ص1      الفهرس    المحور 

 

جديد في الفكر السياسي بالتراث العربي

 

 محمد عابد الجابري

 

1- مناحي التفكير السياسي في التراث العربي

عرف التراث العربي الإسلامي ثلاثة أصناف من الفكر السياسي: صنف يدور أساسا حول الخلافة والإمامة، وصنف موضوعه الآداب السلطانية ونصائح الملوك، وصنف أقرب إلى الفلسفة منه إلى السياسة.

الأول نشأ من خلال النقاش حول أزمة الخلافة التي تفاقمت بعد مقتل عثمان, ثم انتصار معاوية على علي وتحويله الخلافة إلى ملك وراثي، وهو النقاش الذي استمر قرونا مديدة كموضوع من موضوعات علم الكلام والفقه. والثاني برز كأهم عنصر نقل من التراث الفارسي عقب انتصار الثورة العباسية واحتلال عناصر من أصل فارسي مواقع هامة في الدولة، كتابا ووزراء ومستشارين؛ بينما ظهر الصنف الثالث، في أول الأمر، في صورة نصوص منحولة لبعض فلاسفة اليونان كنوع من رد الفعل على هيمنة الأدبيات السلطانية الفارسية على ساحة التفكير السياسي في أوساط النخبة، ثم كجزء من فلسفة توفيقية تدمج الدين في الفلسفة مع الفارابي بصفة خاصة.

لقد سبق أن تناولنا بالعرض والتحليل النقدي، في مكان آخر, الصنفين الأولين بوصفهما "تجليات" لـ "العقل السياسي العربي", أعني: المظاهر والكيفيات التي كان الفعل السياسي، في الحضارة العربية الإسلامية، يتحقق فيها أو من خلالـها أو بواسطتها. وهكذا خصصنا حيزا كافيا لكل من ميثولوجيا الإمامة, والإيديولوجيا السلطانية, وفقه السياسة، مما لا داعي لتكرار القول فيه هنا، فلينظر في موضعه().

والسؤال الذي لم نطرحه هناك, ونريد أن نجعل منه مدخلا لموضوعنا هنا, هو التالي: لماذا سكتنا في دراستنا لتجليات العقل السياسي العربي عن الصنف الثالث من الفكر السياسي في التراث العربي, الصنف المرتبط بالموروث اليوناني والذي ينتمي إلى الفلسفة؟

2- فكر سياسي لم تكن له تجليات في العقل السياسي العربي

يمكن أن نقدم جوابا قد نفاجئ به القارئ، ولكنه سيكون أفضل جسر ينقلنا إلى موضوعنا مباشرة! لنقل إذن: لقد سكتنا عن ذلك الصنف من الفكر السياسي الموروث عن اليونان, ضمن الفلسفة وعلومها, لسبب بسيط، هو أنه لم يكن له أي حضور على مسرح ما دعوناه بـ "تجليات العقل السياسي العربي"!

سيقال، وبصيغة استنكارية: والفارابي الذي تكاد اهتماماته الفلسفية تنحصر في "المدينة الفاضلة" التي كتب فيها عدة كتب؟ فإذا كان ما كتب في هذا الموضوع لا ينتمي إلى "العقل السياسي العربي", فإلى أين ينتمي؟ ثم ألا يصدق هذا أيضا على "مختصر" ابن رشد لكتاب "السياسة" لأفلاطون المعروف باسم "الجمهورية"؟!

والجواب الذي نريد أن نستبق به خطانا, ليكون بمثابة دعوى ندعيها من أجل أن نعمل على إثباتها، ويكون ذلك أفضل مدخل لهذا الكتاب, هو أن ما كتبه الفارابي حول المدينة الفاضلة, والمدن المضادة لها, لا يندرج إلا من بعيد، وبعد تأويل، في ما دعوناه بـ "تجليات العقل السياسي العربي". أما "مختصر" ابن رشد لكتاب "السياسة" لأفلاطون، والذي بقي مجهولا في الساحة الفكرية العربية المعاصرة إلى هذه السنة()، نظرا لضياع أصله العربي، فهو يختلف تماما. إنه وحده ينخرط بقوة, وبصورة مباشرة, في تجليات العقل السياسي العربي.

