ص1      الفهرس    المحور 

 

الهوية المهنية للمدرس:

الأزمة وضرورة البحث

 

عبد الرحيم تمحري

تقديم: على الرغم من حداثة البحث في مجال علوم التربية بالمغرب، فإن المغاربة استطاعوا أن ينخرطوا في مسيرة البحث التربوي، وفي البحث العلمي في قضايا التربية، وعلى مختلف المستويات: برامج ومناهج، بنيات ومنظمات، وكذلك فاعلين تربويين من مدرسين ومتمدرسين وإداريين ومشرفين تربويين.

لقد تم هذا الانخراط بمساهمة مؤسسات تكوينية مختلفة وفي نفس الوقت متكاملة: كليات، مراكز تكوين، مدارس عليا… ومهما قيل عن هذه المؤسسات ووظائفها الدمجية، وكذلك عن أهداف وتوجهات البحث في قضايا التربية بالمغرب، فإن الواقعة التي تفرض ذاتها هي أن التربية أصبحت موضوع جدال واهتمام من طرف مختلف أعضاء المجتمع المغربي: مسؤولين سياسيين، مسؤولين حزبيين، مثقفين مديرين لمجلات متخصصة في التربية، أو لجرائد متخصصة في التربية، أو كتاب مهتمين، أو موظفين في مؤسسات تابعة لوزارة التربية الوطنية كما هو الحال في النيابات والأكاديميات التي أصدر البعض منها مجلات أو مطبوعات مختصة في قضايا التربية والتعليم عامة، والديداكتيك والتقويم خاصة.

يمكن تشبيه هذه الواقعة بالمخاض السهل لا العسير، لأنه مخاض أنتج وأنجب على الرغم مما يمكن أن يقال في نوعية هذا الإنتاج. والمأمول أن يشكل هذا المخاض ركاما، يفضي بنا إلى إنتاج نظرية تربوية أو نظرية علمية في التربية، تتيح توليد الأفكار وتنظيمها في نسق محدد يتيح إمكانية الاكتشاف، وإمكانية الدحض وإمكانية التطور والتقدم.

ليست نيتنا وراء هذا التقديم هي وضع تصنيف للأبحاث والدراسات المغربية المنتجة في مجال التربية والخروج بنمذجة معينة، بقدر ما هي إعلان عن الناحية التي تشكل اهتمامنا "الشخصي" في البحث التربوي بالمغرب، وهي ناحية العنصر البشري.

في هذا الإطار، لاحظنا بأن المراهق كعنصر بشري وكفاعل تربوي، قد حظي باهتمام كبير من طرف الدارسين، والشاهد على ذلك كم الأبحاث التي خصصت له مقارنة مع الطفل المتمدرس أو الراشد المدرس. لا نبخس البحث في المراهق والمراهقة قيمته، بل على العكس من ذلك نثمنه وندعو إلى تعميقه وإغنائه، إلا أنه موازاة مع ذلك لا نرى سببا لإهمال الذين قال فيهما (وودوورث) "الطفل أب الرجل". فلقد همش الطفل/ التلميذ بالأساسي في البحث التربوي بالمغرب، مثلما نسي أو كاد ينسى الرجل الراشد المدرس بمختلف أسلاك التعليم بما فيها التعليم الجامعي -الذي غيب فيه العنصر البشري كمادة للبحث، وكأن هذا العنصر يتصف بتقديس متعال أو بتدنيس مخيف، يحسن تناسيه! -يدخل اهتمامنا الحالي في العنصر البشري بالتعليم الثانوي، وخاصة الراشدون، من المدرسين - وليس الإداريين- من الناحية النفسية الاجتماعية والتربوية. أما نواة هذا الاهتمام فهي "الهوية المهنية لهؤلاء المدرسين" في علاقتها ودورها بتوافقهم النفسي والاجتماعي والمهني. إذ لا يخفى أن أي رضا عن الذات إلا وينعكس على مختلف المجالات التي تعمل فيها هذه الذات وتتفاعل اجتماعيا ومهنيا وغيرها. وأن أي سخط على الذات إلا وينعكس سلبا على المجالات التي تتفاعل فيها هذه الذات. كما بات معلوما أن نوع المشاعر التي يحملها المدرس عن ذاته -سلبية أو إيجابية كانت- إلا وتنعكس على ذوات المتمدرسين، وبالتالي على باقي أنشطتهم وتفاعلاتهم المختلفة.

1 ـ الهوية المهنية كمفهوم وكواقع:

1-1-طرح المشكل:

من دون شك أن مفهوم الهوية المهنية لدى المدرسين المغاربة يطرح أكثر من تساؤل، وعلى سبيل المثال:

ـ ما مدى إجرائية هذا المفهوم في واقع مهنة التدريس في المجتمع المغربي؟

ـ هل يمكن الحديث عن هوية مهنية في التدريس وكذلك عن هويات مهنية أخرى؟

ـ هل يمكن تبني هذا المفهوم في معزل عن مفهوم الهوية الشخصية أي هوية الأنا للفرد في علاقتها بالهوية الاجتماعية للفرد من خلال سيرورة التنشئة الاجتماعية لهذا الفرد؟

ـ ما مدى مشروعية استعمال هذا المفهوم لدراسة المدرس المغربي بالمقارنة مع مفاهيم أخرى كالدور والتمثل مثلا؟ أليس في استعارة هذا المفهوم من العلوم الإنسانية الغربية -علم النفس وعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي- للاشتغال به في واقع التدريس بالمغرب، نوعا من المماثلة بين واقعين متنافرين ومختلفين على مستوى الهوية الثقافية-الحضارية؟

هذه التساؤلات تدعونا إلى نوع من الحيطة والحذر واليقظة على المستوى الابستمولوجي وكذلك على المستوى المنهجي، وعلى الاحتراس من التطبيق الآلي الميكانيكي لمفاهيم أو أدوات مستعارة من واقع مغاير لواقعنا.

