التين المجفف يلتهم منها الواحدة تلو الأخرى من حين لآخر، ويتجول هكذا في شوارع المدينة راكبا بغلة وواضعا أمامه صندوقا ما ينفك يدخل فيه من خلال شق فيه ما يجمعه من صغار التجار وكبارهم كذعائر يرتبها عليهم في عين المكان نتيجة غش مزعوم في البضائع أو المواد التي يبيعونها أو نتيجة اختلال في الموازين والمقاييس أو زيادة في الأسعار"(10).

يخلق هذا المسار التنكري نوعا من التفريج على مستويين؛ أحدهما مرتبط بالتجار الذين تتاح لهم فرصة تبديد العنف الكامن في نفوسهم، والمتأصل في طبيعتهم، وهذه الفرصة تجد مشروعيتها في ظل هذا الطقس المقدس الذي يبيح ما كان محظورا، ومن ثمة يصبح لحظة حاسمة تتم فيها مراسيم التفريغ، وهذا ما أكده رونيه جيرار حين حاول أن يبرهن على أن العنف يوجد في أصل الطقوس والأساطير والدين والمجتمع، وباختصار إنه يوجد في أصل حضارة الإنسان(11).

أما المستوى الثاني فمرتبط بالمحتسب، وبالطلبة بصفة عامة حيث تساهم الإكراميات التي يتم جمعها في تبديد كرب الطلبة وإيجاد حلول لبعض مشاكلهم.

تستمر وتيرة التنكر، وتسير في خط تصاعدي لتبرز في خط آخر تشهده الحياة اليومية في حضرة السلطان، ويمكن أن نلمس ذلك في تقمص المحتسب شخصية الخطيب الذي يلقي مأثور كلامه في حضرة السلطان الحقيقي حين يزور مهرجان سلطان الطلبة، فيظهر الخطيب في هيأة يمثلها المحتسب قاصدا من وراء ذلك السخرية والاحتقار، وهذا شيء لا يمكن أن يقبل منه إلا في أجواء هذا الطقس الذي يبيح له تفجير ما هو كامن والإفصاح عما هو خفي، ويصل الأمر إلى حين "يلقي المهرج (المحتسب) خطبته الهزلية في حضرة السلطان ممتطيا جملا، على رأسه عمامة ضخمة أو مكبا من الدوم نافخا بطنه بمخدة ممسكا بيده عصا طويلة وبالأخرى مسبحة من التين المنظوم من جريد النخل، وعلى صدره تتدلى ساعة ضخمة عبارة عن خبزة تشدها إلى عنقه سلسلة من القنب"(12).

تضفي لحظات التنكر هذه على الحفل طابعا إيهاميا بشكل يسمح بخلق مهرجان تتحقق فيه كل شروط الفرجة. وإذا رجعنا إلى وقائع هذا الاحتفال وإرهاصات نشأته الأولى، سنجد أنه لم يتجاوز حدود الاتفاق الحاصل بين الطلبة على اليوم الذي سيبدأ فيه الاحتفال والذي يفتتح بعرض تاج السلطنة على المزاد العلني، وذلك بأن الطلبة المشرفين على هذا الاحتفال لم يصرحوا أنهم يعدون هذه الفرجة، أو يضعون تخطيطا مسبقا لنص جاهز يتم تشخيص أدواره، وإنما يقام الاحتفال بشكل عفوي وارتجالي مما يساعد على تحقيق فرجوية شاملة لهذا الاحتفال.

ومن هنا نجد أن فرجة سلطان الطلبة تنهض على كثير من الآليات الفاعلة والمتفاعلة، والتي تختزل في الأزياء والموسيقى المرافقة للموكب وأساليب التنكر الناظمة للحفل… إن هذه الآليات تتفاعل فيما بينها لتشيد مجتمعة هذا النسق الفرجوي الذي يحقق للاحتفال وجوده المشهدي..

لا يتم إعلان السلطة الوهمية إلا بحضور كل مقوماتها التي تضفي عليها طابعا إيهاميا، والتي ترفع من حدة التنكر. فالطالب بعد توليه الحكم الأسبوعي يصبح سلطانا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يملك كل الحقوق ويتمتع بكل الصلاحيات، من اختيار الوزراء وكتاب الديوان وغيرهم، ثم إن امتلاك الطالب السلطان للزي الملكي يضفي على الحفل طابعا تنكريا حيث" يمده السلطان الحقيقي بكل مستلزمات السلطنة من جواد مطهم وبذلة كاملة ومظلة شمسية ونشاشة للذباب"(13).

إن مساهمة الأزياء في إضفاء طابع الفرجة على الحفل لا ترتبط بالسلطان فقط، وإنما تتجاوزه إلى بقية المشاركين في قيام هذه السلطنة الوهمية، ونخص بالذكر المحتسب الذي يجوب شوارع المدينة ثم يلقي خطبته في حضرة السلطان بأزياء تحيل على هيأة الخطيب. هكذا يبدو أن الأزياء تعد من المؤثتات الأساسية التي تكشف عن ملامح الفرجة في هذا الاحتفال، والتي تساهم في تصعيد وتيرة التنكر الناظمة للحفل.

إلى جانب الأزياء، تساهم الموسيقي المرافقة للموكب في صناعة فرجة شاملة تملأ الفضاء الذي يتم فيه الاحتفال، وتهيء آليات للمشاركة الكلية، وما يميز هذه الموسيقي هو كونها تقتصر على جوق شعبي يعزف الغيطة والطبل والنفير. يقول عبد الله شقرون: "لا أشير إلى المجموعات الشعبية الراقصة التي تعتبر لونا من الفولكلور المجرد ولكني أشير إلى العروض المشتملة فضلا عن الموسيقى والرقص إلى جانب الحركة والعمل والمتعة"(14).