ينخرط فيلسوف قرطبة بكتابه هذا في تجليات العقل السياسي العربي, لا على غرار الإيديولوجيا السلطانية المكرسة لما عبر عنه ابن رشد نفسه بـ "وحدانية التسلط", أي الاستبداد والطغيان، ولا على غرار "الكلام في الإمامة" و"فقه السياسة" اللذين انتهيا إلى النتيجة نفسها بإقرار مبدأ: "من اشتدت وطأته وجبت طاعته"(), كلا. إن ابن رشد ينخرط بالكتاب الذي بين أيدينا في تجليات العقل السياسي العربي من موقع آخر مخالف تماما: موقع الصوت المعارض للحكم القائم في وقته وبلده باسم العلم والفلسفة. وسيكون "مختصر" ابن رشد هذا بمثابة الجسر الذي انفصل بواسطته ابن خلدون عن جميع أنماط التفكير السياسي في التراث العربي الإسلامي، ليدشن خطابا آخر في "طبائع العمران البشري", ينقل به التفكير السياسي في الحضارة العربية الإسلامية، وربما في تاريخ الفكر الإنساني كله، من مجال "الفلسفة السياسية" إلى مجال "فلسفة التاريخ".

وَضْعُ الكتاب الذي بين أيدينا في الموقع الذي يستحقه، في سياق تاريخ التفكير السياسي في التراث العربي الإسلامي، يتطلب قراءته بواسطة ما قبله وما بعده: بواسطة الفارابي من جهة وابن خلدون من جهة أخرى. سنترك مسألة العلاقة بين ابن رشد وابن خلدون إلى فرصة أخرى()، وسنقتصر هنا على بيان نوع القطيعة التي يدشنها هذا الكتاب مع التفكير السياسي في التراث العربي الإسلامي, مركزين على أقرب أنماط هذا التفكير إليه, نعني بذلك ما ينتسب إلى المرجعية اليونانية.

3- "الحرب" بين الروم والفرس على ساحة الثقافة العربية

"قد تأملتُ, أيدك الله, ما عدَّدَتْه الفرس من حسن السيرة ورجاحة الآراء ومِلك الأهواء, ورأيتُ ما صدر عنك من ذلك غير مجانب للحق و لا بعيد من الصدق. ولو اقتصرت عليه دون ما قادك إليه جماح التعصب, وحداك عليه زلل التسلط, من الطعن على من بان فضله ورجح وزنه من اليونانيين، لوجدتَ مقالا رحبا ومستعرضا فسيحا(…). فأما تكريرك تقصير اليونانيين في السياسة, فقد أنفذت إليك ثلاثة عهود لهم: منها عهد ملك منهم إلى ولده فيما أفضى به إليه من أمر مملكته، وعهد وزير منهم إلى ولده فيما ينبغي أن يستعمله المتقلد للوزارة، وعهد رجل من أرفع طبقات العامة إلى ولده فيما ينبغي أن يعمله في تصرفه؛ فقابل بها ما نمى إليك من غيرهم, لترى محلهم من حسن السيرة وفضلهم على غيرهم في السياسة."()

أما صاحب هذا القول فهو أبو جعفر أحمد بن يوسف المعروف بـ"ولد الداية". كان أبوه ممن خدم إبراهيم بن المهدي الذي بويع له بالخلافة في بغداد قبل قدوم المأمون إليها من خراسان. أما هو فقد خدم لابن طولون في مصر حيث كان "من جلة الكتاب"، كان أديبا وعالما بالطب والنجوم والحساب, وكاتب سير, ومن المهتمين بالموروث اليوناني. ولد حوالي 255هـ وتوفي سنة 340 هـ.

وأما مناسبته –أعني القول الذي نقلناه عن ولد الداية هذا- فواضحة: لقد ورد في مقدمة كتابه "العهود اليونانية" الذي قال عنه إنه استخرجه من "رموز" كتاب "السياسة" لأفلاطون (الجمهورية) ليفند به دعوى من يدعي "تقصير اليونانيين" في الكتابة السياسة وتفوق الفرس عليهم في هذا المجال. (هذا في حين أنه لا علاقة لهذا الكتاب, مضمونا وروحا وشكلا, بكتاب أفلاطون ولا يمكن أن يكون له به علاقة "استخراج" من نوع ما.)

