ص1      الفهرس    المحور 

 

 

ابن رشد والباعث على التفلسف

 

محمد مساعد

الغرض من هذا القول أن نفحص عن طبيعة الدفعة الأولى للخطاب الفلسفي لابن رشد من خلال اختبار الفكرة الأكثر رواجا حول الباعث الذي حدا بأبي الوليد إلى الإقدام على التعاطي للفلسفة أولا، وإلى الالتصاق ثانيا بأرسطو الذي يجعل ذلك التعاطي يرتهن لدى فيلسوف قرطبة ومراكش بقراءة وإعادة قراءة نصوص المعلم الأول أساسا سواء في المنطق أو الطبيعيات أو الفلسفة الإلهية(1).

إذا كان فحص مسألة الباعث هذه ينفتح بنا على إشكالية كيفية تشكل الفلسفة الرشدية ككل، فإننا سوف نصرف النظر في المقالة الحالية عن مختلف العناصر والروافد التي ساهمت، بهذه الصورة أو تلك، في هذا التشكل، لنجعل شريحة المبضع ما جرت به عادة الدارسين وجمهور المهتمين من تكرار القول بأن "الشارح الأكبر" إنما اصبح كذلك، أي شارحا لأرسطو بالقصد الأول، بل إنما أصبح فيلسوفا(2)، لمكان استجابته لطلب الأمير "أبي يعقوب يوسف" برفع قلق عبارة أرسطو، أو عبارة المترجمين عنه، كما ورد أول مرة في رواية صاحب المعجب بهذا الخصوص(3).

ما حدود المصادقة على هذه الرواية بدءا؟ ثم ما إمكانات المصادقة على ما حظيت به من مصادقة من أيام عبد الواحد المراكشي إلى أيامنا هذه دون شك ولا مساءلة؟

غير خاف أن الانخراط في تقليب وجوه النظر وصرف بعضها إلى بعض يضعنا في مواجهة أحد أخطر الإشكالات في تاريخ الفلسفة الإسلامية، وهو يمس صلة هذه الفلسفة بالسياسة. لذلك يتحول السؤال عن مدى صحة حكاية المراكشي إلى السؤال عن حدود الفلسفي والسياسي في إقبال ابن رشد على "شرح"(4) كتب أرسطو، بل وفي هويته كفيلسوف؟

نبادر إلى القول بأننا سنحاول في هذه المقالة بيان عدم إمكان الاستمرار في اختزال الفلسفي إلى السياسي بالنسبة لفيلسوف قرطبة ومراكش. عمدتنا في ذلك مسلكان، الأول تاريخي -فلسفي، والثاني مقارن نستفيده من عادات ابن رشد في الكتابة بحسب ما نحن بسبيله.

1 - الاعتبار التاريخي الفلسفي:

إن الموافقة المتداولة على حكاية عبد الواحد المراكشي تعني القبول بالصلاحية المطلقة لاختزال المساهمة الفلسفية الرشدية إلى مجرد قرار سياسي لم يكن يسع أبا الوليد إلى الانصياع له خاصة أنه قد يكون، وهو ما يزال بعد في مستهل حياته العلمية، إنما يبحث عن موقع له ضمن البلاط الموحدي بحسب ما نفهمه من رواية المراكشي، إذ يحدثنا عن تقديم ابن طفيل أبا الوليد للخليفة"أبو يعقوب"، حيث سينتهي لقاؤهما الأول -بعد تردد ابن رشد وجرأة الأمير وتشجيعه له- بأن وقع كل منهما موقعا حسنا من نفس صاحبه، ليتولد عن ذلك اللقاء تكليف "أبي يعقوب" لابن رشد بإعادة النظر في نصوص أرسطو لرفع قلق عبارة المعلم الأول أو عبارة المترجمين عنه.

يكاد الأستاذ المرحوم جمال الدين العلوي ينفرد، فيما نعلم، يالتشكيك في هذه الرواية مع عدم إنكارها بإطلاق، إذ يقول بضرورة أن "نستعيد هاهنا حكاية طريفة ينفرد بذكرها عبد الواحد المراكشي في المعجب، دون أن تكون استعادتنا لها مصادقة كاملة على ما جاء فيها وإن كانت لا تخلو من وجاهة بالنظر إلى معطيات نصوص ابن رشد نفسها"(5).