غير أن ما يمكن إثارته في هذا الصدد هو سر غياب الفرقة الموسيقية الخاصة بالملك الحقيقي فلماذا لا يتوصل السلطان الوهمي بالفرقة الموسيقية للقصر رغم أن السلطان الحقيقي يمده بكل مستلزمات السلطة من حرس وجواد وبذلة..؟

إن استغلال الموسيقى الشعبية له ما يبرره، ذلك بأنها من الأدوات التعبيرية التي من شأنها تحقيق تواصل حي مع الجمهور بشكل يسمح بالحفاظ على شعبية المهرجان، وضمان استقطاب كل الشرائح الاجتماعية على أساس أن هذه الموسيقى تراعي طاقاتها الاستيعابية.

أما الفضاء الذي يؤطر هذا الاحتفال، فإن ما يميزه هو كونه فضاء مفتوحا لا يحيل على جهة خاصة، ولا يرتبط بمكان بعينه. وإنما يتحرك بتحرك الموكب السلطاني، ومن ثمة تتعدد الفضاءات التي يجري فيها الاحتفال من وادي فاس إلى ضواحي المدينة… وهي فضاءات مفتوحة لا تحصر الحضور في إطار مغلق، ولا تخنق أنفاس المشاركين ولا تحاصر تحركاتهم وهذا ما يضفي على الحفل طابعا فرجويا أصيلا تتحقق فيه حرية المشاركين وتتحرر أنشطتهم وتحركاتهم.

إن الآليات التي تساهم من خلال تفاعلها النسقي في كشف مظاهر الفرجة في هذا الاحتفال، وفي تحقيق تألقه المشهدي، لا تقف عند هذا الحد، ولكنها تمتح تألقها من اشتغال الجسد، هذا الاشتغال الذي يترجم ما هو كامن في عوالم داخلية اعتمادا على أدوات قليلة لعل أهمها مخدة، وعصا طويلة، ومسبحة من التين… يملكها المحتسب مثلا. إن كل هذه الآليات تساهم مجتمعة في تحقيق هذه الخصوصية المشهدية وفي إضفاء هذه السمات الفرجوية التي تثري المهرجان السنوي. يقول حسن المينعي: رواد الدراما يتجاوزون الظاهرة العبثية والترفيهية، ويرون فيها عرضا مسرحيا ضخما تتكون فصوله عموما من جزئيات الحفل، ذلك بأن المشخصين يتصرفون عموما دون أن يشعروا بذلك مثل تصرفات الممثل على الخشبة، ويتحركون بمحض الحدث الذي يبدو كل واحد منهم منضويا في أعماقه مهما كان الدور الذي يؤديه. وفيما يتعلق بوحدة الزمن، فإن التمثيل يدوم أسبوعا كاملا، فما أن تنقضي الليلة السابعة حتى يكون من صالح السلطان أن يغادر عرشه، وهكذا ينزل الستار على حدث كان لكل مكانه في ابعاده الدرامية"(15). وإذا كان من البديهي أن سلوكات الطلاب خلال الاحتفال هي سلوكات تمثيلية فإن الحدود والمعايير التي تسند التمثيل المسرحي بعيدة عن التحقق في الاحتفال إياه، وحسبنا أن نقرر هنا أن التمثيل في سلطان الطلبة لا غاية مسرحية له.

إلا أن هناك طرائق أخرى لإنتاج الفرجة في احتفال سلطان الطلبة، من ذلك ما وصلنا من رسائل كان السلطان يتبادلها مع مسؤولين في الدولة أو مع شخصيات معروفة. كانت تلك الرسائل تقوم على افتراض السلطان الوهمي امتلاكه سلطة الأوامر فيحررها على أنه ملك البلاد يقرر ما يجب، وكان المرسل إليهم يجيبون على تلك الرسائل مع الحفاظ على ملامح تلك السلطة الوهمية دون الخروج عن المزاح الذي يسم كل ذلك. وكان الأمر سبيلا لتدبيج رسائل ممعنة في اللعب بالألفاظ وفي الاستعارات الجميلة وفي التحايل. وقد أورد بيكار نموذجا لمراسلات السلطان نقرأ فيها، بعد أن أرسل أمرا للمسؤول عن ممتلكات الدولة بتفويت عمارات وعقارات لصالحه، الجملة الأخيرة يتبعها التوقيع والتاريخ: "وفي انتظار ذلك أنت مطالب ببعث مقدار 766 مليون مع حامل الجواب لتجهيز القوات التي سنخصصها لمساعدتكم. وتجنبوا أي تأخير. والسلام. يوم 225 رمضان سنة 8376 في العهد الشريف"(16).

3 - الخروج عن التنكر: بعد هذه المرحلة التنكرية التي تدوم أسبوعا كاملا، يستعيد السلطان الوهمي اللحظة الحاسمة التي سيسلب فيها مقاليد الحكم والزعامة ليعود إلى وضعه الأصلي. إن عقد السلطنة الذي تم إبرامه بعد نتائج المزاد العلني لا يلبث أن ينفك وتنحل عراه في اليوم السابع ليسدل الستار على فترة حكم دامت أسبوعا كاملا. وتجدر الإشارة إلى أن لحظة تدهور الحكم لا تصاحبها تلك الطقوس العلنية التي عهدناها في بداية تنصيب السلطان، ولكنها تتم في سرية تامة، وإلا فإن النتائج لن تحمد عقباها، ومصير السلطان لن ينتهي بسلام.

