التنشئة
الاجتماعية بين خصوصية الثقافة وعالميتها
علي الحوات
مقدمة:
تنطلق هذه المداخلة من أطروحة أساسية وهي أن التنشئة
الاجتماعية للإنسان كتلميذ أو مواطن يجب في عالم اليوم، أن تتجاوز خصوصية الثقافة
المحلية أو الوطنية وتنطلق لتتفاعل وتتعامل مع ثقافة عالمية إنسانية ودولية معقدة
ومتنوعة وذات أبعاد مادية ومعنوية. وهذه الحقيقة أو الفرضية هي أهم خاصية وميزة
لمجتمع القرن الحادي والعشرين الذي بدأت تتبلور ملامحه، والذي سيدمج كذلك الشعوب
والثقافات في ثقافة إنسانية أو ثقافة عالمية لها طبيعتها وديناميكيتها وآلياتها
الفكرية والتقنية، ومحافظا على القاسم المشترك بين الثقافات وإعطاء مكانا
للخصوصيات الثقافية وتنوعها.
إن الأزمة التي تعاني منها الكثير من المجتمعات
المتقدمة والنامية في العالم هي ضعف قدرتها على بناء جسر ثقافي يسهل ويهيء التواصل والتفاعل والترابط الاجتماعي بين
الخصوصيات الثقافية والثقافة العالمية الإنسانية، ويتجلى ذلك أوضح ما يكون في أزمة
التربية والتنشئة الاجتماعية للإنسان، سواء كان تلميذا في مدرسة أو مواطنا في
مجتمع. إن بناء هذا الجسر الثقافي أصبح ولا شك في بداية القرن الحادي والعشرين
ضرورة حيوية للإنسان والحضارة الإنسانية، فلا تستطيع ثقافة أو مجتمع أو إنسان، حتى
لو أراد ذلك، أن يعيش منعزلا ومنغلقا على نفسه وذاته لاعتبارات تقدم التكنولوجيا
والاتصال والمعلومات، ولاعتبارات التعاون الدولي، ومنغلقا على نفسه وذاته
لاعتبارات تقدم التكنولوجيا والاتصال والمعلومات، ولاعتبارات التعاون الدولي ورفع
مستوى معيشة الإنسان وتحسين نوعية حياته.
والسؤال الأساسي الذي تطرحه هذه المداخلة هو كيف
يمكن بناء هذا الجسر الثقافي بين الثقافات المتنوعة في مجتمع القرن الحادي
والعشرين؟ بهدف تحقيق التواصل الثقافي الذي من خلاله يحافظ الإنسان في شخصيته على
عنصرين مترابطين في آن واحد هما؛ خصوصيته الثقافية النابعة من تاريخه وتراثه،
ومشاركته الفاعلة في الثقافة الإنسانية العالمية.
نظرية التطور وصورة الإنسان في العالم:
لقد أدت نظرية التطور العضوي التي ازدهرت منذ
القرن التاسع عشر في مجال البحوث الاجتماعية في الغرب إلى تكون وظهور نموذج ثقافي
قوامه أن هناك نوعين من البشر؛ بشر متطور ومتقدم وحضاري، وبشر بدائي متخلف وغير
حضاري، وارتبط هذا النموذج الثقافي بمجالات التنشئة الاجتماعية وفي مقدمتها
التربية، فأصبحت المؤسسات التعليمية بمختلف مستوياتها ومراحلها تعمق هذا المفهوم
سواء في البلاد الصناعية المتقدمة أو في البلاد النامية، وقد حمل هذا
المفهوم التربوي أو الفلسفة التربوية أكثر مما يحتمل فأصبحت الأمم والشعوب، بل
والدول تحمله مشكلاتها وخلافاتها التاريخية القديمة والحديثة وهنا تبادل الطرفان
(البلاد الصناعية والبلاد النامية) الاتهامات والخلافات فوجهت البلاد النامية
فلسفتها التربوية بما تحمل الحضارة الصناعية الغربية تأخرها وتخلفها، وعمقت هذا
المفهوم في أذهان تلاميذها الصغار وجعلتهم يشبون على نوع معين من النظرة إلى
الحضارة الغربية وكأنها حضارة متوحشة مفترسة، وفي ذات الوقت وجهت الدول الصناعية
الغربية فلسفتها التربوية وأساليب تنشئة تلاميذها ومواطنيها على أن إنسان البلدان
النامية بدائي ومتخلف معادي للحضارة وضد الحرية ويكره الغرب، ولعل من أهم
التطبيقات العلمية لذلك هو اختراع مصطلح البلدان النامية أو المتخلفة وبلدان
العالم الثالث (وكلها مصطلحات صنعت في الغرب) فمثل هذا الاختراع الاصطلاحي كون
حواجز نفسية وعقلية واجتماعية ذات تأثير متباين الأبعاد والمضامين فبالنسبة لإنسان
العالم الثالث جعله هذا الاشتقاق الاصطلاحي يشعر بالذنب والدونية واليأس، وبالنسبة
لإنسان الحضارة الصناعية الغربية جعله هذا الاشتقاق يشعر بالتفوق والتعالي وأحيانا
حتى بالتعصب والتحيز.
