عملية لا
تقبل الرجعة
وإلا، فإلى
"أين" سيكون الرجوع؟
محمد عابد
الجابري
قوام هذا الحديث
فقرات، ننقلها هنا بالحرف الواحد، من نص مداخلة ساهمنا بها في ندوة عقدت بمدينة وهران
أيام 1-2-3 أكتوبر من سنة 1988، حول موضوع: "تكوين الدولة الحديثة في أقطار
المغرب العربي". وقد نشرت هذه المداخلة كاملة في كتاب لنا بعنوان: "المغرب
المعاصر: الخصوصية والهوية… الحداثة
والتنمية". صدرت الطبعة الأولى منه عن مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر. الدار البيضاء
نوفمبر 1988. أما لماذا الرجوع إلى نص مرت عليه عشر سنوات، وفي هذا الوقت بالذات،
فذلك ما سيدركه القارئ بنفسه وهو يتقدم نحو خاتمته التي هي بنت الساعة.
(…) "يتميز
الوضع في المغرب المعاصر، مغرب ما بعد إلغاء معاهدة الحماية سنة 1956، بوجود
"مجال سياسي" تفتقده، أو استغنت عنه أو ألغته، معظم الدول التي في مثل
وضعيته التاريخية، وضعية الدولة المستقلة حديثا. ويتمثل هذا المجال السياسي
في وجود التعددية السياسية والنقابية والاعتراف بها بل وتكريسها، وأيضا في وجود
قوانين وتشريعات تنظم هذه التعددية وتضمنها سواء في مجال الفكر أو السياسة. وهكذا
فإلى جانب الأحزاب والنقابات والجمعيات والصحف المعارضة، هناك أيضا مؤسسات
"منتجة"، محليا ووطنيا… ولا يتعلق الأمر
بمجرد مجال سياسي صوري شكلي، بل لقد تميز الوضع في المغرب المعاصر بوجود معارضة
نشطة معترف بها تمارس ضغوطا، بهذا الشكل أو ذاك، في هذا الاتجاه أو ذاك، وتقوم
بمهمة "التوسط" بين الحاكمين والمحكومين، بل بدور المحرض حينا
و"صمام الأمان" آخر.
"ومع
ذلك، فإنه لا أحد يستطيع الادعاء بأن هذا المجال السياسي "الحديث"
القائم في المغرب يمارس وظيفته بصورة كاملة ومتواصلة، بل إن جميع من يتتبعون تطور
الأوضاع السياسية في هذا البلد يلاحظون أن المجال السياسي "التقليدي"
كثيرا ما ينوب عن المجال "الحديث": ينوب عنه ليس في فترات غيابه وحسب،
بل حتى في أوقات حضوره و"ازدهاره". وإذا نحن أردنا استعمال عبارة، أصبحت
الآن رائجة في الخطاب السياسي، عبارة "صنع القرار"، فإنه يمكن القول: إن
القرار السياسي في المغرب قلما يصنع، بل ربما لا يصنع البتة، في المؤسسات السياسية
"الحديثة" المختصة، من برلمان ومجالس حكومية، بل يصنع في الغالب خارجها.
ولا يعني هذا أن القرار السياسي بالمغرب يصنع دوما خارج "السياسة"، بل
إن الذي يحدث هو أن القرارات التي تكتسي أهمية خاصة تتخذ بعد مشاورة وحوار، أو على
الأقل بعد "مخابرة" مع القوى الوطنية السياسية، ولكن لا على ساحة
المؤسسات السياسية الرسمية بل في إطار ما نطلق عليه هنا: "المجال السياسي
التقليدي".
"هناك
في المغرب، إذن، نوع من الازدواجية والتداخل بين مجال سياسي تقليدي وآخر حديث:
الأول مضمون بجون شكل، والثاني شكل بدون مضمون. والحياة السياسية في المغرب
المعاصر تقوم كلها
على هذه المفارقة. ومهمتنا
في هذا الحديث أن نجلو أصول هذه المفارقة وعوامل استمرارها فيما إذا كان من الممكن
أن تستمر طويلا لفترة أخرى".