*المرحلة الأولى: يكون فيها الخروج عن التنكر مرحليا يتم في لحظة زمنية معينة لتعود الأمور إلى وضعها الطبيعي، وليعتلي السلطان المزعوم عرش مملكته الوهميو من جديد، ويحدث هذا الخروج عن التنكر لحظة وصول السلطان الحقيقي لزيارة الاحتفال وتقديم الهدية وتقبل البيعة؛ حيث يقف السلطانان في مواجهة بعضهما، وهكذا ينتظر سلطان الطلبة وصول سلطان المغرب "حتى إذا لاح موكبه عن قرب ترجل الأول عن فرسه وتقدم إلى السلطان الأعظم مطأطئا رأسه فيقبل يده الكريمة، ويرفع إليه الكتاب المتضمن طلبه الخاص الذي يؤمل من جلالته بتنفيذه ثم يرجه إلى الوراء فيركب فرسه ويتقدم إلى أن يقف قريبا منه"(17).

ليس الخروج عن التنكر اعتباطيا، وإنما هو خروج مقصود يرمي السلطان/الطالب من ورائه تحقيق جملة من الامتيازات التي اعتلى من أجلها عرش مملكته، إذ إن هذا المنصب يخول له تقديم طلبات للسلطان الحقيقي و"التي جرت العادة أن يستجاب لها عن طيب خاطر كالعفو على سجين أو الإعفاء من ضريبة أو الحصول على منصب…الخ"(18)، وبهذا يمكن تفسير التهافت الكبير على امتلاك تاج السلطنة.

ونشير إلى أننا في هذه اللحظة نلمس تداخلا بين الواقعي والوهمي، حيث يخرج السلطان من وضعه المزيف إلى وضع حقيقي واقعي ليقدم الطلبات التي جرت العادة أن يستجاب لها، وبذلك يصبح السلطان/الوهم في هذه اللحظة عنصرا فاعلا.

*المرحلة الثانية: خلال هذه المرحلة تتدهور السلطة، وتنفض عراها، ويتم فك عقد السلطنة، غير أن ذلك يحدث في سرية تامة، فاليوم الأخير ليس ملكا للطالب السلطان، وإنما هو ملك للرعية الي تجعل منه يوما مخلدا للثورة على السلطان، لذلك فإن نجاته من هذه الثورة العارمة التي سيمارس فيها الشعب عنفه الكامن على السلطان الوهمي، رهين بفراره ليلا "خوف أن يصبح على أبواب ثورة عامة من رعيته التي يلذ لها أن تنقض عليه يوم انتهاء سلطنته حتى لا يدخل إلى نفسه شيطانها فيوهمها أنها حقا سلطان الطلبة وأن واجبا عليهم أن يخضعوا له ويقروا بسلطانه عليهم"(19).

إن انحلال السلطة بهذا الشكل، وانسحاب السلطان خفية قبل طلوع النهار في المخيم أمر لا يمكن أن يمر دون أن يثير تساؤلات بشأن هذا الفرار، فلماذا يغادر السلطان المخيم ليلا؟ ولماذا يفرغ أفراد الرعية شحنات عنفهم، وينقلبون على السلطان إذا لم يسعفه الفرار، فيشبعونه ضربا، بل وقد ترتفع حدة العنف ليصل إلى ذروته حين يلقوا به في النهر، ويرجمونه بالحجارة؟؟

إن هذه العدوانية التي يتم تفجيرها ليست نتاجا لانفعال لحظي، أو توتر آني، وإنما هي ظاهرة متأصلة لها جذورها الضاربة في القدم، بل إنها من المكونات الأساسية التي تشكل ما هو طبيعي في الإنسان، والتي تكشف عما انغرس في ذاته منذ الأزمنة الأولى ليظهر بين الفينة والأخرى معربا عن بقائه واستمراره، ذلك بأن "الطبيعة من حيث كونها أحد أصول الإنسان حاضرة أبدا فيه بما في ذلك عدوانيته التي تدين مع ذلك بإمكان ظهورها للثقافة وحدها، وبذلك تكون الطبيعة العدوانية ظاهرة ثقافية تتأصل جذورها في المستوى ما قبل الثقافي الذي هو نقطة التلاقي بين الطبيعة والثقافة"(20).

هكذا، يبدو أن العزم على رجم السلطان، ورميه في النهر إذا لم يغادر المكان الذي أصبح بالنسبة إليه مكانا محرما في اليوم الأخير إنما هو كشف لما هو كامن في نفوس الرعية، وتفجير لهذه الثورة الخفية ضد السلطة.

يظل مكان الاحتفال نابضا بالحياة طوال فترة الاحتفال، تحج إليه وفود المشاركين من كل صوب، بل إنه يتحول من مجرد مكان عادي إلى فضاء ملكي يتوفر على كل مستلزمات العرض من خباء الملك وحاشيته وكتاب الدواوين والحرس الملكي، ويتعهد السلطان الوهمي صيانة غثوره والإشارف على الأنشطة الملكية التي تتم فيه، إن هذا الفضاء يظل قبل زمن الاحتفال فضاء عاديا لا يسترعي أدنى انتباه، شأنه في ذلك شأن بقية فضاءات المدينة، غير أنه ومع انطلاق التنكر يتميز عن بقية الفضاءات ليصبح فضاء تنكريا، ويكتسي من خلال مؤثثاته شكلا فريدا، ومن خلال الطقس الذي يحتضنه يكتسي دلالات أخرى، ومن ثمة يصبح فضاء ملكيا أولا، وفضاء احتفاليا ثانيا.

