ص1      الفهرس    المحور 

 

عشر حقائق عن الواقع الإعلامي العالمي السائد(*)

يحيى اليحياوي

I - الحديث عن الواقع الإعلامي العالمي في ظل العلاقات الدولية الحالية، أو الحديث عن البعد الإعلامي للعلاقات الدولية السائدة حاليا حديث شائك ومعقد. والحقيقة أنه لو كان لي أن أتحدث في هذا الموضوع خلال حقبة السبعينات أو ما قبلها بقليل لكان الأمر أهون ولنقل أقل تعقيدا وتشعبا.

هناك، على الأقل، ثلاثة أسباب تجعل الحديث في هذا الموضوع حاليا معقدا ومتشابكا:

*السبب الأول ويتعلق بالطابع الاستثنائي للثورة التكنولوجية التي يعيشها العالم -منذ بداية الثمانينات- لا فيما يخص التقنيات الحيوية أو تقنيات تخليق المواد واستنباط مواد جديدة فحسب، ولكن أيضا وبالخصوص فيما يتعلق بثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال وتطبيقاتها المتعددة في معظم ضروب الاقتصاد ولربما أغلب مشارب الحياة… والفكر؛

*السبب الثاني ويرتبط أساسا بالتحولات المؤسساتية والتقنينية الكبرى التي نتجت عن الثورة التكنولوجية وكرست -في بين ما كرست له- تغليب قيم السوق والليبرالية والخوصصة وغيرها، وتشكيل ما اصطلح على تسميته بنهاية التاريخ ونهاية الجغرافيا بانتصار الليبرالية والرأسمالية على قيم اعتبرت -في تبعاتها وامتداداتها- تكريسا للشمولية والديكتاتورية والفكر الكلياني.

 

*السبب الثالث ويحيلنا إلى ما جاءت به ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال والتحولات المؤسساتية المصاحبة لها من معتقدات جديدة أريد لها أن تكون عقيدة نهاية القرن وفكر القرن المقبل: عقيدة العولمة والمجتمع الإعلامي الكوكبي ومجتمع الإعلام والاتصال ومجتمع المعرفة.

هذه المعطيات الثلاثة -في قراءتي الخاصة- هي التي ستحكم -على الأمدين القصير والمتوسط- وبقوة العلاقات الدولية لا فيما بين دول الشمال ودول الجنوب فحسب، ولكن أيضا وبالخصوص بين دول الشمال فيما بينها.

ولعلنا لن نبالغ البتة لو قلنا إن الضحايا الجدد سيكونون من الذين لم يعوا بعد فلسفة هذا النظام المتشكل والغير مستقر أو الذين لا يملكون القدرة على رفع تحديات الوضع الجديد والمقبل: في مقدمة هؤلاء الضحايا ستكون دول العالم الثالث، سيما وقد فقدت مؤسسات السبعينات (واليونسكو بالأساس) قدرتها التجنيدية، وجل طروحاتها التي مأسست -لأكثر من عقد من الزمن- للقاعدة وللمركز في العلاقات الإعلامية الدولية إن لم يكن على مستوى الممارسة فعلى الأقل على مستوى الخطاب، مستوى الأدبيات. وقصد القول أن كل أطروحات اليونسكو أو معظمها عن لا توازن العلاقات الإعلامية الدولية وتدفق الخبر وضرورة وضع أسس نظام إعلامي عالمي جديد، قد أصابها التقادم وتجووزت حتى وإن كان طرحها ولا يزال منصفا وعادلا، وبالتالي فلم تعد اليونسكو نفسها متحمسة لطرح لم يجلب لها إلا انسحاب دولتين كان لهما أكثر من ربع ميزانيتها.

لن أغوص هنا في التأريخ لأدبيات سريان الخبر على المستوى الدولي، ولا في أدبيات النظام العالمي الإعلامي الجديد، ولا في الأدبيات الأخرى التي سادت مرحلة السبعينات، وهي كثيرة وكتب حولها الكثير، بقدر ما سأحاول تجديد قراءتها على ضوء ما أسميته بثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال، والتحولات المؤسساتية والتقنينية لمرحلة الثمانينات وما بعد، وكذا على ضوء ما قدمته على أنه عقيدة نهاية القرن وفكر القرن المقبل، فكر العولمة والمجتمع الإعلامي الكوكبي علما بأن طبيعة اللاتوازن الإعلامي التي ميزت العلاقات الدولية لزمن طويل لم تتغير، ووعيا بأن ما كان -إلى عهد قريب- يقدم على أساس كونه مسا بثقافات دول الجنوب وحضاراتها لم يزد إلا حدة ولربما توظيفا.