ينتمي الكتاب إذن إلى عصر التدوين، عصر البناء الثقافي العام في الحضارة العربية الإسلامية، وأيضا عصر المنافسة الثقافية, ليس فقط بين "العرب" وأبناء الشعوب الأخرى (الشعوبية)، بل وأيضا بين هؤلاء أنفسهم. لقد وزعت المناقب الثقافية آنذاك كما يلي: للفرس السياسة والأدب, وللروم (اليونان) العلم والحكمة الخ… بالفعل كانت الهيمنة في مجال "الفكر السياسي" للمورث الفارسي الذي قام ابن المقفع بدور أساسي في نقله إلى اللغة العربية والترويج له (كتاب التاج, كتاب الأدب الكبير والأدب الصغير، وكليلة ودمنة الخ)، وهو الموروث الذي بقي يشكل المصدر الرئيس لـ "نصائح الملوك" و"الآداب السلطانية". وفي مقدمة هذا المورث الفارسي وعلى رأسه يأتي "عهد أردشير".

كان أردشير بن بابك من أعظم ملوك الفرس إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق: وحد البلاد وحارب الرومان وقام بإصلاحات داخلية متحالفا مع رجال الدين. وعندما توطد له الأمر أراد أن ينقل تجاربه وخبرته السياسية لمن بعده من ملوك فارس فكتب عهدا (وصية) كان من أهم ما ذكر فيه كأساس للحكم, قوله: "واعلموا أن الملك والدين توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، لأن الدين أس الملك وعماده، ثم صار الملك بعد حارس الدين، فلا بد للملك من أسه، ولابد للدين من حارسه، لأن ما لا حارس له ضائع، وما لا أس له فمهدوم".() لقد لقي هذا المبدأ الذي وضعه أردشير قبولا بل استحسانا من كافة الأوساط في الدولة العباسية الفتية, وكان يعبر عن واقع تكرس مع أبي جعفر المنصور الذي جعل من الدين أساسا لحكمه, وجعل من دولته "الحارس" للدين، والمهيمن عليه.

4- "العهود اليونانية" كمنافس لـ "عهد أردشير"

وما يهمنا الآن التأكيد عليه هو هيمنة النموذج الفارسي الذي يجد مرجعيته الأولى في عهد أردشير, وأيضا فيما ينسب إلى كسرى أنوشروان، هيمنته على التفكير السياسي في العصر العباسي الأول. وكان لا بد أن يكون هذا مدعاة لافتخار الكتاب و"الطبقة السياسية" من أصل فارسي, وكان لابد أن يثير ذلك ردود فعل لدى أولئك الذين كانوا على صلة بالموروث اليوناني ولم يكونوا ينتمون للموروث الثقافي الفارسي, كأحمد بن يوسف صاحب " كتاب العهود اليونانية"، الذي أراد به منافسة "عهد أردشير" فاستهله بـ"عهد الملك أذريانوس" إلى ابنه.

وإذا صح أن المقصود هو الإمبراطور الروماني هادريانوس المشهور الذي عاش في ما بين القرنين الأول والثاني للميلاد, و"قضى شطرا وافرا من ملكه وهو يذرع دولته الواسعة (…) ينشر الإصلاحات الإدارية في كل إقليم, ويبث التنظيمات الدستورية الخصبة وينشئ المدن"()، فإن صاحبنا سيكون قد اختار شخصية رومية في وزن أردشير، ونسب إليه وصية سياسية أرادها أن تكون في مستوى وصية أردشير, مضيفا إلى ذلك "عهد وزير" (روماني) إلى ولده فيما ينبغي أن يستعمله المتقلد للوزارة، وعهد رجل "من أرفع طبقات العامة إلى ولده فيما ينبغي أن يعمل في تصرفه". ويطلب صاحبنا من مخاطبه –الحقيقي أو الوهمي- المنتصر للفرس قائلا: "فقابل بها ما نمى إليك من غيرهم لترى محلهم من حسن السيرة وفضلهم على غيرهم في السياسة."()

هل استطاع أحمد بن يوسف ولد الداية تأسيس خطاب سياسي مخالف للخطاب الذي كرسه ابن المقفع ومنافس له؟

الواقع أن صاحب "العهود اليونانية" لم يعمل إلا على استنساخ النموذج الذي أراد أن ينافسه ويزاحمه, النموذج الفارسي, شكلا ومضمونا. ومع أنه يدعي أن هذه العهود "مستخرجة من كتاب السياسة لأفلاطن"، فهو في الحقيقة أبعد ما يكون عن أفلاطون وعن الفكر السياسي اليوناني عموما، وليس فيه ما يربطه من قريب أو بعيد لا بكتاب "السياسة" –الجمهورية- لأفلاطون, ولا بكتب أرسطو في السياسة والأخلاق. ولا يهم إن كان الكتاب من وضع أحمد بن يوسف نفسه أو أن له أصلا في النصوص المنحولة على أفلاطون. المهم عندنا هنا هو أن كتابات أفلاطون السياسية, لم تكن حاضرة في الثقافة العربية الإسلامية في هذا الوقت المبكر.