إن خصوصية هذا الفضاء لا تعود إلى موقعه الجغرافي أو إلى حدوده الهندسية، ولكنها تحل فيه بالنظر إلى ما يجري فيه من طقوس احتفالية، لذلك فإن هذا الاحتفال هو الذي يحول المكان الذي يقع في واد فاس إلى فضاء تنكري يحتضن طقوسا خاصة، غير أن هذا المكان المقدس قد تنتهك حرمته ببقاء السلطان غداة اليوم الأخير، لذلك وجب عليه مغادرة المكان في ذلك الزمن المعلوم، وإلا فإنها فرصة لاشتغال الثورة، حيث ينهض في باطن الرعية ذلك الإنسان الأول الذي يمارس طقوس التمرد والثورة على كل سلطة تفرض عليه، إنها فرصة تمنح للناس لتفريغ العنف الكامن الذي أخفته كثير من المعوقات والضغوطات، ذلك أن "العنف ينغرس في أعماق الطبيعة الإنسانية نفسها حيث يقيم في حالة كمون في شكل غريزة عدوانية، وإن بروز هذه الغريزة يختلف باختلاف الثقافات التي تحدد اشكال ظهورها"(21). هذا ما يجعل من العنف الممارس ضد سلطان الطلبة عنفا جماعيا تنطلق شرارته في نفوس الجميع لتكتسي الثورة بعدها الجماهيري، وتفرض نفسها باعتبارها طقسا مقدسا، ذلك بأن "العنف الجماعي غالبا ما يتخذ صفة عنف مقدس، ويمارس في ميدان قدسي يحتوي في مختلف أشكاله ولا سيما العبادة، بحيث يعتبر العنف وجها من وجوهها وكأنه ممارسة لطقس من طقوسها سواء في حالات سفك الدماء في القتال أو في الأضاحي البشرية المقدسة رمزية كانت أم حقيقية"(22).

يفقد السلطان بعد انتهاء مدة حكمه الأسبوعية كل الصلاحيات وتسلب منه مقاليد الحكم بقوة، بل إنه قد يلقى حفته إذا لم يسارع بالفرار كما سبقت الإشارة إلى ذلك. لكن هل لقي سلطان ما حتفه؟ بالطبع لا، وهذا يجعلنا نؤكد أن العنف الممارس عليه هو عنف جمالي مؤسلب.

تنشأ هذه العلاقة بين العنف الحقيقي والعنف المزيف يحتضنها الإطار الطقوسي الذي يجري فيه الاحتفال؛ فالأمر يتعلق في الحقيقة بظهور سلطان ضعف double ينازع السلطان الحقيقي السلطة بشكل وهمي لامتصاص كل النزوعات الحقيقية إليها؛ وبرعية ضعف يخلقها الاحتفال وتتمرد على السلطان تجنبا لتمرد حقيقي يقع في الزمن الحقيقي الذي يقود إلى سيادة العنف التبادلي بين أعضاء المجموعة.

إن مدة الحكم بكل ما يصاحبها من خضوع للسلطان وحرص على تنفيذ أوامره أو الرضوخ لقراراته من شأنها أن تخلق لدى الرعية شعورا بالخوف أو القلق مما قد يستتبع هذا الحكم من ممارسات تهدد بقاءهم بل وتهدد حياتهم إذا حدث وأن صدر عنهم شيء لا يرضي الحاكم، فقد يتحول السلطان إلى حاكم يستحوذ على كل شيء، ومن تم يملك كل الحق في السيطرة عليهم وفي تسييرهم وفق مشيئته، كل هذه الاحتمالات من شأنها أن تزرع بذرة العنف في النفوس، أو بالأحرى أن تعمل على تلقيح هذه البذرة المتأصلة في النفس البشرية فينتج عنها عنف قوي يتفجر دفعة واحدة ليلقي السلطان في النهر "فالصراع من أجل البقاء والقلق والخوف الذي يدفع المرء لأن يقتل مخافة أن يقتل، أو يجوع إلخ… كلها عوامل أساسية في العنف"(23).

إذا كانت الرغبة الأكيدة في البقاء من العوامل التي تفجر العنف الكامن، وتخرجه في شكل ممارسات مقدسة تستمد مشروعيتها من قوانين الطقوس والاحتفالات، فإن الأمر لا يقف عند هذا الحد، إذ إن العنف قد تنطلق شراراته أيضا نتيجة الإحساس بأنه أمر صادر عن قوى مطلقة ينبغي الإذعان لمطالبها.

إن شدة حذر السلطان وحرصه الكبير على الفرار لا يمكن أن يفسر بخوفه وعدم قدرته على المواجهة، بقدر ما يمكن أن يعزى إلى إيمانه وتأكده من أن العنف الذي سيمارس عليه لا يمكن أن يكون صادرا من جهة واحدة، وإنما من طرف جميع المشاركين في الحفل. وهذا ما يفسر عزمهم جميعا على تفريغه، كما يسد أمام السلطان كل المنافذ ليعزم على الفرار لأنه متأكد من نجاحهم في القضاء عليه، ذلك بأن "الناس ينجحون بشكل أفضل لإفراغ عنفهم بقدرما تبدو لهم عملية التفريغ، ليس كعملية صادرة عنهم، وإنما كأمر مطلق من إله تكون مقتضياته مرعبة، بقدر ما هي دقيقة"(24)؛ ولعل هذا ما أشار إليه بحراوي حين رأى أن الأوامر العليا الصادرة عن الآلهة حسب المعتقد الأسطوري القديم هي التي تفسر رمي السلطان في النهر باعتباره قربانا يقدم إلى إله مائي، ذلك بأن للنهاية التراجيدية للسلطان في حالة بقائه في المخيم دلالتها الأسطورية التي تكسب الحدث مشروعيته، وتجعل منه حدثا مقدسا ومقصودا يقول في هذا الصدد: "أما رمي سلطان الطلبة في النهر عند نهاية الاحتفال فربما كان يرمز إلى قربان بشري يقدم إلى إله مائي على طريقة المعتقد الأسطوري القديم"(25).