إلا أن حقيقة عادية وبديهية تصادفنا وهي أن الأشخاص عندنا عادة ما يقدمون أنفسهم بعضهم أو لغيرهم انطلاقا من المهنة التي يزاولونها. بل نكاد نجزم في اعتبار أن بطاقة الهوية التي يصطلح عليها ببطاقة التعريف تحمل خاصية مهمة على أساسها يتم تقدير الشخص أو عدم تقديره وهي المهنة. كما لا يخفى كذلك أن واحدة من المحددات التي على أساسها يتم اختيار العينات في الأبحاث العلمية، وتفسير نتائج تلك الأبحاث هي المعطى أو المستوى السوسيو اقتصادي، والذي يقصد به عادة دخل الأفراد انطلاقا من التصنيف الموضوع لمهنهم أو لأنشطتهم الاقتصادية. وبهذا المعنى تعتبر المهنة محددا أساسيا للهوية النفسية الاجتماعية للفرد، ولهذا نتكلم عن هوية مهنية عامة، وعن هوية مهنية خاصة بالمدرسين. والأسئلة التي يمكن طرحها بصدد هوية المدرس المهنية هنا هي:

ما نوع هوية المدرس المغربي المهنية؟

ما نوع الصورة التي يحملها المدرس المغربي عن ذاته في المهنة؟

ما هو التأثير الذي يمكن أن تحدثه هوية مهنية سلبية على توافق المدرس نفسيا واجتماعيا ومهنيا؟

2.1-التأطير النظري:

يفرض البحث ضرورة التموضع في خلفية نظرية تشكل القاعدة الموجهة للبحث حتى تكون له مشروعية الانتماء إلى اتجاه نظري مشهود له بفاعليته في مجال العلوم الإنسانية عامة وعلوم التربية خاصة، يساعد على التفسير بعد تحقيق الفهم. كما يفرض في نفس الوقت تأطيرا نظريا لمفاهيمه الأساسية التي سيشتغل عليها وبها.

بالنسبة لنا، تمثلت الخلفية النظرية التي استندنا إليها في النظرية الفينومينولوجية لكارل روجرز. فروجرز اهتم بالبحث في الذات، والتنظير لها، وعمل على علاجها انطلاقا من الثقة التي ينبغي -في نظره- إرجاعها إلى الزبون -أو العميل كما يصطلح عليه- فشخص الإنسان أهم من أي شيء آخر، والأهم في الإنسان أن يتقبل ذاته كما هو، ويرضى عن ذاته باعتبارها خاصة به دون غيره، وبذلك يتمكن من أن يصير ويتغير نحو الأحسن، فللإنسان طاقات داخلية عظمى يكفي أن يؤمن بذاته ويتقبل ذاته ليستثمر تلك الطاقات الداخلية بما يعود عليه بأفضل النتائج، ولذلك سمى طريقته بالعلاج المتمركز حول الزبون. اهتم روجز بالتدريس والمدرس والتلميذ والبيداغوجيا من خلال ممارسته للتدريس سنين طويلة، ثم بالبحث والكتابة والتنظير للتدريس. وبصفة عامة يمكننا القول إن نظريته في التدريس هي نقل لنظريته في العلاج. فالمدرس بالنسبة لروجز هو أولا إنسان وليس بآلة أو بمنفذ. وخاصيته كإنسان تتحدد في أنه ذات فريدة تتميز بالوعي والإرادة والعطاء والإبداع. ولكي يحقق المدرس أو يساعد على تحقيق ذوات الذين يعلمهم، عليه أن يحقق ذاته أولا ويرضى عنها عامة، وداخل مهنته خاصة، وبذلك يحترم شخص كل متعلم ويسهل التعلم بتحقيق التواصل بينه وبين المتعلمين ثم بين المتعلمين ذواتهم. إذن تقبل الذات هو شرط تطويرها وتحققها وإبداعها، وكذلك شرط تطوير الآخرين وتحقيق ذواتهم بالتعلم وفي التعلم.

إن تفصيل هذه الخلفية النظرية للمدرسة الفينومينولوجية لروجز -والتي اخترناها كقاعدة نظرية، نؤجله لنقف الآن عند التنظير للمفهوم الأساسي الذي سنشتغل عليه وبه وهو مفهوم الهوية المهنية.

لقد سلفت إشارتنا عند طرحنا للمشكل بأن قدمنا تحذيرا في صيغة التساؤل التالي: هل يمكن الحديث عن هوية مهنية وبالتالي تبني هذا المفهوم في معزل عن مفهوم الهوية الشخصية أو هوية الأنا للفرد في علاقتها بالهوية الاجتماعية له من خلال سيرورة التنشئة الاجتماعية لهذا الفرد؟

بهذا المعنى فالهوية هي نتاج التنشئة والتربية. والهوية المهنية هي بعد من أبعاد هوية الشخص النفسية والاجتماعية، ولكنها في نفس الوقت محددة لأنماط من تفاعلات هذا الشخص في المجالات الاجتماعية التي يتواجد فيها وينشط داخلها كراشد مسؤول عن مهمة تربوية، ويلعب دورا متشابك الجوانب داخل تلك المهمة.

وفي نظرنا، فالتأطير النظري لهذا المفهوم لا يمكن أن يتم في معزل عن هذا التحذير أعلاه، وفي غياب المساهمة الأساسية التي قدمها إريك إريكسون في هذا المجال.

