حول تجربة "دفاتر فلسفية"
محمد طواع
لا
زال الأستاذان محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي يواصلان إصدار أعداد
"دفاتر فلسفية"، التي أعلنا عن الفكرة التي كانت وراء إعدادها منذ
الدفتر الأول الخاص بالتفكير الفلسفي.
يهمنا
تأمل هذه الدفاتر من حيث إنها "تجربة في الترجمة" تتميز بكونها ترجمة
للنص المجتزأ. نقول ذلك لأن الأستاذين ينشغلان أيضا بصنف ترجمة "النص
المتكامل" الذي هو عمل للمفكر الواحد. ونحن نعرف أنه شتان بين معاناة النص
المجتزأ من حيث شروط اجتزائه عن النص-الأم، وشروط ترجمة النص كعمل متكامل. وهي
التجربة التي تمكن صاحباها من التفكير في ترجمة الفلسفة وفلسفة الترجمة في الآن
نفسه.
لقد
تحقق من هذا الإنجاز العدد السادس الذي يحمل عنوان "الحداثة"، وهو
الدفتر السادس الذي جاء بعد جهد كبير من الترجمة والإعداد كان وراء ميلاد دفاتر
سابقة كدفتر "التفكير الفلسفي" و "الطبيعة والثقافة" و
"المعرفة العلمية" و "الحقيقة" و "اللغة". وهذا على
أساس أن مشروع إصدار هذه الدفاتر لا زال متواصلا بحيث إن هناك قضايا أخرى فلسفية
تنتظر دورها في الإعداد والترجمة كقضايا "السلطة" و "الرمز
والخيال" و "التقنية"، على أن يتوج هذا المشروع بدفتر حول
"الترجمة" قضاياها وأسئلتها الكبرى و رهاناتها على مستوى نقل المرجعيات
النظرية التي تمكن من الاقتراب من أسئلة أصبحت طارحة نفسها على الساحة الفكرية
عندنا.
ما
يمكن ملاحظته، هو أن هذا العمل يعي أهدافه وحدود منهجيته، إذ نجده على مستوى
الأهداف، يطمح إلى تقريب مجموعة من القضايا الفكرية المطروحة للنقاش في ساحة الفكر
من حيث أسسها الفلسفية. وهو هدف يقدم أساسا على الشعور بضرورة توفير نصوص مدارها
هذه القضايا الكبرى في المكتبة العربية، هذا من جهة، وتمكين المشتغلين بالفكر من
النصوص ذاتها من جهة ثانية. هذا فضلا على كون هذه النصوص في حد ذاتها لا تمثل سوى
مادة أولية للتفكير.
أما
متأمل هذه النصوص لمن شأنه أن يقتنع بأنها أداة لتقريب الجهاز النظري المرجعي
لمجموعة من القضايا التي شكلت، مع الفكر الغربي الحديثة والمعاصر، قضايا قد تختزل
في النهاية إلى إشكالية واحدة، وهي إشكالية التأسيس للعقل والعقلنة كأساس لبناء
إقامة البشر على وجه الأرض مجتمعا ودولة وقيما وكمرجع له. هذا ما يجعلنا نعتقد أيضا
أن هذا العمل، الذي يبدو في شكله الخارجي على أنه مجرد إعداد وترجمة لنصوص صامتة،
لهو في الحقيقة التعبير الفعلي، وبقدر المستطاع، عن وعي يحمله المثقف الحداثي
ليجسد، من خلاله، وبالملموس جزءا من رسالته أمام مجتمعه، الرسالة التي تروم فلح
التربة لتبييئ الفكر العقلاني والمرجعيات النظرية لاستنبات مبادئ المجتمع المدني
الذي كان وراء ميلاد المثقف الحداثي نفسه.
ورب
قائل يقول، وما شأننا والحداثة؟
فنقول،
إن الحداثة، ليست مجرد لفظ أو مفهوم ذي بعد زماني وأسس فلسفية، وإنما الحداثة هي
أكثر من كونها كذلك، إنها قدر العصر من حيث هو قدر أنطولوجي جارف سوف لا يستثني من
قبضته وجبروته التقني أي أفق من الآفاق والفضاءات. ذلك لأن الحداثة
"مترحلة" تريد لجميع المجتمعات أن تدمج، وبالقوة، تحت معاييرها وقيمها.
وإلا كيف سنفسر مشكلة "الصدمة" التي تعيشها المجتمعات إما من أجل التكيف
مع مطالب الحداثة أو مقاومتها. ولكن هل للأفراد من قوة لمقاومة القدر التاريخي
الجارف من أجل عقل حسابي أذاتي كلياني؟
هذا
سؤال يصعب على العالم أن يطرحه، لأنه إذا ما قام بذلك سيتحول على التو إلى فيلسوف.
من هنا فالأسئلة المتعلقة بقدر مشروع تحديث العالم أسئلة تستدعي الفلسفة بالضرورة
من أجل التفكير في الأصول والأسس، أصول الحداثة وأسسها. ومجموع النصوص التي ترجمت
وتم إعدادها هي من أجل المساعدة على ذلك.