إن إراقة دم السلطان أو رميه في النهر قبل اليوم المعلوم أو بعده قد تسبب دنسا طقوسيا، ذلك بأن هذه الممارسة لا تتخذ مشروعيتها إلا إذا تمت في إطار طقوسي محدد يتحول بمقتضاه الطالب/السلطان من إنسان عادي إلى قربان مقدس يضحى به، ويصبح دمه طاهرا خاليا من أي دنس، لا يؤدي سيلانه إلى أي انتقام لأنه أريق طقوسيا. يقول رونيه جيرار: "بماذا ستنظف هذه القذارة؟ أي مادة عجيبة غريبة سوف تقاوم عدوى الدم النجس وتتوصل لتطهيرها؟ إنه الدم نفسه لكنه هذه المرة دم القرابين التضحوية، الدم الذي يبقى طاهرا إذا أريق طقوسيا، إن للطقسي وظيفة" تطهير "العنف أي "مخادعته "وتبديده على الأضاحي التي لا خوف من أن يثأر لها"(26).

إن أشكال العنف التي تمارس على السلطان في حالة بقائه في المخيم، والتي تصل إلى أبعد مداها برميه في النهر، قد تفسر بكونها طقوسا استكشافية تختبر قدرة السلطان ومؤهلاته ومدى قدرته على تحمل مسؤوليات الحكم، وقد نجد لهذا التفسير إرهاصات في طقوس كانت تمارس خلال فترات تاريخية تختبر قدرة التحمل عند الفرد الذي ستوكل إليه مهام جسيمة، وقد أشار إلى ذلك رونيه جيرار.

لا يتم تفريغ العنف بشكل اعتباطي لأن أصحابه سيكونون مهددين بموجات انتقام لا متناهية، ولكنه يتم عبر وسائل حمائية تضع حدا للدنس الطقوسي، وتوقف حملات الثأر المجتاحة، وتظهر هذه الوسائل بوضوح في الأضاحي المقدسة وفي ممارسات أخرى اشار إليها رونيه جيرار حين قال: "كل الوسائل التي سبق استخدامها من قبل الناس لحماية أنفسهم من الثأثر اللامتناهي يمكن أن تكون متقاربة ويمكن تصنيفها في ثلاث منظومات:

1 - الوسائل الوقائية التي تؤول جميعها إلى تحويلات تضحوية لمبدأ الثأر.

2 - تنظيم وإعاقة الثأر مثل المصالحات، المبارزات القضائية… الخ التي مازال عملها العلاجي عرضيا.

3 - النظام القضائي الذي لا مثيل له في فعاليته العلاجية"(27).

النظام القضائي الذي لا مثيل هل في فعاليته العلاجية"(27).

إذا كان رمي السلطان في النهر، باعتباره أضحية مقدسة، يعيق الثأر والانتقام، فإن الخطبة التي يلقيها المحتسب حين يحضر السلطان الحقيقي أو من ينوب عنه لزيارة سلطان الطلبة وتقديم الهدية الملكية له، وكذلك تعليقه على السلطان المزعوم يعيقانه أيضا، يقول في الخطبة التي تتعلق بسرد أنواع الأطعمة: "إخواني احضيوا الزردة كما تحضيوا الصلاة فإنها قريبة ولو كانت بينكم وبينها خمسين سنة، وإذا مات رجل منكم فغسلوه بالرايب المهجوج وكفنوه في الثريد المخبوج واحفروا في الكساكس المزعفرة والحدوا عليه بالشهدة المعرمة، اللهم اسمعنا ارفد هذا واطرح هذا ولا تسمعنا بحس الطاس والمنديل"(28). ويتحدث عن السلطان المزعوم قائلا إنه "أكبر ملك في الدنيا تخضع لأوامره ملايين من القمل والذباب والضفادع والبراغيث وغيرها من الهوام والحشرات"(29).

تعالج الخطبة عادة قضايا دينية أو سياسية، غير أنها اتخذت من خلال ما قدمه المحتسب شكلا آخر اخترق المألوف، وتحققت فيه كل ملامح الانزياح، ومن ثمة عدل المحتسب/الخطيب عن الإطار الديني ليفرغ ما هو كامن في هذا القالب الهزلي، وهذا أمر قد يكون محظورا خارج هذا الطقس/ الاحتفال، بل وقد تنتج عنه حزازات حادة تصل إلى أبعد مداها من خلال الثأر والانتقام، إلا أن الإطار الاحتفالي المقدس، والقالب الهزلي الذي صبت فيه الخطبة من الوسائل التي من شأنها إعاقة هذا الثأر. ثم إن خرق المألوف وممارسة المحظور تتجاوز هذا الحد حين يتحول خطاب المحتسب/الرعية إلى خطاب بذئ خال من نفحة الاحترام والخضوع، يوجه للسلطان الوهمي في حضرة السلطان الحقيقي، فالسلطان الوهمي لا ينبغي أن يتبادر إلى ذهنه أنه يحكم شعبا، إنه في الواقع لا يحكم سوى قملا وذبابا وهي من أضعف خلق الله، وقوة المرء لا تقاس بإخضاع الضعفاء إنها إذن صرخة تمرد قوية تنبعث من أعماق المحتسب/الرعية لتعلن في صخب رفضها واحتقارها لهذه السلطة الواهية.