***
"لربما
كان المغرب هو الوحيد من بين الدول العربية والإسلامية الذي ظل فيه المجال السياسي
الإسلامي "التقليدي" قائما، منذ أن بدأ تقنين هذا المجال في التجربة
الحضارية العربية الإسلامية، أي منذ العصر العباسي الأول الذي كان عصر تدوين
وتقنين وترسيم، وهو نفسه العصر الذي قامت فيه بالمغرب دولة مستقلة عن الخلافة
العباسية، دولة الأدارسة. ومنذ ذلك الوقت والدولة في المغرب (دولة المرابطين ثم
الموحدين ثم المرينيين ثم السعديين ثم العلويين، وقد كانت دائما مستقلة عن الخلافة
المركزية، عباسية كانت أو فاطمية أو تركية عثمانية)، تلتمس الشرعية لنفسها من خلال
نظام "البيعة" في صورته الإسلامية: بيعة "أهل الحل والعقد"
الذين تحددت هويتهم، تاريخيا في المغرب، وبصورة عامة، كما يلي: العلماء، والأعيان
(تجار وأشراف…) ورؤساء الحرف وشيوخ القبائل. فـ"(= سلطان، ملك) لا يصبح
حكمه مشروعا، سواء انتزع السلطة بسلاحه وشوكته أو آلت بالوراثة وولاية العهد، إلا
إذا حصل على البيعة: بيعة خاصة مكتوبة وممضاة من طرف أهل الحل والعقد أو من ينوب
عنهم، وبيعة عامة هي عبارة عن قدوم وفود المناطق والقبائل للتهنئة وإعلان الولاء(…).
"لقد
خضع الحكم في المغرب، إذن، منذ قيام دولة مستقلة فيه على عهد الأدارسة (القرن
الثاني للهجرة) إلى مستهل هذا القرن، حينما فرضت عليه الحماية الفرنسية سنة 1912،
لنظام البيعة هذا، الذي كان عبارة عن مجال سياسي فعلي هو ما ندعوه هنا بالمجال
السياسي "التقليدي": وقد كان "تقليديا بمعنيين: فمن جهة كان تقليدا
يتبع، إذ لا بد من البيعة سواء كان السلطة قد انتزعها الأمير بالقوة أو انتقلت
إليه بالعهد والوراثة(…) ومن جهة ثانية
كان هذا التقليد المتبع جامدا جمود التقاليد، وأيضا جمود الأوضاع الاجتماعية التي
كان يمارس فيها. فهو
لم يعرف أي تجديد لا في الشكل ولا في المضمون إلا في منتصف القرن الماضي حينما
أصبح التدخل الاستعماري يهدد استقلال البلاد.
"والحق
أن هذا الطابع التقليدي المزدوج الذي طبع المجال السياسي في المغرب لم يجعل منه
مجرد مجال شكلي خال من أية وظيفة، بل بالعكس لقد تنامت واتسعت وظيفة هذا المجال
التقليدي عبر العصور. وهكذا،
فإضافة إلى عقد البيعة، هناك الفتوى التي يطلبها "الأمير" من العلماء،
كلما جد جديد في الشؤون العامة والوطنية. وهناك
"الاستفتاء"، أي الاستشارة الواسعة التي يطلب "الأمير"
بواسطتها رأي جميع من له صفة تمثيلية ما، من علماء وتجار وأعيان ورؤساء الحرف
وشيوخ القبائل الخ… وهناك أيضا النصيحة/النقد والاعتراض بل والتمرد أحيانا. وقد مارس
ذلك علماء وشيوخ
وأعيان ضمن المجال السياسي التقليدي هذا(…).