وهكذا يبدو مما سبق أنه قد خلقت "ثنائية عالمية"
للإنسان، وترتب عن ذلك مشكلات عويصة ومعقدة في العالمين النامي والصناعي على حد
سواء. إن أبسط ما خلفته هذه الثنائية الإنسانية تشوش الصورة لكلا الطرفين، وضياع
حقيقة الإنسان، بل وبدأت تتكون ظواهر من التحيز والتعصب في كلا العالمين (الصناعي
المتقدم والنامي المتخلف).
وزادت وسائل الإعلام المتقدمة وخاصة البرامج
المرئية والأفلام من تعميق هذه الصورة المجزأة حضاريا؛ وذلك بتقديم إنسان العالم
الثالث بكل ما يشوه صورته اجتماعيا وحضاريا، وتقديم إنسان العالم الصناعي الغربي
بكل ما يلمع صورته ويقدمه على أنه الإنسان المتفوق Superman فكأننا عمليا أمام حضارتين متصارعتين واحدة منهما أقوى من الأخرى،
وبالتالي واحدة منهما القوية هي دائما المتفوقة والمنتصرة، وللموضوعية فإن الكثير
من المنظمات الدولية والإقليمية والإنسانية والخيرية حاولت أن تعالج هذه
الثنائية وتسد التناقض والفجوة بين طرفي هذه الثنائية، وتوضح الصورة سواء بالتنظير
الفكري والتحليل الثقافي أو بمد يد العون المادي وخاصة الغذاء والعلاج الطبي
للمجتمعات المحتاجة في البلاد النامية، ومن أمثلة ذلك
ما أثر في شخصيا برنامج إذاعي مرئـي قدمته إذاعة ألمانيا D W حول علاج بعض الأطفال الأفارقة المتضررين من الحروب الأهلية في
أفريقيا سواء العلاج الطبي لهم في أفريقيا نفسها أو بتقديم العلاج لهم بواسطة بعثة
طبية ألمانية وصلت إلى أفريقيا، أو بنقل هؤلاء الأطفال إلى مستشفيات ألمانيا نفسها
للعلاج.
كذلك هناك الكثير من المنظمات في البلاد النامية
نفسها التي حاولت جاهدة خلق فرص النقاش والحوار الثقافي بين البلاد الصناعية
والبلاد النامية أو بتقديم العون المادي والمعنوي للتواصل الحضاري بين إنسان
العالم الصناعي والعالم النامي ومن أمثلة هذه البلدان ليبيا التي عقدت الكثير من
المؤتمرات الدولية للحوار والتواصل الثقافي العالمي في شكل (حوار الحضارات،
والحوار الإسلامي المسيحي).
وعلى أية حال لقد نمت منذ القرن التاسع عشر
تقريبا مشكلة ثقافية تتمثل في ثنائية صورة الإنسان، وأصبحت هذه المشكلة أكثر
تعقيدا الآن من أي وقت مضى، بل وليس من السهل فهمها وتحليلها، بل إنها لم توجد في
ماضي الحضارة الإنسانية حيث كانت الشعوب والأمم تختلط وتنتقل وتتواصل دون قيود
كبيرة، ولعل السؤال الآن؛ ما علاقة ثنائية صورة الإنسان هذه بالواقع العالمي
المتأزم؟ وما علاقتها بالقيم التي يطرحها مفكرو ومنظرو العالم من أجل بناء مجتمع
وعالم يسوده السلام والتفاهم والتبادل الثقافي والحوار؟ وكثيرا ما تجلى هذا الطرح
في اللجان التربوية والثقافية المختلفة التي شكلتها منظمة اليونسكو UNESCO وعرضت نتائج بعض أعمالها وتصوراتها على مختلف المؤتمرات العامة لهذه
المنظمة ودوراتها المختلفة، ومن أمثلة ذلك اللجنة الرفيعة المستوى بقيادة المفكر
الفرنسي جاك دي لور Jacques
Delor والتي حاولت توظيف التربية من أجل الحوار الثقافي وتقريب المسافات
العقلية بين بني الإنسان، للتقارب من بعد ذلك أنماط الإدراك والفعل والسلوك في العالم.