وتنبع أهمية إريكسون في تقديرنا من كون كل الإشكالات والقضايا التي ستطرح لاحقا أو ستتم بلورتها وصياغتها بخصوص "الهوية" وجدت منطلقها في عمله الأساسي: "المراهقة والأزمة: البحث عن الهوية"(1). كما سنجد أن الهوية كتعبير عن مفهوم الذات، في أهم المدارس والاتجاهات النظرية التي تناولته وهي الفينومينولوجيا والتحليل النفسي، قد عالجها إريكسون وهو بصدد البحث عن المصدر النظري لهذا المفهوم على المستوى التاريخي، في شخص وليام جيمس وسيغموند فرويد. مثلما عالج مفهوم الأزمة، وتكامل الذاتي والاجتماعي في مفهوم الهوية. كما لا يفوتنا أن نشير إلى وقوف إريكسون على الهوية في العمل، مستندا على فرويد، الشيء الذي دفعنا إلى مراجعة اختيارنا النظري الذي اعتمدنا عليه كخلفية ومرجعية وهو الفينومينولوجيا، لنرى ضرورة تكميله بالتحليل النفسي حتى لا يكون اختيارا أعرجا يمشي على رجل واحدة. أو ليس إريكسون ذاته متموضعا داخل التحليل النفسي وفي نفس الوقت داخل علم النفس الاجتماعي؟

3.1-الهوية كمفهوم مجدد:

يلاحظ إريكسون بالقول "إنني أفضل الحديث عن "الشعور بالهوية" عوض "البنية الطبيعية" أو "الطبع القاعدي Caractère de base " على مستوى الأفراد كما على مستوى المجموعات، أما على مستوى الأمم، فإن المفاهيم الإكلينيكية تدفعني إلى التأكيد على الوضعيات والتجارب وأنماط السلوك التي من شأنها أن تثير الحماس في الشعور الوطني بالهوية أو تعرضه للخطر، عوض التأكد على الطابع الوطني الثابت"(2).

يظهر أن إريكسون بهذا المفهوم، عمل على تجاوز علم النفس الكلاسيكي ومفاهيمه القديمة كالطبع، وأسس مفهوما إجرائيا، عمل على تتبع نشأته سواء التاريخية غير المفكر فيها لدى وليام جيمس وسيغموند فرويد من جهة، وعمل على تتبع نمو الكائن الإنساني نفسيا واجتماعيا عبر مراحل عمره حيث وقف على أزمات للهوية ليس فقط على تلك الأزمة التي عادة ما تقترن بالمراهقة، على أنه بين أن مفهوم الأزمة يفهم بمعنى المنعطف لا بمعنى الكارثة. في هذا الصدد، يقف إريكسون على الأهمية الإجرائية لمفهوم الهوية بالإشارة إلى "أن دراساتي وإسهاماتي في البحث الطولي علمتني أن أحترم بشكل كبير دينامية والثروات الشخصية للأطفال، ومكنتني من وضع الخريطة البيوغرافية لأكثر من خمسين طفلا خلال عشر سنين مما مكنني من إنجاز التقرير الذي أستغله في بحثي هذا، لكن علي أن أعترف أن مفهوم الهوية لوحده هو الذي ساعدني على فهم نمو شخصية أولئك الأطفال"(3).

مفهوم الهوية، إذن مفهوم مجدد للبحث في التصرف على مستوى الأفراد والمجموعات، ومتجاوز للمفهوم الكلاسيكي "الطبع". ولعل إجرائيته التي ظهرت في الدراسة الإكلينيكية الطويلة لشخصية الأطفال، نسحب على فئات أخرى عند دراسة شخصيتها كما هو الحال لدى المراهقين بشكل خاص. وكذلك لدى الراشدين والشيوخ.

ربما تطلب فحص "تجديد المفهوم" كثيرا من الإيضاح لما جاء به هذا المفهوم على مستوى اضطراب أو تناسق الشخصية، انحلال أو اتحاد الأنا، إلا أن هذا الفحص يتطلب متابعة للمفهوم قد نقف عليها لاحقا في موضوع آخر.

 

4.1-الهوية وأزمتها وضرورة التحديد:

يفتتح إريكسون كتابه "المراهقة والأزمة: البحث عن الهوية" بالحديث عن ضرورة إخضاع مفهوم الهوية إلى مراجعة، وذلك بإعادة تسطير الخطوط الكبرى لتاريخه. فمنذ السنوات العشرين حيث تم استعمال هذا المصطلح لأول مرة بالمعنى الخاص الذي سيتم استعماله في هذا الكتاب -أي كتاب إريكسون- أصبح استعماله الجاري أكثر تنوعا ومحتواه المفهومي أكثر اتساعا، لدرجة يبدو معها أن الوقت قد حان لإقامة تحديد دقيق لما هي الهوية ولما ليست إياه. ومع ذلك، فإن المضمون النهائي لمصطلح ما يبقى موضوعا للمعاني المتغيرة عبر التاريخ.

يلاحظ إريكسون أنه على الرغم من تعدد استعمال "الهوية" و"أزمة الهوية" في مجالات متعددة، منها ما هو ثقافي: "أزمة الهوية في إفريقيا"، وما هو صناعي: "أزمة هوية صناعة الزجاج في بيتسبورغ"، وما هو علمي: "أزمة هوية التحليل النفسي"؛ فإن بعض المختصين في العلوم الاجتماعية هم الذين حاولوا أن يصلوا إلى تخصيص أكثر في استعمال عبارات مثل "أزمة هوية"، "هوية الذات" أو "الهوية الجنسية"، وأن يطبقوها على كل موضوع قابل للقياس… كما أنهم يجهدون من أجل جعل تلك العبارات قابلة للتطبيق على الأدوار الاجتماعية، والملامح الطبيعية، والصور الواعية بالذات.

كما يلاحظ أنه أمر متقدم ألا تثير كلمة "أزمة" فكرة الكارثة، بل أصبحت اليوم مرادفة لمعنى المنعطف الضروري واللحظة الحاسمة في التطور الذي يكون عليه أن يختار بين الطرق والوجهات التي تتوزع داخلها مصادر النمو وإعادة التأسيس والتمايز اللاحق.