وبحق إذا صحت الرواية فإنها سوف لا تصح سوى في حق التلاخيص دون الجامع أو المختصرات لسببين اثنين، يتمثل الأول، وهو الذي نعتبره تاريخيا، في أن اللقاء بين أبي الوليد والأمير لم يكن ليتم قبل سنة 558هـ وما بعدها، أي إلى حدود سنة 580هـ، وهي فترة خلافة "أبو يعقوب يوسف" التي لم تبدأ سوى سنة 558هـ لا قبلها لتنتهي سنة 580هـ طبقا لما ترويه كتب التاريخ(6)، بينما سيكتب أبو الوليد كثيرا من مختصراته وجوامعه، قبل 558هـ مع الوعي بحالات المراجعة وإعادة الصياغة.

من هنا لا نملك سوى الاندهاش إزاء ما ظل الباحثون يرددونه واحدا بعد الآخر من أن لقاء ابن رشد بالأمير أبي يعقوب، عبر وساطة ابن طفيل بحسب ما هو شائع، إنما كان سنة 548هـ كما نعثر على ذلك عند كل من "دوبور"(7) و"دولاسي أوليري"(8) وغيرهما، في حين لم يكن لهذا الأمير أن يتولى الخلافة إلا سنة 558هـ أي بعد عشر سنوات من التاريخ الذي يزعم أنه لقي فيه ابن رشد!؟

ومهما يكن فإن دعوى القرار السياسي وإن كانت لا تخلو من سداد لكنها لا تصح في حق الإشراقة الأولى لعلاقة ابن رشد بأرسطو وبالفلسفة ككل بقدر ما تتقلص أهميتها، وبتحفظ شديد، إلى لحظة متأخرة من هذه العلاقة هي فترة التلاخيص، مع العلم أنها قد لا تصح إطلاقا في حق هذه الفترة أيضا إذا جاز القول مع "دومينيك أورفوي"، الذي لا يعلن عن مصادره في ذلك، بأن مهمة شرح أرسطو قد أسندت إلى أبي الوليد سنة 565هـ(9)، إذ كانت مرحلة التلاخيص قد قطعت إلى حدود هذا التاريخ أشواطا هامة لدى ابن رشد، حيث كان قد أنجز إذ ذاك على الأقل أربعة تلاخيص لأربعة من كتب أرسطو في المنطق هي: المقولات والعبارة والقياس والجدل(10).

يتداخل هذا الاحتمال الأخير مع الاعتبار الثاني الذي ندعوه فلسفيا، لصلته بمعنى التلخيص في المتن الرشدي بحسب المشهور بين المختصين في الدراسات الرشدية. يكمن هذا الاعتبار في عبارة صاحب المعجب نفسه كما يوردها في ختام روايته بهذا الشأن، حيث يذكر أنه قد "قال أبو الوليد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس"، واضح أن المراكشي يستعمل هاهنا كلمة تلخيص، الأمر الذي يؤكد أن أبا الوليد، الذي وردت الرواية في هذا الأمر على لسانه، لم ينجز كل شروحه على أرسطو بطلب من الأمير وإنما فقط تلاخيصه. ذلك إذن ما تشهد له عبارة صاحب المعجب ومعطيات المتن الرشدي في آن واحد.

نعم قد نقول إن عبارة "التلخيص" عند ابن رشد لا تعني تلاخيصه بالمعنى الضيق والدقيق، وإنما تشير إلى كل شروحه على أرسطو، وذلك بحسب شواهد كثيرة من المتن الرشدي، حيث ينعت أبو الوليد مختصراته وشروحه بأنها تلاخيص، مثلها في ذلك مثل تلاخيصه بالمعنى الضيق والدقيق، وأيضا بحسب شهادة عادات العرب وأساليبهم في العبارة إذ يدل لفظ التلخيص على كل من الاختصار والاستقصاء في الشرح والتفسير معا(11).

لكن في هذه الحالة أيضا سيكون أبو الوليد قد كتب كثيرا من تلاخيصه قبل لقائه الشهير بالخليفة الموحدي "أبو يعقوب يوسف". وذلك ما لم ينتبه إليه الدارسون وجمهور النظار في فلسفة ابن رشد وعلاقته بالحكمة وبالسياسة كذلك، فأحالوا فلسفته إلى مجرد وصفات تحت الطلب.

2 - الاعتبار المقارن:

إن ما نصطلح عليه هنا بالاعتبار المقارن هو متابعة المواضع التي يصرح فيها أبو الوليد بأن مؤلفا ما من تواليفه يأتي استجابة لطلب أو رغبة من أحد الأشخاص أو الوجهاء. ويبدو أن أهم ما يمكن الخلوص إليه من هذه المتابعة هو غياب أي إشارة من فيلسوف قرطبة إلى "أبو يعقوب يوسف" تفي صراحة أو تشي على الأقل بالغرض الذي تروم رواية صاحب المعجب إقراره وبثه في الناس عن فلسفة "الشارح الأكبر".