ومرة أخرى إن العلاقة بين ثنائية صورة الإنسان وواقع العالم اليوم، تتطلب منا
تنشئة اجتماعية مختلفة عما سبقها وتهدف أساسا إلى تعلم الوعي بالاختلاف وهنا نتعلم
أنه ليس من الضروري أن يبني العالم ويقام حسب تصورنا الوحيد له، كما نتعلم أيضا أن
الاختلاف لا يعني العداوة ولا يعني إهمال حق الطرف الآخر في الحياة، إن حضارة
القرن الحادي والعشرين تتطلب ولا شك إعادة النظر في ثنائية صورة الإنسان التي
خلقتها نظريات التطور العضوية في القرن التاسع عشر، وتفرض علينا دمج هذه الثنائية
وتقريب طرفيها ولا أقول توحدها التام فهذا يبدو اليوم وفي المستقبل مستحيلا
لاعتبارات خصوصية التاريخ والدين والثقافة والجغرافية والمصالح الحيوية بل أقول
التقارب ومواصلة الحوار.
الحاجة إلى عالمية الثقافة:
من أبرز خصائص مجتمع القرن الحادي والعشرين فيما
تتطور الأمور الآن هو ظهور نمطين من الثقافة؛ ثقافة عالمية، وثقافة وطنية أو
قومية. خاصة وفيما يلي نحلل أهمية هذين النوعين من الثقافة و ترابطهما والحاجة
إليهما في عالم اليوم. إن الثقافة العالمية ضرورية للإنسان سواء في قرى البلاد
النامية أو مدن ومصانع البلاد المتقدمة، ومن أهم مبرراتها ما يلي:
1 ـ قربت التطورات العلمية والتقنية والإعلامية
الآن المسافات العقلية بين الناس، فحدود العقل البشري أصبحت اليوم متسعة لتستوعب
العالم كله وتترك في نفس الوقت مساحة للعقل الوطني وخصوصيته.
2 ـ حاجة الناس إلى بعضهم البعض، فحتى إنسان
العالم الصناعي المتقدم في الغرب يحتاج إلى إنسان العالم الثالث سواء في شكل
اقتصادي بحث، أو في شكل أدبي وثقافي واجتماعي كشريك له في هذه الأرض لا مناص له من
التعامل معه، فهو يسكن معه في قرية واحدة، وما يحدث في هذه القرية من خير أو شر
ينعكس عليها مباشرة لذلك من الأجدى أن يتعاون الجميع لبناء القرية وحمايتها من
مختلف أنواع الأخطار المادية والاجتماعية والثقافية والمعنوية.
3 ـ تزايد الاعتماد المتبادل بين الثقافات
والنظم الاقتصادية بسبب تطور وسائل النقل والاتصالات مما أدى إلى تعزيز الشعور
بالانتماء إلى ثقافة عالمية إنسانية تنعكس على عقول وتصرفات الناس في جميع أنحاء
العالم، وهذا ما تؤيده نظرية علم الاجتماع، إذ أن هناك بعض نظريات التحديث التي
توصلت إلى أنه كلما تطور المجتمع الحديث، كلما تشابهت وتشابكت أنماط التفكير
والعمل وبناء المؤسسات الاجتماعية والمدنية(1).
4 ـ اعتبارات التعاون الدولي والمحافظة على
السلام العالمي، ونحن نعرف جيدا انعكاس المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية
في العالم الثالث، على السياسات العالمية، وبنفس المنطق ندرك انعكاسات السياسات
الغربية خاصة الاقتصادية على بلدان العالم الثالث اقتصاديا أو سياسيا أو ثقافيا،
فلا جدال في بروز وظهور العالم الثالث ككيان متميز اجتماعيا واقتصاديا وإذا لم
يساعده المجتمع الصناعي المتقدم في حل مشكلاته الاقتصادية وتنمية موارده البشرية
ليعتمد على نفسه في عيشه، فسيظل هذا العالم الثالث مشكلا بؤرة متوترة وساخنة تعيق
نمو وازدهار الثقافة العالمية، بل وتهدد بانهيار السلم العالمي خاصة بالنظر إلى
تعثر نموه ونمو سكانه المطرد ونمو معدلات الفقر والبطالة فيه، وضعف إمكاناته
العلمية وعجزه لعلاج مشكلاته المتفاقمة.