II - ماذا نعني بثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال التي كثر الحديث حولها وتعددت الكتابات عنها (إلا عندنا)، ورصدت لها المنتديات والمناظرات، واعتمدت فيها التقارير والدراسات؟

أعتقد أن المجال يضيق بنا هنا للوقوف عند جذورها ومساءلة الإطار التاريخي الذي نبعت في ظله ونشأت في خضمه -وهو ما فعلناه في بحوث لنا سابقة- لكننا نرانا مضطرين للوقوف عند أهم تمظهرات هذه الثورة الأساسية ذات التداعيات الضخمة سيما عند: ظاهرة الرقمنة وحتمية الألياف البصرية وامتيازات السعة العالية.

1.2-ماذا نعني بالرقمنة؟ الرقمنة هي عملية الترميز -على شكل بتات من 0 و 1- لكل المعلومات والإشارات المزمع إرسالها عبر الشبكة. بمعنى أن كل الإشارات (من صوت ومعطى وصورة وغيرها) تتحول إلى رموز من عددي 0 و 1 يمكن للشبكة أن تقضمها كوحدات في البث وتستقبلها كرسالة أصلية عند الوصول.

وعندما نقول إن الرقمنة تطور تكنولوجي ذو تداعيات كبيرة فليس لأنها فرضت نمطا استثنائيا لاستغلال ونقل وتخزين جميع أنواع المعلومات المتوفرة، ولكن بالخصوص لأنها مكنت تقارب وتزاوج القطاعات التكنولوجية الكبرى للإعلام والاتصال (من اتصالات وسمعي-بصري ومعلوميات)، وهي قطاعات كانت -إلى عهد قريب- مستقلة ومهنها مختلفة وأسواقها محروسة والفاعلون فيها متنافسون.

بفضل الرقمنة إذن بدأت هذه الفضاءات تتداخل: فتحولت المبدلات الاتصالاتية إلى أجهزة معلوماتية، ووزعت الخدمات السمعية-البصرية بتفاعلية كبيرة (من خلال الفيديو عند الطلب مثلا) واقتربت أجهزة التلفزة من أجهزة الحاسوب، ووصل الهاتف إلى عالم الصورة، إلى غير ذلك.

فالرقمنة وحدت لغة القطاعات الثلاثة وجعلتها تتواصل بسهولة أكبر (مع وجود معايير وأنماط تواصل بطبيعة الحال).

2.2-الرقمنة مركزية إذن، ومركزية أيضا ما حملته تقنيات الألياف البصرية من وضعية غير مسبوقة من ذي قبل في ميداني الإعلام والاتصال.

وامتياز الألياف البصرية قدرتها على تمرير السعة الرقمية العالية للمعطيات بما فيها الصور القارة والمتحركة: فزوج من الألياف البصرية بإمكانه تمرير ما بإمكان 50.000 خط هاتفي تمريره؛ وهي متوفرة وتصنع في المختبرات من الزجاج، ولا تحتاج الدول إلى خوض الحروب أو اللجوء إلى أسواق النحاس لاقتناء المادة الأولية لصناعة الكوابل التقليدية وغيرها.

3.2-وهناك أيضا وصول مبدلات النقل اللاتزامني (أ.ت.م)، وهي إحدى الأشكال السهلة والمبسطة للتبديل بالرزم، مرنة وفعالة (مقارنة بالنقل التزامني)، وتجمع بين امتيازات التبديل الدائري (شفافية الخبر والإرسال الآني) والتبديل بالرزم (تدفق متغير)؛ وهي بهذا تتكيف والتدفق القار أو المتغير، القوي أو الضعيف. هذا بالإضافة إلى ما تمكنه السعة العالية من امتيازات كبرى على مستوى نقل المعطيات: فإذا كانت معاملات الخط الهاتفي لا تتعدى 64 كيلوبتس/الثانية، فإن التلفزة العالية الدقة مثلا تتطلب 140 ميغابتس/الثانية؛ وستتطلب شبكات المستقبل آلاف ولربما ملايير البتات. هذه العناصر التكنولوجية الثلاث مركزية -في اعتقادنا- لا فيما يخص الشبكات الإعلامية والاتصالية الحالية فحسب، ولكن أيضا بالنسبة لشبكات المستقبل، شبكات الطرق السيارة، التي ستكون عبارة عن شبكات من ألياف بصرية شاملة بإمكانها -بفضل الرقمنة- حمل كل الإشارات الرقمية في كلا الاتجاهين وبسعة عالية وذلك حتى المستعمل النهائي.