5- "السياسة في تدبير الرئاسة": كتاب في "النصيحة" كذلك

والشيء نفسه يصدق على أرسطو. لقد ظهر في الوقت نفسه، وربما تحت نفس الدوافع، دوافع المنافسة مع الموروث السياسي الفارسي, كتاب زعم صاحبه أنه لأرسطو، وأنه حصل عليه بعد جهد وإعمال الحيلة، وأنه ترجمه من اليونانية إلى الرومية ومنها إلى العربية. أما صاحب هذا الادعاء فهو المترجم المعروف يوحنا ابن البطريق الذي تقول عنه كتب التراجم والفهارس إن المأمون العباسي بعثه إلى بلاد الروم للبحث على كتب الفلسفة وعلوم الأوائل والإتيان بها إلى بيت الحكمة في بغداد.

كان ابن البطريق معاصرا لأحمد ابن يوسف، وكان على صلة فعلية بالفكر اليوناني فقد ترجم كتبا مهمة لأرسطو (كتاب الحيوان، وكتاب السماء والعالم, وكتاب الآثار العلوية الخ )، ولكن ليس من بينها كتاباته السياسية الحقيقية. أما هذا الكتاب الذي اشتهر بـ "سر الأسرار" واسمه الحقيقي "السياسة في تدبير الرئاسة", والذي عرف رواجا كبيرا في الأدبيات السياسية في التراث العربي الإسلامي، فهو من أشهر الكتب المنحولة على أرسطو، وهو رسالة في ثماني مقالات زعم واضعها أن أرسطو كتبها "لتلميذه الملك الأعظم إسكندر بن فيلبس الفلوذي المعروف بـ "ذي القرنين، حين كبر سنه وضعفت قوته عن الغزو معه والتصرف له, وكان إسكندر قد استوزره وارتضاه واستخلصه واصطفاه, لما كان عليه من صحة الرأي واتساع العلم وثقوب الفهم". ويضيف: إن الإسكندر "لما فتح بلاد فارس وتملك عظماءهم خاطب أرسطوطاليس يقول: "أيها المعلم الفاضل والوزير العادل, إني أعلمك أني وجدت قوما بأرض فارس لهم عقول راجحة وأفهام ثاقبة, يتوقع مُمَايَلَتُهم على المملكة. وقد عزمت على قتلهم جميعا" الخ، فكان جواب أرسطو المزعوم: "فأملكهم بالإحسان عليهم والمبرة بهم تظفر بالمحبة منهم"()

نحن هنا إذن أمام نفس النموذج. الاسكندر وأرسطو معا في مقابل أردشير! إنه الصراع القديم بين الفرس والروم الذي انتقل إلى مسرح الثقافة العربية, على صورة الصراع بين المرجعيات الفكرية()!

هل نجح كتاب "السياسة في تدبير الرئاسة" في منافسة "عهد أردشير" وما انضاف إليه؟

الواقع أن هذا الكتاب عرف رواجا واسعا جدا في الساحة الثقافية العربية ولمدى قرون وأجيال. ولكن لا كفكر سياسي منافس لفكر أردشير، ولا حتى متميز عنه, فلقد انضاف إليه ليشكل معه العمود الفقري للأدبيات السياسية المعروفة بـ "الآداب السلطانية" أو "نصائح الملوك". ومن غرائب الأمور أن كتابات أفلاطون وأرسطو السياسية الصحيحة، أعني غير المنحولة، بقيت بعيدة عن هذه "الآداب" و"النصائح"، بينما أخذت هذه تتوالد وتتضخم على مر العصور، تتغذى بالخصوص مما ينحل فيها –أو ينقل منحولا من مصادر سابقة- من "حكم" وأمثال و"كلمات قصار", تنسب إلى "حكماء اليونان", وأيضا إلى شخصيات عربية وإسلامية، بعد أن استنفذ ”المخزون" الفارسي بإقصاء العناصر الفارسية من أجهزة الدولة، مع التحول الذي تم معه الانتقال من العصر العباسي الأول إلى الثاني.