لن نقف هنا عند مفهوم ّأزمة الهوية" مع إريكسون، حيث استعملت هذه العبارة لأول مرة بقصد إكلينيكي خاص في مؤسسة لإعادة توافق(*) قدماء المحاربين أثناء الحرب العالمية الثانية، وذلك في وضعية وطنية مزرية جعلت الأطباء العقليين من مختلف الاتجاهات يتعاونون على التخفيف من معاناة أولئك الجنود الذين تعرضوا لصدمات رضية traumatisant، وبالتالي فقدوا تحت تأثير ضراوة الحرب معنى هو يتهم الشخصية، واستمراريتهم التاريخية، فهم أصيبوا في الموجه الرئيسي والمركزي لشخصيتهم، مما يمكننا من الحديث عن فقدان أو ضياع "الهوية الأنا"(4) وعن أزمة الهوية لدى المراهقين حاليا، مع ضرورة التنبيه إلى أن مفهوم الأزمة كما يوضح إريكسون، ينطبعه على كل الأعمار حتى على الشيوخ، مما يبين عدم اقتصاره على الطفل والمراهق.

5.1-في تاريخية مفهوم الأزمة:

الحجتان اللتان يقدمهما إريكسون لتحديد تاريخي نظري مضبوط لهذا المفهوم، تتعينان في سيكولوجيتين يقوم على قاعدتيهما فكرنا المتعلق بالهوية، يمثل الأولى وليام جيمس، ويمثل الثانية سيغموند فرويد؛ فالهوية كشعور ذاتي وقوي بوحدة الشخصية واستمراريتها الزمنية إنما يعود إلى وليام جيمس(5)، أما المعلم repère الثاني لتحديد الهوية في معناها كوحدة للهوية الشخصية والثقافية المتجذرة في قدر شعب قديم(*) فيتعلق بسيغموند فرويد، وذلك في خطاب له سنة 1926، حيث ستكون المرة الأولى التي يستعمل فيها فرويد مصطلح الهوية وإن كان أساسا في المعنى الإثني(6).

قيمة هاتين الحجتين تظهر في نوعية الشاهدين (جيمس وفرويد) ونوعية إسهامهما في علم النفس عامة وعلم نفس الأنا ومن ثم الهوية خاصة. وعلى الرغم من عدم وقوفنا بتفصيل على مضامين كل منهما حاليا، تكفينا الإشارة إلى التيارين الأساسيين في سيكولوجية الهوية، إنما يرتدان إليهما، أعني التيار الفينومينولوجي، والتيار التحليل-نفسي، أي الشعوري واللاشعوري.

6.1-في سبيل تحديد إجرائي للمفهوم:

المفيد في عمل إريكسون هو تلك التحديدات التي يدققها للهوية والتي يمكننا أن ننطلق منها على أساس أنها مفاهيم للاشتغال الدقيق.

عندما نتكلم عن الهوية -يقول إريكسون- فالأمر يخص "سيرورة متموضعة في قلب الفرد وكذلك في قلب ثقافة المجموعة، سيرورة تؤسس عمليا هوية هاتين الهويتين (الفرد والجماعة)"، وبمصطلحات علم النفس "فإن تشكل الهوية يشرك معه سيرورة للتفكير وللملاحظات المتزامنة مع هذا التفكير. فهي سيرورة نشيطة على كل مستويات الاشتغال العقلي الذي بواسطته يحكم الفرد على ذاته تحت ضوء الوسيلة التي يكتشف أن الآخرين يحكمون بها عليه عند مقارنته بهم، وبواسطة نمذجة typologie تعتبر دالة ضوء الكيفية الشخصية التي يدرك بها ذاته، بالمقارنة معهم، وبالنماذج التي تكتسي أهمية في نظره"(7).

يلاحظ إريكسون أن هذه السيرورة -لحسن الحظ وللضرورة كذلك- هي في أغلبها لا واعية، ما عدا في الحالات الاستثنائية التي تتضافر فيها الشروط الداخلية والخارجية من أجل تعزيز الوعي بهوية متألمة أو متحمسة. كما أن هذه السيرورة هي دائما موضوع للتحول والارتقاء، وهي في الشروط الملائمة والممتازة تحدد مسار تمايز نمائي تجعل الفرد واعيا بالحلقة الممتدة للكائنات التي لها معنى بالنسبة له، بدءا من الأم إلى كافة "النوع البشري".

7.1-الجانب العلائقي في الهوية بين ما هو شخصي وما هو اجتماعي:

يرى إريكسون أن النقاش حول الهوية لا يمكن أن يفصل النمو الشخصي عن التغيرات والتحولات الاجتماعية. وفي الواقع، يمكن تصور التفاعل الكلي بين الاجتماعي والنفسي، التاريخ والنمو، والذي يكون تشكل الهوية تجاهه ذا قيمة نموذجية، كنوع من النسبية النفسية الاجتماعية. وهنا نجد أنفسنا أمام واقعة هامة هي أن لا "الأدوار" التي يتم لعبها بطريقة متبادلة، ولا المظاهر الخالصة للوعي بالذات، ولا الاتجاهات الخالصة للنشاط الحيوي) إنما تمثل فقط المظاهر السائدة لما يمكن أن نسميه اليوم بـ "البحث عن الهوية"؛ فالهوية ليست أبدا "قارة" ولا "منتهية"(8).