إن المحتسب/الرعية يخاطب الملك الوهمي/السلطة بلغة ممنوعة التداول، غير أنها تستمد مشروعيتها من عمق الطقس الاحتفالي الذي يبدد كل الحواجز ويحلل ما كان حراما، ويبيح ما كان حراما،، فضلا عن ذلك فإن تفريغ الكبت السياسي يتم عبر هذا الخطاب الهزلي الذي يشعر الرعية/الذباب، القمل، بتخاذلها وضعفها وسلبيتها وعدم قدرتها على مواجهة أي سلطة.

هكذا، يبدو أن احتفال سلطان الطلبة يختزن كثيرا من الطاقات الفرجوية التي تفصح عن نفسها طوال مدة الحكم الاسبوعي منذ انطلاق دينامية التنكر، غير أن هذه الطاقات قد لا تنحصر فقط فيما ذكرناه بل قد تتجاوزه إلى تجليات فرجوية أخرى لا محدودة.

2 - أطراف الفرجة في سلطان الطلبة:

يقوم احتفال سلطان الطلبة على كثير من العناصر التي تكون من خلال تفاعلها فضاء فرجويا يحقق للظاهرة خصوصيتها الاحتفالية، غير أن هذه الفرجة لا تتحقق بالنظر إلى العناصر المكونة للحفل فقط، ولكن تنشأ بتظافر عوامل أخرى خارجية تحقق بمعية العناصر السابقة تألقا مشهديا ويعمل المتلقي على كشفه لأن الفرجة تقوم على كل ما يقدم للمشاهدة من جهة، وعلى المشاركة الفعلية للجمهور وأعضاء الجماعة خلال الاحتفال. هذه الخصوصية الأخيرة تميز كل الاحتفالات والطقوس التي لا تكتمل إلا باشتراك أعضاء الجماعة، وتبيح لنا تصنيف الفعاليات والديناميات المشاركة في الاحتفال.

وحين نتأمل فرجة سلطان الطلبة، نجد أنها قائمة على أساس المشاركة الشمولية لفعاليات مختلفة تساهم جميعها في إحياء الاحتفال وفي إفضاء طابع الفرجوية عليه، ويمكن تصنيف هذه الفعاليات حسب مشاركتها في هذا المهرجان وحسب تلقيها لطقوسها الاحتفالية إلى ما يلي:

*مشاركة الأسرة الملكية:

لا تنطلق مراسيم الاحتفال إلا بموافقة سلطان البلاد(30) الذي يرسل للطلبة إذنا مكتوبا يرخص لهم إعلاء عرش مملكتهم الوهمية، لذلك لا نستغرب حضور السلطان في هذا الاحتفال أو مشاركة بعض أفراد العائلة الملكية في هذا المهرجان مع تقديم بعض الهدايا التي تشكل دعما ماديا للمملكة الجديدة "ومع حلول اليوم الثالث أو الرابع يتهيأ سلطان الطلبة لاستقبال أحد الأمراء من العائلة المالكة، وقد يكون نجل أو شقيق الملك، ويأتي في موكب رسمي حاملا معه هدية السلطان التي تكون عبارة عن خرفان وطحين وزيت وزبدة وشمع وسكر وشاي وأيضا مبالغ من المال"(31).

إن مشاركة الأسرة المالكة في إحياء هذا الاحتفال مع ما يصاحبها من طقوس (الموكب الرسمي، الهدايا…) يخلق للظاهرة تألقها المشهدي وصبغتها الشمولية، غير أن ما ينبغي غثارته في هذا الصدد هو خلفيات هذه المشاركة المتميزة، وقد كثر الحديث عن ذلك حتى قال البعض: "ربما كان أقرب تفسير لهذه الظاهرة هو ما يورده بعض المؤرخين من أن أصل أن هذا التعاطف الذي أبداه سلاطين الدولة العلوية مع الطلبة في احتفالهم ذاك يعود إلى الرغبة في مكافأتهم على ما بذلوه من مساعدات لمؤسسها المولى الرشيد، ووقوفهم إلى جانبه في سعيه للحصول على العرش"(32).

إذا كان لهذا التفسير ما يبرره في روايات تحكي عن أصل نشوء هذه الظاهرة، فإن ذلك لا يعني صلاحيته المطلقة، إذ قد يكون لهذه المشاركة دلالات أخرى يكشفها الإطار الاحتفالي الذي تكت فيه، فقد تكون مشاركة السلطان أو بعض أفراد أسرته في هذا الاحتفال مشاركته مقصودة تبرز بجلاء حضور السلطان الحقيقي ةمشاركته الطلبة احتفالهم، كما تسجل حضور أعلى سلطة في البلاد الممثلة في السلطان في احتفال النخبة المتعلمة؛ وهو ما يؤشر إلى اهتمام رسمي بفئة العلماء، واهتمام تال بمؤسسة القرويين التي تسند بدورها الديني الوظيفة السياسية للدولة(33).

*مشاركة المخزن:

يحضر رجال السلطة في الاحتفال بشكل مكثف، ويمثلون إلى جانب بقية المشاركين جمهورا يعمل على إنجاح هذه التظاهرة الشعبية التي تشهدها أجواء مدينة فاس، إذ بالمشاركة الجماعية ترتفع وتيرة التنكر، ويكتسي الحفل طابعا إيهاميا يجعل أفراد الرعية (طلبة عامة الناس، سلطة…) يخضعون لحكم سلطنة أسبوعية ويعدون لها كل ما تحتاجه طوال مدة حكمها، إذ "يكون باشا فاس الجديد قد أمر بنصب الخيام المخزنية لاستقبال أفواج الطلبة القادمين، وربما اقام خيمته الخاصة للإشراف على الأمن، وأيضا للاستمتاع بالمناسبة السعيدة"(34).