وعلى الرغم من أن كتب أفلاطون وأرسطو في الأخلاق والسياسة قد ترجمت قبيل هذا التحول وصارت معه متوفرة ومتداولة، فإن الإعراض عن الطريقة التحليلية النقدية التي تناولا بها المسألة السياسية ظل السمة الرئيسة في الكتابات السياسة في الإسلام، وذلك إلى درجة يمكن القول معها إن "السياسية" خارج "النصيحة" كانت من اللامفكر فيه. ومع أن الماوردي قد أضفى على"النصيحة" طابعا تحليليا فقد ظل يتحرك كفقيه ومتكلم، داخل "الآداب السلطانية" وليس خارجها.

ومعلوم أن هذه, وأعني "الآداب السلطانية", لا تتناول "السياسة" إلا من زاوية تقديم النصح لـ"الأمير" من أجل استمرار حكمه واستقراره.() أما ما يشكل المسألة الأساس في الفكر السياسي اليوناني، عند أفلاطون كما عند أرسطو، أعني الظاهرة السياسية نفسها أي مسألة الحكم وتحليل ونقد أنواع الحكومات والدساتير لبيان النوع الذي يتحقق به الحكم الأمثل القائم على العدل، وطريقة اختيار أو إعداد الرئيس الخ، فذلك ما لا تتعرض له "الآداب السلطانية" إلا بصورة غير مباشرة، ومن بعيد. إن منطلق هذه "الآداب" هو توجيه النصح للأمير القائم؛ وهذا يعني أن قيامه ووجوده سابق على أي تفكير سياسي، بل إن وجوده هو الذي يؤسس القول السياسي.

6- الفارابي يوظف "السياسة" في العلم الإلهي

ولم يكن القول السياسي التحليلي المباشر غائبا في الآداب السلطانية وحدها, بل لقد سجل غيابه حتى في الحقل الفلسفي نفسه. وهكذا فإذا نحن تجاوزنا الكندي الذي كان اهتمامه منصرفا بالأساس إلى العلوم الطبيعية, والذي لا يمكن أن نلومه في هذا الشأن لكون المؤلفات السياسية لكل من أفلاطون وأرسطو لم تكن قد ترجمت في أيامه, أو على الأقل لم تكن قد انتشرت, فإن الفارابي الذي اهتم بكتب أفلاطون السياسية اهتماما بالغا, وواسعا جدا, لم يتعامل معها إلا من الزاوية الميتافيزيقية. صحيح أن العلاقة بين السياسة والميتافيزيقا في الفكر اليوناني علاقة عضوية ووشيجة, ولكن ما يجب الانتباه إليه هو أنه بينما بنى اليونان مدينتهم الإلهية (الميتافيزيقا) على غرار مدينتهم السياسية، قلب الفارابي الوضع قلبا، إذ راح يشيد المدينة الفاضلة، مدينته السياسية، على غرار المدينة الإلهية التي شيدتها الفلسفة الدينية الحرانية الهرمسية على أساس فكرة الفيض.() ليس هذا وحسب بل لقد ربط الفارابي "الصلاح" في السياسة بـ "صلاح" المعتقدات الدينية الفلسفية.

وهنا يلتقي الفارابي مع الأدبيات السلطانية ليس فقط في مجال المماثلة بين الإله, أو السبب الأول, وبين الخليفة أو رئيس المدينة الفاضلة، وهي المماثلة التي سادت الخيال الديني والسياسي في العصر العباسي, والمنقولة من الموروث الفارسي()، بل يلتقي معها في المنطلق أيضا. ذلك أن وجود رئيس المدينة الفاضلة سابق عند الفارابي على القول في شكلها وصفاتها, تماما مثلما أن وجود "الأمير" عند المؤلفين في "الآداب السلطانية" سابق على النصيحة التي تقدم له. إن الفارابي يؤكد في جميع كتبه التي تناول فيها موضوع "المدينة الفاضلة" على فكرة أن "رئيس هذه المدينة ينبغي أن يكون هو أولا، ثم يكون هو السبب في أن تحصل المدينة وأجزاؤها, والسبب في أن تحصل الملكات الإرادية التي لأجزائها في أن تترتب مراتبها, وإن اختل منها جزء كان هو المرفد له بما يزيل عنه اختلاله"().