من هذه الناحية، يوجه إريكسون النقد لمنهج التحليل النفسي الكلاسيكي الذي لم يتمكن من الإمساك بمفهوم الهوية لعدم تطويره للمصطلحات الضرورية لمفهمة المحيط. كما أن بعض العادات النظرية في التحليل النفسي -من مثل تعيين المحيط "كعالم خارجي" أو "كعالم موضوعي"- لا تمكننا من تناول المحيط كواقع حي ومجتاح لنا. لهذا السبب يقترح إريكسون أنه لأجل الإمساك بالهوية، لا بد من توفر شرطين منهجيين هما:

أولا: أن نقوم بتحليل نفسي حاذق Subtil يمكننا من إدخال وإقحام المحيط.

ثانيا: أن نعتمد علم نفس اجتماعي ملطف raffinée بالتحليل النفسي؛ فكل منهما حقل للبحث يصبح أكثر دقة مع مرور التاريخ(9).

بالنسبة لنا، استفدنا من هذا الجانب العلائقي بين ما هو شخصي وما هو اجتماعي في إيجاد الحل للمشكل المنهجي الذي يمكن أن يعترض بحثنا في الهوية المهنية للمدرس المغربي، حيث اعتمدنا المقاربة النفسية-الاجتماعية مطعمة بالتحليل النفسي(*).

2 ـ عن الهوية المهنية خاصة:

"ذات يوم سئل فرويد عن ماذا يمكن للإنسان العادي أن يفعله بشكل جيد في حياته. وكان الذي طرح السؤال ينتظر من فرويد جوابا معقدا وعميقا، لكن فرويد أجاب ببساطة: "أن يحب وأن يشتغل"(10)

يبدو أن هذه الصيغة ليست من البساطة كما يريد منا إريكسون أن نظن، فهي تعني شيئا عميقا يستدعي التفكير، لأن فرويد عند ما قال بالحب والعمل، فإنه كان يعني دعوة الفرد إلى إنتاجية يوفرها نشاط العمل، لا تبتلع الفرد لدرجة حرمانه من حقه أو قدرته في أن يحب وفي أن يكون مخلوقا محبوبا.

إننا هنا بإزاء الاستيلاب الذي يمكن أن يمارسه الشغل على الفرد، خاصة في ظل أوضاع لا إنسانية وغير ملائمة لتحقيق الذات، بل على العكس تعمل على سحق الذات وقهر الفرد وسلبه كل متعة في الوجود، وبين التحرر الذي يتخذ له أشكالا تتراوح بين الخلق والإبداع الفنيين والمتعة الإنسانية التي توفرها الراحة والرياضة والأسفار وتذوق الفنون، والحب الذي يعطي للإنسان معنى في حياته عوض تشييئه وتشيئ شريكه في هذا الحب الذي كثيرا ما ينقلب إلى روتين قهري فاقد لكل معنى ولكل بعد.

من المعروف أن الاستيلاب الاقتصادي والنفسي انطلاقا من واقعة الشغل، حلله فلاسفة واقتصاديون واجتماعيون في القرن 19 كإنجلز وماركس خاصة، وفي القرن 20 من طرف ماركيوز، باعتباره إفرازا للنظام الصناعي الرأسمالي المتوحش الذي يذهب إلى إلغاء كل إنسانية للإنسان العامل في مقابل الربح السريع والثراء لصالح الرأسمالي. إلا أن فلهلم رايخ هو الذي وقف مفصلا في تحليل العلاقة بين الاقتصاد المادي والاقتصاد الليبيدي، ودعا بذلك إلى ثورة جنسية محررة للفرد من أغلال الاقتصاد المادي للمجتمع الرأسمالي، وجمع بذلك بين الماركسية والتحليل النفسي باعتبارهما مقاربتين ثوريتين لتحرير الإنسان من الفقر الاقتصادي والبؤس العاطفي.

ولا شك أن البؤسين الاقتصادي والعاطفي عندما يجتمعان على الفرد، فإنهما لا يصيبانه بالتوتر فقط، بل يؤديان إلى انحلال أناه وبالتالي هويته. وبالفعل وكما يرى إريكسون، فإن عدم القدرة على التموضع داخل هوية مهنية هو ما يخلق الاضطراب لعدد كبير من الشباب(11)، الشيء الذي يؤدي إلى هوية سلبية أو إلى انحلال الهوية.

يعتبر إريكسون أن الانحلال dissolution الذي يعانيه الفرد عند ممارسة عمله يؤدي إلى خلط خطير في الهوية، ذلك أن "خلطا خطيرا للهوية يرافق بصفة منتظمة اختلال منظومة المعنى في العمل المهني، سواء في شكل عدم القدرة على التركيز على المهام الإلزامية أو المهام التي يتم اقتراحها أو في شكل شاغل مدمر مصحوب بنشاط أحادي"(12).

في إطار العناصر الاجتماعية لهذا الخلط في الهوية، يذكر إريكسون كيف أن شللا عاما في العمل يكون نتيجة منطقية لشعور عميق بعدم الكفاية في مجموع الوسائل. هذا الشعور قد لا يعكس في أغلب الأحيان غيابا حقيقيا للإمكانيات بقدر ما يعمل على تمرير إلزامات لا صلة لها بالواقع، يتم تصورها من لدن مثال للأنا قرر أن يتأسس فقط في الرؤية المبالغة في القوة وفي العلم. كما يمكنه أن يعبر -أي هذا الشعور- على أن المحيط الاجتماعي المباشر لا يوفر أدنى ملجإ للمواهب الأصيلة للفرد- خاصة في بداية مراحله الدراسية حيث يمكن أن يكون الفرد قد ترك وهو يتخبط في تخصص يتجاوز تطور هويته(*)- نظرا لكل هذه الأسباب يمكن أن يتم إقصاؤه من هذه المسابقة المنظمة على مستوى العمل، بل يمكن أن يتمظهر هذا في اتجاه الانحراف. فأحد مظاهر المنافسة في الشغل تبرز بوضوح في العبارات الرائجة في الوسط كالقول: "أنجز هذا العمل!" يعني أن عليك أن تقوم بالسطو، أو كالقول: "قم بعمل جيد!" بمعنى أن تحقق هدما كاملا(13).