لا يمكن لباشا مدينة فاس -بما يرمز إليه من تمثيل مكثف للسلطة- أن يخرج عن إطار المتلقي المشارك في إحياء الحفل، غير أن استقباله لأفواج الطلبة، ونصبه الخيمة المخزنية، وإن كانت له دلالة احتفالية، لا يمكن كذلك أن يخلو من كثير من الدلالات: ففضلا عن استمتاع رجال السلطة بهذا الجو الاحتفالي ومشاركتهم في إحيائه، فإن حضورهم هو في حقيقته تمثيل لحضور السلطة العليا، ولتتبعها لكل تفاصيل الاحتفال، إنها رقابة مفروضة على السلطان/الوهم، وعلة الحاشية المزعومة من حيث لا يشعرون، ثم إن حرص الباشا على أمن الدولة الأسبوعية إنما هو في الواقع حرص على أمن الدولة الحقيقية، إذ أن كل اصطدامات تقع في الحفل التنكري من شأنها أن تؤثر على السلطة الحقيقية للبلاد، ومن ثم فإن ملازمة السلطة للاحتفال فعل مقصود يؤشر بوضوح إلى أن احتفال سلطان الطلبة كان يقف وراءه المخزن ويسهر على تفاصيله لغايات عميقة جدا. ويبدو "أن الدين والسلطة كانا يشكلان نقطتا ضعف أساسيتين في مغرب القرن 17 كما يدل على ذلك التطاحن الذي كان قائما بين مختلف الأسر والمناطق المتنازعة على حكم البلاد"(35).

*مشاركة اليهود:

إن ما يضفي على هذا المهرجان صبغة احتفالية شمولية هو كونه يستقطب مختلف المشاركين الذين يقبلون على هذه الأجواء الكرنفالية بشغف للتنفيس عن كربهم ولتغيير الجو الروتيني اليومي، فينخرطون جميعا في إطار هذا العقد التنكري(36)، ويساهمون في قيام الدولة الوهمية بتماهيمهم وانسجامهم الكلي في هذا الاحتفال، لذلك لا نستغرب إقبال يهود فاس للمشاركة في الحفل التنكري بل إنهم يقبلون ومعهم الهدايا التي ستقدم للسلطة، حيث يعلن الحاجب عن ثيران وذهب وفضة.. فإذا هي أقفاص مليئة بالأحجار والفئران…

تضفي هذه الهدايا المقدمة من طرف اليهود على الحفل طابعا هوليا من حيث إنها تفاجئ الحاضرين، وتبدد أفق انتظارهم، غير أنها مع ذلك تنطوي على أكثر من دلالة، فالهدية المقدمة (للسلطان) عادة ما تكون محترمة تليق بمقامه، وليست أقفاصا مملوءة بالقطط والفئران تحيل على احتقار دفين لهذه السلطة الوهمية، فربما دل ذلك على كرههم لهذا السلطان واستهزائهم بسلطنته، خصوصا إذا كانوا يصدقون أسطورة اليهودي "ابن مشعل" الطاغي الذي قتله المولى الرشيد في القرن السابع عشر، وأسس بفضل أمواله الجيش الذي أرسى دعائم الدولة كما تحكي ذلك الروايات والخرافات(37).

*مشاركة عامة الناس:

تزداد وتيرة التنكر، وتكتسي التظاهرة طابعها الاحتفالي بفعل المشاركة الجماعةي المفتوحة، إذ إن المتلقي هو صانع الفرجة، ومن ثم فإن وجودها رهين بوجوده وبمشاركته، وبهذه المشاركة يتحقق اللقاء الإنساني الذي يصبح الحضور بمقتضاه مبدعا ومشاركا في إحياء الاحتفال الذي يصبح ذي طابع شمولي موظف فيه كل وسائل التعبير، ويتم إحياؤه بلغة شاملة قريبة من إدرام المتلقي وهذا ما يمنح الظاهرة خصوصيتها الفرجوية.

إن الفضاء الاحتفالي المفتوح يمنح للجميع للمشاركة، ومن تم فإن مشاركة الطلبة في هذا المهرجان تعمل على كشف طاقاته وإمكاناته الفرجوية، فالطلبة خلال مدة الحكم الأسبوعي يوقعون العقد التنكري ليتحول كل واحد منهم إلى حاجب، فوزير، وكاتب الديوان ومسؤول عن التشريفات… إنها الحاشية الطلابية/السلكانية تنصهر في عمق التظاهرة، وتساهم في ارتفاع وتيرة التنكر، وفي كشف الطاقة الفرجوية لهذا المهرجان..

وإذا كان الاحتفال ينطلق من جامعة القوريين، وبمشاركة طلابها، فإن هذا يعني أنه تم باتفاق علماء القرويين وفقهائها، وقد ثبتت مشاركتهم وراتيادهم هذا الفضاء الذي تتم فيه كل طقوس التنفيس والتفريغ، وكيف ال وهو الفضاء الذي يزوره السلطان الحقيقي ويشارك في الاحتفال المقام به. وفضلا عن مشاركة هذه العناصر، يستقطب المخيم كثيرا من العائلات التي تشتاق إلى تغيير الجو الروتيني الذي تعيشه، إنها رغبة جامحة تسيطر على كل الناس وتحدوهم إلى خرق سلطة المألوف لمعانقة فضاء متخيل تتحقق فيه لذة الانزياح.