من هنا فقد يمكن التشكيك أصلا في مصداقية هذه الرواية إذا أخذنا في الاعتبار أن ابن رشد قد اعتاد، عندما يتلقى طلبا أو التماسا من هذا النوع من أمير أو أي شخص من وجوه زمانه، أن يذكره تلميحا أو تصريحا في مستهل المصنف الذي تلقى الدعوة بتأليفه من قبل ذلك الأمير أو الشخص باعتباره الباعث على إنجازه.

ذلك ما نقف عليه في بعض رسائل ابن رشد الطبية، وبالضبط منها في رسالتي "الترياق" و "في حفظ الصحة لجالينوس" حيث نقرأ بصدر الرسالة الأولى بوجه خاص أنه "يسألني من وجبت علي طاعته، وتعين لدي شكره وتقدم إلي فضله وبره، أن أثبت له على طريق البرهان الطبي، ما قاله الأطباء في المواضع التي يستعمل فيها الترياق، وما ضمنوه من أفعاله"(12).

نفس الموقف يشهد له شرح فيلسوف قرطبة ومراكش لأرجوزة ابن سينا في الطب حيث نقرأ بأنه قد "ذكرت في المجلس العالي، مجلس السيد الأجل المعظم والموقر أبي الربيع ابن السيد الأجل الأعلى الأسمى أبي محمد، ابن سيدنا الإمام الخليفة الأعظم أمير المؤمنين أيد الله أمرهم ونصرهم، الأرجوزة المنسوبة إلى ابن سينا في الطب […] فأمروا أدام الله تأييدهم لما جبلوا عليه من الرغبة في العلم وخصوا به من إيثار الناس بالخير، أن نشرح ألفاظها شرحا يبلغ به الغرض المقصود منها […] فبودر إلى امتثال أمرهم الغالي وشرع فيه"(13).

بصرف النظر عن التحقيق في هوية ومن ثم منزلة السادة الذين يلبي ابن رشد طلباتهم في هذه الرسائل الثلاث، مع الإقرار بأنهم فعلا من أسياد الموحدين وأعيانهم بل قد يكون منهم الأمير "أبو يعقوب" نفسه، فإن الملاحظ أنها كلها رسائل طبية لا فلسفية فضلا عن أنها لا تعني المعلم الأول في شيء.

تبقى ضميمة العلم الإلهي المقالة أو الرسالة الرابعة والأخيرة -بحسب معرفتنا بالمتن الرشدي- التي يذكر فيها أبو الوليد أنه لم يكتب بمبادرة خاصة منه، وإنما من طلب شخص آخر قد يكون هو الأمير "أبو يعقوب" -بمقتضى اقتراح محمد عمارة في تحقيقه لهذا النص(14)- حيث يجيب ابن رشد مخاطبه بسيل من التبجيل والتبرك عن سؤاله حول الشك العارض في علم القديم سبحانه، إذ يقول "أدام الله عزتكم وأبقى بركتكم وحجب عيون النوائب عنكم لما فقتم بجودة ذهنكم وكريم طبعكم كثيرا ممن يتعاطى هذه العلوم وانتهى نظركم السديد إلى أن وقفتم على الشك العارض في علم القديم سبحانه مع كونه متعلقا بالأشياء المحدثة عنه…"(15).

لماذا إذن لا نعثر في تصانيف ابن رشد، سواء منها الفلسفية أو غير الفلسفية، باستثناء المقالات الأربعة المشار إليها، على أدنى إشارة من هذا القبيل للخليفة "أبو يعقوب"، لا سيما إلى ما يزعم من طلبه أو تكليفه المشهور لأبي الوليد بأن يعمل على إخراج كتب أرسطو إخراجا يرفع عنها قلق العبارة’

معنى ذلك أن إقبال ابن رشد على شرح نصوص المعلم الأول، بل نحو التفلسف ككل، لم يكن بتكليف ولا بطلب من أحد، ومن ثم فهو ليس نتاجا تحت الطلب. ومعنى ذلك أيضا أننا إذا ما وافقنا على صحة رواية صاحب المعجب فستكون صادقة فقط بالنسبة للتلاخيص دون "الجوامع" التي لم تكن بإملاء من قبل أي كان.