ولا علاقة بهذا الذي يقرره الفارابي كمبدأ وكمنطلق مع ما نجده عند أفلاطون في هذا الشأن, من كون رئيس المدينة الفاضلة يجب أن يكون فيلسوفا قد تم إعداده عبر مراحل من التعليم وطوال عقود من السنين. فالفارابي لم يهتم قط بهذا الجانب الذي شغل أفلاطون كثيرا في تشييده للمدينة الفاضلة, جانب الإعداد بالتربية والتعليم لـ "الحفظة", وهم رجال الدولة من موظفين وجنود الخ. إن تفكير الفارابي قد اتخذ منحى آخر مخالفا تماما, منحى يكشف عنه عنوان كتابه الأساسي في الموضوع: "كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة". إن المدينة تتخلص, من منظور الفارابي, في "آراء" أهلها، فهي فاضلة إذا كان أهلها يعتقدون في "المبدأ الأول" (الله) وفي "الثواني" أي العقول الفلكية التي هي الملائكة في نظره، وفي صدور الموجودات عن المبدأ الأول بواسطة الثواني وفي العقل الفعال، الذي هو ملاك الوحي الخ الخ, اعتقادات "صحيحة"، يعني تلك التي ذكرها هو كـ "آراء أهل المدينة الفاضلة".

7- الفارابي: المدينة الفاضلة: مدينة اندماج الدين في الفلسفة

بإمكان المرء أن يتبين بسهولة ووضوح ابتعاد الفارابي عن الإطار السياسي الواقعي الذي طرح فيه أفلاطون "المثالي" المسألة السياسية من خلال المقارنة بين بنية كتاب السياسة لأفلاطون المعروف بـ "الجمهورية" الذي خصصه للمدينة الفاضلة وبين بنية كتاب الفارابي "آراء أهل المدينة الفاضلة", وهي نفسها البنية التي تتكرر في كتبه الأخرى التي تناول فيها الموضوع ذاته (السياسة المدنية، كتاب الملة، تحصيل السعادة).

ينطلق أفلاطون من قضية تقع في قلب "السياسة" قضية العدالة: يبحث في المعاني المختلفة التي يعطيها الناس للعدل، كل من زاوية منظوره الشخصي الذي يتحدد سياسيا، بوصفه رئيسا أو مرؤوسا، مسالما أو طاغية، فقيرا أو غنيا الخ، لينتهي بعد ذلك إلى النتيجة التالية: وهي أن مشكلة العدالة يجب أن تطرح على المستوى العام، مستوى المجتمع والدولة/ المدينة. ومن هنا ينطلق في البحث عن إمكانية تشييد نظام للحكم تتحقق فيه العدالة, أي المدينة الفاضلة، مركزا على جانب الإعداد بالتربية والتعليم, مستعرضا نظم الحكم التي عرفتها المدن اليونانية, محللا سياساتها تحليلا نقديا, متتبعا طرق تحول بعضها إلى بعض الخ.

أما الفارابي فهو ينطلق من منطلق آخر مختلف ومخالف تماما، منطلق "علم الكلام" في الإسلام: يبدأ بـ "القول في الموجود الأول" (الله)، و"القول في نفي الشريك عنه"، و"القول في نفي الضد عنه"، والقول في "نفي الحد عنه"، و"القول في أن وحدته عين ذاته وأنه تعالى عالم وحكيم وأنه حق وحي وحياة", و"القول في عظمته وجلاله ومجده تعالى"، حتى إذا استوفى القول في بابي "الذات والصفات" انتقل إلى ثالث أبواب علم الكلام، باب "الأفعال" الذي موضوعه الأساسي هو خلق الله للعالم والعلاقة بين الله والإنسان. وهكذا نقرأ العناوين التالية: "القول في كيفية صدور جميع الموجودات عنه", "القول في مراتب الموجودات"، "القول في الأسماء التي ينبغي أن يسمى بها الأول"، "القول في الموجودات الثواني وكيفية صدور الكثير".