5 ـ يسير الاتجاه الثقافي العالمي الآن نحو
إدراك الذاتية الثقافية بأنها ليست حيزا منفصلا، بل أنها تذبل وتموت إذا بقيت مسجونة
في عقول أصحابها، فلا بد إذن من الحوار والتبادل وتقريب طرفي ثنائية صورة الإنسان
التي أشرنا إليها في مضمون ثقافي أولا، وفي مضمون اقتصادي ثانيا، ولا يقل عن ذلك
أهمية استكشاف العناصر المشتركة التي تعلو فوق الاختلافات الاقتصادية والسياسية
والجغرافية فكثيرا ما اقتبست الثقافات الواحدة عن الأخرى، ولا تخلو ثقافة من
ثقافات اليوم من ظروف ومعطيات دعتها إلى تقديم حلول متشابهة لمواجهة احتياجات
ومشكلات متماثلة(2)، وفي هذا السياق من عالمية الثقافة من ينكر مثلا
الثراء والغناء الذي جنته الحضارة العربية الإسلامية من الحوار الفكري والعقلي مع
الفلسفة الإغريقية كما تمثلت خاصة في فكر أفلاطون وأرسطو، ومن ينكر أيضا الغناء
والثراء الذي جنته الحضارة الأوروبية الغربية في أواخر العصور الوسطى الأوروبية من
حوارها وتفاعلها مع الفلسفة العربية الإسلامية مما كان عنصرا أساسيا في مرحلة عصر
النهضة الأوروبية.
الحاجة إلى خصوصية الثقافية:
ربما يمكن القول في هذا السياق، بأن كل شعب يشعر
بانتمائه من خلال جملة من المعتقدات والقيم والرموز المختلفة التي تكون ذاتية وقد
أكدت منظمة اليونسكو UNESCO من خلال إعلان مكسيكو أن تراث كل شعب وأشكال التعبير الخاصة به هي أمضى وسائله للإفصاح عن وجوده في هذا العالم، ومن سمات
هذه الذاتية أنها تتطور باستمرار، وهي اجتماعية وسياسية. فهي اجتماعية لأنها تسمح
للفرد بأن يشعر بالانتماء إلى الجماعة التي تشاركه في نفس الثقافة، وهي سياسية
لأنها يمكن أن تكون من عوامل التحرر، وإلى جانب الوظائـف الاجتماعية والسياسية
للذاتية الثقافية، فهي أيضا تعني واقعا نفسيا وتربويا يتسم بأهمية حاسمة لأنها مسؤولة إلى حد كبير عن تكوين شخصية ومواقف الأفراد الذين
يشكلون كلا اجتماعيا(3).
وإضافة إلى ما سبق فإن ظروف نشأة كل ثقافة تختلف
عن غيرها من الثقافات تاريخيا وجغرافيا، ولذلك فإن هذه المؤثرات تنعكس على
الفاعلين في إطار ثقافة محدودة، فيتكون بالتالي مزاجهم وذهنهم بشكل مختلف عن غيرهم
ولعل من أكبر الشواهد على ذلك ما يتصف به سكان حوض
البحر الأبيض المتوسط من مزاج نفسي، وأنماط ثقافية متقاربة، مختلفة إلى حد ما عن
صفات وأمزجة سكان المناطق الاستوائية في العالم، أو سكان المناطق المتجمدة من
القطب الشمالي، ولذلك فيما أعتقد فإن الثقافة المحلية أو الوطنية ترتبط بل وتشكل
الحالة النفسية للفرد، وهنا لا يمكن أن نطلب من الإنسان أن يتخلى عن عقله وتكوينه
النفسي (بمعنى علم النفس الفردي وبمعنى علم النفس الاجتماعي)، بل علينا أن نحترمه
ونعطيه الحرية أن يتواصل مع نفسه وعقليته في نموذج قادر على التفاعل مع النماذج
الأخرى، وإلا فقد حكمنا عليه بالموت البطيء وانفصام الشخصية بالمعنى الحضاري
والخروج عن ذاته.