قد يقال اعتراضا بأن الضميمة تنتمي إلى جنس القول الفلسفي، إذ رغم انتمائها الكلامي الظاهر لمكان موضوعها الخاص بمسألة العلم الإلهي، وهي مسألة كلامية، فهي -أي الضميمة- لا تدين بالولاء إلى علم الكلام وإنما إلى الفلسفة لأن الدفاع عن الفلسفة هو ذاته فلسفة بموجب كونه حديثا حول مشروعية الخطاب الفلسفي، لذلك فهو ككل حديث حول الفلسفة لا يمكنه إلا أن يكون فلسفيا ومن ثم فلسفة، بعكس الحديث حول العلم الذي لا يمكنه إطلاقا أن يكون علما بالمعنى الدقيق بقدر ما هو فلسفة(16).

إضافة إلى ذلك فابن رشد يجعل مواجهة علماء الكلام وغيرهم من المعترضين على الفلسفة لا سيما منها المشائية، وفي بعض مسائلها بالذات، مثلما هو الحال بالنسبة للغزالي المستهدف الأول في الضميمة، يجعل ذلك محايثا لمهمة الميتافيزيقا، وبذلك يرسمه كاختصاص للفلسفة خاصة في مقالة الجيم من شرحه لميتافيزيقا الحكيم، وأيضا في شرح السماء والعالم إذ يقول في معرض إثبات أن العالم واحد "وينبغي أن يعلم أن من تعود النحو من التصور والتصديق الذي يستعمله المتكلمون من أهل ملتنا أنه يعسر عليه أو لا يمكنه الاعتراف بهذه المقدمة وأمثالها وذلك أنهم يرون الأشياء كلها جائزة وأنه ليس شيء ضروري وهؤلاء فصاحب الحكمة الأولى هو الذي يتكفل بالرد عليهم كما يتكفل بالرد على جميع السفسطائية التي حكمتهم جحد المبادئ الأول وإبطال الحكمة"(17).

معنى ذلك أن دعوى النتاج تحت الطلب وبالضبط في طابعها السياسي تنسحب أيضا على القطاع الفلسفي من الفكر الرشدي لا على جانبه الطبي فحسب، وهو الأمر الذي لا خلاف في وجاهته ومن ثم في سداد الاعتراض السالف، لكن لا مجال أيضا للمجادلة في أنه لا يعدو الانطباق ضمن حدود ضيقة جدا تتمثل في كونه لا يطال سوى "ضميمة العلم الإلهي"، وهي تكاد لا تشكل أمرا ذا بال بالقياس إلى ضخامة المتن الرشدي كما وإلى قيمة أجزائه الأخرى غير الضميمة كيفا مع العلم أنها وهي فاتحة الفاصل الغزالي بعيدة جدا عن لحظة ميلاد المشروع الفلسفي والفكري عموما لابن رشد(18).

وليس العجب من هذا فحسب وإنما العجب أيضا، وربما أكثر من ذلك، من اللحظات التي يتحدث فيها أبو الوليد عن مشاكل ترجمة النص الأرسطي، ويقارن فيها بين الترجمات مفضلا إحداها على الأخرى، إما لأنها أبين أو لأنها أقل خروما أو لغير ذلك من الأسباب التي يمكن الاطلاع عليها في مواضعها من المتن الرشدي. على أن أكثر تلك المواضع دلالة فيما نحن بسبيله ما يقوله ابن رشد في نهاية "تلخيص السفسطة"، وهو يكاد يقارب ما يرد لدى صاحب المعجب فيما يخص الشكوى من قصد أرسطو، أو من عبارة المترجمين عنه، أو من عبارة شراحه أيضا لا سيما منهم الشيخ الرئيس، حيث يقول أبو الوليد إن "هذا الكتاب معتاص جدا، إما من قبل الترجمة، وإما من قبل أن أرسطو قصد ذلك فيه. ولم نجد فيه لأحد من المفسرين شرحا لا على اللفظ ولا على المعنى -إلا ما في كتاب الشفا لأبي على ابن سينا- شيئا من ذلك. والكتاب الواصل إلينا من ذلك هو في غاية الاختلال، مع أن الرجل عويص العبارة…"(19).