III - وهذه العناصر مركزية أيضا لأنها هي التي فجرت -من الداخل- القطاعات الثلاث وزاوجت فيما بينها؛ لكنها فجرت أيضا منطق المؤسسات وقواعد التقنين السائدة إلى حدود الثمانينات. وقد رأينا كيف واكبت هذه التطورات التكنولوجية خطاب اللاتقنين أو إعادة التقنين والخوصصة والتحرير وغيرها. وهي العمليات التي طالت كل القطاعات المنظمة شبكيا من نقل جوي وماء وكهرباء وأيضا شبكات الإعلام والاتصال.

والتفسير المروج هو أن الإشكالية التقنينية لم تعد قادرة ولا مؤهلة لتحمل أو مسايرة التطورات التكنولوجية وواقع التدويل الذي تعرفه المؤسسات، وكذا واقع التحالفات الاستراتيجية وضرورات تسريع ميزانيات البحث والتطوير الباهضة، و بالتالي فمن المستحب -في نظر أصحاب هذا الخطاب- تبسيط الإجراءات وتكييف النظام التقنيني، وإعادة النظر في الهياكل والتنظيمات وكذا إعادة الاعتبار لقيم السوق والتنافسية وإدانة منطق الحمائية والاحتكار.

كل هذه المعتقدات تقدم على أنها ضرورية وملزمة لبناء الطرق السيارة وقيام مجتمع الإعلام ومجتمع المعرفة، وهو أمر لربما نعود له في مناسبات لاحقة.

ما يهمنا من عرض هذين المعطيين (معطى الثورة التكنولوجية التي طالت الفضاء الإعلامي والاتصالاتي ومعطى التشكيك في النظام التقنيني) هو القول بأنهما إحدى أهم ما ميز واقع شبكات وخدمات وتطبيقات تكنولوجيا الإعلام والاتصال منذ بداية الثمانينات.

وما يهمنا أيضا كون هذين المعطيين تزامنا وصاحبا ظهور ظاهرة جديدة، وإن كانت أقدمهما سنا، ظاهرة العولمة وإشكالية القرية الكوكبية.

VI - والعولمة مصطلح حديث العهد؛ إلا أنه بقدر ما هو مبهم في محتواه، بقدر ما هي مبهمة أيضا تجلياته وتداعياته، ولربما حتى محدداته الحقيقية.

ونعتبر أنه من المقاربات الجادة والموضوعية لمفهوم العولمة-المقاربة التي اعتمدها الباحث ريكاردو بتريلا، إذ يقاربه بارتباط مع مفهومين آخرين، قريبين منه، سابقين له: مفهومي التدويل وتعدد الجنسية.

يحدد ريكاردو بتريلا التدويل في كونه "مجموعة المسلسلات التي تربط الاقتصاديات الوطنية بعضها ببعض، وهذه المجموعة تحيل إلى مجموعة التيارات التي تربط الوحدات الوطنية المختلفة".

ويحدد مفهوم تعدد الجنسية في كونه "الظاهرة التي نرى فيها الفاعلين الاقتصاديين يوسعون قدراتهم الإنتاجية لوحدات وطنية أخرى".

بينما يرى في العولمة مفهوما أكثر حداثة باعتباره "مجموعة العوامل التي تجعل من عدد كبير من السلع والخدمات تصمم وتتطور وتنتج وتوزع وتستهلك وتصلح وتقيم على مستوى عالمي بدون أن يكون للدول التي تدور هذه العمليات في فضائها قيمة في حد ذاتها. بعبارة أخرى، فالإطار والمرجعيات الوطنية بدأت تفقد تدريجيا من مركزها وقوتها في المستقبل؛ ومعنى هذا أن العولمة هي نتاج منظمات تعولمت هياكلها بفضل استخدام تكنولوجيا الإعلام والاتصال والمواصلات".

ويقول رونيه فاليه إن العوملة "هي مسلسل تكثيف تيارات الأفراد والسلع والخدمات والرساميل، وبموازاة مع ذلك اتساع هذه التيارات إلى كل الكرة الأرضية".