ومرة أخرى إن التعريف المقبول للثقافة هي أنها
وضعية تظهر فيها جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز
مجتمعا بعينه أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل طرائق الحياة والتقاليد والمعتقدات
والفنون والآداب وتدمج في الوقت ذاته في نظامها القيمي
الحقوق الإنسانية للإنسان. إن ثقافة أي بلد لا تقتصر بطبيعة الحال على الثقافة
المتخصصة بل تشمل أيضا الثقافة الشعبية، وهي لا تتلخص في التراث وحده، بل إنها
تثري وتنمو بفضل ملكة الإبداع والذاكرة معا، وأن الثقافة لكي تظل نابضة بالحياة،
لا يمكنها أن تنطوي على نفسها، بل إن المبادلات الثقافية هي التي تخصبها وتنميها(4).
ولعل ما يثير الجدل الآن بشكل أقوى بين خصوصية الثقافة وعالميتها، هو التمزق
والتوتر الذي يعانيه الإنسان بين العولمة Globalization وبين البحث عن جذوره ومرجعيات انتمائية
وخاصة في ثقافات البلاد ذات الطابع التقليدي وهي عادة البلدان النامية، وهنا تظهر
الحاجة الملحة إلى تمكين الجميع أفرادا وجماعات دون استثناء بتفادي الآثار السلبية
للعولمة من استثمار مواهبهم الفردية والجماعية وكل طاقاتهم الخلاقة إلى أبعد حد
ممكن، وهو ما يعني بالنسبة لكل فرد وجماعة القدرة على تحقيق مقاصده وطموحاته في
نموذج عالمي من التعاون المتوازن القائم على الحرية والعدالة الاجتماعية والاعتراف
بذاتية الثقافات الوطنية والقومية في العالم أو في القرية العالمية(5).
فكل شيء في بداية القرن الحادي والعشرين ورغم
أننا نعيش جميعا في القرية العالمية يدعو إلى التأكيد من جديد على خصوصية الثقافة
وإلى تهيئة الوسائل لكل فرد يفهم الآخر في خصوصيته وينفذ إلى نموذجه الخاص، ويفهم
العالم في سعيه المضطرب نحو نوع من الثقافة العالمية المشتركة، ولكن ذلك كما يقول
تقرير لجنة جاك ديلور بمنظمة اليونسكو يتطلب البدء بفهم
الذات فيما يعد رحلة داخلية تتحدد معالم مسارها بالمعرفة والتأمل والتربية وممارسة
النقد الذاتي.
التربية والهوية وعالمية الثقافة:
وإزاء إشكالية خصوصية الثقافة وعالميتها ودور
المدرسة أو التربية اتجاهها، وكما أشرنا في مقدمة هذه المداخلة فإن للمدرسة دور
مهم وحيوي سواء في البلاد النامية أو البلاد الصناعية المتقدمة، وهذا الدور هو خلق
جسور التواصل الثقافي بين عقول بني البشر وتقريب طرفي ثنائية صورة الإنسان التي
جعلناها محور هذه المداخلة، وبناء هذا الجسر الثقافي يبدأ في نظري بالاعتراف
بشرعية التعدد والتنوع والاختلاف وتعلم الوعي به
وإدراكه، فإلى جانب أن هذا التنوع والاختلاف الثقافي يولد الإبداع فهو حق طبيعي
وأساسي وأصيل ملتصق بالإنسان وكرامته، وعندما نحلل هذا المبدأ يلزم القول بأن غياب
هذا المبدأ هو بداية نهاية الإنسان والحضارة في العالم، كما أن تحليل هذا المبدأ
يتطلب تعديل نموذج التربية والتنشئة الاجتماعية الموروث من نظرية التطور في القرن
التاسع عشر والتحول إلى نموذج ثقافي وتربوي أكثر مرونة وإنسانية. إننا في حاجة إلى
ذلك فالقرن الحادي والعشرين سيكون قبل كل شيء قرن التقدم البشري بكل أشكاله من
خلال التربية والعلوم والثقافة، وأنه لا بد من تمهيد الطريق من الآن لكي يرتفع
التعليم وترتفع المدرسة إلى مستوى التحديات التي يطرحها المستقبل والتي سوف تتجسد
بأشكال ومظاهر مختلفة في العالمين النامي والصناعي المتقدم ولعل ذلك ما يفسر
القرار الذي اتخذته منظمة اليونسكو في السنوات القليلة الماضية بإنشاء لجنة دولية
معنية بالتربية والتعليم لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين(6).
مرة أخرى إن صورة الإنسان الجائع في البلاد
النامية، وصورة الإنسان الغني المترف في البلاد الصناعية في الغرب، هي صورة من
صنعنا أساسا في المدارس وفي وسائل الإعلام، والهدف منها فيما أعتقد تقسيم العالم عقليا
وعمليا إلى متقدم ومتخلف، وهذه الصورة هي التي تتأكد يوما بعد الآخر وهي التي توحي
بكثير من الصراعات العالمية، وبكثير من التناقض والعداء بين الثقافات والشعوب.