إن من غير الشنيع أن ينتظر القارئ في هذا المقام بالضبط، كما في بعض المواضع القريبة من معناه عند ابن رشد، إشارة من الرجل إلى أن ما دفع به إلى إنجاز أعماله الفلسفية هو طلب الخليفة، أو طلب ابن طفيل المتضمن لطلب الخليفة ورغبته. ولكننا لا نظفر بشيء من ذلك، وهو ما يقوي لدينا الزعم بالشك في رواية صاحب المعجب، ويحثنا على ضرورة إخضاعها للمحص والامتحان.

على أننا نقف في المتن الرشدي ذاته على الباعث الحق والمباشر الذي دفع بأبي الوليد إلى تعقب المتن الأرسطي بالشرح والتعليق والاختصار وغير ذلك. يتمثل هذا الباعث المتعدد الأوجه في أمرين أساسين يعلن عنهما ابن رشد في تفسيره الكبير لكتاب ما بعد الطبيعة، وهما محبته للحكمة وحرصه على تعلمها وتعليمها من جهة، وضرورة الاعتراف لصاحب الحق بحقه وحق أرسطو العناية بفلسفته شرحا وإيضاحا…

نقرأ الاعتبار الأول في مستهل شرح مقالة اللام، حيث يقول ابن رشد "ونحن لمحبتنا في هذا العلم وكثرة حرصنا على تعلمه وتعليمه فقد لخصنا القول الذي لهذا الرجل في هذا العلم ليكون أسهل متناولا على من لم يتفرغ للنظر في مقالات أرسطو ويكون ذلك بمنزلة التذكر لمن وقف على مقالة أرسطو"(20).

أما الاعتبار الثاني فنقف عليه في مستهل تفسير ما بعد الطبيعة ككل إذ يذهب أبو الوليد إلى ضرورة الاعتراف لأرسطو بحقه "ومعرفة حقه وشكره الخاص به إنما هو العناية بأقاويله وشرحها وإيضاحها لجميع الناس"(21).

* * *

ليست فلسفة ابن رشد إذن ولا شروحه على أرسطو أيضا مجرد وصفات تحت الطلب، مما يعني إن إحالة هذه الفلسفة وهذه الشروح إلى توجيه سياسي أمر لا يمكن الدفاع عنه، أو على الأقل فهو لا يحقق اكتفاءه الذاتي لتفسير معالم فلسفية أبي الوليد وأرسطيته، مثله في ذلك مثل دعوى مجرد الإعجاب المحض بأرسطو، فالإعجاب يلفه الكثير من الغموض لمكان مناخه النفسي بل والميتافيزيقي الذي يجعله يحتاج إلى توضيح كبير ومزيد بيان في نفس الوقت الذي يطلب منه أن يكون أداة توضيح وتفهم لعلاقة فيلسوف قرطبة بالحكيم.

وأيضا فليس غرض ابن رشد من شرح فلسفة أرسطو مجرد رفع قلق عبارة "الحكيم" أو عبارة المترجمين عنه، كما يرد في عبارة صاحب المعجب، لأن ذلك إنما يحيل فلسفة أبي الوليد فضلا عن فعل التفلسف ككل إلى مجرد لغة، والأمر على غير ذلك تماما. وإذا كان بعض المهتمين يصفون مثل هذا التشكيك والاستقصاء بأنه مجرد "تحذلق" فإنهم إنما يغلقون بذلك باب الاجتهاد والنظر عن وعي منهم أو عن غير وعي(22)… فضلا عن أنهم لم يفهموا أن المستهدف من التشكيك هو علاقة الفلسفة بالسياسية لدى أبي الوليد لا علاقة الفلسفة باللغة لديه مما بلا يسع المقام لتفصيل القول فيه.

ما العلة في تعاطي ابن رشد للفلسفة ولشرح مصنفات المعلم الأول غير القرار السياسي الذي لا تخفى هشاشته إذن؟

قد يرتد الأمر إلى برنامج حضاري رشدي كما يذهب إلى ذلك بعض المهتمين(23)، لكن تلك مسألة تحتاج إلى فحص شديد ونظر عويص نتركه لمناسبة أخرى إن ساعد العمر والفراغ مع الإشارة إلى أهمية الغزالي بهذا الصدد(24)

ذهوامــش

1 - نقول أساسا إن ابن رشد كما هو معلوم لدى المتخصصين سيكتب شروحا لا على أرسطو فقط ولكن أيضا على أفلاطون وبطليموس وابن سينا والغزالي…

2 - لا نريد تزجية الوقت في مسألة تشابك عمل الشرح بمعناه العام وفعل التفلسف لدى ابن رشد ومعظم فلاسفة الإسلام لما أفرزته التطورات المنهجية المعاصرة في مجال الدراسات الإنسانية خاصة منها علوم اللغة والنقد الأدبي حيث ينظر إلى الترجمة والشرح باعتبارهما قراءة خاصة للنصوص الأولى وإبداعا لنصوص موازية لها.