***
"وهكذا
عرف المجال السياسي "التقليدي" في المغرب ابتداء من أواخر القرن الثامن
عشر(…) تطورات هامة كانت في جملتها عبارة عن ردود فعل وطنية على فصول
مسلسل من التردي المشار إليه، تطورات يمكن إجمالها في ثلاثة عناصر هي: البيعة
المشروطة، المطالبة بالإصلاح السياسي والدستور والتمثيل النيابي، ثم اللجوء إلى
الاستشارة الشعبية والانتهاء بتأسيس مجلس شوري للأعيان. (وقد جاءت معاهدة الحماية
الفرنسية 1912 لتجعل حدا لهذه التطورات التي فصلنا القول فيها في المقال المشار
إليه وليدخل المغرب مرحلة أخرى من تاريخه).
***
(…) "وإذا نحن
أردنا الآن أن نلخص في كلمات مجمل التطورات التي عرفها المغرب في الميدان الذي
يهمنا هنا، منذ القرن السادس عشر، أي منذ أن صار مستهدفا من طرف حركة التوسع
الأوربية الاستعمارية بأشكالها المختلفة، العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية
والسياسية، إلى أن فرضت عليه فرنسا حمايتها سنة 1912، أمكن القول إنه بالرغم من
"عزلة" المغرب التي كانت تزداد بازدياد التوسع الأوربي، فإن المسار
العام الذي سلكته الأمور فيه كان يتجه، ببطء فعلا، ولكن بإصرار ومثابرة، نحو إقرار
نوع خاص من "الحداثة السياسية"، يتم تشييده ليس خارج المجال السياسي
"التقليدي" وضدا عليه وبالقطيعة معه، كما كان الشأن في أوربا، بل بالعمل
في إطاره من أجل تطويره من الداخل(…).
"وستظل
هذه الظاهرة، ظاهرة بقاء "الحداثة السياسية" في المغرب تتحرك داخل
المجال السياسي التقليدي وليس بالقطيعة معه، ستظل تطبع الحياة السياسية في المغرب
إلى حد كبير، سواء خلال فترة الأربعين سنة من الحماية أو فترة الثلاثين سنة التي
مرت لحد الآن (= 1988) على استقلال المغرب (ويمكن أن نقول الأربعين سنة التي مرت
الآن 1988 على هذا الاستقلال). ففي عهد الحماية دب النشاط من جديد في المجال
السياسي التقليدي بالمغرب بمجرد ما تبين أن المقاومة المسلحة للاحتلال الفرنسي
والاسباني، سواء في الصحراء أو في جبال الأطلس وجبال الريف، إذا كانت قد نجحت في
تكبيد قوات الاحتلال خسائر فادحة وتأجيل فرض سيطرتها على كافة أنحاء البلاد، فإنها
مضطرة إلى وضع السلاح تحت ضغط تعاون الدولتين المحتلتين وتكريس كل طاقتهما لحسم
الموقف لصالحهما. وهكذا فما أن انتهت الثورة في الريف باستسلام زعيمها الأمير محمد
بن عبد الكريم الخطابي حتى بدأ تتحرك في المدن الرئيسية جماعات من الوطنيين الشباب
الذين استأنفوا "الحرب" ضد المستعمر بواسطة السياسة، موظفين ما سمحت به
سلطات الحماية من مظاهر "الحداثة السياسية" التي نقلتها إلى المغرب: جمعيات،
قدماء المدارس، صحف، أحزاب الخ(…)
***
"نعم كان
هناك، طيلة هذه الفترة، فترة الأربعين سنة من الحماية، تمييز واضح بين المخزن
(حكومة السلطان التي لم تكن لها سلطات فعلية) وبين الحركة الوطنية. غير أنه إذا
كان قد وجد في رجال المخزن من لم يكن يتعاطف مع الحركة الوطنية فإن العلاقة بين
محمد الخامس وهذه الأخيرة كانت علاقة مباشرة، يطبعها التعاون والثقة المتبادلة،
مما جعل المجال السياسي في المغرب يتميز بما كان يتميز به قبل الحماية، مع هذا
الفارق وهو تحول "العلماء" إلى "زعماء"، وتحول "الأمير"،
من سلطان يقاوم التدخلات الأجنبية بالمناورات السياسية، إلى ملك يطالب بإنهاء
الحماية والاعتراف بالاستقلال، موظفا في ذلك مركزه الوطني والدولي، متحملا الضغوط
الاستعمارية والتضحيات الضرورية.