إننا في حاجة إلى رسم صورة أخرى للإنسان في القرن الحادي والعشرين، فالعلاقات بين
الإنسان المتخلف والمتقدم هي التي غالبا ستحدد عالمنا في القرن الحادي والعشرين
وستنعكس على كل السياسات الوطنية والعالمية، فبقدر ما نجسد هذه الثنائية والانقسام
العالمي بقدر ما نزيد من تعقيد المشاكل الدولية ونقفل جسور التواصل الثقافي
والتعاون الدولي بكل أشكاله، بل إنني كمثقف ومواطن من العالم الثالث أعتقد بأنه
تقع على العالم الصناعي الغربي مسؤولية محو هذه الصورة المشوهة عن إنسان العالم
النامي وثقافته وحضارته والتي تتمثل أساسا في ضعف قدراته الحضارية، وعدائه للحضارة
والحرية، وإبدالها أي الصورة المشوهة بصورة أخرى هي التواصل الحضاري والثقافي
والاستفادة المتبادلة بين الطرفين حضارة البلاد النامية وحضارة الغرب، فحضارة
أمريكا الشمالية على سبيل المثال أسهمت فيها كل الشعوب والثقافات وبدون استثناء،
ومن حق كل الشعوب والأمم إذن أن تكون لها صورة إيجابية على الأقل في الذاكرة
الأمريكية، (وينطبق هذا بشكل خاص على صورة العربي في العقلية الأمريكية الشعبية).
ورغم الموقف السابق للثقافة المشتركة وتعدد وتنوع الثقافات التي يجب أن يتعلمها
التلميذ ويتربى في إطارها، فمن الضروري أن يعطي له قدرا مناسبا من الثقافة الوطنية
والقومية المرتبطة والمتفاعلة مع الثقافة العالمية، ذلك أن تعليم مبادئ التراث
الوطني والخصوصية الثقافية لا يسهم في تأكيد وتوحيد الذاتية الثقافية لشعب من
الشعوب فحسب، بل ويعزز قدرة التلميذ على تقدير أوجه الاختلاف وأوجه الشبه بينه
وبين الشعوب والثقافات الأخرى، كما يسمح ذلك بتفهم ووعي أفضل بإسهام كل شعب بينه
وبين الشعوب والثقافات الأخرى كما يسمح ذلك بتفهم ووعي أفضل بإسهام كل شعب وحضارة
في التراث المشترك، أي في الحضارة العالمية، وبإدراك أفضل للتفاعلات المستمرة بين
الثقافات المختلفة.
وعلى أية حال أعود إلى أطروحتي الأساسية وأقول
إن المدرسة أو التربية هي المؤسسة الأولى والمهمة المرتبطة مباشرة بملامح ثنائية
صورة الإنسان وتغييرها نحو الاتجاه الإيجابي ومن ثم تطوير ثقافة عالمية مشتركة،
وبعبارة أخرى إن مهمة ودور المدرسة في العالمين النامي والصناعي على حد سواء هي
تنشئة التلاميذ وتربيتهم لعالم تتحاور فيه الثقافات ويتم فيه الوعي بالاختلاف
الثقافي والتشابه الثقافي في آن واحد، فالفرد الذي يفرض وجهة نظره لا يتحاور ولا
يتواصل، إنه لا يمنح نفسه وسائل تغيير ذاته، لكونه لا ينفذ إلى الفكر المغاير(7)،
ولعل مهمة المدرسة أو التربية في عالمنا الحاضر تنبثق من حياتنا المشتركة ومصيرنا
الإنساني المشترك على ضوء تقدم المواصلات والاتصالات وتقارب المسافات
العقلية والاجتماعية بين الناس في العالم، وعلى ذلك يمكن أن يتحدد دور المدرسة
واتجاه عالمية الثقافة وخصوصيتها في الأبعاد التالية:
1 ـ نظرا لأن المجتمع المعاصر يتحول بسرعة إلى
مجتمع متنوع الثقافات ومتشابه الثقافات في صيرورة واحدة، لذلك فعلى النظم
التعليمية أن تستعد لمسايرة هذا الاتجاه الجديد في بداية القرن الحادي والعشرين،
وهذا يتطلب الأخذ بمفهوم التربية المشتركة بين الثقافات، وهذا لا ينفي بأي حال
الأوضاع الثقافية الوطنية وما يصاحبها من أوضاع ونماذج تربوية وطنية. كما لا ينفي
بل يتطلب دورا إعلاميا مكملا وهو تأكيد الحوار بين الثقافات وتبادل صور إيجابية
بين الناس في وسائل الإعلام.