ويستمر القول في الموجودات السماوية والأرضية، الروحانية والجسمانية، إلى أن نصل إلى الإنسان "والقول في أجزاء النفس الإنسانية وقواها", والقول في خصائص هذه القوى التي منها القوة الناطقة والقوة المتخيلة والقوة النزوعية, لنصل إلى "القول في احتياج الإنسان إلى الاجتماع والتعاون" ومنه إلى "القول في العضو الرئيس" لهذا الاجتماع, و"القول في خصال رئيس المدينة الفاضلة", ومنه إلى "القول في مضادات المدينة الفاضلة", التي تصنف هي الأخرى حسب آراء أهلها: إلى مدينة جاهلة، لم تسمع قط بـ"الآراء الفاضلة"( وهي الآراء السابقة في السبب الأول والعقول الفلكية وصدور الموجودات الخ, وهي أصناف, هي في الجملة تلك الذي ذكرها أفلاطون وعرفها اليونان), ويضيف الفارابي من عنده المدينة الفاسقة وهي التي تعلم الآراء الفاضلة كلها ولكن أفعال أهلها أفعال غير فاضلة ( والفسق مصطلح إسلامي), والمدينة الضالة وهي التي "تعتقد في الله وفي الثواني وفي العقل الفعال آراء فاسدة…ويكون رئيسها الأول ممن أوهم أنه يوحى إليه من غير أن يكون كذلك" الخ.

ويطنب الفارابي في وصف أحوال وآراء أهل هذه المدن المضادة للمدينة الفاضلة، وصفا عاما فيه ما أخذه عن أفلاطون وفيه ما يعود إلى مطالعاته واستنتاجاته. أما الواقع العربي والتجربة أو التجارب السياسية في الحضارة العربية الإسلامية، فحضورها باهت جدا. ويحتاج المرء إلى تأويل وتكلف إذا هو أراد أن يتبين فيما كتبه الفارابي شيئا عربيا إسلاميا، ما عدا أمرين اثنين" أولهما: انخراط مدينته انخراطا مباشرا في "علم الكلام" كما أوضحنا أعلاه (الانطلاق من الكلام في ذات الله وصفاته وأفعاله). ثانيهما إضافته النبي كرئيس مؤسس للمدينة الفاضلة، وعدم قصر هذه المهمة على الفيلسوف (كما فعل أفلاطون). وقد كتب الفارابي رسالة بعنوان "كتاب الملة" عقد فيها مقارنة بين المدينة التي يؤسسها النبي (مدينة النبوة في الإسلام) والمدينة الفاضلة الفلسفية، فسوى بينهما على أساس نظريته في العلاقة بين الدين والفلسفة والتي تتلخص في القول: ما تعطيه الملة هو محاكيات لما في الفلسفة: فـ "كما أن الفلسفة منها نظرية ومنها عملية" كذلك الملة"، و"الشرائع الفاضلة كلها تحت الكليات في الفلسفة العملية، والآراء النظرية التي في الملة براهينها في الفلسفة النظرية، وتؤخذ في الملة بلا براهين"().

نحن هنا إزاء مقارنة مجردة الهدف منها دمج الدين في الفلسفة وليس شيئا آخر، وذلك في الحقيقة هو الهدف من المدينة الفاضلة، لا بل من "آراء أهل المدينة الفاضلة" عند الفارابي. ويبدو أن فيلسوفنا قد شعر بابتعاده عن الواقع السياسي في خطاب ينتمي إلى مجال السياسة (أو العلم المدني) فصرح في نهاية مقالة لخص فيها, بطلب من "بعض الناس"، مضمون فصول كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة", صرح قائلا: "وهاهنا كان ينبغي أن تذكر مثالات هذه ( "الظنون التي حدثت عنها الآراء الضالة"), فتؤخذ عن الملل الجاهلية والضالة الموجودة اليوم في الأمم، ولكن رأينا أن نرجئها إلى "الزيادات". أما هذه: الزيادات" فلم تصلنا والغالب أنه لم يكتبها، فقد وعد بها في أواخر عمره.