هذا هو الإطار العام الذي يجب -في نظرنا- أن يقرأ في ظله الواقع الإعلامي والاتصالي العالمي، حركية تكنولوجية عميقة وإن لم تكن إلا في بداياتها الأولى؛ إعادات نظر جذرية في الهياكل والمؤسسات التي انبنت بفضلها هذه الشبكات؛ ثم صعود خطاب العولمة والمجتمع الإعلامي الكوكبي كمأسسة نظرية لواقع العلاقات الاقتصادية والتكنولوجية الدولية الراهنة والمستقبلية.

V - لو نحن وظفنا طرح العولمة على العلاقات الإعلامية والاتصالية الدولية، نلاحظ أن ما كان واقعا في ظل طرحي التدويل وتعدد الجنسية لم يزد إلا تكريسا وتعمقا لا بالمعطيات المطلقة فحسب، ولكن أيضا بالنظر إلى العديد من المعطيات النسبية.

هناك -في اعتقادنا- مجموعة من الحقائق المجردة لم تزدها الثورة التكنولوجية والتحولات المؤسساتية وخطاب العولمة الناشئة إلا تعميقا وتكريسا، سأسوقها هنا في عشر حقائق:

*الحقيقة الأولى:العولمة والثورة التكنولوجية والتحولات المؤسساتية تؤرخ -ولربما بالصدف- لسوق إعلامي واتصالي عالمي ضخم.

هذا السوق (ويضم الاتصالات والسمعي-البصري والمعلوميات) قدره المرصد العالمي لأنظمة الاتصال بحوالي 7000 مليار فرنك فرنسي سنة 1995، وهو مستوى يفوق بكثير مستوى سوق السيارات.

ويقدر نفس المرصد هذا السوق بحوالي 9600 مليار ف.ف. سنة 2000 أي بزيادة 37% في ظرف خمس سنوات.

ومعنى هذا أيضا أنه من أصل 1000 دولار كناتج خام عالمي هناك 59 دولار تخلق بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من طرف القطاع الإعلامي والاتصالاتي.

*الحقيقة الثانية: يصل سوق الاتصالات في السوق الدولي للإعلام والاتصال إلى حوالي 2900 مليار ف.ف. مقابل 1500 مليار للسمعي-البصري ومقابل 2600 مليار للمعلوميات. ومن المحتمل أن تتجاوز المعلوميات حصة الاتصالات سنة 2000.؟

وتمثل مجتمعة ما نسبته 6 إلى 7% من الناتج الخام العالمي مقابل 4 إلى 5% لسوق السيارات.

*الحقيقة الثالثة: سيطرة نسبة الخدمات في كل من هذه القطاعات الثلاثة مقارنة بالتجهيزات؛ إذ أصبح -منذ أن استقرت الشبكات- للخدمات والبرامج والتطبيقات حصة أكبر من تلك التي تعود للأجهزة: ففي سنة 1995 مثلت نسبة الخدمات في قطاع الاتصالات حوالي 82% مقابل 18% للأجهزة (بالمعطيات المجردة: حوالي 97 مليار دولار للأجهزة مقابل 450 مليار للخدمات)؛ وفي سنة 1994 مثلت الخدمات في السمعي-البصري حجما متقاربا مع الأجهزة: 158 مليار دولار للخدمات و 137 مليار للأجهزة لسوق سمعي-بصري يقدر بحوالي 295 مليار دولار.

*الحقيقة الرابعة: السيطرة المطلقة للدول الصناعية الكبرى على سوق الإعلام والاتصال الدولي: فالولايات المتحدة وأوروبا واليابان تسيطر سيطرة لا مجال للتشكيك فيها على هذا السوق تناهز الـ 85 إلى 90% لدول "النافتا" فيها حصة الأسد (حوالي 40% في خدمات الاتصالات مثلا)؛ وللولايات المتحدة وحدها حوالي 33% من السوق الدولي للأجهزة السمعية-البصرية، ناهيك عن تفوقها المطلق في ميدان المعلوميات والبرامج التلفزيونية وغيرها.

*الحقيقة الخامسة: بغض النظر عن سيطرة الدول الكبرى، هناك أيضا سيطرة وتمركز لهذا السوق بين يدي أقطابها الصناعية والتكنولوجية العملاقة: فمن أصل 25 صناعيي الإعلام والاتصال -والتي تسيطر على 770 مليار دولار- نجد 9 منها أمريكية، 8 يابانية، 7 أوروبية وواحدة كورية.