2 ـ ويفترض أن تختص وتؤكد كل ثقافة بما تنطوي
عليه من معايير وقيم خاصة بها، وأن تنفتح في نفس الوقت
على الثقافات الأخرى من منظور تشييد ثقافة عالمية مشتركة يكون فيها لكل أمة
وشعب حق في الوجود، وحق في الحياة الكريمة، وحق في تقرير مصيرها ومستقبلها وحق في
الاحتفاظ بما تشاء من تراثها وقيمها الإنسانية التي تعتز بها.
ومن هنا على المدرسة في العالمين (النامي والصناعي) أن تستوعب هذه الرؤية على صعيد
أهدافها وأساليبها التربوية وإعداد معلميها فالهدف كما يبدو لي من التربية
المشتركة يجب أن يتجاوز تهيئة التلاميذ والأفراد للإطلاع على الثقافات المختلفة
إلى هدف الوعي بالاختلاف والتنوع والتعدد الثقافي واحترامه، والاستعداد للتفاعل والتعايش
والحوار معه وكما يقول أحد المربين ليس الوعي بالاختلاف بين خطاب الذات وخطاب
الآخر هو قياس في ماذا يبتعد فكر الذات عن فكر الآخر، لكنه يجب أن يسعى إلى إدراك
المنطق الداخلي لخطاب الآخر إنه بشكل ما النفاذ إلى نموذجه حول العالم والاستعداد
لتقبله والإنصات إليه واحترامه وهذا بالضرورة يتطلب نوعا من القدرة النقدية (النقد
بمعناه الإيجابي) لقيمنا ومقاييسنا وصورنا العقلية وما ينتج عنها من تمثلات حول العالم.
3 ـ ويمكن للتعليم العلمي أن يكون فرصة مواتية
لتشجيع التربية المشتركة والثقافة المشتركة، ذلك أنه بالإمكان إظهار مساهمة مختلفة
الثقافات والشعوب في التقدم الحضاري للعالم، وتقديم الدليل على ذلك عن طريق
الاكتشافات العلمية وغيرها من الإسهامات التي قدمتها الحضارات إلى الإنسانية قديما
وحديثا.
4 ـ ولا يمكن للتربية وهي على مشارف القرن
الحادي والعشرين إلا أن تكون متطابقة مع الرؤية الكلية أي الشاملة والمتماسكة
للعالم ولظواهر الطبيعة والمجتمع، ومن هنا فهناك ضرورة إلى تقديم العلم والمعرفة
في مدارس ومناهج بلدان العالم الثالث بشكل خاص في إطار كلي يقرب بين تصورات العلوم
الأساسية ونظرياتها وتصورات العلوم الإنسانية ونظرياتها للإنسان والعالم، والملاحظ
أن كثيرا من المناهج التربوية في البلدان النامية بشكل خاص تقدم المعرفة والثقافة
مجزأة بين مادي وإنساني، بل وتقدم المعرفة وهي قوالب مفرغة من محتواها الاجتماعي
والأخلاقي والثقافي، وهذا في نظري ما يجعل التلميذ في مثل هذه البلدان النامية غير
قادر على إدراك الجدلية القائمة بين الظواهر والمشاكل وغير قادر على إدراك أبعادها
التاريخية وتأثيراتها المختلفة في حياته المباشرة وغير المباشرة.