هذه هي الأطراف المشهورة والظاهرة التي تشارك في الاحتفال، ويمكن القول إن تحديد أدوارها بتفصيل، وطرائق مساهماتها في الاحتفال أمر ما يزال بعيد المنال، ناهيك عن الوقع الذي كان يخلفه بين الفئات الدينية وبين المثقفين والعلماء وفي مؤسسة المخزن نفسها التي أوجدته n

 

هوامش وإحالات:

(*) شارك في بلورة هذا الموضوع الزميلان صباح الدبي وحسن العاقبي.

1 - دوفينيو جان. سوسيولوجية المسرح. دراسة على الظلال الجمعية. ت. حافظ الجمالي. منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق.ج.1، ص.13-14.

2 - Pradier Jean-Marie. Aspects Psycho-phisiologiques de la pratique. Acteur/Spectateur.

3 - عبد المطلب عبد الهادي. عن المسرح وأساليب صناعة الفرجة. الاتحاد الاشتراكي. ع.4749، غشت 1996، ص.6.

4 - Pavis Patrice: Dictionnaire du Theatre, edition sociales, Paris 1986, p.369-370.

5 - المنيعي حسن. المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز. فاس، ط.1، 1994، ص.5.

6 - المنيعي حسن. المسرح في الجامعة المغربية وجهة نظر شخصية. سلسلة آداب وفنون تشرف عليها عزيزة بناني. أعمال الندوة الدولية للمحمدية، 10-11-12 نونبر 1988، ص.261.

7 - بحراوي حسن. المسرح المغربي بحث في الأصول السوسيوثقافية. المركز الثقافي العربي، ط.1، 1994، ص.99.

8 - الكتاني إدريس. سلطان الطلبة. مجلة الرسالة، القاهرة، ع.310، س.1939، ص.1148.

9 - نلاحظ أن التنكر متميز في سلطان الطلبة لأنه يقوم على امتلاك هيئة أخرى لصاحبه، لكنه تنكر تتويجي ينقل صاحبه إلى مرتبة سلطانية؛ إنه تنكر غير مشوه كما نجد في احتفالات أخرى مثل بوجلود أو هرمة.

10 - التازي عبد الهادي. جامع القرويين. المسجد والجامعة بمدينة فاس، ج.1، ص.720.

11 - جيرار رونيه. العنف والمقدس، ص.108 وما بعدها.

12 - بحراوي حسن. المسرح المغربي. بحث في الأصول السوسيوثقافية، ص.103.

13 - La Mose Emile. La legende du juif Ibn Mech’Al et la fête Al et la fête des tolba à Fès. Archives berbères et bulletin de l’institut des hautes-études marocaines. Editeur Paris, 1925. 2ème trimèstre.

14 - حديث الإذاعة. حول المسرح العربي نقلا عن بغداد مصطفى. المسرح المغربي قبل الاستقلال. دراسة وتحليل. رسالة جامعية. إشراف د.أحمد الطريسي. السنة الجامعية 1988-1989، ص.33.

15 - عن الحجوي محمد. سلطان الطلبة. مجلة سياحة. خريف 1967.

16 - Picard: France-Maroc. Revue mensuelle illustrée.N°6; 15 Juin 1917, p.35.

17 - الكتاني إدريس. سلطان الطلبة. مجلة الرسالة/عدد سابق/ ص.1149.

18 - بحراوي حسن. المسرح المغربي بحث في الأصول السوسيوثقافية/ مرجع سابق/ ص.99.

19 - الكتاني إدريس. سلطان الطلبة. مجلة الرسالة/ عدد سابق/ ص.1149.

20 - جيرار رونيه. العنف والمقدس، ص.9.

21 - المرجع السابق، ص.10.

22 - المرجع السابق، ص.8.

23 - المرجع نفهس، ص.7.

24 - نفسه، ص.30.

25 - بحراوي. نفسه، ص.112.

26 - جيرار رونيه. العنف والمقدس، ص.54.

27 - نفسه، ص.37.

28 - بحراوي، ص.104.

29 - الكتاني إدريس. سلطان الطلبة. مجلة الرسالة، ع.310، مرجع سابق، ص.1149.

30 - يعود احتفال سلطان الطلبة إلى المولى رشيد مؤسس الدولة العلوية الذي أسسه وسمح للطلبة بتنظيمه في نهاية القرن السابع عشر الميلادي. واحتلفت تأويلات ذلك، وحكيت في ذلك حكايات أشهرها حكاية ابن مشعل. وهذا موضوع دراسة مستقلة في طور الإنجاز.

31 - بحراوي. ص.102.

32 - بحراوي، ص.106.

33 - إن تأويل الاحتفال المذكور والبحث عن دلالات تنظيمه في مغرب القرن السابع عشر أمر بقي في الغالب عن التناول العلمي الدقيق، وكذا العلاقة التي تأسست بين مؤسسة سلطان الطلبة والدولة آنذاك.

34 - بحراوي، ص.101-102.

35 - أسليم محمد. حول مفهوم الأشكال الماقبل المسرحية. نحو أنتولوجيا للمسرح المغربي. العلم الثقافي. السبت 25 مارس 1995.

36 - نقترح مفهوم العقد التنكري لتأطير التبادلات الرمزية والمادية وتمثلاتها في فرجة سلطان الطلبة.

37 - تحتاج مشاركة اليهود في مهرجان سلطان الطلبة بحثا خاصا يكشف عن موقف اليهود عموما من الاحتفال، حيث نعلم أنهم كانوا يساهمون في جمع ميزانية تنظيمه بين التجار قبل بدايته، ولكن موقف السخرية الذي يذهبون ضحيته على الأقل ظاهريا يحتاج إلى مزيد من التوضيح.