8- ابن رشد: مواجهة السياسة بخطاب سياسي

ربما يلاحظ القارئ أننا أطلنا الوقوف مع الفارابي, في حين أن موضوعنا هو ابن رشد. فعلا؛ وسنسكت عن ابن سينا لأنه لم يكتب شيئا يستحق الذكر في موضوع المدينة الفاضلة ولا في "العلم المدني", كما سنقفز على ابن باجة الذي كان واقعيا، فرأى أن الحديث عن "المدينة الفاضلة", في زمانه ومكانه, ضرب من الوهم: فالفلسفة محاصرة والفلاسفة غائبون، وبالتالي فكل ما يمكن أن يفعله الفيلسوف الوحيد, الموجود في ذلك الزمان والمكان, وهو ابن باحة نفسه, هو تشييد مدينة فاضلة لـ" المتوحد", ومن هنا كتابه "تدبير المتوحد"().

غير أن وقوفنا طويلا مع الفارابي لم يكن بسبب أنه الوحيد الذي "تكلم" في المدينة الفاضلة، بل لأن استعادة كلامه فيها وعنها ضروري لفهم وتقدير ما فعله ابن رشد في اختصاره لجمهورية أفلاطون.

لقد دشنا علاقتنا مع ابن رشد عام 1978 بدراسة دافعنا فيها عن أطروحة كانت تبدو في ذلك الوقت غريبة وشاذة، وهي أن فيلسوف قرطبة قد دشن قطيعة ابيستيمولوجية مع كل من الفارابي وابن سينا، لكونه, خلافا لما شاع وذاع، لم يعمل على التوفيق بين الدين والفلسفة بدمج الدين في الفلسفة كما فعل الفيلسوفان المشرقيان، بل عمل بالعكس من ذلك على الفصل بينهما. لقد أكدنا في تلك الدراسة: "أن ابن رشد يرى أن للدين مبادئ وأصولا خاصة, وأن للفلسفة كذلك مبادئ وأصولا خاصة، الشيء الذي ينتج عنه حتما اختلاف البناء الديني عن البناء الفلسفي، ولذلك كان من غير المشروع في نظره دمج أجزاء من هذا البناء في البناء الآخر أو قراءة أجزاء من هذا البناء بواسطة أجزاء من ذلك. إن النتيجة ستكون …تشويه تلك الأجزاء والتشويش على البنائين معا"().

كان ذلك ما أوضحناه وأكدناه منذ عشرين عاما، ولم نكن آنذاك قد اطلعنا على كتابه "الضروري في العلم المدني أو مختصر كتاب السياسة لأفلاطون" (الجمهورية). واليوم إذ نقدم للقارئ العربي هذا الكتاب منقولا من الترجمة العبرية بعد أن ضاع أصله العربي, أو هكذا يبدو، نجد أنفسنا أمام نفس الحقيقة، وهي أن فيلسوف قرطبة قد قطع مع نوع "الكلام" الذي تكلمه الفارابي في السياسة والمدينة الفاضلة، ليدشن خطابا جديدا في العلم المدني، يواجه السياسة بموقف سياسي صريح وشجاع. لنضف إلى هذا أننا بادرنا مباشرة بعد قراءة هذا الكتاب في ترجمته الإنجليزية (قبل أربع سنوات) إلى كتابة دراسة عن "نكبة ابن رشد", فسرنا فيها هذه النكبة بسببها الذي نعتبره سببها الحقيقي المسكوت عنه, وهو هذا الكتاب الذي بين أيدينا والذي مارس فيه ابن رشد نقدا صريحا وجريئا للحكم في عصره()، مفضلا ترك الأمثلة التي يعطيها أفلاطون عن زمانه ومكانه ليعطي هو أمثلة أخرى معاصرة له: عن زمانه هو ومكانه هو، مما سنعرض له بتفصيل في المقدمة التحليلية التي تلي هذا المدخل.

أما الآن فلنكتف بهذا الحكم العام وهو أنه لأول مرة سيجد القارئ العربي في تراثه المتراكم عبر خمسة عشر قرنا خطابا سياسيا يواجه السياسة مواجهة صريحة مسلحة بالعلم والفلسفة : إن ابن رشد يبدو في هذا الكتاب في صورة حديثة جدا، يندد بجميع أشكال التسلط والاستبداد, ويؤمن بالتقدم, وينشد الإصلاح في الحكم والسياسة كما نشده في مجال العقيدة الدينية والعلم والفلسفة.

تلك إحدى الخلاصات العامة التي يمكن الخروج بها من قراءة هذا الكتاب، فلنقف عندها هنا، ولننتقل إلى القول في تحقيق اسم هذا الكتاب وتاريخ تأليفه ومناسبته، وأيضا الظرف الذي كتب فيه (انظر البقية في الكتاب) .