هذه الوضعية التي وصفها إريكسون تجعل من الشغل/الوظيفة -أحيانا- عاملا في تخريب الهوية المهنية لدى الفرد وبالتالي هويته الاجتماعية والشخصية. ولا يخفى أن سوء التوجيه داخل المؤسسات الاجتماعية ومن ضمنها المدرسة، والمؤسسة التي تمارس فيها المهنة، والتنافس القائم على تحييد كل إنسانية للإنسان هي من أقوى الأسباب في الخلط الذي تتعرض له الهوية، والذي يؤدي إلى الانحلال، لأن "المؤسسات الاجتماعي هي التي توفر قوة وتمايز الهوية المتصلة بالعمل Work Identity، علما بأن الهوية تكون دائما في أقصى الصيرورة، وهذا هو وضع أولئك الذين لازالوا يتعلمون ويجربون"(14).

دور المؤسسة إذن يعتبر حاسما، لأنها تحدد بكيفية أو بأخرى هوية إيجابية أو سلبية لدى الفرد الذي يعمل داخلها. ولما يتعلق الأمر بمؤسسات مجتمع غير واضح المعالم كمجتمعنا المغربي الذي يعرف تحولا بل تصدعا في القيم ومن ضمنها القيم المرتبطة ببعض المهن التي تتناقض التمثلات بشأنها كما هو الحال في مهنة التدريس، يصبح التساؤل عن علاقة الهوية النفسية وممارسته الاجتماعية أمرا مشروعا.

1.2-عن اضطرابات الهوية داخل المهنة:

قبل تخصيص الحديث عن الهوية المهنية للمدرس، نريد هنا أن نشير إلى الاضطرابات التي يمكن أن تتعرض لها الهوية، هوية الشخص داخل المهنة.

في هذا الصدد يرى رونو سانسوليو Renaud Sainsaulieu أن كثيرا من أبحاث الأطباء العقليين وعلماء النفس قد أبانت على أن الأفراد يمكن أن يصابوا في هويتهم خلال تجاربهم داخل علاقات العمل. ويضيف: "ومع أن هذه الأبحاث تنطلق من إشكاليات متمركزة على الصحة النفسية والعقلية للفرد قبل كل شيء، إلا أن الدراسات عبر الاستقصاءات والملاحظات والحالات الإكلينيكية تنحو اتدعيم الفكرة القائلة بوجود تداخل بين البنيات الاجتماعية وخاصة العمل، والبنيات النفسية للأفراد"(15).

فإذا كانت العلاقات بين الأفراد داخل مؤسسة أو منظمة العمل تعاش من خلال التواصل وتبادل الأفكار واحترام الاختلافات بين الزملاء، وكذلك التوحدات identifications، فإنه "من غير الممكن أن تعاش تلك التوحدات دون استيلاب إذا لم تكن لكل شريك في تلك المنظمة الفرصة والقدرة على التحقيق الحر لمبادلاته. وهذا شيء ليس في متناول كل فرد في العمل"(16).

وفيما يتعلق بالراشدين، فلقد شكل تأثير ما هو مجتمعي على شخصية الفرد الراشد موضوع اهتمام العياديين les cliniciens الذين واجهتهم أعراض فقدان الهوية بسبب الاضطرابات الخطيرة داخل مجال العمل. وكما يلاحظ ساسنوليو فإن شروط تحقيق الهوية الخاصة بكل فرد تختلف باختلاف وضعيات العمل ذاتها بين العمال والموظفين، وإن كانت تشترك في الاضطراب الذي تعاني منه الشخصية والمتراوح بين التعب العصبي، والإرهاق الفكري والعاطفي، والأمراض العقلية (…) وبالأخص في فقدان الهوية(17).

لهذا لا نستغرب نعت سانسوليو لعالم العمل بأنه عالم تراجيدي مادام الإنسان يفقد فيه هويته وينحدر إلى المرض والاضطراب، ليس لأن عالم العمل عالم للإنتاج الاقتصادي والتقني، بل عالم للتفاعلات الاجتماعية بين الأفراد يحضر فيه التواصل وينعدم، كما تلعب فيه التراتبية الإدارية والمالية أدوارا لها تأثيراتها، علاوة على التوحدات وما يحكمهما من تدخلات للافراد مما ينعكس على أنساق شخصياتهم: "إذا كان عالم العمل مأساويا، فلإننا نفقد فيه بالفعل جزءا من هويتنا لأننا نقع تحت السيطرة داخله بأشكال مختلفة. لا تكافؤ وسائل المبادلات والتفاهم، ولا تكافؤ الأرباح والموارد الحاضرة، والمستقبلية، يظهر على أن الناس ليست لهم نفس الوسائل لعيش الاختلافات والتوحدات (…) وبهذا المعنى يمكن لعالم العلاقات داخل العمل أن يكون مجالا للتكون الفارقي للهويات الفردية، لأنه يوزع على مختلف أعضائه وسائل غير متكافئة للصراع، وحقولا متمايزة للمواجهة قصد قياس الانتصارات والإخفاقات والمخاطر التي يمكن أن يتعرض إليها كل واحد منهم"(18).

ليس من البساطة إذن بحث الهوية المهنية، لأنها تفترض سياقا اجتماعيا ينبغي إخضاعه للتحليل، بل تتطلب نموذجا للتفكير في البنية الداخلية للعلاقات البين-شخصية ولآثارها على مستوى التوحدات والاختيارات الخاصة بالأفراد. سانسوليو قاده تفكيره في الهوية المهنية داخل منظومة العمل إلى البحث في العلاقة بين السلطة والصراع والاعتراف بالذات، وإلى استعارة الخطة الهيجيلية في الاعتراف بالذات كما تمت صياغتها في مؤلف هيجل الأساسي: فينومينولوجيا الروح وخاصة الجزء المتعلق بجدل العبد والسيد(19).