وختاما، وفي الوقت الذي تظهر فيه عوامل العولمة Globalization ودفعها القوي نحو ثقافة عالمية مشتركة سيكون لها تأثيرها المباشر
وغير المباشر على ثنائية صورة الإنسان (صورة إنسان العالم الثالث مقابل صورة إنسان
العالم الصناعي المتقدم) فإن الحاجة إلى خصوصية الثقافة أو الثقافة الذاتية
والحاجة إلى عالمية الثقافة فالحاجة إلى كل منهما في وقت واحد وفي منهج تربوي واحد
وفي مدرسة واحدة تتأكد يوما بعد الآخر، وهذا ما أكدت عليه وأقرته كل المؤتمرات
الدولية المعنية بالإنسان وثقافته وتربيته ومصيره الحضاري. إن تفاعل هاتين
الثقافتين بشكل صحي هو الذي يغني ثقافة الإنسان ويعمل على ازدهار شخصيته ويزيد من
إبداعه وارتباطه العالمي، وبالتالي تنمو وتزدهر الحضارة والثقافة في القرية
العالمية بشكل متوازن يعبر فيه الإنسان عن ذاتيته من خلال ثقافته الخاصة ويتفاعل
ويتعاون مع الآخرين من خلال ثقافة عالمية مشتركة، وكما بدأت، أنهي مداخلتي بتأكيد
القول إن الأمل ينعقد في التربية والمدرسة والتنشئة الاجتماعية لتعمل على بناء
جسور التفاعل والتواصل الثقافي وبناء علاقات التثاقف
السليم والتحول نحو قرية عالمية يجد فيها الإنسان مهما كان جنسه وثقافته سبل العيش
الكريم، ويجد فيها سبل المحبة والأخوة الإنسانية ويحقق فيها ذاته وآماله في احترام
كامل لذوات وآمال الآخرينn
بعض مراجع الدراسة
1 ـ اليونسكو UNESCO، إسهام التربية في التنمية الثقافية، دراسة قدمت إلى المؤتمر
الدولي للتربية، الدورة الثالثة والأربعين 14-19 سبتمبر 1992، جنيف، سويسرا، وثيقة
رقم (3/43 ED/BIE/CONFINTED) الأصل فرنسي، مترجمة إلى اللغة العربية.
2 ـ اليونسكو UNESCO، مشروع تقرير لجنة العلوم الاجتماعية للدورة الثالثة والأربعين،
جنيف، 14-19 سبتمبر 1992، وثيقة رقم (43 / Com / Prov ED/BIE/CONFINTED) باللغة العربية.
3 ـ اليونسكو UNESCO، تقرير اللجنة الدولية المعنية بالتربية للقرن الحادي والعشرين
برئاسة جاك ديلور Jacques Delors،
(باريس: منشورات اليونسكو 1996) (باللغة العربية).
4 ـ د. مصطفى عمر التير،
مسيرة تحديث المجتمع الليبي؛ مواءمة بين القديم والجديد (بيروت: معهد الإنماء
العربي 1992).
5 ـ ر.بودون، وف بوذبكو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، الطبعة الأولى، ترجمة
د.سليم حداد (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1986)
هوامــش:
1 ـ انظر في هذا الخصوص نظريات كل من دانيال ليرنر Daniel Lerner وأنكلس وسميث Ankles & Smith، وسملسر Smelser ونظرية ستيفنسن Stephenson والواردة في كتاب د.مصطفى عمر التير،
مسيرة تحديث المجتمع الليبي؛ مواءمة بين القديم والجديد (بيروت: معهد الإنماء
العربي 1992) ص ص (13 - 57) وكذلك انظر ر.بودون، وف يوذيكو، المعجم النقدي
لعلم الاجتماع، الطبعة الأولى، ترجمة د. سليم حداد (بيروت: المؤسسة الجامعية
للدراسات والنشر، 1986)، ص 153.
2 ـ انظر اليونسكو UNESCO إسهام التربية في التنمية الثقافية، دراسة قدمت إلى المؤتمر
الدولي للتربية الدورة الثالثة والأربعون 14-19 سبتمبر 1992، جنيف، سويسرا وثيقة
رقم (3/43 ED/BIE/CONFINTED) الأصل فرنسي، مترجمة إلى اللغة العربية.
3 ـ نفس المصدر السابق، اليونسكو 1992، ص 10.
4 ـ اليونسكو UNESCO، مشروع تقرير لجنة العلوم الاجتماعية للدورة الثالثة والأربعين،
جنيف، 14-19 سبتمبر 1992، وثيقة رقم (43 / Com / Prov ED/BIE/CONFINTED).
5 ـ اليونسكو UNESCO، تقرير اللجنة الدولية المعنية بالتربية للقرن الحادي والعشرين
برئاسة جاك ديلور، منشورات اليونسكو 1996 (باللغة
العربية).
6 ـ مصدر سبق ذكره، اليونسكو UNESCO، إسهام التربية في التنمية الثقافية،1992،ص 10.
7 ـ اليونسكو، دور المدرس والمدرسة
الأساسية في نشر ثقافة حقوق الإنسان بالمغرب، دراسة أعدها مجموعة من الأساتذة
المختصين في المغرب ونشرتها منظمة اليونسكو سنة 1996، وذلك بمناسبة انعقاد الدورة
الخامسة والأربعين لمؤتمر التربية الدولي جنيف - سويسرا (30/10/96 إلى 5/11/96) ص ص 5-10.