ص1      الفهرس    

 

هذه المجلة

 

جرت عادة المنشورات الدورية، من مجلات وصحف وغيرها، أن تبادر لأول صدورها إلى التعريف بنفسها، بتحديد هويتها ورسم معالم خط سيرها والإشارة إلى الأهداف التي تنشدُّ إليها. ومع أن هوية الدورية ومصداقيتها  هما من الأمور التي يكون القول الفصل فيها  للتجربة والممارسة وحدهما، فإن رسم الإطار العام الذي يراد لها أن تتحرك فيه والآفاق التي يؤمل منها أن تطرقها  أمران ضروريان لضبط خيط السير أثناء  الممارسة من جهة، ولتنظيم العلاقة بينها وبين كتابها وقرائها من جهة أخرى.

إن عدد المجلات الفكرية في المغرب والعالم العربي هو من القلة والضآلة بصورة تعفي أي مولود جديد، في هذا الميدان، من تبرير ميلاده وإبراز الحاجة إليه. ولكن هذا لا يعفي من طرح مسألة "الحاجة" هذه، على مستوى آخر أعم وأعمق.

 إن الفكر المعاصر، العربي منه والعالمي، يعيش منذ عقدين من الزمن على الأقل، مرحلة أزمة: أزمة وصفت وتوصف، بكونها "أزمة غياب المعنى"، أزمة يمكن التعبير عنها بكون الناس يفتقدون اليوم إلى سكون النفس إلى جواب أو أجوبة معينة عن القضايا التي تواجههم. لا، بل يشعرون بعدم القدرة على طرح أسئلة جديدة واضحة تتجاوز الأجوبة القديمة،  التي لم يعد لها معنى،  لا في ذاتها، ولا حتى في الارتباط بها  أي نوع من الارتباط.

لقد تميز عالم الفكر "الحديث والمعاصر" منذ قرن ونصف -على الأقل- بظهور منظومات فكرية متنافسة متصارعة، فلسفية وإيديولوجية، تتسابق إلى تقديم أجوبة نسقية وحلول منظومية للقضايا التي تخص الإنسان الفرد والإنسان المجتمع والإنسان التاريخ. وها نحن اليوم نشاهد بأم أعيننا احتضار ، لا بل وفاة واندثار تلك الأجوبة، تاركة المجال لحالة من تزاحم الأسئلة وتدافعها وتشابكها، في جو من الاضطراب وانسداد الآفاق وعدم وضوح الرؤية. إن الفكر المعاصر يعاني اليوم من قلق مضاعف: قلق راجع إلى غياب الأجوبة، وقلق ناتج عن الإحساس بصعوبة طرح الأسئلة.

في أواسط هذا القرن طرح سؤال يعكس نوعا من القلق على مصير الفلسفة، سؤال يقول: "هل ما يزال هناك مكان للفلسفة في عالم تسوده الإيديولوجيا؟". وها نحن اليوم نشاهد، من على مشارف القرن الواحد والعشرين،  انسحاب الإيديولوجيا نفسها،  ليس كتمثلات وأنساق وحسب بل وكاسم أيضا. إن الخطاب السائد اليوم يستبعد هذه اللفظة استبعادا ينسي ما كان لها، قبل عقدين من الزمن فقط، من بريق وهيمنة في معظم مجالات الفكر والثقافة. أما لفظ  "الفلسفة"   فإنه، وإن لم يكن يعاني من هذا النوع من الاستبعاد،  قد تراجع بريقه هو الآخر وصار الناس يرون فيه، كما هو الحال حين الأزمات الفكرية  عبر التاريخ، نوعا من التفكير  ينتمي إلى الماضي أو يسبح في عالم لا صلة له بالواقع.

 

ما الذي حل محل "الفلسفة" و"الإيديولوجيا" على صعيد الخطاب في أيامنا هذه؟

 

يمكن القول بدون تردد إن الكلمة الآن هي لـ " النقد"! وعندما يفرض "النقد" نفسه كخطاب يعلو على جميع أنواع الخطاب الأخرى، فارضا سلطته عليها، فإن ذلك دليل على أن الأمر يتعلق بمرحلة انتقالية، مرحلة يتم فيها تصفية الحساب مع القديم لفتح المجال أمام جديد. إنها المرحلة التي يكون فيها طرح السؤال في مثل صعوبة تقديم الجواب. ومن هنا بروز "النقد" كمشروع "وحيد" ممكن.  إن النقد ضروري في جميع الحالات، ما في ذلك شك. غير أنه،  وفي جميع الحالات كذلك، سلاح ذو حدين. إن الناس جميعا، ومنذ أقدم العصور، يشجبون "النقد الهدام" ويرحبون -على صعيد الكلام على الأقل بـ "النقد البناء". وكجميع الأمور التي تصنف مثل هذا التصنيف التقابلي يصعب دوما تحديد النقطة التي يبدأ فيها الطرفان في الابتعاد  أحدهما عن الآخر.

ومن هنا ضرورة إعمال الفكر -حسب تعبير القدماء- حين ممارسة النقد. إن مهمة الفكر في مثل هذه الحالة تتلخص في تركيز النظر في النقطة التي يلتقي عندها السلب والإيجاب، القديم والجديد، الممكن والممتنع الخ… النقطة التي تجعل من مرحلة ما مرحلة انتقالية فعلا، أو على الأقل قابلة لأن توصف بهذا الوصف.     

 

تطمح هذه المجلة، إذن، إلى المساهمة في نشر وعي صحيح بطبيعة هذه المرحلة التي يجتازها الفكر المعاصر.  ومن هنا الاسم الذي اخترناه لها: " فكر ونقد". إنها منبر منفتح على جميع وجهات النظر التي تتناول بالتحليل الموضوعي والنقد الهادف البناء مختلف قضايا عصرنا، الفكرية منها والاجتماعية والثقافية، عربيا ودوليا،   وصولا إلى تحقيق تجاوز جدلي للأجوبة الميتة وصياغة أسئلة جديدة حية.

المجلة ترحب، إذن، بجميع المساهمات، من داخل المغرب وخارجه، وتفتح صدرها لتنوع الآراء وتعدد الاجتهادات، كل طموحها أن تكون بحق ملتقى لأقلام جميع أولئك الذين يؤمنون بحاجة الحياة إلى أجوبة، وحاجة الأجوبة إلى أسئلة.

 

***

ومساهمات الاخوة والزملاء الذين بادروا فأمدونا بالمواد التي مكنت هذه المجلة من أن ترى النور في الموعد المقرر لها، وفي ملفاتها مزيد، مثلها مثل المساندة والدعم  الذين حظينا بهما، ونأمل أن نحظى بهما باستمرار،  من  الأصدقاء العاملين  في مجال خدمة الفكر والثقافة،  خير دليل على أن المبادرة التي غامرنا بها -وإصدار مجلة عمل ينطوي دائما على مغامرة- تعبر عن رغبة الجميع  وشعور الجميع، وأنها ستحظى بدعم الجميع. فإليهم جميعا خالص شكرنا وعظيم امتناننا، راجين من الله أن يسدد خطانا ويجعلنا عند حسن الظن دوما.

                                                  الدار البيضاء    فاتح سبتمبر 1997       

م.ع.ج