هذا اختيار منهجي يضيف غنى للتحليل مع ضرورة طرح السؤال حول نجاعته الإجرائية مقارنة مع تحليلات أكثر واقعية كما هو الحال لدى ماركس وانجلز مثلا.

2.2-عن اضطراب الهوية المهنية للمدرس:

يفرض علينا البحث في الهوية المهنية للمدرس في علاقتها بتفاعله الاجتماعي وصحته النفسية أن نستحضر الدراسات التي اهتمت بهذا الموضوع. إنها دراسات محدودة بالمقارنة مع الدراسات التاريخية للمدرسين وكذلك السوسيولوجية.

إلا أنه وابتداء من أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، بدأ البحث في ذات المدرس وصحته النفسية بشكل جدي. وللتدليل على ذلك نقدم مثال الأبحاث التي أعدت تحت إشراف أدا أبراهام Ada Abraham(20)، والتي انطلقت من طرح التساؤلات التالية: من هم المدرسون واقعيا؟ وكيف يتحولون مع مرور الزمن؟ في أي مرحلة من مراحل مهنة التدريس يمكن أن يحصل التعب والأزمة؟ لماذا يصبح المدرسون ذوي صعوبات كبرى مع الأيام للقيام بأعمالهم داخل الفصول الدراسية"(21).

كان المنظور الذي من خلاله تمت معالجة هذه التساؤلات هو اعتبار المدرس كشخص وكذات بقيمة وكرامة وليس فقط أداة أو وسيلة أو شيئا بالمعنى الكانطي للكلمة، والهدف من رواء هذا هو اكتشاف المدرس في ذاته الحقيقية.

على أن هذا الاكتشاف لا يمكن أن يحصل إذا لم نأخذ في الحسبان التمثلات الخاصة بنا عند النظر إلى هذا الشخص والتي تتراوح بين الاستثمار الأقصى له surinvesti، وبين أمثلته idéalisé، واحتقاره في نفس الوقت، علما بأنه هو المكلف بكل علاقاتنا الإنسانية تجاه الأشكال الوالدية. بل إن فرويد يصف الأثر الحاسم لهذه الأوهام والأعطاب بالقول: "إذا ما التقيت يوما بمدرس سابق، فإنك ستطرح السؤال: أحقا هو؟ إنه يبدو أكثر شبابا مع أنك قد شخت كثيرا أيمكن أن يوجد في الواقع اختلاف ولو ضئيل في السن بينك وبين الشخص الذي كان يمثل الراشد بالنسبة إليك؟"(22)

لتفسير هذا اللعب بالصور والكلمات من طرف فرويد، نحتاج إلى مفاهيم من مثل: ثنائية القيم، والتحويل… وهذا يعني ضرورة انخراطنا في مقارنة التحليل النفسي باستعمال أداة ملائمة لذلك.

تعتبر أبراهام أن الطريقة المتمركزة حول اعتبار المدرس شخصا قبل كل شيء لا تتضمن عدم الاهتمام بمجموع عوامل الوسط المدرسي السوسيو-مؤسسية، وبمجموع المحددات البين-شخصية، بل تعني الاهتمام بهذه العوامل كما يتم إدراكها واستدخالها من طرف المدرس ذاته.

هذا المنظور يسير فيه باحثون آخرون اهتموا بالشخص الإنساني مثل كارل روجز -كما أسفلنا- والذي يقول في مقدمة دراسة له بالمؤلف الذي أشرفت عليه أبراهام: "إن شخصية المدرس أهم بكثير مما يقوم به وأهم بكثير من المناهج المستعملة"(23).

وكما سلف أن أوضحنا في البداية، فإن اختيارنا البحث في الفاعل البشري بالمؤسسة المغربية للتدريس يجد تفسيره في اختيارنا النظري القائم على اعتبار المدرس إنسان قبل كل شيء، ويجب الاهتمام بذات هذا المدرس داخل المهنة قصد التعرف على هويته.

 

3 ـ الهوية المهنية للمدرس المغربي: الأزمة وضرورة البحث:

لملامسة أهمية البحث في الهوية المهنية للمدرس المغربي، لم نقنع بالتجربة الشخصية لممارسة التدريس لمدة تفوق عشر سنوات وما خلفته هذه الممارسة من آثار في هويتنا المهنية ومن ثم في هويتنا الشخصية والاجتماعية.

فما أقسى أن تعرف بشكل سطحي بأنك "أستاذ" ولاشيء آخر غير ذلك، ألست إنسانا كباقي الناس أو ليس لك الحق في أن تعيش كباقي الناس وأن تتصرف مثلهم. فالأستاذ أستاذ، لكن ما أعسر أن يتم الوقوف عند هذا الحد، حد المعرفة السطحية دون تجاوزها إلى التعرف العميق ثم الاعتراف. إن تلك المعرفة مرتبطة بتمثل اجتماعي متناقض في الغالب، ولهذا كان علينا أن نستطلع آراء المدرسين والمدرسات -ليس عبر استمارات أو اختبارات، بل- عبر المقابلة(*) التي تتيح اللقاء المباشر والتعبير الحميمي. وانتهينا من المقابلات إلى النتائج التالية:

ـ إن مهنة التعليم -بالمغرب- مهنة الغبن. لقد خدعنا لما ولجنا هذه المهنة. إنها ليست بوظيفة، بل هي ضياع للعمر على طريقة الطالب الذي يدرس بالكلية مقابل منحة.