"وهكذا
فعندما أعلن عن استقلال المغرب عاد المجال السياسي، في جوهره، إلى ما كان عليه قبل
الحماية وأثناءها: إن جيل الوطنيين، سواء منهم الكهول الذين كانوا، من ناحية العمر
والتكوين الثقافي، أقرب إلى محمد الخامس، أو الشباب الذين كانوا أقرب زمنيا وفكريا
إلى ولي العهد مولاي الحسن (الملك الحسن التالي حاليا)، إن جيل الوطنيين
"الزعماء"، هؤلاء الذين خلفوا العلماء، قد مارس السياسة داخل مجال سياسي
واحد، هو استمرار للمجال السياسي "التقليدي" الذي تقوم العلاقات فيه على
أساس من الاتصال الشخصي والثقة المتبادلة والعمل بالتقاليد الموروثة. وهذا ما يفسر
جزئيا على الأقل، تلك المفارقة التي تطبع "الحداثة السياسية" في الدولة المغربية
المعاصرة، المفارقة التي أبرزناها في مدخل هذا الحديث، والتي تتمثل في كون
"القرار" يتم "صنعه" في إطار المجال السياسي التقليدي وليس في
المؤسسات السياسية "الحديثة" من حكومة وبرلمان الخ… ومن دون شك فإن
العامل الخارجي (الأطماع الاستعمارية أولا ثم الحماية ثانيا) الذي كان له دور
أساسي في طبع المجال السياسي في "المغرب القديم" بالطابع الذي ابرزناه،
قد بقي يلعب نفس الدور تقريبا في "المغرب الجديد"، مغرب الاستقلال، وذلك
من خلال العمل الوطني من أجل استكمال عناصر السيادة واستعادة المناطق التي بقيت
محتلة، خصوصا منها الصحراء.
***
تلك
فقرات المقال إليه أعلام
اقتطعناها من بنائه التحليلي التاريخي. لننتقل الآن إلى خاتمة هذا المقال، كما
كتبت في أكتوبر من سنة 1988. تقول هذه الخاتمة:
"وبعد،
فقد أجملنا القول إجمالا حول التطوريات التي عرفها المغرب، سواء على عهد الحماية
أو منذ الاستقلال، لأنها معروفة، والمعلومات عنها متداولة. لقد اكتفينا بالإشارة
والتذكير، مبرزين طابع الاستمرارية التي جعلت المجال السياسي في مغرب الاسقلال لا
يختلف في جوهره، لحد الآن، عن نفس المجال الذي عرفه قبل الحماية وأثناءها. والسؤال
الذي يطرح نفسه ويخص المستقبل يتعلق بهذه النقطة بالذات: ذلك أن مغادرة "جيل
الوطنية المغربية"، الكهول منهم والشباب، الحياة السياسية، سواء بالوفاة أو
بنوع من "التقاعد" -دون أن يكون هناك خلف مثلهم يخلفهم في مهمتهم
التاريخية- سيحدث فراغا، يجعل المجال السياسي "التقليدي" يفتقد
"الصوت الآخر"، وبالتالي الحيوية والفعالية. وإذا أضفنا إلى ذلك أن
قضية الصحراء هي آخر قضية وطنية أمكن توظيفها لبعث الحياة في ذلك المجال، السياسي
التقليدي، أدركنا أي منعطف ينتظر الحياة السياسية في المغرب.