3 - عبد الواحد المراكشي، المعجب، نشرة "م.سيعد العريان" و"م.العربي العلمي"، دار الكتاب البيضاء، ط7، 1978، ص 354.

4 - نستعمل كلمة شرح هاهنا بالمعنى العام لا بمعناها الرشدي الدقيق إذ من المتعارف بين العارفين بالمتن الرشدي أن الشرح لدى أبي الوليد جنس منم أجناس قراءته لنصوص أرسطو إلى جانب المختصر والجامع والتلخيص والمقالة…

جمال الدين العلوي، المتن الرشدي، دار توبقال، البيضاء، الطبعة الأولى 1986، وذلك على امتداد الكتاب بكامله.

5 - جمال الدين العلوي، ن، ص 219.

6 - ابن عذاري، البيان المغرب، قسم الموحدين، تحقيق: م.إ. الكتاني، م.زنيبر، م. بن تاويت، عبد القادر زمامة، دار الغرب الإسلامي، بيروت-دار الثقافة، البيضاء، ط1، 1985، ص 80-164.

7 - دوبور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة عبد الهادي أبو ريدة، دار النهضة العربية، بيروت، ط5، 1981، ص 384.

8 - دولاسي أوليري، الفكر العربي ومركزه في التاريخ، ترجمة إسماعيل البيطار، در الكتاب اللبناني، بيروت، 1982، ص 213.

9 - دومينيك أوروفوي، الفكر الموحدي في أعمال ابن رشد، ندوة ابن رشد المتعدد (بالفرنسية) دار الآداب الجميلة، باريس 1978، ص 52.

10 - جمال الدين العلوي، المتن الرشدي، م.س، ص 61-68-234-237.

11 - تلك مسألة نأمل أن تتاح لنا الفرصة لنخصها بقول مفرد ومفصل.

12 - ابن رشد، الرسائل الطبية، تحقيق جورج شحاتة قنواتي وسعيد زايد، تصدير إبراهيم مذكور، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987،ص389.

13 - نقلا عن المرحوم جمال الدين العلوي، المتن الرشدي، م.س، ص 98

14 - ذلك ما يذهب إليه ضمن تحقيقه للضميمة وفصل المقال، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الكبعة الثانية 1981، ص 74.

15 - ابن رشد، الضميمة، م.س، ص 74

16 - ج.غ. غرانجي، من أجل المعرفة الفلسفية، (بالفرنسية)، مطبوعات أوديل جاكوب، يناير 1988، ص:10.

17 - ابن رشد، شرح السماء والعالم، مخطوط المكتبة الوطنية بتونس، ورقة 83.

18 - يمكن اعتبار سنة 552هـ الفترة التي بدأ فيها هذا المشروع بكتابة ابن رشد لمختصر المستصفى وغيره من مختصراته باستثناء مختصر كتاب النفس في حين يرجع تأليف ضميمة العلم الإلهي إلى حوالي 574هـ.

يمكن بهذا الصدد مراجعة جمال الدين العلوي، المتن الرشدي، م.س، ص 49-55 وأيضا 95-97، كما يمكن مراجعة الرسالة التي أنجزتها تحت إشرافه لنيل دبلوم الدراسات العليا بكلية الآداب فاس في موضوع "مكانة الغزالي في فلسفة ابن رشد".

19 - ابن رشد، تلخيص السفسطة، تحقيق محمد سليم سالم، دار الكتب القاهرة، 1973، ص 177.

20 - ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، تحقيق موريس بويج، دار المشرق. لبنان بيروت، الطبعة الثانية 1967، الجزء الثالث، ص 1405.

21 - ابن رشد، م.م.س، ج1، ص 10.

22 - ورد هذا الوصف لدى الأستاذ طه عبد الرحمان في كتابه "تجديد المنهج في تقويم التراث" المركز الثقافي العربي. البيضاء، الطبعة الأولى 1994، ص 277، الهامش 25.

23 - نايف بلوز، الإيديولوجيا وعلاقة الله بالعالم في فلسفة ابن رشد، مجلة دراسات عربية، عدد ديسمبر 1978، ص 34.

24 - يعتبر الغزالي مركز انطلاق القول الفلسفي في إشراقته الأولى كما دافعنا عن ذلك في رسالتنا المشار إليها سابقا.