*الحقيقة السادسة: التزايد الهائل للمتحالفات الاستراتيجية بين الأقطاب الكبرى: الكل يتحالف مع الكل ضد الكل. يقول بتريلا. فوق دراسة لمؤسسة "أبريديا" هناك حوالي15 تحالفا من هذا النوع أبرمت سنة 1993، 56 سنة 1994 وحوالي 141 خلال الثمان أشهر الأولى من سنة 1995.

كما أن 80% من الاستثمارات المباشرة التي تقوم بها هذه الأقطاب هي عبارة عن شراء للمقاولات ودخول في رساميلها.

هذا التوجه لربما يخال لنا مناقضا لتزايد عدد الشركات المتعددة الجنسيات (7000 سنة 1973، حوالي 37000 سنة 1995)؛ إلا أننا نعتقد العكس، فديناميكية التحالفات هي التي زادت من عدد الشركات المعولمة، وهو أمر سنعود له في وقت لاحق.

*الحقيقة السابعة: كل البوادر المتوفرة حاليا تثبت أن السيطرة لن تزيد إلا تكريسا وتعميقا سيما فيما يتعلق بالشبكات الجديدة كالأنترنيت والاستثمارات الضخمة الموجهة لمشاريع الطرق السيارة وللاتصال، وذلك بغض النظر عن السيطرة التي تميز تقليديا سوق الكتاب والموسوعة والبرامج وغيرها.

ففي سنة 1995، كان هناك حوالي 30 مليون مستعمل للأنترنيت، 154 دولة مرتبطة، 46000 شبكة مرتبطة، ما يقارب 5،3 مليون وحدة معلوماتية مرتبطة، ونسبة نمو الشبكة يقدر ما بين 10 إلى 15% سنويا.

وهناك أيضا هيمنة أمريكية على هذه الشبكة: في يوليوز 1996 وصلت الحواسيب المرتبطة بشبكة الأنترنيت حوالي 8250000 حاسوب بالولايات المتحدة، مقابل 190000 بفرنسا 550000 بألمانيا و 500000 باليابان. في حين لم يكن لإفريقيا مجتمعة سنة 1995 إلا 27000 جهاز حاسوب مرتبط بالشبكة لجمهورية جنوب إفريقيا حصة الأسد فيها.

ونسبة تجهيز المنازل بالحواسيب الشخصية التي من المحتمل أن ترتبط بشبكة الأنترنيت لا تتعدى سنة 1995، 14% بفرنسا مقابل 20% ببريطانيا، 30% بألمانيا، في حين تصل هذه النسبة إلى حوالي 40% بالولايات المتحدة. كما أن التوزيع الجغرافي لنظام الويب المالي يعطي للولايات المتحدة 48% مقابل 37% لأوروبا، 6% لأمريكا اللاتينية، 5% لآسيا، 2% لأسبانيا و2% لإفريقيا.

*الحقيقة الثامنة: مستويات البحث والتطوير في ميدان الإعلام والاتصال مرتفعة، فحتى في غياب معطيات مدققة (وهي غالبا ما تكون سرية)، فإن معظم الفاعلين في القطاع يخصصون تقديريا ما بين 3 إلى 4% من مبيعاتهم للبحث والتطوير وذلك حتى في ظروف الأزمة والتقشف وإعادة الهيكلة. ففي ميدان المعلوميات مثلا يصل مستوى الاستثمار (من الناتج الإجمالي الخام) إلى حوالي 8،2% بالولايات المتحدة مقابل 35،2% ببريطانيا، 72،1% بألمانيا، 67،1% لفرنسا (السنة 1995).

*الحقيقة التاسعة: كل العناصر المكونة لهذه التكنولوجيا والخدمات والبرامج والتطبيقات المرتبطة بها لا يمكن فصلها عن الإطار المجتمعاتي والثقافي الذي نشأت فيه وتطورت. فهي محملة بالقوة الرمزية التي أخرجتها للوجود، وقد أوضحت في مناسبات عديدة أن شبكة الأنترنيت مثلا هي شبكة أنجلو ساكسونية محضة تسيطر فيها اللغة الأنجليزية بنسبة 95% وأكثر، مقابل 25،3% للألمانية وأقل من 2% للفرنسية، ولا مكان فيها لما يسمى بـ"لغات الثقافات المتدنية".

*الحقيقة العاشرة: ضعف مساهمة دول العالم الثالث (ولنقل انعدامها) لا في تصور الشبكات واستغلالها، ولكن أيضا فيما يخص تطوير الخدمات والبرامج والتطبيقات، وتكريس هذه الدول لمبدأ وممارسة نقل التكنولوجيا باسم "منطق" مسايرة العصر و وتكنولوجيا العصر.