"فهل
سيشق المغرب لنفسه طريقا نحو حداثة سياسية تصبح فيها المؤسسات "المنتجة"
منتخبة فعلا صلاحيات تجعل منها ميدانا لمجال سياسي حديث تمارس فيه عملية صنع
القرار، وبذلك يتحقق التجديد، بل ويتواصل في إطار الاستمرارية؟
"سؤال
نعتقد أن الجواب عنه بالإيجاب تبرره مسيرة التطورات التي عرفها المجال السياسي في المغرب
والتي عرضنا لأهم فصولها في الصفحات الماضية، كما يدعمه اتجاه التطور على الصعيد
العالمي في الوقت الراهن: الاتجاه نحو الديمقراطية. وإذا حدث هذا فإن الدولة
"المعاصرة" في المغرب الأقصى ستغدو معاصرة فعلا، زمانيا وحضاريا، وقد
تسترجع بذلك زمام الريادة، ليس على صعيد المغرب العربي وحسب، بل على الصعيد العربي
والإفريقي عموما"(انتهلى نص 1988).
***
عشر
سنوات مرت
على هذا التحليل. ونحن فضلنا نشر فقرات منه، كما كتبت آنذاك، -مستغنين فقط عن
تفاصيل تاريخية لا يتسع لها حجم هذا الركن- لأننا نشعر أننا لو استجبنا للرغبة التي
حركتنا إلى التفكير في الموضوع، بمناسبة ما أصبح يسمى اليوم في المغرب
بـ"حكومة اليوسفي"، لما كتبنا ما هو أدل -في تقديرنا على الأقل- من هذا
الموضوع قبل عشر سنوات. إن
الرؤية والآفاق التي حكمت تفكيرنا في هذا الموضوع قبل عشر سنوات هي نفسها التي
تحكمنا اليوم. ليس هذا وحسب، بل إن السؤال، سؤال "الحاضر" الذي انتهى به
المقال عام 1988، هو نفسه السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، كسؤال الحاصر الآني، مع
هذا الفارق، وهو أن هذا السؤال كان قبل عشر سنوات سؤالا يطرحه الحاضر على
المستقبل، وبالتالي يعبر عن إمكانية متعددة الوجوه، غنية بما تزخر به من
الإمكانيات التي تتزاحم عادة قبل الاختيار واتخاذ القرار. أما الآن ومع تعيين
"اليوسفي"، فقد تحول هذا السؤال إلى سؤال يطرحه المستقبل على الحاضر.
لقد
رحب الجميع بـ"اليوسفي"، في الداخل والخارج، ليس فقط لما عرف به الرجل
من خصال، لا داعي لتعدادها أو وصفها، بل أيضا لأنه هو الآن الشخص الذي يرى فيه
الجميع أنه المؤهل أكثر من غيره لتشخيص عملية الانتقال التي يطرحها السؤال الآنف
الذكر. بعبارة أخرى: إن جميع من يفكرون في مستقبل المغرب بذاكرة وطنية، يجدون
أنفسهم مدفوعين إلى التطلع إلى مغرب القرن 21، وهو في حال تسمح للمحللين والمؤرخين
بالقول بعد عقد أو عقدين من السنين: إنه المغرب الذي أرست دعائمه إرادة العقلاء
المنزهة تصرفاتهم عن العبث.
***
قلنا في التقديم الذي صدرنا
به هذا الحديث، القديم الجديد، إنه فقرات من نص مداخلة ساهمنا بها في ندوة عقدت
بمدينة وهران بالجزائر أيام 1-2-3 أكتوبر من سنة 1988، حول موضوع: "تكوين
الدولة الحديثة في أقطار المغرب العربي". كانت الندوة من تنظيم معهد علم
الاجتماع بجامعة وهران. وقد زخرت بمداخلات عديدة قيمة قدمها الإخوة الأساتذة
الجزائريون.