أما
على مستوى منهجية العمل، فنلاحظ أنها منهجية توثيقية-بيداغوجية نهضت على عملية
تحديد عنوان القضية الفكرية الكبرى أو اسمها، وعملية جرد مجموعة من النصوص التي
تمكن من ملامسة الإشكالات الفلسفية التي تندرج تحت هذه القضية الفلسفية الكبرى.
وبهذا يبتعد هذا العمل الترجمي على مستوى الإعداد على نمط المعالجة الواحدة، ويروم
تبيان مختلف تمفصلات زوايا الإشكال الواحد، منظورا إليه بعيون مختلفة وأصوات
متقاطعة أو منظورا إليه من زوايا مختلفة من النظر.
بناء
على ذلك، يتضح أن مسألة إضاءة الإشكال الواحد هي التي توجه العمل من حيث الإعداد
والتوثيق. غير أننا نلاحظ أن هذا العمل يعي حدوده ومظاهر قصوره كتجربة تريد ترجمة
نصوص مجتزأة لتأثيث قضايا فلسفية. ذلك لأن الإشكال الذي يطرح، يتعلق بمشروعية
الاجتزاء وشروط إمكانه. لذا ينبه المترجمان إلى ضرورة العودة إلى المرجعيات
الأصلية التي تمثل سياق النص ونسيجه الفكري المتكامل، حتى تكتمل صورة الجانب الذي
يعرضه النص من الإشكال ويحاول إضاءته. ولعل من شأن هذا التنبيه أن يجعلنا نتلمس
إحدى الصعوبات المنهجية التي تعترض عملية ترجمة النصوص وفعل اجتزاءها من مرجعيتها
الأم، هذا من جهة، أما من جهة أخرى لعله يشير إلى أنه يتعين أن نتحدث عن أشكال
مختلفة للترجمة. ذلك لأن مطالب الترجمة التي تشتغل على نصوص مجتزأة ليست هي
المطالب نفسها بالنسبة للعمل الترجمي الذي يشتغل على نص متكامل. الشكل الأول يؤرقه
انسحاب السياق الفكري وتواريه أمام عين المتلقي، هذا في حين أن الشكل الثاني يضطر
معه المترجم إلى تبرير قيمة النص ككل. الترجمة الأولى نصوصها وظيفية بالأساس، أما
الترجمة الثانية، ترجمة النص المتكامل، يغلب عليها هاجس تحقق مطالب "ترجمة
الفلسفة".
نلاحظ
كذلك أن الهاجس البيداغوجي لترجمة النصوص المجتزأة بالشكل الذي تم إعدادها في
"دفاتر فلسفية"، هو ما كان وراء التعامل مع النصوص نفسها باعتبارها
"عيونا" لا تنظر بنفس الكيفية والقدرة، و "أصواتا" تتقاطع
بصدد القضية الواحدة. وهو الهاجس الذي يجعلنا ندرك أهمية جدل النصوص وحوارها داخل
الإشكال الواحد، الشيء الذي يفسح المجال للإحاطة بمنظورات فكرية متباينة تتيح
إمكانية المعالجة المتباعدة للمواقف والآراء وتقويمها تقويما نقديا.
هذا
مع الإشارة، في الأخير، إلى أن هذه الورقة لم تتجاوز حدود التقديم، وذلك وعيا منها
بأنه لا ينبغي أن نستبق الأحداث، ونطرح أسئلة تتعلق "بما لم يرد في الدفاتر
الفلسفية". ومرد ذلك أن طريق الشروع لا زال طويلا، ومحطاته المتبقية شائكة
جدا، وخاصة ما يتعلق بقضية "الترجمة". ذلك أن المترجمين سيجدان نفسهما،
وهما يهيئان الدفتر الذي سيخص أمور الترجمة وصناعتها، يصفان عملهما الترجمي،
بمعاناته وأسئلته التي كابدوها، في الوقت الذي يترجمان نصوصا حول إشكالات الترجمة
المتعددة المستويات، رهاناتها وحدود طموحها من حيث الإنصات لأصوات النص ومحاولة
السك بإشعاعات كلماته وظلالها، من أجل نقلها إلى اللسان العربي.
وفي
انتظار "دفتر الترجمة" لنا أسئلة لا بد من أن تنتصب أمام كل فعل ترجمي:
كيف يمكن أن نفكر في الترجمة باعتبارها إنصاتا للكلمة وتأويلا لها، خاصة وأن
التداخل قائم بين الإنصات والفهم والتأويل؟
إذا
ما أنصتنا إلى مطلوب هذا السؤال، هل يمكن للترجمة أن تختزل إلى مجرد مجهود من أجل
إيجاد الصيغ اللفظية المناسبة للمعاني المنقولة عن صيغ لفظية غيرها؟ ثم كيف يمكن
للترجمة أن تنقل "بأمانة" وهي عملية تقوم على الفهم، وأن كل فهم هو فعل
تفكيري تأويلي بالضرورة؟