ـ إن مهنة التعليم -بالمغرب- هي مهنة الخوف، الخوف من كل شيء، الخوف من المستقبل إذ لا أمان للشخص إذا مرض مثلا، فكم من المدرسين ذهبوا ضحايا نظرا لفقرهم ولم تقبلهم المصحات الخاصة. بخلاف مهن أخرى كشركة التبغ ومكتب المطارات والجمارك… الخوف من المسؤولين الإداريين والتربويين بدءا بالمفتش وانتهاء بالسلطات العليا، فالمدرس هو الحلقة الضعيفة. الخوف من التلاميذ أثناء الاضطرابات وفي الحالات العادية بسبب العنف الذي يمارسونه على الأساتذة. الخوف من آباء التلاميذ سيما أولئك الذين يشتغلون في مصالح للسلطة أو لهم علاقات مع السلطة.

ـ إن مهنة التعليم هي مهنة اللامعنى. فالتلاميذ لا رغبة مطلقا لهم في الدراسة أمام إغراء البارابول، وصدمة البطالة، ومصيدة التفسخ الأخلاقي. والبرامج لا حياة ولا روح فيها. والمؤسسات مخربة ولا جمال فيها. والمدرسون لا تواصل ولا مودة بينهم. إنها مهنة التكرار الذي لا يجدي ويؤدي إلى الشيخوخة المبكرة.

ـ إن مهنة التعليم هي مهنة الفقر. فالرواتب هزيلة بالمقارنة مع مهن أخرى. والاعتبار الاجتماعي للمدرس آخذ في التناقص. فلا يتميز المدرس عن التلاميذ إلا بالكاد من حيث مظهره وسكنه ووسيلة نقله وصحته. هناك مهن أخرى أقل مستوى من الناحية الثقافية لكنها أكثر أجرا من الناحية المادية.

ـ إن مهنة التعليم هي مهنة الوهم، لقد ولى ذلك الزمن الذي كان المدرسون يثقون فيه بالعبرة الجميلة القائلة: "إن مهنة التعليم مهنة شريفة، فهي رسالة، والله هو الذي يجازي، والمدرس هو شمعة الأجيال التي تحترق لتنير غيرها مع الاعتراف بفضله".

على أن هذه النتائج/ التصريحات، تفيد بأن انهيار القيم في المهن مسألة شاملة، وأن الشرط الأساسي للنجاح في أي مهنة هو أن تلغي ذاتك وتنسى ضميرك.

وبتعبير آخر، تلغي هويتك!

أليست الهوية المهنية للمدرس المغربي في أزمة؟ وأن من الضروري دراستها والبحث فيها.

 

هوامــش:

1 - Erik H. Erikson, Adolescence et crise - la quête de l’identité, traduit de l’Américain par: Joseph Nass et Claude Louis - Combert, Paris, Flammarion, 1972.

2 - E.Erikson, op.cit. p. 91, note1.

3 - Erik H.Erikson: “Sex differences in the play configurations of preadolescentes”, American Journal of

orthopsychiatry, 1951, p. 667-962, n° 21, cité in: Erikson, Adolescence et crise, op.cit., p. 102-103 (note 1).

(*) نستعمل عبارة إعادة توافق وليس إعادة تكيف، لأن هذه الأخيرة تدل على ما هو بيئي وطبيعي وليس على ما هو اجتماعي.

4 - Erik H. Erikson, opt. Cit., pp. 11-12.

(*) يعني الشعب اليهودي.

5 - Ibid, pp. 14-16.

6 - Ibid, pp. 16-18.

7 - Ibid, pp. 18-19

8 - Ibid, pp. 19-20

9 - Ibid, p.20

(*) يتعلق الأمر هنا بأدوات البحث التي نحتاج إلى حيز أوسع لتفصيل الحديث عنها. وعموما فلقد اعتمدنا جرد الهوية النفسية الاجتماعية لماريسازا فالوني وبذلك احترمنا المقاربة النفسية الاجتماعية وبقينا أوفياء للاتجاه الفينومينولوجي الشعوري كما اعتمدنا اختبار الإحباط لرونزفيغ، وبذلك احترمنا التحليل النفسي.

10 - Ibid, p.142.

11 - Ibid, p. 137

12 - Ibid, p. 179

(*) تفسر لنا هذه النقطة سوء التوجيه الدراسي للتلاميذ، وكذلك سوء التوجيه المهني للمدرسين، خاصة في بلدان فقيرة إلى عقلية وتقنيات الإرشاد والتوجيه المهنيين كالمغرب، مما يعني أن الهوية المهنية تطرح إشكالية يتداخل فيها ماضي الفرد عامة وماضيه الدراسي خاصة، ثم شروط العمل بالمؤسسة وآفاق تحقيق الذات بها بشكل أخص.

13 - Ibid, p. 194.

14 - Ibid, p. 195

15 - Renaud Sainsaulien, lidentité au travail - les effets culturels de l’organisation, Presses de la fondation Nationale des sciences politiques, 2ème ed., 1985, p. 303.

16 - Renaud Sainsaulien, Ibid, p. 309.

17 - Ibid, pp. 310-311.

18 - Ibid, pp. 334-335

19 - Ibid, p. 319 et suivant

20 - Sous la direction de: Ada Abraham, l’enseignant est une personne, Paris, les éditions E.S.F., 1984.

21 - Ibid, la présentation de l’ouvrage.

22 - Sigmund Freud, Some reflections on school-boy psychology, the standard edition, J.Strackey, 1964, VXIII, Hogard press, pp. 241-244., cité in: (sous la direction de: )Ada Abraham, op.cit., p. 12.

23 - Carl C.Roger, Enseignant que es-tu? Images, Attitudes, Noeuds et Illusions, Etude in: Ada Abraham, Ibid, pp: 14-20.

(*) قمنا بهذه المقابلات مع مدرسين من مختلف التخصصات بثانويات مختلفة بالدار البيضاء.