فما
الذي
قالوه آنذاك عن مستقبل التطورات في الجزائر؟
لم يكن هناك تحليل تاريخي
من النوع الذي قدمناه عن المغرب لأن للجزائر تاريخ آخر: تاريخ المغرب يعمره
الماضي، يزاحم الحاضر وينافسه. أما
تاريخ الجزائر فيعمره الحاضر الذي يقدم نفسه كـ"قائم مقام" الماضي، إذا
صح التعبير. كان
يتوقع ما حدث يوم 5 و6 أكتوبر 1988، أي بعد 48 ساعة فقط من انتهاء الندوة. إنه
الانفجار التاريخي الذي سجل في التاريخ المعاصر للشقيقة الجزائر نهاية مرحلة
وبداية أخرى. والبقية معروفة.
عندما تطورت الأمور في
الجزائر إلى ما تعاني منه، منذ سنوات، جرى بيني وبين المرحوم باهي حديث حول
الموضوع -قبل وفاته ببضعة أشهر- أذكر منه هذه العبارة. قال متسائلا بحيرة وقلق:
"لا أدري هل جزائر اليوم تقع وراء المغرب أم هي أمامه"؟
لم
أرد عليه بشيء، آنذاك.
وما كان بإمكاني أن أجيب بشيء يعبر عن قناعة. فكل الاحتمالات كانت ممكنة. أما
اليوم فأستطيع أن أقول: ليس من المعقول ولا من المقبول أن يعيش المغرب
"السيبة" مرتين، لقد عاشها في نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن. لقد
انتهى عهد "السيبة" آنذاك إلى نتيجة منطقية تاريخية، وهي الحركة
الدستورية التي سبقت فرض فرنسا حمايتها على المغرب. إن الحركة الدستورية التي
عرفها المغرب في بداية هذا القرن، على عهد السلطان عبد العزيز خاصة، كانت، بمعنى
ما من المعاني، البديل التاريخي لفوضى "السيبة". كانت إعلانا عن الشعور
بضرورة الانتقال من مجتمع القبيلة والزاوية والطائفة إلى ما نسميه اليوم
بـ"المجتمع المدني".
أربعون سنة من
الاستعمار/الحماية، وأربعون سنة تلتها بسلبياتها وإيجابياتها. والمغرب اليوم يدخل عهد ما
يطلق عليه اسم "التناوب". لا مشاحة في الأسماء، فالمضمون التاريخي يفرض
نفسه. إن عملية تعيين "اليوسفي" عملية لا تقبل الرجعة، وكما يقال
بالفرنسية: IRREVERSIBLE،
وإلا فإلى "أين" سيكون الرجوع؟
ليعمل
الجميع إذن، على تدارك ما فات، وقد فات وقت طويل. إن الكتلة التاريخية التي نادينا
بها منذ سنوات، أصبحت الآن أقرب إلى الإمكان من أي وقت مضى. قد لا يتطلب الأمر سوى
تعديل وزاري بسيط، لكن وراءه إرادة سياسية مصممة: مصممة على الدخول في القرن 21 من
على شرفات نهاية القرن العشرين، كما يعيشها الشعب المغربي الآن، وقد انبعث فيه
الأمل، وليس بتكرار ما عرفه في نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن.
أقول
للباهي الآن: أنا متفائل. فـ"الجزائر" وراءنا وليست أمامنا. إنها تعيش
عهد "السيبة" فيها. وقد عشناه قبلها. وغدا ستتخلص الشقيقة من
المحنة/ العبث الذي تعاني منه، وسنلتقي على صعيد واحد، يدا في يد، لبناء المغرب
العربي، بجدية هذه المرة.
هل من اللائق أن أنقل إلى
المرحوم باهي، أو إلى أي مغربي آخر فارقنا تاركا ذاكرته الوطنية أمانة في أعناقنا،
جوابا مغايرا؟