والأسباب في ذلك عديدة ومتشعبة أهمها ضغط الشركات المتعددة الجنسيات وعقدة الانبهار التكنولوجي وأخطرها إطلاقا تهميش هذه الدول لقيم البحث العلمي وإهمالها المطلق لمواردها البشرية التي تضطر للعمل بالخارج أو تتعاطى لممارسات شنيعة أولها مجاملة السلطة وخضوعها الأعمى لها وآخرها انحرافها نحو "منطق" المسمار والعقار و"المعمار" مرورا بتكريسها لعقلية الارتزاق السياسي والفكري.

هذه الحقائق العشر هي التي تميز -في تصورنا- العلاقات الإعلامية والاتصالية الدولية نهاية هذا القرن، وستميزها لا محالة على الأمدين القصير والمتوسط سيما في ظل تكريس الثورة التكنولوجية والتحولات المؤسساتية وظاهرة العولمة المتشكلة؛ وستجر في طيها -من دون شك- رهانات وتحديات ضخمة طيلة القرن المقبل.

أقول إن هذه الرهانات والتحديات ضخمة لا من وجهة النظر الصناعية والجيو-سياسية والاستراتيجية فحسب ولكن أيضا في تبعاتها الثقافية والحضارية. وهنا أود أن أقف -بإيجاز شديد- لإيضاح نقطتين اعتبرهما أساسيتين:

*الأولى وتتعلق بما اصطلح على تسميته بداية التسعينات بالاستثناء الثقافي من قبل أوروبا وفرنسا على وجه التحديد.

أنا أعتقد أن هذا الطرح لم يكن في أصله إلا تكتيكا بالنسبة للأوروبيين كي يستعدوا تكنولوجيا واقتصاديا للمنافسة العالمية الناشئة؛ فلم يكن طرحا انهزاميا كما زعم البعض ولا زال يزعم. وأظن أيضا أن هذا الطرح قد تجوز حاليا سيما مع بداية تحرير أسواق الاتصالات وفتح الأسواق المعلوماتية وأيضا مع "التراضي" حول تكوين مجتمع إعلامي عالمي.

*الثانية وترتبط بما نروجه -نحن العرب- من طروحات عن الاستهداف الحضاري والثقافي، ونتكلم عن الغزو والاختراق عند تعرضنا لدراسة ظاهرة الصحون المقعرة أو لتحليل إشكالية الأنترنيت.

لا أعتقد شخصيا بوجود الغزو من أجل الغزو، فالدول الكبرى لا تهتم بالدول إلا بالقدر الذي يمكنها من تسريع دورة رأس المال والدورة التجارية للسلع، وبالتالي فكون هذه الدول تفرض سلعها ونمط استهلاكها لا يعني أنها تستهدفنا من أجل الاستهداف ولكن من أجل تسريع وتيرة الدورة الربحية للسلعة الرأسمالية؛ ولعل تكنولوجيا الإعلام والاتصال تجهيزا وخدمات إحدى الوسائل التي توظفها هذه الدول، توظف فيها الهدف (الهدف التجاري). وتوظف فيها الوسيلة، وسيلة تنميط الأفراد والمجتمعات لخدمة الهدف التجاري والجيوستراتيجي وأعتقد فضلا عن كل هذا أن السبيل الوحيد لضمان حد أدنى لمستقبل دول العالم الثالث ثقافات وحضارات يكمن في الوعي بثلاث حقائق لا بديل عنها:

*أولاها: هذا المستقبل لا يمكن تصوره خارج منطق البحث العلمي والتطوير، وقد وعته دول جنوب شرق آسيا ووعاه العراق.

*ثانيها: هذا الحد الأدنى لا يمكن أن تضمن له المصداقية والفعالية في غياب توظيف القدرات البشرية، وقد وعته دول جنوب شرق آسيا وأيضا العراق،

*ثالثها: هذا المستقبل لن يكتب له التجسيد في غياب العزيمة السياسية والرؤية الواضحة، وهو ما نفتقر له -إضافة إلى الحقيقتين السابقتين- ونتحسر على تغييبه لا كدول عالم ثالث فحسب ولكن أيضا كعرب و… كمغاربة.

(*) هذا المقال هو نص المحاضرة التي ألقاها الكاتب بمدرسة علوم الإعلام بالرباط بتاريخ 9 أبريل 1997.